فصل: تفسير الآيات (89- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (89- 92):

{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}
{لا يجرمنكم} معناه: لا يكسبنكم، يقال: جرمه كذا وكذا وأجرمه إذا أكسبه، كما يقال: كسب وأكسب بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقرأ الجمهور {يَجرمنكم} بفتح الياء، وقرأ الأعمش وابن وثاب {يُجرمنكم} بضمها، و{شقاقي} معناه: مشاقتي وعداوتي، و{أن} مفعولة ب {يجرمنكم}.
وكانت قصة قوم لوط أقرب القصص عهداً بقصة قوم شعيب، وقد يحتمل أن يريد وما منازل قوم لوط منكم ببعيد، فكأنه قال: وما قوم لوط منكم ببعيد بالمسافة، ويتضمن هذا القول ضرب المثل لهم بقوم لوط.
وقرأ الجمهور {مثلُ} بالرفع على أنه فاعل {يصبكم} وقرأ مجاهد والجحدري وابن أبي إسحاق {مثلَ} بالنصب، وذلك على أحد وجهين: إما أن يكون {مثل} فاعلاً، وفتحة اللام فتحة بناء لما أضيف لغير متمكن، فإن {مثل} قد يجري مجرى الظروف في هذا الباب وإن لمن يكن ظرفاً محضاً.
وإما أن يقدر الفاعل محذوفاً يقتضيه المعنى، ويكون مثلَ منصوباً على النعت لمصدر محذوف تقديره: إصابة مثل.
وقوله: {واستغفروا} الآية، تقدم القول في مثل هذا من ترتيب هذا الاستغفار قبل التوبة. و{ودود} معناه: أن أفعاله ولطفه بعباده لما كانت في غاية الإحسان إليهم كانت كفعل من يتودد ويود المصنوع له.
وقوله تعالى: {قالوا: يا شعيب} الآية، {نفقه} معناه: نفهم وهذا نحو قول قريش {قلوبنا في أكنة} [فصلت: 5] ومعنى: {ما نفقه ما تقول} أي ما نفقه صحة قولك، وأما فقههم لفظه ومعناه فمتحصل، وروي عن ابن جبير وشريك القاضي في قولهم: {ضعيفاً} أنه كان ضرير البصر أعمى، وحكى الزهراوي: أن حمير تقول للأعمى: ضعيف، كما يقال له: ضرير، وقيل: كان ناحل البدن زمنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف ولا تقوم عليه حجة بضعف بصره أو بدنه؛ والظاهر من قولهم: {ضعيفاً} أنه ضعيف الانتصار والقدرة، وأن رهطه الكفرة كانوا يراعون فيه.
والرهط: جماعة الرجل، ومنه الراهطاء لأن اليربوع يعتصم به كما يفعل الرجل برهطه. و{لرجمناك} قيل: معناه بالحجارة- وهو الظاهر وقاله ابن زيد- وقيل معناه: {لرجمناك} بالسب- وبه فسر الطبري. وهذا أيضاً تستعمله العرب. ومنه قوله تعالى: {لأرجمنك واهجرني ملياً} [مريم: 46]، وقولهم {بعزيز} أي بذي منعة وعزة ومنزلة في نفوسنا.
وقوله تعالى: {قال يا قوم ارهطي} الآية، الظهري الشيء الذي يكون وراء الظهر، وقد يكون الشيء وراء الظهر بوجهين: في الكلام، إما بأن يطرح، كما تقول: جعلت كلامي وراء ظهرك ودبر أذنك ومنه قول الفرزدق:
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ** بظهر فلا يعيى عليّ جوابها

