فصل: تفسير الآيات (18- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 32):

{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}
قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه، وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم والقرينة تبين الغرض، وهذا نظير قوله: {لأي يوم أجلت ليوم الفصل} [المرسلات: 13] واللفظ المشار إليه ماء الرجل وماء المرأة، وقرأ جمهور الناس: {فقدّره} بشد الدال، وقرأ بعض القراء: {فقدّره} بتخفيفها، والمعنى جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من أنحائه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان، واختلف المتأولون في معنى قوله: {ثم السبيل يسره} فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي: هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها، وقال الحسن ما معناه: إن {السبيل} هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسره له هو هبة العقل، وقال مجاهد: أراد {السبيل} عامة اسم الجنس في هدى وضلال أي يسر قوماً لهذا كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان: 3]، وقوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وقوله تعالى: {فأقبره} معناه أمر أن يجعل له قبر، وفي ذلك تكريم لئلا يطرح كسائر الحيوان، والقابر هو الذي يتناول جعل الميت في قبره، والمقبر الذي يأمر بقبر الميت، ويقرره، و{أنشره} معناه: أحياه، يقال: نشر الميت وأنشره الله، وقوله: {إذا شاء} يريد إذا بلغ الوقت الذي شاءه وهو يوم القيامة، وقرأ بعض القراء: {شاء أنشره} بتحقيق الهمزتين، وقرأ جمهور الناس: {شاء أنشره} بمدة وتسهيل الهمزة الأولى، وقرأ شعيب بن أبي حمزة: {شاء نشره}، وقرأ الأعمش: {شاء انشره} بهمزة واحدة، وقوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} رد لما عسى أن للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه وإثبات أنه ترك حق الله تعالى، ولم يقض ما أمره، قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه، ثم أمر تعالى الإنسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه، وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيره إلى أن المراد {إلى طعامه} إذا صار رجيعاً ليتأمل حيث تصير عاقبة الدنيا، وعلى أي شيء يتفانى أهلها وتستدير رحاها، وهذا نظير ما روي عن ابن عمر: أن الأنسان إذا أحدث فإن ملكاً يأخذ بناصيته عند فراغه فيرد بصره إلى نحوه موقفاً له ومعجباً فينفع ذلك من له عقل، وذهب الجمهور إلى أن معنى الآية: فلينظر إلى مطعوماته وكيف يسرها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض، ويروى أن رجلاً أضافه عابد فقدم إليه رغيفاً قفازاً فكأن الرجل استخشنه فقال له: كله فإن الله تعالى لم ينعم به وكمله حتى سخر فيه ثلاثمائة وستين عاملاً الماء والريح والشمس ثلاثة من ذلك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {أنّا صببنا} بفتح الألف على البدل وهي قراءة الأعرج وابن وثاب والأعمش، ورد على هذا الإعراب قوم بأن الثاني ليس الأول وليس كما ردوا لأن المعنى: {فلينظر الإنسان} إلى إنعامنا في طعامه فترتب البدل وصح، {وأنا} في موضع خفض، وقرأ الجمهور: {إنا} بكسر الألف على استئناف تفسير الطعام، وقرأ بعض القراء: {أنى} بمعنى كيف ذكرها أبو حاتم، وصب الماء: هو المطر، وشق الأرض: هو بالنبات، والحب: جمع حَبة بفتح الحاء وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه، والحِبة بكسر الحاء كل ما ينبت من البزور ولا يحفل به ولا هو بمتخذ، والقضب قال بعض اللغويين: هي الفصافص، وهذا عندي ضعيف، لأن الفصافص هي للبهائم فهي دخل في الأبّ، وقال أبو عبيدة: القضب الرطبة، قال ثعلب: لأنه يقضب كل يوم.
والذي أقوله إن القضب هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، وغضاً من النبات كالبقول والهِلْيُون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة، والغُلب الغلاط الناعمة، والحديقة الشجر الذي قد أحدق بجدار أو نحوه، والأبّ: المرعى قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة، وقال الضحاك: الأبّ: التبن، وفي اللفظة غرابة وقد توقف في تفسيرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، و{متاعاً} نصب على المصدر، والمعنى تتمتعون به أنتم وأنعامكم، فابن آدم في السبعة المذكورة، والأنعام في الأبّ.

