فصل: النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها:

7- قَوْله: (أَبُو هَانِئٍ) هُوَ بِهَمْزِ آخِرِهِ.
8- (حَرْمَلَة بْن يَحْيَى التُّجِيبِيّ) هُوَ بِمُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْق مَضْمُومَة عَلَى الْمَشْهُور، وَقَالَ صَاحِب الْمَطَالِعِ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ، قَالَ: وَبِالضَّمِّ يَقُولُهُ أَصْحَاب الْحَدِيث وَكَثِير مِنْ الْأُدَبَاء، قَالَ: وَبَعْضهمْ لَا يُجِيز فيه إِلَّا الْفَتْحَ وَيَزْعُم أَنَّ التَّاء أَصْلِيَّة. وَفِي بَاب التَّاء ذَكَرَهُ صَاحِب الْعَيْن يَعْنِي فَتَكُون أَصْلِيَّة، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: تُجِيبُ وَتَجُوبُ قَبِيلَةٌ يَعْنِي قَبِيلَةٌ مِنْ كِنْدَةَ، قَالَ: وَبِالْفَتْحِ قَيَّدْته عَلَى جَمَاعَة شُيُوخِي وَعَلَى اِبْن سِرَاجٍ وَغَيْرِهِ.
وَكَانَ اِبْن السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيّ يَذْهَب إِلَى صِحَّة الْوَجْهَيْنِ هَذَا كَلَام صَاحِب الْمَطَالِع، وَقَدْ ذَكَرَ اِبْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَل أَنْ تَجُوبَ قَبِيلَةٌ مِنْ كِنْدَةَ وَتُجِيب بِالضَّمِّ بَطْنٌ لَهُمْ شَرَفٌ، قَالَ: وَلَيْسَتْ التَّاء فيهمَا أَصْلًا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا يَجُوز غَيْره.
وَأَمَّا حُكْم صَاحِب الْعَيْن بِأَنَّ التَّاء أَصْل فَخَطَأ ظَاهِر. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
و: (حَرْمَلَةُ) هَذَا كُنْيَته أَبُو حَفْص، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ صَاحِب الْإِمَام الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي عَنْ الشَّافِعِيِّ كِتَابه الْمَعْرُوف فِي الْفِقْه. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (أَبُو شُرَيْح) الرَّاوِي عَنْ شَرَاحِيل فَاسْمه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شُرَيْح بْن عُبَيْدِ اللَّهِ الْإِسْكَنْدَرَانِيّ الْمِصْرِيّ وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَة وَفَضْل، و(شَرَاحِيل) بِفَتْحِ الشِّينِ غَيْر مَصْرُوف.
أَمَّا لُغَات الْحَدِيث: فَالدَّجَّالُونَ جَمْع دَجَّال قَالَ ثَعْلَبٌ: كُلّ كَذَّاب فَهُوَ دَجَّال وَقِيلَ: الدَّجَّال الْمُمَوِّهُ، يُقَال: دَجَلَ فُلَانٌ إِذَا مَوَّهَ وَدَجَّلَ الْحَقَّ بِبَاطِلِهِ إِذَا غَطَّاهُ، وَحَكَى اِبْن فَارِسٍ هَذَا الثَّانِي عَنْ ثَعْلَبٍ أَيْضًا.
قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ الْمُسَيَّبِ بْن رَافِعٍ عَنْ عَامِرِ بْن عَبَدَةَ قَالَ: قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ) فَهَذَا إِسْنَاد اِجْتَمَعَ فيه طُرْفَتَانِ مِنْ لَطَائِف الْإِسْنَاد إِحْدَاهُمَا: أَنَّ إِسْنَاده كُوفِيٌّ كُلَّهُ، وَالثَّانِيَة: أَنَّ فيه ثَلَاثَةً تَابِعِيِّينَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض وَهُمْ الْأَعْمَشُ وَالْمُسَيَّبُ وَعَامِرٌ وَهَذَّة فَائِدَة نَفِيسَة قَلَّ أَنْ يَجْتَمِع فِي إِسْنَاد هَاتَانِ اللَّطِيفَتَانِ.
فَأَمَّا (عَبْدُ اللَّهِ) الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ عَامِرُ بْن عَبْدَةَ فَهُوَ اِبْن مَسْعُودٍ الصَّحَابِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ.
وَأَمَّا (أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) شَيْخ مُسْلِمٍ فَاسْمه عَبْدُ اللَّهِ بْن سَعِيدِ بْن حُصَيْنٍ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ إِمَام أَهْل زَمَانه.
وَأَمَّا (الْمُسَيَّبُ بْن رَافِعٍ) فَبِفَتْحِ الْيَاء بِلَا خِلَاف كَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِق وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ أَنَّهُ لَا خِلَاف فِي فَتْح يَائِهِ بِخِلَافِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَإِنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي فَتْح يَائِهِ وَكَسْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا (عَامِرُ اِبْن عَبَدَةَ) فَآخِرُهُ هَاء وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَإِسْكَانهَا وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا وَأَصَحُّهُمَا الْفَتْحُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رُوِّينَا فَتْحَهَا عَنْ عَلِيِّ بْن الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْن مَعِينٍ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْمُسْتَمْلِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي كِتَابه وَكَذَا رَأَيْته فِي تَارِيخ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَرُوِّينَا الْإِسْكَان عَنْ أَحْمَدَ بْن حَنْبَلٍ وَغَيْره وَبِالْوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْن مَاكُولَا، وَالْفَتْح أَشْهَرُ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَقُولُونَ عَبْدٌ بِغَيْرِ هَاءٍ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا، وَهُوَ قَوْل الْحُفَّاظ أَحْمَدَ بْن حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْن الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْن مَعِينٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (عَنْ اِبْن طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْن الْعَاصِي).
فَأَمَّا (اِبْنُ طَاوُسٍ) فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ الزَّاهِدُ الصَّالِحُ بْنُ الزَّاهِدِ الصَّالِحِ وَأَمَّا الْعَاصِي فَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي فِي كُتُبِ الْحَدِيث وَالْفِقْه وَنَحْوهَا بِحَذْفِ الْيَاء وَهِيَ لُغَة وَالْفَصِيح الصَّحِيح الْعَاصِي بِإِثْبَاتِ الْيَاء وَكَذَلِكَ شَدَّادُ بْن الْهَادِي وَابْن أَبِي الْمَوَالِي فَالْفَصِيحُ الصَّحِيحُ فِي كُلّ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ إِثْبَاتُ الْيَاء. وَلَا اِغْتِرَار بِوُجُودِهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيث أَوْ أَكْثَرِهَا بِحَذْفِهَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَمِنْ طُرَفِ أَحْوَال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْن الْعَاصِي أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنه وَبَيْن أَبِيهِ فِي الْوِلَادَة إِلَّا إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَة وَقِيلَ اِثْنَتَا عَشْرَة.
قَوْله: «يُوشِك أَنْ تَخْرُج فَتَقْرَأ عَلَى النَّاس قُرْآنًا» مَعْنَاهُ تَقْرَأ شَيْئًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَتَقُول إِنَّهُ قُرْآن لِتُغْرِي بِهِ عَوَامَّ النَّاسِ فَلَا يَغْتَرُّونَ.
وَقَوْله: «يُوشِك» هُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْرِ الشِّين مَعْنَاهُ: يَقْرَبُ وَيُسْتَعْمَل أَيْضًا مَاضِيًا فَيُقَال: أَوْشَكَ كَذَا، أَيْ قَرُبَ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْل مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْل اللُّغَة فَقَالَ: لَمْ يُسْتَعْمَلْ مَاضِيًا فَإِنَّ هَذَا نَفْيٌ يُعَارِضهُ إِثْبَاتُ غَيْرِهِ وَالسَّمَاعُ وَهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى نَفيه.
قَوْله: (سَعِيدُ بْن عَمْرٍو الْأَشْعَثِيّ) فَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة مَنْسُوب إِلَى جَدّه. وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرو بْن سَهْلِ بْن إِسْحَاقَ بْن مُحَمَّدِ بْن الْأَشْعَثِ بْن قَيْسِ الْكِنْدِيّ أَبُو عَمْرو الْكُوفِيّ.
وَأَمَّا (هِشَامُ بْن حُجَيْر) فَبِضَمِّ الْحَاء وَبَعْدهَا جِيم مَفْتُوحَة وَهِشَام هَذَا مَكِّيٌّ.
وَأَمَّا (بُشَيْر بْنُ كَعْبٍ) فَبِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَفَتْح الْمُعْجَمَة.
