فصل: تفسير الآيات (47- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 49):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}
تقدم في الآية التي قبل هذه ما يتضمن نزول شرع وكتاب من عندالله على أنبياء قبل محمد عليه السلام فحسن لذلك عطف {كذلك أنزلنا} على ما في المضمر، أي وكما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا إليك، و{الكتاب} القرآن، وقوله: {فالذين آتيناهم الكتاب} يريد التوراة والإنجيل، أي فالذين كانوا في عصر نزول الكتاب وأوتوه حينئذ {يؤمنون به} أي كانوا مصدقين بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، فالضمير في {به} عائد على القرآن، ثم أخبر عن معاصري محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضاً {من يؤمن به} ولم يكونوا آمنوا بعد، ففي هذا إخبار بغيب بينه الوجود بعد ذلك، ثم أنحى على الجاحدين من أمة قد آمن سلفها في القديم وبعضها في الحديث، وحصل الجاحدون في أخس رتبة من الضلال، ويشبه أن يراد أيضاً في هذا الإنحاء كفار قريش مع كفار بني إسرائيل، ثم بين تعالى الحجة على المبطلين المرتابين ما وضح أن مما يقوي نزول هذا القرآن من عند الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب وغير ذلك وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتاباً ولا يخط حرفاً ولا سبيل له إلى العلم، فإنه لو كان ممن يقرأ {لارتاب المبطلون} وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده، وقال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً لا يخط ولا يقرأ كتاباً فنزلت هذه الآية، وذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وأسند أيضاً حديثاً إلى أبي كبشة السلولي مضمنه أنه عليه السلام قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه، وقوله تعالى: {بل هو آيات بينات} إضراب عن مقدر من الكلام يقتضيه ما تقدم كأنه قال: ليس الأمر كما حبسوا {بل هو} وهذا الضمير يحتمل أن يعود على القرآن، ويؤيده أن في قراءة ابن مسعود {بل هي آيات}، ويحتمل أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده أن قتادة قرأ {بل هو آية بينة} على الإفراد، وقال: المراد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يعود على أمر محمد صلى الله عليه وسلم في أنه لم يتل ولا خط، وبكل احتمال قالت فرقة، وكون هذا كله {آيات} أي علامات {في صدور} العلماء من المؤمنين بمحمد، يراد به مع النظر والاعتبار. و{الظالمون} و{المبطلون}، قيل يعم لفظهما كل مكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم، قاله مجاهد، وقال قتادة: {المبطلون} اليهود.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}
الضمير في {قالوا} لقريش ولبعض اليهود، لأنهم كانوا يعلمون قريشاً مثل هذه الحجة يقولون: لم لا يأتيكم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وعلى بن نضر عن أبي عمرو {آية من ربه}، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم {آيات من ربه}، فأمر تعالى نبيه أن يعلم أن هذا الأمر بيد الله عز وجل ولا يستنزله الاقتراح ولا التمني وأنه بعث نذيراً ولم يؤمر بغير ذلك، وفي مصحف أبي بن كعب {قالوا لو ما يأتينا بآيات من ربه قل إنما الآيات}، ثم احتج عليهم في طلبهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس فقال: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب}، ثم قرر ما فيه من الرحمة والذكرى للمؤمنين، فقوله: {أو لم يكفهم}، جواب لمن قال: {لولا أنزل}، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين كتبوا عن اليهود بطائق أخبروهم بشيء من التوراة فكتبوه، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «كفى بها ضلالة قوم أن رغبوا عما آتاهم به نبيهم إلى ما أتى به غيره»، ونزلت الآية بسببه.
قال الفقيه الإمام القاضي: والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات، ثم أمر تعالى نبيه بالإسناد إلى أمر الله تعالى وأن يجعله حسبه {شهيداً} وحاكماً بينه وبينهم بعلمه وتحصيله جميع أمورهم، وقوله: {بالباطل}، يريد بالأصنام والأوثان وما يتبع أمرها من المعتقدات، والباطل، هو أن يفعل فعل يراد به أمر ما، وذلك ألأمر لا يكون عن ذلك الفعل، والأصنام أريد بأمرها الأكمل والأنجح في زعم عبادها وليس الأكمل والأنجح إلا رفضها فهي إذاً باطل، وباقي الآية بين.