.تفسير الآيات (33- 42):

{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
{الصاخة}: اسم من أسماء القيامة، واللفظة في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخ الآذان أي تصمها، ويستعمل هذا اللفظ في الداهية التي يصم نبؤها الآذان لصعوبته، وهذه استعارة وكذلك في الصيحة المفرطة التي يصعب وقعها على الأذن، ثم ذكر تعالى فرار المرء من القوم الذين معهودهم أن لا يفر عنهم في الشدائد، ثم رتبهم تعالى الأول فالأول محبة وحنواً، وقرأ أبو أناس جوية {من أخيهُ وأمهُ وأبيهُ} بضم الهاء في كلها، وقال منذر بن سعيد وغيره: هذا الفرار هو خوف من أن يتبع بعضهم بعضاً بتبعات إذ الملابسة تعلق المطالبة، وقال جمهور الناس: إنما ذلك لشدة الهول على نحو ما روي أن الرسل تقول يومئذ نفس نفسي لا أسألك غيري، والشأن الذي يغنيه: هو فكرة في سيئاته وخوفه على نفسه من التخليد في النار، والمعنى {يغنيه} عن اللقاء مع غيره والفكرة في أمره، قال قتادة: أفضى كل إنسان إلى ما يشغله عن غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «لا يضرك في القيامة كان عليك ثياب أم لا»، وقرأ هذه الآية وقال نحوه: لسودة، وقد قالتا: واسوأتاه ينظر بعض الناس إلى بعض يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس: {يُغنيه} بالغين منقوطة وضم الياء على ما فسرناه، وقرأ ابن محيصن والزهري وابن السميفع: {يَعَنيه} بفتح الياء والعين غير منقوطة من قولك عناني الأمر أي قصدني وأردني. ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله حين بدت لهم تباشيرها من الكفار، و{مسفرة}: معناه: نيرة باد ضوؤها وسرورها، و{ترهقها} معناه تلح عليها، والقترة الغبار والغبرة الأولى إنما هي العبوس والهم كما يرى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار، وأما القترة فغبار الأرض ويقال إن ذلك يغشاهم من التراب الذي تعوده البهائم، ثم فسر تعالى أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم الكفرة قريش يومئذ ومن جرى مجراهم قديماً وحديثاً.
نجز تفسير سورة {عبس} والحمد لله كثيراً.

.سورة التكوير:

.تفسير الآيات (1- 14):

{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}
هذه كلها أوصاف يوم القيامة، وتكوير الشمس: هو أن تدار ويذهب بها إلى حيث شاء الله كما يدار كور العمامة، وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات، فمنهم من قال: ذهب نورها قاله قتادة، ومنهم من قال: رمي بها، قاله الربيع بن خيثم وغير ذلك مما هو أشياء توابع لتكويرها، وانكدار النجوم: هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها، ومنه قول الراجز [العجاج]: [الرجز]
أبصر خربان فلاة فانكدرْ ** تقضّي البازي إذا البازي كسرْ

