فصل: تفسير الآيات (9- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (9- 10):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}
هذه الآية تأكيد لأمر الجهاد وفضله المتقدم، والمعنى دم على جهاد الكافرين بالسيف، وجاهد المنافقين بنجههم وإقامة الحدود عليهم وضربهم في كل جرائمهم، وعند قوة الظن بهم، ولم يعين الله تعالى لرسوله منافقاً يقع القطع بنفاقه، لأن التشهد الذي كانوا يظهرون كان ملبساً لأمرهم مشبهاً لهم بالعصاة من الأمة. والغلظة عليهم هي فظاظة القلب والانتهار وقلة الرفق بهم، وقرأ الضحاك: {وأغلِظ} بسكر اللام وقطع الألف، وهذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما: أن من كفر لا يغني عنه شيء ولا ينفعه وَزَرٌ ولو كان متعلقاً بأقوى الأسباب، وأن من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى ولو كان في أسوأ منشأ وأخسر حال. وقال بعض الناس: إن في المثلين عبرة لزوجات النبي محمد عليه السلام، حين تقدم عتابهن، وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا.
واختلف الناس في خيانة هاتين المرأتين، فقال ابن عباس وغيره: خانتا في الكفر، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس: إنه مجنون، وأن امرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى ورده ضيف فتخبر به، وقال ابن عباس: وما بغت زوجة نبي قط، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا، وقال الحسن في كتاب النقاش: خانتاهما بالكفر والزنا وغيره، وقرأ الجمهور: {يغنيا} بالياء، وقرأ مبشر بن عبيد: {تغنيا} بالتاء من فوق.

.تفسير الآيات (11- 12):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
{امرأة فرعون} اسمها آسية وقولها: {وعمله} معناه وكفره، وما هو عليه من الضلالة، وهذا قول كافة المفسرين، وقال جمهور من المفسرين: معناه من ظلمه وعقابه وتعذيبه لي، وروي في هذا أن فرعون اتصل به إيمانها بموسى، وأنها تحب أن يغلب، فبعث إليها قوماً، وقال: إن رأيتم منها ذلك فابطحوها في الأرض ووتدوا يديها ورجليها وألقوا عليها أعظم حجر، وإن لم تروا ذلك فهي امرأتي. قال، فذهب القوم فلما أحست بالشر منهم دعت بهذه الدعوات فقبض الله روحها وصنع أولئك أمر الحجر بشخص لا روح فيه، وروي في قصصها غير هذا مما يطول ذكره، فاختصره لعدم صحته. وقال آخرون في كتاب النقاش: {وعمله} كناية عن الوطء والمضاجعة. وهذا ضعيف.
واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم، فقال الجمهور: هو فرج الدرع الذي كان عليها، وأنها كانت صينة، وأن جبريل عليه السلام: نفخ فيها الروح من جيب الدرع، وقال قوم من المتأولين: هو الفرج الجارحة، فلفظة {أحصنت}: إذا كان فرج الجارحة متمكناً حقيقة، والإحصان: صونه، وفيه هي مستعملة، وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ {أحصنت} فيه مستعارة من حيث صانته، ومن حيث صار مسلكاً لولدها، وقوله تعالى: {فنفخنا} عبارة عن فعل جبريل حقيقة، وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى، فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها، وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه أن يسير في الشيء برفق ولطف. وقوله تعالى: {من روحنا} إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول: بيت الله وناقة الله، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله. وقرأ الجمهور: {وصدّقت} بشد الدال، وقرأ أبو مجلز: بتخفيفها، وقرأ جمهور الناس: {بكلمات} على الجمع، وقرأ الجحدري: {بكلمة} على الإفراد، فأما الإفراد فيقوي: أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد أنه اسم جنس في التوراة، ومن قرأ على الجمع فيقوي أنه يريد التوراة، ويحتمل أن يريد أمر عيسى. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع: {وكتابه} على الوحيد، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع: {وكُتُبه} بضم التاء والجمع، وقرأ أبو رجاء بسكون التاء {وكتْبه}، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل، والقانتون: العابدون، والمعنى كانت من القوم {القانتين} في عبادتها وحال دينها.
نجز تفسير سورة التحريم والحمد لله كثيراً.

