فصل: تفسير الآيات (77- 80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (72- 73):

{قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
اختلف الناس في الألف التي في قوله: {يا ويلتى} وأظهر ما فيها أنها بدل ياء الإضافة، أضلها: يا ويلتي، كما تقول: يا غلاما ويا غوثا؛ وقد تردف هذه الألف بهاء في الكلام، ولم يقرأ بها، وأمال هذه الألف عاصم والأعمش وأبو عمرو.
ومعنى {يا ويلتى} في هذا الموضع؛ العبارة عما دهم النفس من العجب في ولادة عجوز، وأصل هذا الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة أو مكروه يهم النفس، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس وقال قوم: إنما قالت: {يا ويلتى} لما مر بفكرها من ألم الولادة وشدتها، ثم رجعت بفكرها إلى التعجب ونطقت بقولها {أألد وأنا عجوز}؟ الآية.
وقرأت فرقة: {أألد} بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بتخفيف الأولى وتحقيق الثانية، وفي النطق بهذه عسر، وقرأت فرقة: بتحقيق الأولى وتخفيف الثانية، والتخفيف هنا مدها، وقرأت فرقة {ءا ألد} بتحقيق الهمزتين ومدة بينهما.
والعجوز: المسنة، وقد حكى بعض الناس: أن العرب تقول: العجوزة، والبعل: الزوج، و{شيخاً} نصب على الحال وهي حال من مشار إليه لا يستغنى عنها لأنها مقصود الإخبار، وهي لا تصح إلا إذا لم يقصد المتكلم التعريف بذي الحال، مثل أن يكون المخاطب يعرفه؛ وأما إذا قصد التعريف به لزم أن يكون التعريف في الخبر قبل الحال، وتجيء الحال على بابها مستغنى عنها، ومثال هذا قولك: هذا زيد قائماً، إذا أردت التعريف بزيد. أو كان معروفاً وأردت التعريف بقيامه، وأما إن قصد المتكلم أن زيديته إنما هي مادام قائماً، فالكلام لا يجوز.
وقرأ الأعمش {هذا بعلي شيخ}، قال أبو حاتم وكذلك في مصحف ابن مسعود، ورفعه على وجوه: منها: أنه خبر بعد خبر كما تقول: هذا حلو حامض، ومنها: أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره: هو شيخ وروي أن بعض الناس قرأه: {وهذا بعلي هذا شيخ}، وهذه القراءة شبيهة بهذا التأويل. ومنها: أنه بدل من {بعلي} ومنها: أن يكون قولها {بعلي} بدلاً من {هذا} أو عطف بيان عليه، ويكون {شيخ} خبر {هذا}.
ويقال شيخ وشيخة- وبعض العرب يقول في المذكر والمؤنث شيخ. وروي أن سارة كانت وقت هذه المقالة من تسع وتسعين سنة، وقيل: من تسعين-قاله ابن إسحاق- وقيل من ثمانين؛ وكذلك قيل في سن إبراهيم، إنه كان مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة سنة، وغير ذلك مما يحتاج إلى سند.
والضمير في قوله: {قالوا} للملائكة، وقوله: {من أمر الله} يحتمل أن يريد واحد الأمور، أي من الولادة في هذه السن، ويحتمل أن يريد مصدر أمر، أي مما أمر الله في هذه النازلة.
وقوله: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} يحتمل اللفظ أن يكون دعاء وأن يكون إخباراً، وكونه إخباراً أشرف، لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. ونصب {أهلَ البيت} على الاختصاص- هذا مذهب سيبويه، ولذلك جعل هذا والنصب على المدح في بابين. كأنه ميز النصب على المدح بأن يكون المنتصب لفظاً يتضمن بنفسه مدحاً كما تقول: هذا زيد عاقل قومه، وجعل الاختصاص إذا لم تتضمن اللفظة ذلك، كقوله: إنا معاشر الأنبياء وإنا بني نهشل.
قال القاضي أبو محمد: ولا يكون الاختصاص إلا بمدح أو ذم، لكن ليس في نفس اللفظة المنصوبة.
وهذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل بيته لأنها خوطبت بهذا، فيقوى القول في زوجات النبي عليه السلام بأنهن من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس، بخلاف ما تذهب إليه الشيعة، وقد قاله أيضاً بعض أهل العلم، قالوا: {أهل بيته} الذين حرموا الصدقة، والأول أقوى وهو ظاهر جلي من سورة الأحزاب لأنه ناداهن بقوله: {يا نساء النبي} [الأحزاب: 32] ثم بقوله: {أهل البيت} [الأحزاب: 33].
قال القاضي أبو محمد: ووقع في البخاري عن ابن عباس قال: أهل بيته الذين حرموا الصدقة بعده؛ فأراد ابن عباس: أهل بيت النسب الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: «إن الصدقة لا تحل لأهل بيتي إنما هي أوساخ الناس».
و{البيت} في هذه الآية وفي سورة الأحزاب بيت السكنى ففي اللفظ اشتراك ينبغي أن يتحسس إليه. ففاطمة رضي الله عنها من أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم بالوجهين وعلي رضي الله عنه بالواحد، وزوجاته بالآخر، وأما الشيعة فيدفعون الزوجات بغضاً في عائشة رضي الله عنها. و{حميد} أي أفعاله تقتضي أن يحمد، و{مجيد} أي متصف بأوصاف العلو، ومجد الشيء إذا حسنت أوصافه.