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ): فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَافِ مَنْسُوب إِلَى الْعَقَدِ قَبِيلَة مَعْرُوفَة مِنْ بَجِيلَة وَقِيلَ مِنْ قَيْسٍ وَهُمْ مِنْ الْأَزْد، وَذَكَرَ أَبُو الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْحَافِظ عَنْ هَارُونَ بْن سُلَيْمَانَ قَالَ سُمُّوا الْعَقَدَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ لِئَامًا فَسُمُّوا عَقَدًا، وَاسْم أَبِي عَامِر عَبْد الْمَلِك بْن عَمْرو بْن قَيْس الْبَصْرِيّ، قِيلَ: إِنَّهُ مَوْلًى.
(رَبَاحٌ) الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ الْعَقَدِيّ فَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ رَبَاح بْن أَبِي مَعْرُوف، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول أَنَّ كُلّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَة فَرَبَاح بِالْمُوَحَّدَةِ إِلَّا زِيَادَ بْنَ رَبَاحٍ أَبَا قَيْسٍ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فِي أَشْرَاط السَّاعَة فَبِالْمُثَنَّاةِ وَقَالَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «رَكِبْتُمْ كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فَهَيْهَاتَ» فَهُوَ مِثَال حَسَن وَأَصْل الصَّعْب وَالذَّلُول فِي الْإِبِل فَالصَّعْب الْعَسِر الْمَرْغُوب عَنْهُ وَالذَّلُول السَّهْل الطَّيِّب الْمَحْبُوب الْمَرْغُوب فيه فَالْمَعْنَى سَلَكَ النَّاس كُلّ مَسْلَك مِمَّا يُحْمَد وَيُذَمُّ.
وَقَوْله: «فَهَيْهَاتَ» أَيْ بَعُدَتْ اِسْتِقَامَتُكُمْ أَوْ بَعُدَ أَنْ نَثِقَ بِحَدِيثِكُمْ، وَهَيْهَاتَ مَوْضُوعَة لِاسْتِبْعَادِ الشَّيْء وَالْيَأْس مِنْهُ، قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْوَاحِدِيّ: هَيْهَاتَ اِسْم سُمِّيَ بِهِ الْفِعْل وَهُوَ بَعُدَ فِي الْخَبَر لَا فِي الْأَمْر قَالَ: وَمَعْنَى هَيْهَاتَ: بَعُدَ وَلَيْسَ لَهُ اِشْتِقَاق لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْوَات قَالَ: وَفيه زِيَادَةُ مَعْنًى لَيْسَتْ فِي بَعُدَ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُخْبِرُ عِنْدَ اِعْتِقَادِهِ اِسْتِبْعَادَ ذَلِكَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ بُعْدِهِ فَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْله بَعُدَ جِدًّا، وَمَا أَبْعَدَهُ، لَا عَلَى أَنْ يَعْلَم الْمُخَاطَبُ مَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْء فِي الْبُعْدِ، فَفِي هَيْهَاتَ زِيَادَةٌ عَلَى بَعُدَ وَإِنْ كُنَّا نُفَسِّرهُ بِهِ، وَيُقَال: هَيْهَاتَ مَا قُلْت وَهَيْهَاتَ لِمَا قُلْت وَهَيْهَاتَ لَك وَهَيْهَاتَ أَنْتَ.
قَالَ الْوَاحِدِيّ: وَفِي مَعْنَى هَيْهَاتَ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحَدهَا: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَعُدَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْل أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حُذَّاق النَّحْوِيِّينَ، وَالثَّانِي: بِمَنْزِلَةِ بَعِيد وَهُوَ قَوْل الْفَرَّاءِ، وَالثَّالِث: بِمَنْزِلَةِ الْبُعْد وَهُوَ قَوْل الزَّجَّاجِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، فَالْأَوَّل نَجْعَلهُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْل، وَالثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الصِّفَة، وَالثَّالِث بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَر. وَفِي هَيْهَاتَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لُغَةً ذَكَرَهُنَّ الْوَاحِدِيُّ: هَيْهَاتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا مَعَ التَّنْوِينِ فيهنَّ وَبِحَذْفِهِ فَهَذِهِ سِتّ لُغَات وَأَيْهَات بِالْأَلِفِ بَدَل الْهَاء الْأُولَى وَفيها اللُّغَات السِّتّ أَيْضًا، وَالثَّالِثَة عَشْرَة: أَيْهَا بِحَذْفِ التَّاء مِنْ غَيْر تَنْوِينٍ، وَزَادَ غَيْر الْوَاحِدِيّ: بِهَمْزَتَيْنِ بَدَل الْهَاءَيْنِ وَالْفَصِيح الْمُسْتَعْمَل مِنْ هَذِهِ اللُّغَات اِسْتِعْمَالًا فَاشِيًا هَيْهَاتَ بِفَتْحِ التَّاء بِلَا تَنْوِين، قَالَ الْأَزْهَرِيّ: وَاتَّفَقَ أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ تَاء هَيْهَاتَ لَيْسَتْ أَصْلِيَّة وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْف عَلَيْهَا فَقَالَ أَبُو عَمْرو وَالْكِسَائِيّ: يُوقَف بِالْهَاءِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ بِالتَّاءِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَام فِي هَيْهَاتَ وَتَحْقِيق مَا قِيلَ فيها فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات وَأَشَرْت هُنَا إِلَى مَقَاصِده وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْله (فَجَعَلَ اِبْن عَبَّاس لَا يَأْذَن لِحَدِيثِهِ) فَبِفَتْحِ الذَّال أَيْ لَا يَسْتَمِع وَلَا يُصْغِي وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْأُذُن.
وَقَوْله: «إِنَّا كُنَّا مَرَّة» أَيْ وَقْتًا وَيَعْنِي بِهِ قَبْل ظُهُور الْكَذِب.
قَوْله: (نَافِع بْن عُمَر) الرَّاوِي عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة فَهُوَ الْقُرَشِيّ الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيّ.
وَأَمَّا (اِبْن أَبِي مُلَيْكَة) فَاسْمه عَبْد اللَّه بْن عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي مُلَيْكَة، وَاسْم أَبِي مُلَيْكَة زُهَيْر بْن عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان بْن عَمْرو بْن كَعْب بْن سَعْد بْن تَيْم بْن مُرَّة التَّيْمِيُّ الْمَكِّيّ أَبُو بَكْر تَوَلَّى الْقَضَاء وَالْأَذَان لِابْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن أَبِي مُلَيْكَة: (كَتَبْت إِلَى اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَسْأَلهُ أَنْ يَكْتُب لِي كِتَابًا وَيُخْفِي عَنِّي فَقَالَ: وَلَد نَاصِح أَنَا أَخْتَار لَهُ الْأُمُور اِخْتِيَارًا وَأُخْفِي عَنْهُ قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَجَعَلَ يَكْتُب مِنْهُ أَشْيَاءَ وَيَمُرُّ بِالشَّيْءِ فَيَقُول: وَاَللَّه مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إِلَّا أَنْ يَكُون ضَلَّ) فَهَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ضَبْطِهِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّه: ضَبَطْنَا هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ وَهُمَا: وَيُخْفِي عَنِّي وَأُخْفِي عَنْهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة فيهمَا عَنْ جَمِيع شُيُوخنَا إِلَّا عَنْ أَبِي مُحَمَّد الْخُشَنِيِّ فَإِنِّي قَرَأْتهمَا عَلَيْهِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَحْرٍ يَحْكِي لَنَا عَنْ شَيْخه الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيد الْكِنَانِيّ أَنَّ صَوَابه بِالْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَيَظْهَر لِي أَنَّ رِوَايَة الْجَمَاعَة هِيَ الصَّوَاب، وَأَنَّ مَعْنَى أَحْفِي أَنْقُصُ مِنْ إِحْفَاءِ الشَّوَارِب وَهُوَ جَزُّهَا أَيْ اِمْسِكْ عَنِّي مِنْ حَدِيثك وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ، أَوْ يَكُون الْإِحْفَاءُ الْإِلْحَاحَ أَوْ الِاسْتِقْصَاءَ، وَيَكُون عَنِّي بِمَعْنَى عَلَيَّ أَيْ أَسْتَقْصِي مَا تُحَدِّثنِي هَذَا كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه. وَذَكَرَ صَاحِب مَطَالِع الْأَنْوَار قَوْل الْقَاضِي ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَة فِي الْبِرّ بِهِ وَالنَّصِيحَة لَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أَيْ أُبَالِغ لَهُ وَأَسْتَقْصِي فِي النَّصِيحَة لَهُ وَالِاخْتِيَار فِيمَا أُلْقِي إِلَيْهِ مِنْ صَحِيح الْآثَار.