وقال ابن عباس: {انكدرت}: تغيرت، من قولهم: ماء كدر، أي متغير اللون، وتسيير الجبال هو قبل نسفها، وإنما ذلك في صدر هول القيامة، و: {العشار} جمع عشراء وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند العرب وتهممهم بها عظيم للرغبة في نسلها، فإنها تعطل عند أشد الأهوال، وقرأ مضر عن اليزيدي: {عطِلت} بتخفيف الطاء، وحشر الوحوش: جمعها، واختلف الناس في هذا الجمع ما هو؟ فقال ابن عباس: {حشرت} بالموت لا تبعث في القيامة ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقال قتادة وجماعة: {حشرت} للجمع يوم القيامة، ويقتص للجماء من القرناء فجعلوا ألفاظ هذا الحديث حقيقة لا مجازاً مثالاً في العدل. وقال أبيّ بن كعب: {حشرت} في الدنيا في أول هول يوم القيامة فإنها تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تأنيساً بهم، وقرأ الحسن: {حشّرت} بشد الشين على المبالغة، وتسجير البحار، قال قتادة والضحاك معناه: فرغت من مائهاه وذهب حيث شاء الله وقال الحسن: يبست، وقال الربيع بن خيثم معناه: ملئت، وفاضت وفجرت من أعاليها، وقال أبي بن كعب وابن عباس وسفيان ووهب وابن زيد: معناه: أضرمت ناراً كما يسجر التنور، وقال ابن عباس: جهنم في البحر الأخضر، ويحتمل أن يكون المعنى ملكت، وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض بسبب الهول فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب، وقيل: هذه مجاز في جهنم، تسجر يوم القيامة وقد تقدم تظير هذه الأقوال منصوصة لأهل العلم في تفسير قوله تعالى: {والبحر المسجور} [الطور: 6] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {سجِرت} بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون: بشدها، وهي مترجحة بكون البحار جميعاً كما قال: {كتاباً يلقاه منشوراً} [الإسراء: 13]، وكما قال: {صحفاً منشرة} [المدثر: 52]، ومثله {قصر مشيد} [الحج: 45] و{بروج مشيدة} [النساء: 78]، لأنها جماعة، وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته، والشمس نفسه والنجوم عيناه وحواسه، والعشار ساقاه، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى، وتزويج النفوس: هو تنويعها، لأن الأزواج هي الأنواع والمعنى: جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن وكل شكل مع شكله، رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس، وقال: هذا نظير قوله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7] وفي الآية على هذا حض على خليل الخبر، فقد قال عليه السلام: «المرء مع من أحب»، وقال: «فلينظر أحدكم من يخالل»، وقال الله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67]، وقال مقاتل بن سليمان: زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن، وقال عكرمة والضحاك والشعبي: زوجت الأرواح الأجساد، وقرأ عاصم: {زوجت} غير مدغم، و{الموءودة}: اسم معناه المثقل عليها، ومنه: {ولا يؤوده} [البقرة: 255] ومنه أتأد، أي توقد، وأثقل وعرف هذا الاسم في النبات اللواتي كان قوم من العرب يدفنونهن أحياء يحفر الرجل شبه البر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها، وإذا كانت صغيرة جداً خدّ لها في الأرض ودفنها، وبعضهم: كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال، وبعضهم: غيرة وكراهية للبنات وجهالة وقرأ الجمهور: {الموءودة} بالهمز من وأد في حرف ابن مسعود: {وإذا الماودة}، وقرأ البزي: {الموودة} بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة، وقرأ الأعمش: {الموْدة} بسكون الواو على وزن: الفعلة وقرأ بعض السلف: {الموَدّة} بفتح الواو والدال المشددة، جعل البنت مودة، وقرأ جمهور الناس: {سئلت}، وهذا على وجه التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك، لأنها تسأل ليصير الأمر إلى سؤال الفاعل، ويحتمل أن تكون مسؤولة عنها مطلوباً الجواب منهم، كما قال تعالى: {إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34]، وكما يسأل التراث والحقوق.
وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد وجماعة كثيرة منهم ابن مسعود والربيع ين خيثم: {سألت}، ثم اختلف هؤلاء فقرأ أكثرهم: {قَتلْتَ} بفتح التاء وسكون اللام، وقرأ أبو جعفر: {قتّلت} بشد التاء على المبالغة، وقرأ ابن عباس وجابر وأبو الضحى ومجاهد: {قتلْتُ} بسكون اللام وضم التاء، وقرأ الأعرج والحسن: {سيلت} بكسر السين وفتح اللام دون همز، واستدل ابن عباس بهذه الآية في أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله تعالى قد انتصر لهم من ظلمهم، والصحف المنشورة: قيل هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل امرئ كتابه، وقيل هي الصحف التي تتطاير بالإيمان، والشمائل بالجزاء، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة: {نشِرت} بتخفيف الشين المسكورة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {نشّرت} بشد الشين على المبالغة، والكشط: التقشير، وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ، وكشط السماء: هو طيها كطي السجل، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {قشطت} بالقاف وهما بمعنى واحد، و{سعرت} معناه: أضرمت نارها، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {سعّرت} بشد العين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: بتخفيفها وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال قتادة: سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم و{أزلفت} الجنة معناه: قربت الغرض المقصود بقوله: {وإذا} {وإذا} في جميع ما ذكر إما تم بقوله: {علمت نفس ما أحضرت}، أي ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم أو من خير فدخلت به الجنة، و{نفس} هنا اسم جنس، أي عملت النفوس ووقع الإفراد لتنبيه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه.