.تفسير الآيات (74- 76):

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}
{الروع}: الفزع والخيفة التي تقدم ذكرها، وكان ذهابه بإخبارهم إياه أنهم ملائكة. و{البشرى}: تحتمل أن يريد الولد، ويحتمل أن يريد البشرى بأن المراد غيره، والأول أبين. وقوله: {يجادلنا} فعل مستقبل جائز أن يسد مسد الماضي الذي يصلح لجواب {لما}، لاسيما والإشكال مرتفع بمضي زمان الأمر ومعرفة السامعين بذلك، ويحتمل أن يكون التقدير ظل أو أخذ ونحوه يجادلنا، فحذف اختصاراً لدلالة ظاهر الكلام عليه، ويحتمل أن يكون قوله، {يجادلنا} حالاً من {إبراهيم} أو من الضمير في قوله: {جاءته}، ويكون جواب {لما} في الآية الثانية: {قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا} واختار هذا أبو علي، والمجادلة: المقابلة في القول والحجج، وكأنها أعم من المخاصمة فقد يجادل من لا يخاصم كإبراهيم.
وفي هذه النازلة وصف إبراهيم بالحلم قيل: إنه لم يغضب قط لنفسه إلا أن يغضب لله. والحلم: العقل إلا إذا انضاف إليه أناة واحتمال. وال {أواه} معناه: الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله تعالى؛ ويروى أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية، قيل: كما تسمع أجنحة النسور وللمفسرين في الأواه عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته وتلزمه. وال {منيب}: الرجاع إلى الله تعالى في كل أمره.
وصورة جدال إبراهيم عليه السلام كانت أن قال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أتعذبونهم؟ قالوا لا. قال: أفتسعون؟ قالوا لا. قال: أفثمانون؟ فلم يزل كذلك حتى بلغ خمسة ووقف عند ذلك؛ وقد عد في بيت لوط امرأته فوجدهم ستة بها فطمع في نجاتهم ولم يشعر أنها من الكفرة، وكان ذلك من إبراهيم حرصاً على إيمان تلك الأمة ونجاتها، وقد كثر اختلاف رواة المفسرين لهذه الأعداد في قول إبراهيم عليه السلام، والمعنى كله نحو مما ذكرته، وكذلك ذكروا أن قوم لوط كانوا أربعمائة ألف في خمس قرى.
وقالت فرقة: المراد {يجادلنا} في مؤمني قوم لوط- وهذا ضعيف- وأمره بالإعراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة حرصاً عليهم، والمعنى: قلنا يا إبراهيم أعرض عن المجادلة في هؤلاء القوم والمراجعة فيهم، فقد نفذ فيهم القضاء، و{جاء أمر ربك} الأمر هنا: واحد الأمور بقرينة وصفه بالمجيء، فإن جعلناه مصدر أمر قدرنا حذف مضاف، أي جاء مقتضى أمر ربك ونحو هذا؛ وقوله: {آتيهم عذاب} ابتداء وخبر؛ جملة في موضع خبر {إن} وقيل: {آتيهم} خبر {إن} فهو اسم فاعل معتمد، و{عذاب} فاعل ب {آتيهم}.
وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور، فأما الدعاء في طلب غير المقدور فغير مجد ولا نافع.

.تفسير الآيات (77- 80):

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
الرسل: هنا هم الملائكة الذين كانوا أضياف إبراهيم عليه السلام، وذلك أنهم لما خرجوا إلى بلد لوط- وبينه وبين قرية إبراهيم ثمانية أميال- وصلوه، فقيل: وجدوا لوطاً في حرث له، وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم- وهي أكبر حواضر قوم لوط- فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم؛ وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم، فقالوا له: نريد أن تضيفنا الليلة، فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا وما عملهم؟ فقال أشهد بالله لهم شر قوم في الأرض وقد كان الله عز وجل قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال لوط هذه قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل لوط بهم المدينة وحينئذ {سيء بهم} أي أصابه سوء. و{سيء} فعل بني للمفعول، والذرع: مصدر مأخوذ من الذراع، ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة له به: ضاق بهذا الأمر ذراع فلان، وذرع فلان، أي حيلته بذراعه، وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا: فلان رحب الذراع، إذا وصفوه باتساع القدرة ومنه قول الشاعر:
يا سيد ما أنت من سيد ** موطأ الأكناف رحب الذراع

وقوله: {هذا يوم عصيب} أشار به إلى ما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه واحتياجه إلى المدافعة مع ضعفه عنها، و{عصيب} بناء اسم فاعل معناه: يعصب الناس بالشر كما يعصب الخابط السلمة إذا أراد خبطها ونفض ورقها، ومنه قول الحجاج في خطبته: ولأعصبنكم عصب السلمة، فهو من العصابة ثم كثر وصفهم اليوم بعصيب، ومنه قول الشاعر، وهو عدي بن زيد: [الوافر]
وكنت لزاز خصمك لم أعرد ** وقد سلكوك في يوم عصيب

ومنه قول الآخر: [الطويل]
فإنك إلا ترض بكر بن وائل ** يكنْ لك يوم بالعراق عصيب

ف عصيب- بالجملة- في موضع شديد وصعب الوطأة، واشتقاقه كما ذكرنا.
وقوله تعالى: {وجاءه قومه} الآية، روي أن امرأة لوط الكافرة لما رأت، الأضياف ورأت جمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم: إن لوطاً أضاف الليلة فتية ما ريء مثلهم جمالاً وكذا وكذا، فحينئذ جاءوا {يهرعون إليه}، ومعناه يسرعون، والإهراع هو أن يسرع أمر بالإنسان حتى يسير بين الخبب والخَمَر، فهي مشية الأسير الذي يسرع به، والطامع المبادر إلى أمر يخاف فوته، ونحو هذا؛ يقال هرع الرجل وأهرعه طمع أو عدو أو خوف ونحوه.
والقراءة المشهورة: {يُهرعون} بضم الياء أي يهرعون الطمع، وقرأت فرقة: {يَهرعون} بفتح الياء، من هرع، ومن هذه اللفظة قول مهلهل: [الوافر]
فجاءوا يَهرعون وهم أسارى ** تقودُهم على رغم الأنوف

وقوله: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات}، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعاً، وقال: {هؤلاء بناتي} فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا. وقالت فرقة: إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، وهو ضعيف، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وقالت فرقة: أشار بقوله: {بناتي} إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] وهو أب لهم وأشار أيضاً لوط- في هذا التأويل- إلى النكاح.
وقرأت فرقة- هي الجمهور- {هن أطهرُ} برفع الراء على خبر الابتداء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ومحمد بن مروان وسعيد بن جبير: {أطهرَ} بالنصب قال سيبويه: هو لحن، قال أبو عمرو بن العلاء: احتبى فيه ابن مروان في لحنه، ووجهه عند من قرأ به النصب على الحال بأن يكون {بناتي} ابتداء و{هن} خبره، والجملة خبر {هؤلاء}.
قال القاضي أبو محمد: وهو إعراب مروي عن المبرد، وذكره أبو الفتح وهو خطأ في معنى الآية، وإنما قوم اللفظ فقط والمعنى إنما هو في قوله: {أطهر} وذلك قصد أن يخبر به فهي حال لا يستغنى عنها- كما تقدم في قوله: {وهذا بعلي شيخاً} [هود: 72]، والوجه أن يقال: {هؤلاء بناتي} ابتداء وخبر، و{هن} فصل و{أطهر} حال وإن كان شرط الفصل أن يكون بين معرفتين ليفصل الكلام من النعت إلى الخبر، فمن حيث كان الخبر هنا في {أطهر} ساغ القول بالفصل، ولما لم يستسغ ذلك أبو عمرو ولا سيبويه لحنا ابن مروان، وما كانا ليذهب عليهما ما ذكر أبو الفتح، والضيف: مصدر يوسف به الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث؛ ثم وبخهم بقوله: {أليس منكم رجل رشيد} أي يزعكم ويردكم.
وقوله تعالى: {قالوا: لقد علمت مَا لنا في بناتك من حق} الآية، روي أن قوم لوط كانوا قد خطبوا بنات لوط فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبداً، فلذلك قالوا: {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق}.
قال القاضي أبو محمد: وبعد أن تكون هذه المخاطبة، فوجه الكلام: إنا ليس لنا إلى بناتك تعلق، ولا هم قصدنا ولا لنا عادة نطلبها في ذلك وقولهم: {وإنك لتعلم ما نريد}، إشارة إلى الأضياف؛ فلما رأى استمرارهم في غيهم وغلبتهم وضعفه عنهم قال- على جهة التفجع والاستكانة- {لو أن لي بكم قوة} و{أن} في موضع رفع بفعل مضمر تقديره: لو اتفق أو وقع ونحو هذا،- وهذا مطرد في أن التابعة ل لو- وجواب {لو} محذوف وحذف مثل هذا أبلغ، لأنه يدع السامعين ينتهي إلى أبعد تخيلاته، والمعنى لفعلت كذا وكذا.
وقرأ جمهور: {أو آوي} بسكون الياء، وقرأ شيبة وأبو جعفر: {أو آويَ} بالنصب، التقدير أو أن آوي، فتكون {أن} مع {آوي} بتأويل المصدر، كما قالت ميسون بنت بحدل:
للبس عباءة وتقر عيني.....

ويكون ترتيب الكلام لو أن لي بكم قوة أو أوياً، و{أوى} معناه: لجأ وانضوى، ومراد لوط عليه السلام بال {ركن} العشيرة والمنعة بالكثرة، وبلغ به قبيح فعلهم إلى هذا- مع علمه بما عند الله تعالى-، فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي {إلى ركن شديد}، فالعجب منه لما استكان».
قال القاضي أبو محمد: وهذا نقد لأن لفظ بهذه الألفاظ، وإلا فحالة النبي صلى الله عليه وسلم وقت طرح سلا الجزور ومع أهل الطائف وفي غير ما موطن تقتضي مقالة لوط لكن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة، وإنما خشي لوط أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الأضياف كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم، فتمنى ركناً من البشر يعاجلهم به، وهو يعلم أن الله تعالى من وراء عقابهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يبعث الله تعالى بعد لوط نبياً إلا في ثروة من قومه» أي في منعة وعزة.