.سورة الملك:

.تفسير الآيات (1- 4):

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}
{تبارك} تفاعل من البركة، وهي التزيد في الخيرات، ولم يستعمل بيتبارك ولا متبارك، وقوله: {بيده} عبارة عن تحقيق {الملك}، وذلك أن اليد في عرف الآدميين هي آلة التملك فهي مستعرة، و{الملك} على الإطلاق هو الذي لا يبيد ولا يختل منه شيء، وذلك هو ملك الله تعالى، وقيل المراد في هذه الآية: ملك المولك، فهو بمنزلة قوله: {اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26]، عن ابن عباس رضي الله عنه. وقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير} عموم، والشيء معناه في اللغة الموجود، و{الموت والحياة} معنيان يتعاقبان جسم الحيوان يرتفع أحدهما بحلول الآخر، وما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط»، فقال أهل العلم: ذلك تمثال كبش يوقع الله عليه العلم الضروري لأهل الدارين، إنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا، ويكون ذلك التمثال حاملاً للموت على أنه يحل الموت فيه، فتذهب عنه حياة، ثم يقرن الله تعالى بذبح ذلك التمثال إعدام الموت. وقوله تعالى: {خلق الموت والحياة ليبلوكم} أي ليختبركم في حال الحياة، ويجازيكم بعد الموت، وقال أبو قتادة نحوه عن ابن عمر: قلت يا رسول الله: ما معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} فقال: «يقول: أيكم أحسن عقلاً، وأشدكم لله خوفاً، وأحسنكم في أمره ونهيه، نظراً وإن كانوا أقلكم تطوعاً». وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن بن أبي الحسن: {أيكم أحسن عملاً} أزهدكم في الدنيا. وقوله تعالى: {ليبلو} دال على فعل تقديره: فينظر أو فيعلم أيكم، وقال جماعة من المتأولين: الموت والحياة، عبارة عن الدنيا والآخرة، سمى هذه موتاً من حيث إن فيها الموت، وسمى تلك الحياة من حيث لا موت فيها، فوصفهما بالمصدرين على تقدير حذف المضاف، كعدل وزور، وقدم {الموت} في اللفظ، لأنه متقدم في النفس هيبة وغلظة، و{طباقاً} قال الزجاج: هو مصدر، وقيل: هو جمع طبقة أو جمع طبق مثل: رحبة ورحاب، أو جمل وجمال، والمعنى بعضها فوق بعض، وقال أبان بن ثعلب: سمعت أعرابياً يذم رجلاً، فقال: شره طباق، خيره غير باق، وما ذكر بعض المفسرين في السماوات من أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف كله، ولم يثبت بذلك حديث، ولا يعلم أحد من البشر حقيقة لهذا. وقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} معناه من قلة تناسب، ومن خروج عن إتقان، والأمر المتفاوت، هو الذي يجاوز الحدود التي توجب له زيادة أو نقصاناً، وقرأ جمهور القراء: {من تفاوت}، وقرأ حمزة والكسائي وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش: {من تفوت} وهما بمعنى واحد، وقال بعض العلماء: {في خلق الرحمن} يعني به السماوات فقط، وهي التي تتضمن اللفظ، وإياها أراد بقوله: {هل ترى من فطور}، وإياها أراد بقوله: {ينقلب إليك البصر} الآية، قالوا وإلا ففي الأرض فطور، وقال آخرون: {في خلق الرحمن} يعني به جميع ما في خلق الله تعالى من الأشياء، فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور، جارية على غير إتقان، ومتى كانت فطور لا تفسد الشيء المخلوق من حيث هو ذلك الشيء، بل هي إتقان فيه، فليست تلك المرادة في الآية، وقال منذر بن سعيد: أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر، ليرى فيها خللاً أو نقصاً، فإن بصره ينقلب {خاسئاً} حسيراً، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر.
وقوله: {كرتين} معناه مرتين، ونصبه على المصدر، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه، ومنه الكلب الخاسئ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد: «اخسأ فلن تعد وقدرك»، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم: {اخسؤوا فيها} [المؤمنون: 108]، وكذلك هنا البصر يحرص على روية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك، فينقلب {خاسئاً}، والحسير العييّ الكالّ، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
لهن الوجا لم كن عوناً على النوى ** ولا زال منها طالح وحسير

.تفسير الآيات (5- 9):

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}
أخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا التي تلينا بمصابيح وهي النجوم، فإن كانت جميع النجوم في السماء الدنيا فهذا اللفظ عام للكواكب، وإن كان في سائر السماوات كواكب، فإما أن يريد كواكب سماء الدنيا فقط، وإما أن يريد الجميع على أن ما في غيرها لما كانت هي تشق عنه، ويظهر منها، فقد زينت به بوجه ما، ومن تكلف القول بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي، فقوله ليس من الشريعة. وقوله تعالى: {وجعلناها رجوماً للشياطين} معناه وجعلنا منها، وهذا كما تقول: أكرمت بني فلان وصنعت بهم وأنت إنما فعلت ذلك ببعضهم دون بعض، ويوجب هذا التأويل في الآية أن الكواكب الثابتة والبروج، وكل ما يهتدى به في البر والبحر فليست براجم، وهذا نص في حديث السير، وقال قتادة رحمه الله: خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين وليهتدى بها في البر والبحر، فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة. {وأعتدنا} معنا: أعددنا والضمير في: {لهم} عائد على الشياطين، وقرأ جمهور الناس: {وللذين كفروا بربهم عذابُ جهنم} بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور المتقدم، وقرأ الحسن في رواية هارون عنه: {عذابَ} بالنصب على معنى {وأعتدنا للذين كفروا عذابَ جهنم}، قالوا: وعاطفة فعل على فعل، وتضمنت هذه الآية، أن عذاب جهنم للكافرين المخلدين، وقد جاء في الأثر أنه يمر على جهنم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة، فالذي قال في هذا إن {جهنم} اسم تختص به الطبقة العليا من النار ثم قد تسمى الطبقات كلها جهنم باسم بعضها، وهكذا كما يقال النجم للثريا، ثم يقال ذلك للكواكب اسم جنس فالذي في هذه الآية هي جهنم بأسرها، أي جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا، لأنها مقر العصاة، والشهيق: أقبح ما يكون من صوت الحمار، فاحتدام النار وغليانها بصوت مثل ذلك، قوله تعالى: {تكاد تميز من الغيظ} أي يزايل بعضها بعضاً لشدة الاضطراب كما قال الشاعر في صفة الكلب المحتدم في جربه: [الرجز]:
يكاد أن يخرج عن إهابه

وقرأ الضحاك: {تمايز} بألف، وقرأ طلحة: {تتميز} بتاءين، وقرأ الجمهور: {تكادُ تَميز} بضم الدال وفتح التاء مخففة، وقرأ البزي {تكادُ} بضم الدال وشد التاء أنها {تتميز} وأدغم إحدى التاءين في الأخرى.
وقرأ أبو عمرو بن العلاء: {تكاد تميز} بإدغام الدال في التاء، وهذا فيه إدغام الأقوى في الأضعف، وقوله تعالى: {من الغيظ} معناه على الكفرة بالله، وقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج}، الفوج: الفريق من الناس، ومنه قوله تعالى: {في دين الله أفواجاً} [النصر: 2] الآية، تقتضي أنه لا يلقى فيها أحد إلا سئل على جهة التوبيخ عن النذر فأقر بأنهم جاؤوا وكذبوهم، وقوله: {كلما} حصر. فإذا الآية تقتضي في الأطفال من أولاد المشركين وغيرهم، وفيمن نقدره صاحب فترة أنهم لا يدخلون النار لأنهم لم يأتهم نذير، واختلف الناس في أمر الأطفال، فأجمعت الأمة على أن أولاد الأنبياء في الجنة، واختلفوا في أولاد المؤمنين، فقال الجمهور: هم في الجنة، وقال قوم هم في المشيئة، واختلفوا في أولاد المشركين، فقالت فرقة: هم في النار، واحتجوا بحديث روي من آبائهم، وتأول مخالف هذا الحديث، أنهم في أحكام الدنيا، وقال: هم في المشيئة، وقال فريق: هم في الجنة، واحتج هذا الفريق بهذه الآية في مساءلة الخزنة، وبحديث وقع في صحيح البخاري في كتاب التفسير، يتضمن أنهم في الجنة. وبقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فالأطفال لم يبلغوا أن يصنع بهم شيء من هذا». وقوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم أنهم كذبوا النذر، ويحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر.