وَقَالَ الشَّيْخ الْإِمَام أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه: هُمَا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَيْ يَكْتُم عَنِّي أَشْيَاء وَلَا يَكْتُبهَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فيها مَقَال مِنْ الشِّيَع الْمُخْتَلِفَة وَأَهْل الْفِتَن، فَإِنَّهُ إِذَا كَتَبَهَا ظَهَرَتْ وَإِذَا ظَهَرَتْ خُولِفَ فيها وَحَصَلَ فيها قَالٌ وَقِيلَ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَلْزَم بَيَانُهَا لِابْن أَبِي مُلَيْكَةَ، وَإِنْ لَزِمَ فَهُوَ مُمْكِنٌ بِالْمُشَافَهَةِ دُون الْمُكَاتَبَة.
قَالَ: وَقَوْله: وَلَد نَاصِح مُشْعِرٌ بِمَا ذَكَرْته.
وَقَوْله (أَنَا أَخْتَار لَهُ وَأُخْفِي عَنْهُ إِخْبَارٌ مِنْهُ بِإِجَابَتِهِ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ حَكَى الشَّيْخ الرِّوَايَة الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَجَّحَهَا وَقَالَ: هَذَا تَكَلُّفٌ لَيْسَتْ بِهِ رِوَايَة مُتَّصِلَة نُضْطَرُّ إِلَى قَبُولِهِ). هَذَا كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو، وَهَذَا الَّذِي أَخْتَارُهُ مِنْ الْخَاء الْمُعْجَمَة هُوَ الصَّحِيح وَهُوَ الْمَوْجُود فِي مُعْظَم الْأُصُول الْمَوْجُودَة بِهَذِهِ الْبِلَاد وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْله: (وَاَللَّه مَا قَضَى عَلِيٌّ بِهَذَا إِلَّا أَنْ يَكُون ضَلَّ) فَمَعْنَاهُ مَا يَقْضِي بِهَذَا إِلَّا ضَالٌّ وَلَا يَقْضِي بِهِ عَلِيٌّ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ ضَلَّ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَضِلَّ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِهِ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَمَحَاهُ إِلَّا قَدْر، وَأَشَارَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ بِذِرَاعِهِ) قَدْرَ مَنْصُوبٌ غَيْر مُنَوَّنٍ مَعْنَاهُ: مَحَاهُ إِلَّا قَدْرَ ذِرَاعٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكِتَاب كَانَ دَرْجًا مُسْتَطِيلًا. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْل مُسْلِم: (حَدَّثَنَا حَسَن بْن عَلِيّ الْحَلْوَانِيّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن آدَم: حَدَّثَنَا اِبْن إِدْرِيس عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي إِسْحَاق) فَهُوَ إِسْنَاد كُوفِيّ كُلّه إِلَّا الْحَلْوَانِيّ.
فَأَمَّا (الْأَعْمَش) سُلَيْمَان بْن مِهْرَانَ أَبُو مُحَمَّد التَّابِعِيّ و(أَبُو إِسْحَاق) عَمْرو بْن عَبْد اللَّه السَّبِيعِيّ التَّابِعِيّ فَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا.
وَأَمَّا (اِبْن إِدْرِيس) الرَّاوِي عَنْ الْأَعْمَش فَهُوَ عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس بْن يَزِيد الْأَوْدِيّ الْكُوفِيّ أَبُو مُحَمَّد الْمُتَّفَق عَلَى إِمَامَته وَجَلَالَته وَإِتْقَانه وَفَضِيلَته، وَوَرَعِهِ وَعِبَادَته، رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِبِنْتِهِ حِين بَكَتْ عِنْد حُضُور مَوْته: لَا تَبْكِي فَقَدْ خَتَمْت الْقُرْآن فِي هَذَا الْبَيْت أَرْبَعَة آلَاف خَتْمَة قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: كَانَ اِبْن إِدْرِيس نَسِيجًا وَحْده.
قَوْله: (قَاتَلَهُمْ اللَّه أَيَّ عِلْمٍ أَفْسَدُوا) فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَدْخَلَتْهُ الرَّوَافِض وَالشِّيعَة فِي عِلْم عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَحَدِيثه وَتَقَوَّلُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَبَاطِيل وَأَضَافُوهُ إِلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَات وَالْأَقَاوِيل الْمُفْتَعَلَة وَالْمُخْتَلِفَة، وَخَلَطُوهُ بِالْحَقِّ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ مَا هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ مِمَّا اِخْتَلَقُوهُ.
وَأَمَّا قَوْله: (قَاتَلَهُمْ اللَّه) فَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ لَعَنَهُمْ اللَّه، وَقِيلَ: بَاعَدَهُمْ، وَقِيلَ: قَتَلَهُمْ، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ اِسْتَوْجَبُوا عِنْده ذَلِكَ لِشَنَاعَةِ مَا أَتَوْهُ كَمَا فَعَلَهُ كَثِير مِنْهُمْ وَإِلَّا فَلَعْنَة الْمُسْلِم غَيْر جَائِزَة.
وَأَمَّا (عَلِيُّ بْن خَشْرَمٍ) فَبِفَتْحِ الْخَاء وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَتَيْنِ وَفَتْح الرَّاء وَكُنْيَة عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَن مَرْوَزِيّ وَهُوَ اِبْن أُخْت بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَأَمَّا (أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش) فَهُوَ الْإِمَامُ الْمُجْمَعُ عَلَى فَضْلِهِ وَاخْتُلِفَ فِي اِسْمه فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الصَّحِيح أَنَّ اِسْمَهُ كُنْيَتُهُ لَا اِسْمَ لَهُ غَيْرُهَا وَقِيلَ: اِسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: سَالِم، وَقِيلَ: شُعْبَة، وَقِيلَ: رُؤْبَة، وَقِيلَ: مُسْلِم، وَقِيلَ: خِدَاش، وَقِيلَ: مُطَرِّف، وَقِيلَ: حَمَّاد، وَقِيلَ: حَبِيب، وَرُوِّينَا عَنْ اِبْنه إِبْرَاهِيم قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: إِنَّ أَبَاك لَمْ يَأْتِ فَاحِشَة قَطُّ وَإِنَّهُ يَخْتِم الْقُرْآن مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَة كُلّ يَوْم مَرَّة وَرُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ أَنْ تَعْصِيَ اللَّه فِي هَذِهِ الْغُرْفَة فَإِنِّي خَتَمْت فيها اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ خَتْمَةٍ. وَرُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِبِنْتِهِ عِنْد مَوْته وَقَدْ بَكَتْ: يَا بُنَيَّة لَا تَبْكِي أَتَخَافِينَ أَنْ يُعَذِّبنِي اللَّه تَعَالَى وَقَدْ خَتَمْت فِي هَذِهِ الزَّاوِيَة أَرْبَعَة وَعِشْرِينَ أَلْفَ خَتْمَةٍ. هَذَا مَا يَتَعَلَّق بِأَسْمَاءِ هَذَا الْبَاب وَلَا يَنْبَغِي لِمُطَالِعِهِ أَنْ يُنْكِرَ هَذِهِ الْأَحْرُفَ فِي أَحْوَال هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُسْتَنْزَلُ الرَّحْمَةُ بِذِكْرِهِمْ مُسْتَطِيلًا لَهَا، فَذَلِكَ مِنْ عَلَامَة عَدَم فَلَاحه إِنْ دَامَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِطَاعَتِهِ بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ.
وَأَمَّا قَوْل الْمُغِيرَةِ: (لَمْ يَكُنْ يَصْدُقُ عَلَى عَلِيٍّ إِلَّا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ) فَهَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (إِلَّا مِنْ أَصْحَاب) فَيَجُوز فِي مِنْ وَجْهَانِ أَحَدهمَا أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْس وَالثَّانِي أَنَّهَا زَائِدَة.