.تفسير الآيات (53- 55):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}
قوله: {ويستعجلونك بالعذاب} يراد به كفار قريش في قولهم ائتنا بما تعدنا، وغير ذلك من استدعائهم على جهة التعجيز والتكذيب عذاب الله الذي يتوعدهم محمد صلى الله عليه وسلم به، ثم أخبر تعالى أنه يأتيهم {بغتة} أي فجأة وهذا هو عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر في السنين السبع.
ثم ذكر تعالى أن تأخره إنما هو حسب الأجل المقدور السابق، وقال المفسرون عن الضحاك: أن الأجل المسمى في هذه الآية الآجال..
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف يرده النظر، والآجال لا محالة {أجل مسمى} ولكن ليس هذا موضعها، ثم توعدهم تبارك وتعالى بعد عذاب الآخرة في قوله: {يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}، كرر فعلهم وقبحه، أخبر أن وراءهم إحاطة جهنم بهم وقال عكرمة فيما حكى الطبري إن {جهنم} هاهنا أراد بها البحر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف، وقوله تعالى: {يوم يغشاهم} ظرف يعمل فيه قوله: {محيطة}، و{يغشاهم} معناه يغطيهم من كل جهة من جهاتهم، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي {ويقول} أي ويقول الله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {ونقول} بالنون، فإما أن تكون نون العظمة أو نون جماعة الملائكة، وقرأ ابن مسعود {ويقال} بياء وألف وهي قراءة ابن أبي عبلة، وقوله تعالى: {ذوقوا} توبيخ، وتشبيه مس العذاب بالذوق، ومنه قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]، ومنه قول أبي سفيان: ذق عقق ونحو هذا كثير، وقوله تعالى: {ما كنتم تعملون} أي بما في أعمالكم من اكتسابكم.

.تفسير الآيات (56- 59):

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)}
هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، فأخبرهم تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله في أرضه، وقال ابن جبير وعطاء ومجاهد: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق، وقاله مالك، وقال مطرف بن الشخير قوله: {إن أرضي واسعة} عدة بسعة الرزق في جميع الأرض، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر {يا عباديَ} بفتح الياء، وقرأ ابن عامر وحده {إن أرضيَ} بفتح الياء أيضاً، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكونها، وكذلك قرأ نافع وعاصم {أرضي} ساكنة، وقوله تعالى: {فإياي} منصوب بفعل مقدر يدل عليه الظاهر تقديره {فإياي} اعبدوا {فاعبدون} على الاهتمام أيضاً في التقديم، وقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا، فحقر الله تعالى شأن الدنيا، أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا، فالبدار إلى إلى طاعة الله عز وجل والهجرة إليه أولى ما يمتثل، وقرأ الجمهور {ترجعون} بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم بالياء من تحت وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو، وقرأ أبو حيوة {كل نفس ذائقةٌ} بالتنوين {الموتَ} بالنصب، ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضاً منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه، وقرأ جمهور القراء {لنبوئنهم} من المباءة أي لننزلنهم ولنمكننهم ليدوموا فيها، و{غرفاً} مفعول ثان لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، وقرأ حمزة والكسائي {لنثوينهم} من أثوى يثوي وهو معدى ثوى بمعنى أقام وهي قراءة على بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن وثاب وطلحة، وقرأها بعضهم {لنثَوّينهم} بفتح الثاء وتشديد الواو معدى بالتضعيف لا بالهمزة، فقوله: {غرفاً} نصب بإسقاط حرف الجر التقدير في غرف، وقرأ يعقوب {لنبوينهم} بالياء من تحت، وروي عن ابن عامر {غُرُفاً} بضم الغين والراء، ثم وصفهم تعالى بالصبر والتوكل وهاتان جماع الخير كله أي الصبر على الطاعات وعن الشهوات.