وإما بأن يسند إليه ويلجأ. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وألجأت ظهري إليك» فقال جمهور المتأولين في معنى هذه الآية أنه: واتخذتم الله ظهرياً أي غير مراعى وراء الظهر على معنى الاطراح- ورجحه الطبري.
قال القاضي أبو محمد: وهو عندي على حذف مضاف ولا بد، وقال بعضهم: الضمير في قوله: {واتخذتموه} عائد على أمر الله وشرعه، إذ يتضمنه الكلام.
وقالت فرقة: المعنى: أترون رهطي أعز عليكم من الله وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم.
قال القاضي أبو محمد: فقول الجمهور- على أن كان كفر قوم شعيب جحداً بالله تعالى وجهلاً به. وهذا القول الثاني- على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ونحو هذا؛ وهاتان الفرقتان موجودتان في الكفرة.
ومن اللفظة الاستظهار بالبيّنة، وقد قال ابن زيد: الظهري: الفضل، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية يعدها إن احتاج إليها وإلا فهي فضلة.
قال القاضي أبو محمد: هذا كله مما يستند إليه.
وقوله: {إن ربي بما تعملون محيط} خبر في ضمنه توعد. ومعناه محيط علمه وقدرته.

.تفسير الآيات (93- 95):

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
{على مكانتكم} معناه: على حالاتكم، وهذا كما تقول: مكانة فلان في العلم فوق مكانة فلان، يستعار من البقاع إلى المعاني.
وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم: {مكانتكم} بالجمع، والجمهور على الإفراد.
وقوله: {اعملوا} تهديد ووعيد، وهو نحو قوله: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] وقوله: {من يأتيه} يجوز أن تكون {من} مفعولة ب {تعلمون} والثانية عطف عليها، قال الفراء: ويجوز أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء.
قال القاضي أبو محمد: الأول أحسن لأنها موصولة ولا توصل في الاستفهام، ويقضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة، والصحيح أن الوقف في قوله: {إني عامل} ثم ابتداء الكلام بالوعيد، و{من} معمولة ل {تعلمون} وهي موصولة.
وقوله: {وارتقبوا} كذلك تهديد أيضاً.
وقوله تعالى: {ولما جاء أمرنا} الآية، الأمر هاهنا يصح أن يكون مصدر أمر ويصح أن يكون واحد الأمور. وقوله: {برحمة منا} إما أن يقصد الإخبار عن الرحمة التي لحقت شعيباً لنبوته وحسن عمله وعمل متبعيه، وإما أن يقصد أن النتيجة لم تكن إلا بمجرد رحمة لا بعمل من أعمالهم، وأما {الصيحة} فهي صيحة جبريل عليه السلام، وروي أنه صاح بهم، صيحة جثم لها كل واحد منهم في مكانه حيث سمعها ميتاً قد تقطعت حجب قلبه، والجثوم أصله في الطائر إذا ضرب بصدره إلى الأرض، ثم يستعمل في غيره إذا كان منه بشبه.
وقوله تعالى: {كان لم يغنوا فيها} الآية، الضمير في قوله: {فيها} عائد على الديار، و{يغنوا} معناه: يقيمون بنعمة وخفض عيش، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل، وقوله: {ألا} تنبيه للسامع، وقوله: {بعداً} مصدر، دعا به، وهذا كما تقول: سقياً لك ورعياً لك وسحقاً للكافر ونحو هذا، وفارقت هذه قولهم: سلام عليك، لأن هذا كأنه إخبار عن شيء قد وجب وتحصل، وتلك إنما هي دعاء مترجى: ومعنى البعد- في قراءة من قرأ بعِدت بكسر العين- الهلاك- وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان: [الكامل]
لا يبعدنْ قومي الذين همُ ** سُمُّ العداةِ وآفة الجزرِ

ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ** وأين مكان البعد إلا مكانيا

وأما من قرأ {بعدت} وهو السلمي وأبو حيوة- فهو من البعد الذي ضده القرب، ولا يدعى به إلا على مبغوض.

.تفسير الآيات (96- 100):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
الآيات: العلامات، والسلطان: البرهان والبيان في الحجة؛ قيل: هو مشتق من السليط الذي يستضاء به، وقيل: من أنه مسلط على كل مناو ومخاصم، و{الملأ}: الجمع من الرجال والمعنى: أرسلناه إليهم ليؤمنوا بالله تعالى، فصدهم فرعون فاتبعوا أمره ولم يؤمنوا وكفروا، ثم أخبر تعالى عن أمر فرعون أنه ليس {برشيد} أي ليس بمصيب في مذهبه ولا مفارق للسفاهة.
وقوله: {يقدم قومه يوم القيامة} الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية عن فرعون أنه يأتي يوم القيامة مع قومه المغرقين معه، وهو يقدمهم إلى النار: وأوقع الفعل الماضي في {أوردهم} موقع المستقبل، لوضوح الأمر وارتفاع الإشكال عنه، ووجه الفصاحة من العرب في أنها تضع أحياناً الماضي موضع المستقبل أن الماضي أدل على وقوع الفعل وحصوله، والورود في هذه الآية هو ورود الدخول وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين} [القصص: 23] وقال ابن عباس: في القرآن أربعة أوراد: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] وقوله: {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} [مريم: 86] وهذه في مريم، وفي الأنبياء: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98] قال: وهي كلها ورد دخول، ثم ينجي الله الذين اتقوا و{المورود} صفة لمكان الورد- على أن التقدير: {وبئس} مكان {الورد المورود}- وقيل: {المورود} ابتداء والخبر مقدم، والمعنى: المورود بئس الورد.
وقوله: {في هذه} يريد دار الدنيا، واللعنة إبعادهم بالغرق والاستئصال وقبيح الذكر غابر الدهر، وقوله: {ويوم القيامة} أي يلعنون أيضاً بدخولهم في جهنم، قال مجاهد: فلهم لعنتان، وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولاً، وقبح إرفاد آخراً، وقوله: {بئس الرفد المرفود} أي بئس العطاء المعطى لهم، و{الرفد} في كلام العرب: العطية وسمي العذاب هنا رفداً لأن هذا هو الذي حل محل الرفد، وهذا كما تقول: يا فلان لم يكن خيرك إلا أن تضربني أي لم يكن الذي حل محل الخير منك، والإرفاد: المعونة. ومنه رفادة قريش: معونتهم لفقراء الحج بالطعام الذي كانوا يطعمونه في الموسم.
وقوله: {ذلك من أنباء الغيب} الآية، {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة، والأنباء الأخبار. و{القرى} يحتمل أن يراد بها القرى التي ذكرت في الآيات المتقدمة خاصة، ويحتمل أن يريد القرى عامة، أي هذه الأنباء المقصوصة عليك هو عوائد المدن إذا كفرت، فيدخل- على هذا التأويل- فيها المدن المعاصرة، ويجيء قوله: {منها قائم وحصيد} منها عامر ودائر، وهذا قول ابن عباس: وعلى التأويل الأول- في أنها تلك القرى المخصوصة- يكون قوله: {قائم وحصيد} بمعنى قائم الجدرات ومتهدم لا أثر له، وهذا قول قتادة وابن جريج، والآية بجملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم.

.تفسير الآيات (101- 105):

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}
المعنى: وما وضعنا عندهم من التعذيب ما لا يستحقونه، لكنهم ظلموا أنفسهم بوضعهم الكفر موضع الإيمان، والعبادة في جنبة الأصنام، فما نفعتهم تلك الأصنام ولا دفعت عنهم حين جاء عذاب الله.
وال {تتبيب} الخسران، ومنه {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1] ومنه قول جرير: [الوافر]
عرابية من بقية قوم لوط ** ألا تبأ لما فعلوا تبابا

وصورة زيادة الأصنام التتبيب، إنما يتصور: إما بأن تأهيلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم وصرفتها عن النظر في الشرع وعاقتها، فلحق عن ذلك عنت وخسران، وإما بأن عذابهم على الكفر يزاد إليه عذاب على مجرد عبادة الأوثان.
وقوله: {وكذلك} الإشارة إلى ما ذكر من الأحداث في الأمم، وهذه آية وعيد تعم قرى المؤمنين، فإن {ظالمة} أعم من كافرة، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة، وأما الظلمة- في الغالب فمعاجلون أما أنه يملى لبعضهم، وفي الحديث-من رواية أبي موسى- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} الآية.
وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري {ربُّك إذا أخذ القرى} وهي قراءة متمكنة المعنى ولكن قراءة الجماعة تعطي بقاء الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي.
وقوله تعالى: {إن في ذلك لآية} المعنى: أن في هذه القرى وما حل بها لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة وتوقع أن يناله عذابها فنظر وتأمل، فإن نظره يؤديه إلى الإيمان بالله تعالى، ثم عظم الله أمر يوم القيامة بوصفه بما تلبس بأجنبي منه للسبب المتصل بينهما، ويعود الضمير عليه، و{الناس}- على هذا- مفعول لم يسم فاعله، ويصح أن يكون {الناس} رفعاً بالابتداء و{مجموع} خبر مقدم.
وهذه الآية خبر عن الحشر، و{مشهود} عام على الإطلاق يشهده الأولون والآخرون من الإنس والملائكة والجن والحيوان، في قول الجمهور، وفيه- أعني الحيوان الصامت- اختلاف، وقال ابن عباس: الشاهد: محمد عليه السلام، والمشهود يوم القيامة.
وقوله: {وما نؤخره} الآية، المعنى وما نؤخر يوم القيامة عجزاً عن ذلك، لكن القضاء السابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
وقرأ الجمهور {نؤخره} بالنون، وقرأ الأعمش {يؤخره} بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة {يوم يأت} بحذف الياء من {يأتي} في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير بإثباتها في الوصل والوقف، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثباتها في الوصل وحذفها في الوقف، ورويت أيضاً كذلك عن ابن كثير، والياء ثابتة في مصحف أبي بن كعب، وسقطت في إمام عثمان، وفي مصحف ابن مسعود {يوم يأتون}، وقرأ بها الأعمش، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، وإثباتها في الوجهين هو الأصل، ووجه حذفها في الوصل التخفيف كما قالوا في لا أبال ولا أدر، وأنشد الطبري:
كفاك كف ما تليق درهماً ** جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما

وقوله: {لا تكلم نفس} يصح أن تكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في {يأتي} وهو العائد على قوله: {ذلك يوم}، ولا يجوز أن يعود على قوله: {يوم يأتي} لأن اليوم المضاف إلى الفعل لا يكون فاعل ذلك الفعل، إذ المضاف متعرف بالمضاف إليه، والفعل متعرف بفاعله، وليس في نفسه شيئاً مقصوداً مستقلاً دون الفاعل، وقولهم: سيد قومه ومولى أخيه وواحد أمه- مفارق لما لا يستقل، فلذلك جازت الإضافة فيها، ويكون قوله- على هذا- {يوم يأتي} في موضع الرفع بالابتداء وخبره: {فمنهم شقي وسعيد} وفي الكلام- على هذا- عائد محذوف تقديره: لا تكلم نفس فيه إلا، ويصح أن يكون قوله: {لا تكلم نفس} صفة لقوله: {يوم يأتي}، والخبر قوله: {فمنهم}، ويصح أن يكون قوله: {لا تكلم نفس}، خبراً عن قوله: {يوم يأتي}.
وقوله: {ذلك يوم} يراد به اليوم الذي قبله ليلته، وقوله: {يوم يأتي} يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه، فهو كما قال عثمان: إني رأيت ألا أتزوج يومي هذا، وكما قال الصديق رضي الله عنه: فإن الأمانة اليوم في الناس قليل.
ومعنى قوله: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة، وقوله: {فمنهم} عائد على جميع الذي تضمنه قوله: {نفس} إذ هو اسم جنس يراد به الجمع.