وَقَوْله: (يَصْدُق) ضُبِطَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: بِفَتْحِ الْيَاء وَإِسْكَان الصَّاد وَضَمِّ الدَّال، وَالثَّانِي: بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْحِ الصَّاد وَالدَّال الْمُشَدَّدَة، و(الْمُغِيرَة) هَذَا هُوَ اِبْن مِقْسَم الضَّبِّيّ أَبُو هِشَام، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُغِيرَة بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرِهَا وَاَللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَام الْبَاب فَحَاصِلهَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ رِوَايَة الْمَجْهُول وَأَنَّهُ يَجِب الِاحْتِيَاط فِي أَخْذِ الْحَدِيث فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى عَنْ الضُّعَفَاء. وَاَللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه (حَدَّثَنَا حَسَن بْن الرَّبِيع قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَيُّوب وَهِشَام عَنْ مُحَمَّد وَحَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ هِشَام وَحَدَّثَنَا مَخْلَد بْن حُسَيْن عَنْ هِشَام عَنْ اِبْن سِيرِينَ) أَمَّا (هِشَام) أَوَّلًا فَمَجْرُور مَعْطُوف عَلَى أَيُّوب وَهُوَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ الْقُرْدُوسِيّ بِضَمِّ الْقَاف، وَمُحَمَّد هُوَ اِبْن سِيرِينَ، وَالْقَائِل: وَحَدَّثَنَا فُضَيْلٌ وَحَدَّثَنَا مَخْلَد، هُوَ حَسَن بْن الرَّبِيع.
وَأَمَّا (فُضَيْلٌ) فَهُوَ اِبْن عِيَاض أَبُو عَلِيٍّ الزَّاهِدُ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْله: (وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ) فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدَّمْنَاهَا فِي أَوَّل الْخُطْبَة وَبَيَّنَّا الْمَذَاهِبَ فيها.
قَوْله: (حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ) هُوَ اِبْن رَاهْوَيْهِ الْإِمَام الْمَشْهُور حَافِظُ أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَأَمَّا (الْأَوْزَاعِيُّ) فَهُوَ أَبُو عَمْرو عَبْد الرَّحْمَن بْن عَمْرو بْن يُحْمِدَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْت وَكَسْرِ الْمِيمِ الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ إِمَام أَهْل الشَّام فِي زَمَنه بِلَا مُدَافَعَة وَلَا مُخَالَفَة، كَانَ يَسْكُن دِمَشْقَ خَارِج بَاب الْفَرَادِيس، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى بَيْرُوتَ فَسَكَنَهَا مُرَابِطًا إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، وَقَدْ اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى إِمَامَته وَجَلَالَته وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَكَمَالِ فَضِيلَتِهِ، وَأَقَاوِيل السَّلَف كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَعِبَادَته وَقِيَامه بِالْحَقِّ وَكَثْرَة حَدِيثه وَفِقْهه وَفَصَاحَته وَاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ وَإِجْلَال أَعْيَان أَئِمَّةِ زَمَانه مِنْ جَمِيع الْأَقْطَار لَهُ وَاعْتِرَافهمْ بِمَزِيَّتِهِ، وَرُوِّينَا مِنْ غَيْر وَجْه أَنَّهُ أَفْتَى فِي سَبْعِينَ أَلْف مَسْأَلَة وَرَوَى عَنْ كِبَار التَّابِعِينَ وَرَوَى عَنْهُ قَتَادَة وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْن أَبِي كَثِير وَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهَذَا مِنْ رِوَايَة الْأَكَابِر عَنْ الْأَصَاغِر.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَوْزَاع الَّتِي نُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ: بَطْن مِنْ حِمْيَرَ، وَقِيلَ: قَرْيَة كَانَتْ عِنْد بَاب الْفَرَادِيس مِنْ دِمَشْقَ، وَقِيلَ: مِنْ أَوْزَاعِ الْقَبَائِل أَيْ فِرَقِهِمْ وَبَقَايَا مُجْتَمَعَة مِنْ قَبَائِل شَتَّى، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيّ: كَانَ اِسْم الْأَوْزَاعِيِّ عَبْد الْعَزِيز فَسَمَّى نَفْسه عَبْد الرَّحْمَن وَكَانَ يَنْزِل الْأَوْزَاع فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: الْأَوْزَاع بَطْن مِنْ هَمْدَانَ وَالْأَوْزَاعِيُّ مِنْ أَنْفُسهمْ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (لَقِيت طَاوُسًا فَقُلْت: حَدَّثَنِي فُلَان كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَلِيًّا فَخُذْ عَنْهُ) قَوْله: (كَيْتَ وَكَيْتَ) هُمَا بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ نَقَلَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحه عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَقَوْله (إِنْ كَانَ مَلِيًّا) يَعْنِي: ثِقَة ضَابِطًا مُتْقِنًا يُوثَقُ بِدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَيُعْتَمَد عَلَيْهِ كَمَا يُعْتَمَد عَلَى مُعَامَلَة الْمَلِيِّ بِالْمَالِ، ثِقَةً بِذِمَّتِهِ.
وَأَمَّا قَوْل مُسْلِم: (وَحَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن الدَّارِمِيُّ) فَهَذَا الدَّارِمِيُّ هُوَ صَاحِب الْمُسْنَد الْمَعْرُوف كُنْيَته أَبُو مُحَمَّد السَّمَرْقَنْدِيّ مَنْسُوب إِلَى دَارِم بْن مَالِكٍ بْن حَنْظَلَة بْن زَيْد مَنَاة بْن تَمِيمٍ، وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد الدَّارِمِيُّ هَذَا أَحَد حُفَّاظ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانه قَلَّ مَنْ كَانَ يُدَانِيه فِي الْفَضِيلَة وَالْحِفْظ، قَالَ رَجَاء بْن مُرَجَّى: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدَّارِمِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ إِمَام أَهْل زَمَانه، وَقَالَ أَبُو حَامِد بْن الشَّرْقِيِّ: إِنَّمَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث خَمْسَةَ رِجَالٍ: مُحَمَّد بْن يَحْيَى، وَمُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل، وَعَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَمُسْلِم بْن الْحَجَّاج، وَإِبْرَاهِيم بْن أَبِي طَالِب.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه: غَلَبَنَا الدَّارِمِيُّ بِالْحِفْظِ وَالْوَرَعِ. وُلِدَ الدَّارِمِيُّ سَنَة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَمَاتَ سَنَة خَمْس وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّه.
قَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا نَصْر بْن عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيّ عَنْ اِبْن أَبِي الزِّنَاد عَنْ أَبِيهِ) أَمَّا (الْجَهْضَمِيّ) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْهَاء وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَة.
قَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو سَعْد عَبْد الْكَرِيم بْن مُحَمَّد بْن مَنْصُور السَّمْعَانِيّ فِي كِتَابه الْأَنْسَاب: هَذِهِ النِّسْبَةَ إِلَى الْجَهَاضِمَة وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْبَصْرَةِ قَالَ: وَكَانَ نَصْرُ بْن عَلِيٍّ هَذَا قَاضِيَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاء الْمُتْقِنِينَ، وَكَانَ الْمُسْتَعِين بِاَللَّهِ بَعَثَ إِلَيْهِ لِيُشْخِصَهُ لِلْقَضَاءِ فَدَعَاهُ أَمِير الْبَصْرَةِ لِذَلِكَ فَقَالَ: أَرْجِعُ فَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فَرَجَعَ إِلَى بَيْته نِصْفَ النَّهَار فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدك خَيْر فَاقْبِضْنِي إِلَيْك فَنَامَ فَأَنْبَهُوهُ فَإِذَا هُوَ مَيِّت، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْر رَبِيع الْآخِرِ سَنَة خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَمَّا (الْأَصْمَعِيّ) فَهُوَ الْإِمَام الْمَشْهُور مِنْ كِبَار أَئِمَّة اللُّغَة وَالْمُكْثِرِينَ وَالْمُعْتَمَدِينَ مِنْهُمْ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْن قُرَيْب بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة اِبْن عَبْد الْمَلِك بْن أَصْمَع الْبَصْرِيّ أَبُو سَعِيد نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيّ مِنْ ثِقَات الرُّوَاة وَمُتْقِنِيهِمْ وَكَانَ جَامِعًا لِلُّغَةِ وَالْغَرِيب وَالنَّحْو وَالْأَخْبَار وَالْمُلَحِ، وَالنَّوَادِر.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: مَا رَأَيْت بِذَلِكَ الْعَسْكَرِ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ الْأَصْمَعِيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَيْضًا: مَا عَبَّرَ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَب بِأَحْسَنَ مِنْ عِبَارَةِ الْأَصْمَعِيِّ، وَرُوِّينَا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: أَحْفَظُ سِتّ عَشْرَةَ أَلْفَ أُرْجُوزَةٍ. (وَأَمَّا أَبُو الزِّنَادِ) وَبِكَسْرِ الزَّايِ فَاسْمه عَبْدُ اللَّهِ بْن ذَكْوَانَ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو الزِّنَادِ لَقَبٌ لَهُ كَانَ يَكْرَهُهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَهُوَ قُرَشِيٌّ مَوْلَاهُمْ مَدَنِيٌّ.
وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يُسَمِّي أَبَا الزِّنَادِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ أَسَانِيدِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ: كَانَ أَبُو الزِّنَادِ فَقِيهَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا (اِبْن أَبِي الزِّنَادِ) فَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلِأَبِي الزِّنَادِ ثَلَاثَةُ بَنِينَ يَرْوُونَ عَنْهُ: عَبْد الرَّحْمَن وَقَاسِم وَأَبُو الْقَاسِم.
وَأَمَّا (مِسْعَرٌ) فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ اِبْن كِدَامٍ الْهِلَالِيُّ الْعَامِرِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو سَلَمَةَ الْمُتَّفَق عَلَى جَلَالَته وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ. قَوْله: (مِسْعَرٌ) فَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ اِبْن كِدَامٍ الْهِلَالِيّ الْعَامِرِيّ الْكُوفِيّ أَبُو سَلَمَة الْمُتَّفَق عَلَى جَلَالَتِهِ وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ.
وَقَوْله: (لَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الثِّقَاتُ) مَعْنَاة لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ الثِّقَاتِ.
وَأَمَّا قَوْله رَحِمَهُ اللَّه (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد عَنْ عَبْد اللَّه بْن مِنْ أَهْل مَرْو قَالَ سَمِعْت عَبْدَان بْن عُثْمَان يَقُول: سَمِعْت اِبْن الْمُبَارَك يَقُول: الْإِسْنَاد مِنْ الدِّين) فَفيه لَطِيفَةٌ مِنْ لَطَائِف الْإِسْنَاد الْغَرِيبَة وَهُوَ أَنَّهُ إِسْنَادٌ خُرَاسَانِيٌّ كُلَّهُ مِنْ شَيْخنَا أَبِي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن عُمَر بْن مُضَر إِلَى آخِرِهِ. فَإِنِّي قَدْ قَدَّمْت أَنَّ الْإِسْنَاد مِنْ شَيْخنَا إِلَى مُسْلِم خُرَاسَانِيُّونَ نَيْسَابُورِيُّونَ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة الْمَذْكُورُونَ أَعْنِي مُحَمَّدًا وَعَبْدَان وَابْن الْمُبَارَك خُرَاسَانِيُّونَ وَهَذَا قَلَّ أَنْ يَتَّفِقَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ.
أَمَّا (قُهْزَاذ) فَبِقَافٍ مَضْمُومَة ثُمَّ هَاء سَاكِنَة ثُمَّ زَاي ثُمَّ أَلِف ثُمَّ ذَال مُعْجَمَة، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمَعْرُوف فِي ضَبْطه، وَحَكَى صَاحِب مَطَالِع الْأَنْوَار عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِضَمِّ الْهَاء وَتَشْدِيد الزَّاي وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ فَلَا يَنْصَرِف.
قَالَ اِبْن مَاكُولَا: مَاتَ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن هَذَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرَّمِ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه مَاتَ قَبْل شَيْخه هَذَا بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّل هَذَا الْكِتَاب مِنْ تَارِيخ وَفَاة مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه.
وَأَمَّا (عَبْدَان) فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهُوَ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن عُثْمَان بْن جَبَلَةَ الْعَتَكِيّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه: تُوُفِّيَ عَبْدَان سَنَة إِحْدَى أَوْ اِثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَأَمَّا (اِبْن الْمُبَارَك) فَهُوَ السَّيِّد الْجَلِيل جَامِع أَنْوَاع الْمَحَاسِن أَبُو عَبْد الرَّحْمَن عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك بْن وَاضِح الْحَنْظَلِيّ مَوْلَاهُمْ. سَمِعَ جَمَاعَاتٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاء وَشُيُوخِهِ وَأَئِمَّةِ عَصْرِهِ كَسُفْيَان الثَّوْرِيِّ وَفُضَيْل بْن عِيَاض، وَآخَرِينَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَلَالَته وَإِمَامَته وَكِبَرِ مَحَلِّهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ. رُوِّينَا عَنْ الْحَسَن بْن عِيسَى قَالَ: اِجْتَمَعَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب اِبْن الْمُبَارَك مِثْل الْفَضْل بْن مُوسَى ومَخْلَد بْن حُسَيْن وَمُحَمَّد بْن النَّضْر، فَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَعُدَّ خِصَالَ اِبْن الْمُبَارَكِ مِنْ أَبْوَاب الْخَيْر فَقَالُوا: جَمَعَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ وَالْأَدَبَ وَالنَّحْوَ وَاللُّغَة وَالزُّهْد وَالشِّعْر وَالْفَصَاحَة وَالْوَرَع وَالْإِنْصَاف وَقِيَام اللَّيْل وَالْعِبَادَة وَالشِّدَّة فِي رَأْيه وَقِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيه وَقِلَّة الْخِلَاف عَلَى أَصْحَابه، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْن مُصْعَبٍ: جَمَعَ اِبْن الْمُبَارَك الْحَدِيث وَالْفِقْه وَالْعَرَبِيَّة وَأَيَّام النَّاس وَالشَّجَاعَة وَالتِّجَارَة وَالسَّخَاء وَالْمَحَبَّة عِنْد الْفَرَقِ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: صَنَّفَ اِبْن الْمُبَارَك كُتُبًا كَثِيرَة فِي أَبْوَاب الْعِلْم وَصُنُوفه، وَأَحْوَاله مَشْهُورَة مَعْرُوفَة.
وَأَمَّا (مَرْو) فَغَيْر مَصْرُوفَة وَهِيَ مَدِينَة عَظِيمَة بِخُرَاسَان وَأُمَّهَاتُ مَدَائِنِ خُرَاسَانَ أَرْبَعٌ: نَيْسَابُورُ، وَمَرْو،. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي الْعَبَّاس بْن أَبِي رِزْمَة قَالَ: سَمِعْت عَبْد اللَّه يَقُول: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ يَعْنِي الْإِسْنَادَ) أَمَّا (رِزْمَةُ) فَبِرَاءٍ مَكْسُورَة ثُمَّ زَايٍ سَاكِنَة ثُمَّ مِيمٍ سَاكِنَة ثُمَّ مِيمٍ ثُمَّ هَاءٍ.
وَأَمَّا (عَبْدُ اللَّهِ) فَهُوَ اِبْن الْمُبَارَك وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام إِنْ جَاءَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَبِلْنَا حَدِيثه وَإِلَّا تَرَكْنَاهُ. فَجَعَلَ الْحَدِيث كَالْحَيَوَانِ لَا يَقُوم بِغَيْرِ إِسْنَادٍ كَمَا لَا يَقُوم الْحَيَوَانُ بِغَيْرِ قَوَائِمَ. ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول الْعَبَّاسُ بْن رِزْمَةَ، وَفِي بَعْضهَا الْعَبَّاس بْن أَبِي رِزْمَة وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ. وَلَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَاب كُتُبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ الْعَبَّاسَ ابْن رِزْمَة وَلَا الْعَبَّاس بْن أَبِي رِزْمَة وَإِنَّمَا ذَكَرُوا عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رِزْمَة أَبَا مُحَمَّد الْمَرْوَزِيّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ وَمَاتَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَة سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ وَاسْمُ أَبِي رِزْمَةَ غَزْوَان. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (أَبَا إِسْحَاق الطَّالَقَانِيّ) هُوَ بِفَتْحِ اللَّام، قَالَ: قُلْت لِابْنِ الْمُبَارَك: الْحَدِيث الَّذِي جَاءَ إِنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْك مَعَ صَلَاتك وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِك قَالَ اِبْن الْمُبَارَك: عَمَّنْ هَذَا؟ قُلْت: مِنْ حَدِيث شِهَاب بْن خِرَاش، قَالَ: ثِقَةٌ، عَمَّنْ؟ قُلْت: عَنْ الْحَجَّاجِ بْن دِينَارٍ، قَالَ: ثِقَةٌ، عَمَّنْ؟ قَالَ. قُلْت: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَقَ إِنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ بْن دِينَارٍ وَبَيْنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاوِزَ تَنْقَطِع فيها أَعْنَاق الْمَطِيّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَة اِخْتِلَافٌ. مَعْنَى هَذِهِ الْحِكَايَة أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إِلَّا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَوْله: (مَفَاوِز) جَمْعُ مَفَازَةٍ وَهِيَ الْأَرْض الْقَفْر الْبَعِيدَة عَنْ الْعِمَارَة وَعَنْ الْمَاء الَّتِي يُخَافُ الْهَلَاكُ فيها، قِيلَ: سُمِّيَتْ مَفَازَةً لِلتَّفَاؤُلِ بِسَلَامَةِ سَالِكِهَا كَمَا سَمَّوْا اللَّدِيغَ سَلِيمًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ مَنْ قَطَعَهَا فَازَ وَنَجَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُهْلِكُ صَاحِبَهَا يُقَال: فَوَّزَ الرَّجُلُ: إِذَا هَلَكَ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَة الَّتِي اِسْتَعْمَلَهَا هُنَا اِسْتِعَارَة حَسَنَة وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّاجَ بْن دِينَارٍ هَذَا مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ، فَأَقَلُّ مَا يُمْكِن أَنْ يَكُون بَيْنه وَبَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِثْنَانِ التَّابِعِيُّ وَالصَّحَابِيُّ فَلِهَذَا قَالَ بَيْنهمَا مَفَاوِز أَيْ: اِنْقِطَاعٌ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا قَوْله: (لَيْسَ فِي الصَّدَقَة اِخْتِلَافٌ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ مَنْ أَرَادَ بِرَّ وَالِدَيْهِ فَلْيَتَصَدَّقْ عَنْهُمَا فَإِنَّ الصَّدَقَة تَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ وَيَنْتَفِع بِهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَقْضَى الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيّ الْبَصْرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِيّ فِي كِتَابه الْحَاوِي عَنْ بَعْض أَصْحَاب الْكَلَام مِنْ أَنَّ الْمَيِّت لَا يَلْحَقُهُ بَعْد مَوْته ثَوَاب فَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ قَطْعًا وَخَطَأٌ بَيِّنٌ مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاع الْأُمَّة فَلَا اِلْتِفَاتَ إِلَيْهِ وَلَا تَعْرِيجَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الصَّلَاة وَالصَّوْم فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهُمَا إِلَى الْمَيِّت إِلَّا إِذَا كَانَ الصَّوْم وَاجِبًا عَلَى الْمَيِّت فَقَضَاهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فَإِنَّ فيه قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحّ وَأَصَحُّهُمَا عِنْد مُحَقِّقِي مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَصِحّ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصِّيَام إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَأَمَّا قِرَاءَة الْقُرْآن فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهَا إِلَى الْمَيِّت وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه: يَصِل ثَوَابهَا إِلَى الْمَيِّت.
وَذَهَبَ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ يَصِل إِلَى الْمَيِّت ثَوَاب جَمِيع الْعِبَادَات مِنْ الصَّلَاة وَالصَّوْم الْقِرَاءَة وَغَيْر ذَلِكَ، وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي بَاب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ أَنَّ اِبْن عُمَرَ أَمَرَ مَنْ مَاتَتْ أُمُّهَا وَعَلَيْهَا صَلَاةٌ أَنْ تُصَلِّيَ عَنْهَا. وَحَكَى صَاحِب الْحَاوِي عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ أَنَّهُمَا قَالَا بِجَوَازِ الصَّلَاة عَنْ الْمَيِّت.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعْد عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن هِبَة اللَّه بْن أَبِي عَصْرُون مِنْ أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابه الِانْتِصَار إِلَى اِخْتِيَار هَذَا، وَقَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي كِتَابه التَّهْذِيب: لَا يَبْعُد أَنْ يُطْعَمَ عَنْ كُلّ صَلَاة مُدٌّ مِنْ طَعَام وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ ضَعِيفَةٌ. وَدَلِيلهمْ الْقِيَاس عَلَى الدُّعَاء وَالصَّدَقَة وَالْحَجّ فَإِنَّهَا تَصِلُ بِالْإِجْمَاعِ وَدَلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ اِبْن آدَمَ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي حَجّ الْأَجِير هَلْ تَقَعَانِ عَنْ الْأَجِير أَمْ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ؟ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (خِرَاشٌ) الْمَذْكُور فَبِكَسْرِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفُصُول أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حِرَاشٌ بِالْمُهْمَلَةِ إِلَّا وَالِدَ رِبْعِيّ.
قَوْل مُسْلِم: (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن النَّضْر بْن أَبِي النَّضْر قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر هَاشِم بْن الْقَاسِم قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ صَاحِبُ بُهَيَّة) فَهَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول أَبُو بَكْر بْن النَّضْر بْن أَبِي النَّضْر قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر. و(أَبُو النَّضْر) هَذَا جَدُّ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَأَكْثَرُ مَا يَسْتَعْمِل أَبُو بَكْر بْن أَبِي النَّضْر، وَاسْم أَبِي النَّضْر هَاشِم بْن الْقَاسِم، وَلَقَب أَبِي النَّضْر قَيْصَر، وَأَبُو بَكْرٍ هَذَا الِاسْمُ لَهُ لَا كُنْيَتُهُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد الدَّوْرَقِيُّ: اِسْمُهُ أَحْمَدُ، قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِمِ بْن عَسَاكِر: قِيلَ: اِسْمُهُ مُحَمَّدٌ.
وَأَمَّا (أَبُو عَقِيلٍ) فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ و(بُهَيَّة) بِضَمِّ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَفَتْح الْهَاء وَتَشْدِيد الْيَاء وَهِيَ اِمْرَأَةٌ تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- قِيلَ: إِنَّهَا سَمَّتْهَا بُهَيَّة، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ فِي تَقْيِيد الْمُهْمَل، وَرَوَى عَنْ بُهَيَّة مَوْلَاهَا أَبُو عَقِيلٍ الْمَذْكُورُ وَاسْمُهُ يَحْيَى بْن الْمُتَوَكِّلِ الضَّرِيرُ الْمَدَنِيُّ وَقِيلَ: الْكُوفِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْن مَعِينٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدَنِيِّ وَعَمْرُو بْن عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ بْن سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَابْن عَمَّارٍ وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخ بَغْدَاد بِأَسَانِيدِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا حَاله فَكَيْفَ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتُ جَرْحُهُ عِنْده مُفَسَّرًا وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَّا مُفَسَّرًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْلًا وَمَقْصُودًا بَلْ ذَكَرَهُ اِسْتِشْهَادًا لِمَا قَبْلَهُ.
وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى لِلْقَاسِمِ بْن عُبَيْد اللَّه: (لِأَنَّك اِبْن إِمَامَيْ هُدًى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا). وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة (وَأَنْتَ اِبْن إِمَامَيْ الْهُدَى يَعْنِي عُمَرَ وَابْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا) فَلَا مُخَالَفَة بَيْنهمَا فَإِنَّ الْقَاسِم هَذَا هُوَ اِبْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب فَهُوَ اِبْنُهُمَا، وَأُمُّ الْقَاسِمِ هِيَ أُمّ عَبْد اللَّه بِنْت الْقَاسِم بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. فَأَبُو بَكْرٍ جَدُّهُ الْأَعْلَى لِأُمِّهِ وَعُمَرُ جَدُّهُ الْأَعْلَى لِأَبِيهِ وَابْن عُمَرَ جَدُّهُ الْحَقِيقِيُّ لِأَبِيهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَأَمَّا قَوْل سُفْيَان فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (أَخْبَرُونِي عَنْ أَبِي عَقِيلٍ) فَقَدْ يُقَالُ فيه: هَذِهِ رِوَايَة عَنْ مَجْهُولِينَ وَجَوَابه مَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً وَاسْتِشْهَادًا وَالْمُتَابَعَةُ وَالِاسْتِشْهَادُ يَذْكُرُونَ فيهمَا مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى اِنْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَاد عَلَى مَا قَبْلهمَا لَا عَلَيْهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْفُصُولِ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (سُئِلَ اِبْن عَوْنٍ عَنْ حَدِيثٍ لِشَهْرٍ وَهُوَ قَائِم عَلَى أُسْكُفَّة الْبَاب فَقَالَ: إِنَّ شَهْرًا نَزَكُوهُ، قَالَ: يَقُول: أَخَذَتْهُ أَلْسِنَةُ النَّاسِ: تَكَلَّمُوا فيه) أَمَّا (اِبْن عَوْنٍ) فَهُوَ الْإِمَام الْجَلِيل الْمُجْمَعُ عَلَى جَلَالَته وَوَرَعِهِ عَبْد اللَّه بْن عَوْن بْن أرطبان أَبُو عَوْنٍ الْبَصْرِيّ كَانَ يُسَمَّى سَيِّد الْقُرَّاء أَيْ الْعُلَمَاء وَأَحْوَاله وَمَنَاقِبه أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَر.