.تفسير الآيات (60- 63):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}
{كأين} بمعنى كم، وهذه الآية أيضاً تحريض على الهجرة لأن بعض المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة وقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في رزقها، المعنى فهو يرزقكم أنتم، ففضلوا طاعته على كل شيء، وقوله تعالى: {لا تحمل} يجوز أن يريد من الحمل أي لا تستقل ولا تنظر في ادخار، وقاله ابن مجلز ومجاهد وعلي بن الأقمر.
قال الفقيه الإمام القاضي: والادخار ليس من خلق الموقنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة بضعف اليقين»، ويجوز أن يريد من الحمالة أي لا تتكفل لنفسها ولا تروي فيه، ثم خاطبه تعالى بأمر الكفار وإقامة الحجة عليهم بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى، و{يؤفكون} معناه يصرفون، ونبه تعالى على خلق السماوات وخلق الأرض وتسخير الكواكب وذكر عظمها فاقتضى ذلك ما دونه، ثم نبه على بسط الرزق وقدره لقوم، وإنزال المطر من السماء، وهذه عبر كفيلة لمن تأمل بالنجاة والمعتقد الأقوم، ثم أمر تعالى نبيه بحمده على جهة التوبيخ لعقولهم وحكم عليهم بأن {أكثرهم لا يعقلون} ولا يتسدد منهم نظر.

.تفسير الآيات (64- 67):

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)}
وصف الله تعالى {الدنيا} في هذه الآية بأنها {لهو ولعب} أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى، فأما ما كان لله فهو من الآخرة، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري به قوام العيش والقوة على الطاعات فإنما هو {لهو ولعب}، وتأمل ذلك في المطاعم والملابس والأقوال والمكتسبات وغير ذلك، وانظر أن حالة الغني والفقير في الأمور الضرورية واحدة كالتنفس في الهواء وسد الجوع وستر العورة وتوقي الحر والبرد وهذه عظم أمر العيش، و{الحيوان} و{الحياة} بمعنى واحد، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه، والمعنى لا موت فيها قاله مجاهد وهو حسن، ويقال أصله حييان فبدلت إحداهما واواً لاجتماع المثلين، ثم وقفهم تعالى على حالهم في البحر عند الخوف العظيم، فإن كل بشر ينسى كل صنم وغيره ويتمسك بالدعاء والرغبة إلى الله تعالى، وقوله: {إذا هم يشركون} أي يرجعون إلى ذكر أصنامهم، وتعظيمها، وقوله: {ليكفروا} نصب بلام كي، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم {ولِيتمتعوا} بكسر اللام، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {ولْيتمتعوا} بسكون اللام على صيغة الأمر التي هي للوعيد والتهديد، والواو على هذا عاطفة جملة كلام، لا عاطفة فعل على فعل وفي مصحف أبي بن كعب {فتمتعوا فسوف تعلمون}، وفي قراءة ابن مسعود {لسوف تعلمون} باللام، ثم عدد تعالى على كفار قريش نعمته عليهم في الحرم في أنه جعله لهم آمناً لا خوف فيه من أحوال العرب وغارتهم وسوء أفعالهم من القتل وأخذ الأموال ونحوه، وذلك هو التخطف الذي كان الناس بسبيله، ثم قررهم على جهة التوبيخ على إيمانهم بالباطل وكفرهم بالله وبنعمته، وقرأ جمهور القراء {يؤمنون} بالياء من تحت وكذلك {يكفرون}، وقرأهما بالتاء من فوق الحسن وأبو عبد الرحمن.

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}
قررهم عز وجل على حال من {افترى على الله كذباً أو كذب} بآياته، وهذه كانت حالهم وأعلمهم أنه لا أحد {أظلم} منهم، وهذا في ضمنه وعيد شديد، ثم بين الوعيد أيضاً بالتقرير على أمر جهنم، والمثوى موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآيات في غاية الاقتضاب والإيجاز وجمع المعاني، ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه، وقرر ذلك بذكر الكفرة والظلمة ليبين تباين الحالتين، وقوله: {فينا}، معناه في مرضاتنا وبغية ثوابنا. قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العباد، وقال عياش وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعلمون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم»، ونزع بعض العلماء بقوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282]، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد الأكبر، قاله الحسن وغيره وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله يقول {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال الضحاك: معنى الآية {والذين جاهدوا} في الهجرة {لنهدينهم} سبل الثبوت على الإيمان، والسبل هاهنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة والعقائد النيرة، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النية في الأعمال وحب التزيد والتفهيم، وهذا هو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم يقتدح من علم متقدم وهي حال من رضي الله عنه، وباقي الآية وعد، ومع تحتمل أن تكون هنا اسماً ولذلك دخلت عليها لام التأكيد، ويحتمل أن تكون حرفاً ودخلت اللام لما فيها من معنى الاستقرار كما دخلت في إن زيداً لفي الدار.