.تفسير الآيات (10- 15):

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}
المعنى وقال الكفار للخزنة في محاورتهم: {لو كنا نسمع أو نعقل} سمعاً أو عقلاً ينتفع به ويغني شيئاً لآمنا ولم نستوجب الخلود في السعير، ثم أخبر تعالى محمداً أنهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا ينفع فيه الاعتراف، وقوله تعالى: {فسحقاً} نصب على جهة الدعاء عليهم وجاز ذلك فيه، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول مستقراً فيهم أزلاً ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه، كما تقول: سحقاً لزيد وبعداً، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، وأما ما وقع وثبت، فالوجه فيه الرفع كما قال تعالى: {ويل للمطففين} [المطففين: 1]، و{سلام عليكم} [الأنعام: 54، الأعراف: 46، الرعد: 24، القصص: 55، الزمر: 73]، وغير هذا من الأمثلة، وقرأ الجمهور: {فسحْقاً} بسكون الحاء، وقرأ الكسائي: {فسُحقاً} بضم الحاء وهما لغتان، ثم وصف تعالى أهل الإيمان، وهم {الذين يخشون ربهم}، وقوله تعالى: {بالغيب} يحتمل معنيين، أحدهما: {بالغيب} الذي أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار، فآمنوا بذلك، وخشوا ربهم فيه، ونحا إلى هذا قتادة والمعنى الثاني: أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، أي في خلواتهم، ومنه تقول العرب: فلان سالم الغيب، أي لا يضر، فالمعنى يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم، وانفرادهم، فالاحتمال الأول: مدح بالإخلاص والإيمان، والثاني: مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات، وذلك أحرى أن يعملوها علانية، وقوله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} مخاطبة لجميع الخلق.
قال ابن عباس: سببها أن المشركين قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد فالمعنى أن الأمر سواء عند الله لأنه يعلم ماهجس في الصدور دون أن ينطق به، فكيف إذاً ينطق به سراً أو جهراً، و{ذات الصدور}، ما فيها، وهذا كما قال: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقد تقدم تفسيره غير ما مرة. وقوله تعالى: {ألا يعلم من خلق} اختلف الناس في إعراب: {من}، فقال بعض النحاة: إعرابها رفع، كأنه قال: ألا يعلم الخالق خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف، وقال قوم: إعرابها نصب، كأنه قد لا يعلم الله من خلق؟ قال مكي: وتعلق أهل الزيغ بهذا التأويل لأنه يعطي أن الذين خلقهم الله هم العباد من حيث قال: {من} فتخرج الأعمال عن ذلك، لأن المعتزلة تقول: العباد يخلقون أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد: وتعلقهم بهذا التأويل ضعيف، والكلام مع المعتزلة في مسالة خلق الأعمال مأخذه غير هذا، لأن هذه الآية حجة فيها لهم ولا عليهم، والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول. فهي كركوب وحلوب، يقال: ذلول، بين الذل بضم الذال، واختلف المفسرون في معنى: المناكب، فقال ابن عباس: أطرافها وهي الجبال، وقال الفراء ومنذر بن سعيد: جوانبها، وهي النواحي، وقال مجاهد: هي الطرف والفجاج، وهذا قول جار مع اللغة، لأنها تنكب يمنة ويسرة، وينكب الماشي فيها، في مناكب. وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس، وفي التمتع فقي رزق الله تعالى، و{النشور}: الحياة بعد الموت.