وَقَوْله: (أُسْكُفَّة الْبَاب) هِيَ الْعَتَبَة السُّفْلَى الَّتِي تُوطَأُ وَهِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَالْكَاف وَتَشْدِيد الْفَاء.
وَقَوْله: (نَزَكُوهُ) هُوَ بِالنُّونِ وَالزَّاي الْمَفْتُوحَتَيْنِ مَعْنَاهُ طَعَنُوا فيه وَتَكَلَّمُوا بِجَرْحِهِ فَكَأَنَّهُ يَقُول: طَعَنُوهُ بِالنَّيْزَكِ بِفَتْحِ النُّون الْمُثَنَّاة وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَفَتْح الزَّاي وَهُوَ رُمْح قَصِير وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة وَكَذَا ذَكَرَهَا مِنْ أَهْل الْأَدَب وَاللُّغَة وَالْغَرِيب الْهَرَوِيُّ فِي غَرِيبه، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ كَثِيرِينَ مِنْ رُوَاة مُسْلِم أَنَّهُمْ رَوَوْهُ (تَرَكُوهُ) بِالتَّاءِ وَالرَّاء وَضَعَّفَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: الصَّحِيح بِالنُّونِ وَالزَّاي قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بِسِيَاقِ الْكَلَام وَقَالَ غَيْر الْقَاضِي: رِوَايَةُ التَّاءِ تَصْحِيفٌ وَتَفْسِيرُ مُسْلِمٍ يَرُدُّهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ شَهْرًا لَيْسَ مَتْرُوكًا بَلْ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، فَمِمَّنْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْن مَعِينٍ وَآخَرُونَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَحْسَنَ حَدِيثَهُ، وَوَثَّقَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَالَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْن مَعِين: هُوَ ثِقَة. وَلَمْ يَذْكُرْ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ غَيْرَ هَذَا وَقَالَ أَبُو زُرْعَة: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ مُحَمَّد يَعْنِي الْبُخَارِيّ: شَهْرٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَقَوِيٌّ أَمْرُهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا تَكَلَّمَ فيه اِبْن عَوْن ثُمَّ رَوَى عَنْ هِلَال بْن أَبِي زَيْنَب عَنْ شَهْر وَقَالَ يَعْقُوب بْن شَيْبَة: شَهْرٌ ثِقَةٌ، وَقَالَ صَالِحُ بْن مُحَمَّدٍ: شَهْرٌ رَوَى عَنْهُ النَّاس مِنْ أَهْل الْكُوفَة وَأَهْل الْبَصْرَة وَأَهْل الشَّام وَلَمْ يُوقَف مِنْهُ عَلَى كَذِبٍ وَكَانَ رَجُلًا يَنْسُكُ أَيْ يَتَعَبَّد إِلَّا أَنَّهُ رَوَى أَحَادِيثَ لَمْ يَشْرَكْهُ فيها أَحَدٌ فَهَذَا كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ جَرْحِهِ أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَة مِنْ بَيْت الْمَال فَقَدْ حَمَلَهُ الْعُلَمَاء الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَحْمَل صَحِيح وَقَوْل أَبِي حَاتِم بْن حَيَّان أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ رَفِيقه فِي الْحَجّ عَيْبَةٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْد الْمُحَقِّقِينَ بَلْ أَنْكَرُوهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَهُو: (شَهْرُ بْن حَوْشَبٍ) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَالشِّين الْمُعْجَمَة أَبُو سَعِيد وَيُقَال: أَبُو عَبْد اللَّه وَأَبُو عَبْد الرَّحْمَن وَأَبُو الْجَعْد الْأَشْعَرِيّ الشَّامِيّ الْحِمْصِيُّ وَقِيلَ: الدِّمَشْقِيّ.
وَقَوْله: (أَخَذَتْهُ أَلْسِنَة النَّاس) جَمْع لِسَان عَلَى لُغَةِ مَنْ جَعَلَ اللِّسَان مُذَكَّرًا وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مُؤَنَّثًا فَجَمْعُهُ أَلْسُنٌ بِضَمِّ السِّينِ قَالَهُ اِبْن قُتَيْبَةَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَوْله رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْن الشَّاعِر حَدَّثَنَا شَبَابَة) هُوَ حَجَّاجُ بْن يُوسُفَ بْن حَجَّاجٍ الثَّقَفِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ أَبُوهُ يُوسُفُ شَاعِرًا صَحِبَ أَبَا نُوَاسٍ، وَحَجَّاجٌ هَذَا يُوَافِقُ الْحَجَّاجَ بْن يُوسُفَ بْن الْحَكَمِ الثَّقَفِيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْوَالِيَ الْجَائِرَ الْمَشْهُورَ بِالظُّلْمِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَيُوَافِقهُ فِي اِسْمه وَاسْم أَبِيهِ وَكُنْيَته وَنِسْبَتِهِ، وَيُخَالِفُهُ فِي جَدِّهِ وَعَصْرِهِ وَعَدَالَتِهِ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِ.
وَأَمَّا (شَبَابَة) فَبِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَبِالْبَاءَيْنِ الْمُوَحَّدَتَيْنِ وَهُوَ شَبَابَة ابْن سِوَارٍ أَبُو عَمْرٍو الْفَزَارِيُّ مَوْلَاهُمْ الْمَدَايِنِيّ قِيلَ: اِسْمه مَرْوَان وَشَبَابَة لَقَبٌ.
قَوْله: (عَبَّادُ بْن كَثِيرٍ مَنْ تَعْرِفُ حَالَهُ) فَهُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق خِطَابًا يَعْنِي أَنْتَ عَارِفٌ بِضَعْفِهِ.
وَأَمَّا (الْحُسَيْنُ بْن وَاقِدٍ) فَبِالْقَافِ.
وَأَمَّا (مُحَمَّدُ بْن أَبِي عَتَّابٍ) فَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة.
وَأَمَّا قَوْل يَحْيَى بْن سَعِيدٍ: (لَمْ نَرَ الصَّالِحِينَ فِي شَيْءٍ أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيث) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (لَمْ تَرَ) ضَبَطْنَاهُ فِي الْأَوَّل بِالنُّونِ وَفِي الثَّانِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة وَمَعْنَاهُ مَا قَالَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يَجْرِي الْكَذِبُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَا يُعَانُونَ صِنَاعَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَيَقَع الْخَطَأ فِي رِوَايَاتهمْ وَلَا يَعْرِفُونَهُ وَيَرْوُونَ الْكَذِب، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ الْكَذِب هُوَ الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا.
وَقَوْله: (فَلَقِيت أَنَا مُحَمَّدَ بْن يَحْيَى بْن سَعِيدٍ الْقَطَّانِ) فَالْقَطَّان مَجْرُورٌ صِفَةٌ لِيَحْيَى وَلَيْسَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمُحَمَّدٍ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَأَخَذَهُ الْبَوْل فَقَامَ فَنَظَرْت فِي الْكُرَّاسَة فَإِذَا فيها حَدَّثَنِي أَبَان عَنْ أَنَس).
أَمَّا قَوْله: (أَخَذَهُ الْبَوْل) فَمَعْنَاهُ ضَغَطَهُ وَأَزْعَجَهُ وَاحْتَاجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ.
وَأَمَّا (الْكُرَّاسَة) بِالْهَاءِ فِي آخِرِهَا فَمَعْرُوفَة قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس فِي كِتَابِهِ صِنَاعَةِ الْكِتَابِ: الْكُرَّاسَةُ مَعْنَاهَا الْكِتْبَةُ الْمَضْمُومُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَالْوَرَقُ الَّذِي قَدْ أُلْصِقَ بَعْضه إِلَى بَعْض مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلهمْ: رَسْمٌ مُكَرَّسٌ إِذَا أَلْصَقَتْ الرِّيحُ التُّرَابَ بِهِ، قَالَ: وَقَالَ الْخَلِيل الْكُرَّاسَة مَأْخُوذَة مِنْ أَكْرَاسِ الْغَنَمِ وَهُوَ أَنْ تَبُولَ فِي الْمَوْضِع شَيْئًا بَعْد شَيْء فَيَتَلَبَّدَ.