.تفسير الآيات (15- 29):

{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}
قوله تعالى: {فلا} إما أم تكون لا زائدة، وإما أن يكون رد القول قرش في تكذيبهم بنبوة محمد عليه السلام، وقولهم إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك، ثم أقسم الله تعالى {بالخنس الجوار الكنس} فقال جمهور المفسرين: إن ذلك الدراري السبعة: الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري، وقال علي بن أبي طالب: المراد الخمسة دون الشمس والقمر. وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر فيما ترى العين، وهو جوار في السماء، وأثبت يعقوب الياء في الجواري في الوقف وحذفها الباقون وهي تكنس في أبراجها أي تستتر، وقال علي بن أبي طالب أيضاً والحسن وقتادة: المراد النجوم كلها لأنها تخنس بالنهار حين تختفي، وقال عبد الله بن مسعود والنخعي وجابر بن زيد وجماعة من المفسرين: المراد {بالخنس الجوار الكنس}: بقر الوحش لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك: هي الظباء، وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه من صفة الأنوف لأنها يلزمها الخنس، وكذلك هي بقر الوحش أيضاً ومن ذلك قول الشاعر [الطويل]
سوى نار بض أو غزال صريمة ** أغن من الخنس المناخر توأم

وعسعس الليل في اللغة: إذا كان غير مستحكم الإظلام، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذلك وقت إقباله وبه وقع القسم، وقال زيد بن أسلم وابن عباس ومجاهد وقتادة: ذلك عند إدباره وبه وقع القسم، ويرجع هذا قوله بعد: {والصبح إذا تنفس}، فكأنهما حالان متصلتان ويشهد له قول علقمة بن قرط: [الرجز]
حتى إذا الصبح لها تنفّسا ** وانجاب عنها ليلها وعسعسا

وقال المبرد أبو العباس: أقسم بإقباله وإدباره، قال الخليل: يقال عسعس الليل وسعسع إذا أقبل وأدبر، وتنفس الصبح: استطار واتسع ضوؤه، وقال علوان بن قس: [الطويل]
وليل دجوجي تنفس فجره ** لهم بعد أن خالوه لن يتنفسا

والضمير في {إنه} للقرآن، والرسول الكريم في قول جمهور المتأولين: جبريل عليه السلام، وقال آخرون: هو محمد عليه السلام في الآية، والقول الأول أصح، و{كريم} في هذه الآية يقتضي رفع المذام، ثم وصفع بقوة منحه الله إياها، وختلف الناس في تعليق: {عند ذي العرش}، فذهب بعض المتأولين إلى تعلقه بقوله: {ذي قوة}، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله: {ذي قوة} وتعلق الظرف: ب {مكين}، و{مكين} معناه: له مكانة ورفعة، وقوله تعالى: {مطاع ثم أمين} أي مقبول القول مصدق بقوله مؤتمن على ما يرسل به، ويؤدي من وحي وامتثال أمر، وقرأ أبو جعفر: {ثُم أمين} بضم الثاء، وذكر الله تعالى نفسه بالإضافة إلى عرشه تنبيهاً على عظم ملكوته، وأجمع المفسرون على أن قوله: {وما صاحبكم} يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {رآه}: جبريل عليه السلام، وهذه الرؤية التي كانت بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين المساء والأرض، وقيل هذه الرؤيا التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء، وسمى ذلك الموضع أفقاً مجازاً، وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثانية بالمدينة، وليست هذه، ووصف الأفق ب {المبين}، لأنه كان بالشرق من حيث تطلع الشمس، قاله قتادة وأيضاً فكل أفق فهو في غاية البيان، وقوله تعالى {وما هو على الغيب بضنين} بالضاد بمعنى: بخيل أي يشح به، ولا يبلغ ما قيل له، ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه، وبالضاد هي خطوط المصاحف كلها، فيما قاله الطبري وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة وعثمان بن عفان وابن عباس والحسن وأبي رجاء والأعرج وأبي جعفر وشيبة وجماعة وافرة.
وقرأ ابن كثير وعمرو والكسائي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة بن الزبير ومسلم وابن جندب ومجاهد وغيرهم: {بظنين}، بالظاء أي بمتهم، وهذا في المعنى نظير وصفه ب {آمين}، وقيل معناه: بضعف القوة عن التبليغ من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء، ورجح أبو عبيد قراءة: الظاء مشالة لأن قريشاً لم تبخل محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإما كذبته، فقيل ما هو بمتهم، ثم نفى تعالى عن القرآن أن يكون كلام شيطان على ما قالت قريش: إن محمداً كاهن، و{رجيم} معناه: مرجوم مبعد بالكواكب واللعنة وغير ذلك، وقوله تعالى: {فأين تذهبون} توقيف وتقرير على معنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق، والذكر هنا: مصدر بمعنى التذكرة، ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتكسبهم أفعال الاستقامة، ثم بين تعالى أن تكسب المرء على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء، وروي أنه نزل قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} فقال أبو جهل: هذا أمر قد وكل إلينا، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فنزلت {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} يقول الله تعالى: يا ابن آدم تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد.