فصل: سورة هود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (96- 98):

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)}
جاء في هذا تحذير مردود وإعلام بسوء حال هؤلاء المحتوم عليهم، والمعنى أن الله أوجب لهم سخه في الأزل وخلقهم لعذابه فلا يؤمنون، ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمان، كما صنع فرعون وأشباهه من الخلق وذلك وقت المعاينة، وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال وبعث الكل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله، وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وأبو رجاء كلمة بالإفراد، وقرأ نافع وأهل المدينة {كلمات} بالجمع، وقد تقدم ذكر هذه الترجمة، وقوله: {فلولا كانت قرية آمنت} الآية، في مصحف أبيّ وابن مسعود {فهلا} والمعنى فيهما واحد، وأصل {لولا} في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره، فأما هذه فبعيدة عن هذه الآية لكنها من جملة التي هي للتحضيض بها، أن يكون المحضض يريد من المخاطب فعل ذلك الشيء الذي يخصه عليه، وقد تجيء {لولا}، وليس من قصد المخاطب أن يحض المخاطب على فعل ذلك الشيء فتكون حينئذ لمعنى توبيخ كقول جرير: [الطويل]
لولا الكمي المقنعا

وذلك أنه لم يقصد حضهم على عقر الكمي، كقولك لرجل قد وقع في أمر صعب: لولا تحرزت، وهذه الآية من هذا القبيل.
قال القاضي أبو محمد: ومفهوم من معنى الآية نفى إيمان أهل القرى، ومعنى الآية فهلا آمن من أهل قرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعاً في هذه الحالة، ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون أجمع وهو بحسب المعنى متصل، لأن تقديره ما آمن من أهل قرية إلا قوم يونس والنصب في قوله: {إلا قوم} هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وكذلك مع انقطاع الاستثناء ويشبه الآية قول النابغة:
إلا الأواري

وذلك هو حكم لفظ الآية، وقالت فرقة: يجوز فيه الرفع وهذا اتصال الاستثناء، وقال المهدوي: والرفع على البدل من {قرية} وروي في قصة قوم موسى: أن القوم لما كفروا أوحى الله إليه: أن أنذرهم بالعذاب الثلاثة، ففعل فقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه، فإن قام بين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عبّاس على ثلثي ميل، وروي عن علي ميل، وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشي الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثلاثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضباً كما ذكر الله في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وابن وثاب والأعمش يونِس بكسر النون وفيه للعرب ثلاث لغات ضم النون وفتحها وكسرها وكذلك في يوسف، وقوله: {إلى حين}، يريد إلى آجالهم المفروضة في الأزل، وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ويقتضي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له إنه من أهل نينوى، من قرية الرجل الصالح يونس بن متى الحديث، الذي في السيرة لابن إسحاق.

.تفسير الآيات (99- 101):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}
المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك فالأمر محتوم، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي ادع وقاتل من خالفك، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة وقالت فرقة: المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان، وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام وأنها منسوخة بآية السيف، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة، وقوله تعالى: {كلهم جميعاً} تأكيد وهو من فصيح الكلام، و{جميعاً} حال مؤكدة، ونحوه قوله: {لا تتخذوا إلهين اثنين} [النحل: 51] وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} الآية، رد إلى الله تعالى وإلى أن الحول والقوة لله، في إيمان من يؤمن وكون الرجس على الكفار، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {ونجعل الرجس} بنون العظمة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {ويجعل} بالياء وقرأ الأعمش: {ويجعل} الله الرجس، و{الرجس} يكون بمعنى العذاب كالرجز، ويكون بمعنى القذر والنجاسة ذكره أبو علي هنا وغيره وهو في هذه الآية بمعنى العذاب، و{لا يعقلون} يريد آيات الله وحجج الشرع. ومعنى الإذن في هذه الآية الإرادة والتقدير لذلك، فهو العلم والتمكين، وقوله تعالى: {قل انظروا في السماوات والأرض}، هذه الآية أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع وغير ذلك من آيات السماوات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك، المعنى: انظروا في ذلك بالواجب فهو ينهاكم إلى المعرفة بالله والإيمان بالله والإيمان بوحدانيته، وقرأ أبو عبد الرحمن والعامة بالبصرة،{قلِ انظروا}بكسر اللام، وقرأ نافع وأهل المدينة: {قلُ انظروا}بضم اللام، ثم أعلم في آخر الآية أن النظر في الآيات والسماع من النذر وهم الأنبياء لا يغني إلا بمشيئة الله، وأن ذلك غير نافع لقوم قد قضى الله أنهم لا يؤمنون، وهذا على أن تكون {ما} نافية، ويجوز أن يعد استفهاماً على جهة التقرير الذي في ضمنه نفي وقوع الغناء، وفي الآية على هذا توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، وقوله: {الآيات والنذر}، حصر طريقي تعريف الله تعالى عباده، ويحتمل أن تكون {ما} في قوله: {وما تغني}، مفعولة بقوله: {انظروا} معطوفة على قوله: {ماذا}، أي تأملوا قدر غناء الآيات والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك كفعل قوم يونس فإنه يرفع بالعذاب في الدنيا والآخرة وينجي من المهلكات، فالآية على هذا تحريض على الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وتجوز اللفظ على هذا التأويل إنما هو في قوله: {لا يؤمنون}.

.تفسير الآيات (102- 104):

{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)}
هذا وعيد وحض على الإيمان، أي إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنة الله في الأمم الخالية، فهل عند هؤلاء غير ذلك. وهو استفهام بمعنى التوقيف، وفي قوله: {قل فانتظروا} مهادنة ما، وهي من جملة ما نسخه القتال، وقوله: {ننجي رسلنا} الآية، لما كان العذاب لم تحصر مدته وكان النبي والمؤمنون بين أظهر الكفرة وقع التصريح بأن عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم، فالتخويف على هذا أشد، وكلهم قرأ {ننجّي} مشددة الجيم إلا الكسائي وحفصاً عن عاصم فإنهما قرأ {ننْجِي} بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ عاصم في سورة الأنبياء في بعض ما روي عنه {نُجي} بضم النون وحذف الثانية وشد الجيم، كأن النون أدغمت فيها، وهي قراءة لا وجه لها، ذكر ذلك الزجاج. وحكى أبو حاتم نحوها عن الأعمش، وخط المصحف في هذه اللفظة {ننج} بجيم مطلقة دون ياء وكذلك قرأ الكسائي في سورة مريم {ثم ننْجِي الذين اتقوا} [مريم: 72] بسكون النون وتخفيف الجيم، والباقون بفتح النون وشد الجيم، والكاف في قوله: {كذلك} يصح أن تكون في موضع رفع، ويصح أن تكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس} الآية، مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة يدخل تحتها كل من اتصف بالشك في دين الإسلام، وهذه الآية يتسق معناها بمحذوفات يدل عليها هذا الظاهر الوجيز، والمعنى إن كنتم في شك من ديني فأنتم لا تعبدون الله فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله، ثم صرح بمعبوده وخص من أوصافه {الذي يتوفاكم} لما فيها من التذكير للموت وقرع النفوس به، والمصير إلى الله بعده والفقد للأصنام التي كانوا يعتقدونها ضارة ونافعة.

.تفسير الآيات (105- 107):

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}
المعنى: قيل لي: كن من المؤمنين وأقم وجهك للدين، ثم جاءت العبارة بهذا الترتيب، والوجه في هذه الآية بمعنى المنحى والمقصد، أي اجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع، و{حنيفاً} معناه: مستقيماً على قول من قال، الحنف الاستقامة، وجعل تسمية المعوج القدم أحنف على جهة التفاؤل. ومن قال الحنف الميل جعل {حنيفاً} هاهنا مائلاً عن حال الكفرة وطريقهم، و{حنيفاً} نصب على الحال، وقوله: {ولا تدع} معناه قيل لي: {ولا تدع} فهو عطف على {أقم}، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا فإحرى أن يتحرز من ذلك غيره، وما لا ينفع ولا يضر هو الأصنام والأوثان، والظالم الذي يضع الشيء في غير موضعه، وقوله: {وإن يمسسك الله بضر} الآية، مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم، والضر لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان كان ذلك في ماله أو في بدنه، وهذه الآية مظهرة فساد حال الأصنام، لكن كل مميز أدنى ميز يعرف يقيناً أنها لا تكشف ضرّاً ولا تجلب نفعاً، وقوله: {وإن يردك بخير} لفظ تام العموم، وخصص النبي صلى الله عليه وسلم الفقه بالذكر في قوله: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وهو على جهة التشريف للفقه، وقوله تعالى: {وهو الغفور الرحيم} ترجية وبسط ووعد ما.

.تفسير الآيات (108- 109):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
هذه مخاطبة لجميع الكفار مستمرة مدى الدهر، {الحق} هو القرآن والشرع الذي جاء به محمد، {فمن اهتدى}، أي اتبع الحق وتدين به فإنما يسعى لنفسه لأنه يوجب لها رحمة الله، ويدفع عذابه، {ومن ضل} أي حاد عن طريق الحق ولم ينظر بعين الحقيقة وكفر بالله عز وجل فيضل ذلك، وقوله: {وما أنا عليكم بوكيل}، أي لست بآخذكم ولابد بالإيمان وإنما أنا مبلغ، وهذه الآية منسوخة بالقتال، وقوله: {واتبع ما يوحى إليك} الآية معناه: اتبع ما رسمه لك شرعك وما أعلمك الله به من نصرته لك، {واصبر} على شقاء الرسالة وما ينالك في الله من الآذى، وقوله: {حتى يحكم الله} وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يغلبهم- كما وقع- تقتضيه قوة اللفظ، وهذا الصبر منسوخ بالقتال، وهذه السورة مكية وقد تقدم ذكر هذا في أولها.

.سورة هود:

.تفسير الآيات (1- 4):

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}
تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتختص هذه بأن قيل إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي {حم} [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1] وفي {ن والقلم} [القلم: 1].
و{كتاب} مرتفع على خبر الابتداء، فمن قال الحروف إشارة إلى حروف المعجم كانت الحروف المبتدأ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ هذا كتاب؛ والمراد بالكتاب القرآن.
و{أحكمت} معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة ف {ثم} على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب؛ وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: {فصلت} معناه فسرت، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير- فيما روي عنه-: {ثم فَصَلَت} بفتح الفاء والصاد واللام، ويحتمل ذلك معنيين: أحدهما: {فَصَلَت} أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى، والثاني فَصَلَت بين المحق والمبطل من الناس.
و{من لدن} معناها من حيث ابتدئت الغاية، كذا قال سيبويه وفيها لغات: يقال: لدُن ولدْن بسكون الدال وقرئ بهما. {من لدن}، ويقال: {لَدُ}: بفتح اللام وضم الدال دون نون، ويقال {لدا} بدال منونة مقصورة. ويقال {لَدٍ} بدال مكسورة منونة، حكى ذلك أبو عبيدة.
و{حكيم} أي محكم، و{خبير} أي خبرة بالأمور أجمع، {أن لا تعبدوا} {أن} في موضعع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب أن وإسقاط الخافض، وقيل على البدل من موضع الآيات، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع: ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير: تفصيله ألا تعبدوا وقيل: على البدل من لفظ الآيات.
وقوله تعالى: {إنني لكم منه نذير وبشير} أي من عقابه وبثوابه: وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم و{إن} معطوفة على التي قبلها.
ومعنى الآية: استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. و{ثم} مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقرأ الجمهور {يمتّعكم} بشد التاء، وقرأ ابن محيصن {يمْتعكم} بسكون الميم وتخفيف التاء، وفي كتاب أبي حاتم: إن هذه القراءات بالنون، وفي هذا نظر.، و{متاعاً} مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17] وقيل نصب بتعدي {يمتعكم} لأنك تقول: متعت زيداً ثوباً. ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا، وأما من قال بأن المتاع الحسن هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة والأجل المسمى: هو أجل الموت معناه {إلى أجل مسمى} لكل واحد منكم، وهذا ظاهر الآية: واليوم الكبير- على هذا- هو يوم القيامة.
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام، واليوم الكبير- على هذا- يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم والأجل واحد.
وقوله تعالى: {ويؤت كل ذي فضل فضله} أي كل ذي إحسان بقوله، أو بفعله، أو قوته، أو بماله، أو غير ذلك، مما يمكن أن يتقرب به و{فضله} يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور لمن شاء، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال: ويل لمن غلبت آحاده عشراته. ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقاً للمعنى الأول.
وقرأ جمهور {وإن تَولّوا} بفتح التاء واللام، فبعضهم قال الغيبة، أي فقل لهم: إني أخاف عليكم، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: {وإن تُولُوا}، بضم التاء واللام وإسكان الواو.
وقوله تعالى: {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير}. توعد بيوم القيامة: ويحتمل أن يريد به يوماً من الدنيا كبدر وغيره.
وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم} توعد، وهو يؤيد أن اليوم الكبير يوم القيامة لأنه توعد به، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية. وقوله: {على كل شيء} عموم والشيء في اللغة الموجود وما يتحقق أنه يوجد كزلزلة الساعة وغيرها التي هي أشياء.