وَقَالَ أَقْضَى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيّ أَصْل الْكُرْسِيّ الْعِلْم وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّحِيفَةِ يَكُونُ فيها عِلْمٌ مَكْتُوبٌ كُرَّاسَةُ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (أَبَان) فَفيه وَجْهَانِ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّة الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ، فَمَنْ لَمْ يَصْرِفهُ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا وَالْهَمْزَة زَائِدَة، فَيَكُون أَفْعَلَ. وَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَ الْهَمْزَةَ أَصْلًا فَيَكُونُ فِعَالًا، وَصَرْفُهُ هُوَ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ الْإِمَام مُحَمَّد بْن جَعْفَر فِي كِتَابه جَامِع اللُّغَة وَالْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن السَّيِّد الْبَطْلَيُوسِيّ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (وَسَمِعْت الْحَسَنَ بْن عَلِيٍّ الْحَلْوَانِيّ يَقُول رَأَيْت فِي كِتَاب عَفَّان حَدِيث هِشَام أَبِي الْمِقْدَام حَدِيث عُمَرَ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ هِشَام حَدَّثَنِي رَجُل يُقَال لَهُ يَحْيَى بْن فُلَان عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب قُلْت: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ هِشَام سَمِعَه مِنْ مُحَمَّدِ بْن كَعْبٍ فَقَالَ: إِنَّمَا اُبْتُلِيَ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْحَدِيث فَكَانَ يَقُول: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مُحَمَّد ثُمَّ اِدَّعَى بَعْدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّد).
أَمَّا قَوْله: (حَدِيث عُمَر) فَيَجُوز فِي إِعْرَابه النَّصْبُ وَالرَّفْعُ. فَالرَّفْع عَلَى تَقْدِير هُوَ حَدِيث عُمَرَ، وَالنَّصْبُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَدَلُ مِنْ قَوْله حَدِيث هِشَامٍ، وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِير أَعْنِي.
وَقَوْله (قَالَ هِشَام حَدَّثَنِي رَجُل إِلَى آخِرِهِ) هُوَ بَيَانٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَآهُ فِي كِتَاب عَفَّان.
وَأَمَّا (هِشَام) هَذَا فَهُوَ اِبْن زِيَاد الْأُمَوِيّ مَوْلَاهُمْ الْبَصْرِيّ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّة. ثُمَّ هُنَا قَاعِدَةٌ نُنَبِّهُ عَلَيْهَا ثُمَّ نُحِيل عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- وَهِيَ: أَنَّ عَفَّان رَحِمَهُ اللَّه قَالَ: إِنَّمَا اُبْتُلِيَ هِشَامٌ يَعْنِي: إِنَّمَا ضَعَّفُوهُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْحَدِيثِ، كَانَ يَقُول: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدٍ ثُمَّ اِدَّعَى بَعْدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّد. وَهَذَا الْقَدْر وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي ضَعْفًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فيه تَصْرِيحٌ بِكَذِبٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّد ثُمَّ نَسِيَهُ، فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ يَحْيَى عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ سَمَاعه مِنْ مُحَمَّد فَرَوَاهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ اِنْضَمَّ إِلَى هَذَا قَرَائِنُ وَأُمُورٌ اِقْتَضَتْ عِنْد الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْفَنِّ الْحُذَّاقِ فيه مِنْ أَهْله الْعَارِفِينَ بِدَقَائِق أَحْوَال رُوَاته أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ مُحَمَّد، فَحَكَمُوا بِذَلِكَ لَمَّا قَامَتْ الدَّلَائِلُ الظَّاهِرَةُ عِنْدهمْ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي الْجَرْح بِنَحْوِ هَذَا وَكُلُّهَا يُقَال فيها مَا قُلْنَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن قُهْزَاذ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْن عُثْمَانَ بْن جَبَلَةَ يَقُول: قُلْت لِعَبْدِ اللَّه بْن الْمُبَارَك: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي رَوَيْت عَنْهُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرٍو: يَوْمُ الْفِطْرِ يَوْمُ الْجَوَائِزِ؟ قَالَ: سُلَيْمَان بْن الْحَجَّاج اُنْظُرْ مَا وَضَعْت فِي يَدك مِنْهُ).
أَمَّا (قُهْزَاذ) فَتَقَدَّمَ ضَبْطه.
وَأَمَّا (عَبْد اللَّه بْن عُثْمَان بْن جَبَلَةَ) فَهُوَ الْمُلَقَّب بِعَبْدَان وَتَقَدَّمَ بَيَانه.
و: (جَبَلَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ يَوْمُ الْفِطْرِ يَوْمُ الْجَوَائِزِ فَهُوَ مَا رُوِيَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَة عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ وَنَادَتْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اُغْدُوا إِلَى رَبٍّ رَحِيمٍ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، أَمَرَكُمْ فَصُمْتُمْ وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ فَاقْبَلُوا جَوَائِزَكُمْ. فَإِذَا صَلَّوْا الْعِيدَ نَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاء: اِرْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ رَاشِدِينَ فَقَدْ غُفِرَتْ ذُنُوبُكُمْ كُلُّهَا وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْجَوَائِزِ» وَهَذَا الْحَدِيث رُوِّينَاهُ فِي كِتَاب الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَصْنِيف الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدِ بْن عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَالْجَوَائِزُ جَمْعُ جَائِزَةٍ وَهِيَ الْعَطَاء.
وَأَمَّا قَوْله: (اُنْظُرْ مَا وَضَعْت فِي يَدِك) ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ التَّاء مِنْ وَضَعْت وَلَا يَمْتَنِع ضَمُّهَا وَهُوَ مَدْح وَثَنَاءٌ عَلَى سُلَيْمَانَ بْن الْحَجَّاجِ.
وَأَمَّا (زَمْعَة) فَبِإِسْكَانِ الْمِيم وَفَتْحِهَا، وَأَمَّا (غُطَيْف) فَبِغَيْنٍ مُعْجَمَة مَضْمُومَة ثُمَّ طَاء مُهْمَلَة مَفْتُوحَة هَذَا هُوَ الصَّوَاب وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ أَكْثَرِ شُيُوخِهِ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ (غُضَيْف) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ، قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَقَوْله: (صَاحِبَ الدَّمِ قَدْرِ الدِّرْهَمِ) يُرِيدُ وَصْفَهُ وَتَعْرِيفَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ رَوْحٌ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعهُ: «تُعَاد الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ» يَعْنِي مِنْ الدَّمِ، وَهَذَا الْحَدِيث ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه. وَهُوَ حَدِيث بَاطِل لَا أَصْل لَهُ عِنْد أَهْل الْحَدِيث. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَوْله (أَسْتَحْيِي) هُوَ بِيَاءَيْنِ وَيَجُوزُ حَذْفُ إِحْدَاهُمَا وَسَيَأْتِي- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- تَفْسِيرُ حَقِيقَةِ الْحَيَاءِ فِي بَابه مِنْ كِتَاب الْإِيمَان.
وَقَوْله: (كُرِهَ حَدِيثه) هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَنَصْبِ الْهَاءِ أَيْ كَرَاهِيَةً لَهُ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (وَلَكِنَّهُ يَأْخُذ عَمَّنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ) يَعْنِي عَنْ الثِّقَات وَالضُّعَفَاءِ.
وَقَوْله: (عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِث الْأَعْوَر الْهَمْدَانِيُّ) أَمَّا الْهَمْدَانِيُّ فَبِإِسْكَانِ الْمِيم وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة.
وَأَمَّا (الشَّعْبِيُّ) فَبِفَتْحِ الشِّينِ وَاسْمه عَامِرُ بْن شَرَاحِيل، وَقِيلَ: اِبْن شُرَحْبِيل.
وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور مَنْسُوب إِلَى شَعْبِ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ وُلِدَ لِسِتِّ سِنِينَ خَلَتْ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَانَ الشَّعْبِيّ إِمَامًا عَظِيمًا جَلِيلًا جَامِعًا لِلتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيث وَالْفِقْه وَالْمَغَازِي وَالْعِبَادَة، قَالَ الْحَسَن: كَانَ الشَّعْبِيّ وَاَللَّهِ كَثِيرَ الْعِلْمِ عَظِيمَ الْحِلْمِ قَدِيم السِّلْمِ مِنْ الْإِسْلَامِ بِمَكَانٍ.
وَأَمَّا (الْحَارِث الْأَعْوَر) فَهُوَ الْحَارِث بْن عَبْد اللَّه، وَقِيلَ: اِبْن عُبَيْد أَبُو زُهَيْر الْكُوفِيّ مُتَّفَق عَلَى ضَعْفِهِ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (وَحَدَّثَنَا أَبُو عَامِر عَبْد اللَّه بْن بَرَّاد الْأَشْعَرِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُفَضَّلٍ عَنْ مُغِيرَة قَالَ: سَمِعْت الشَّعْبِيَّ يَقُول: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَهُوَ يَشْهَد أَنَّهُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ) هَذَا إِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ.
فَأَمَّا (بَرَّاد): فَبِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مُشَدَّدَة ثُمَّ أَلِف ثُمَّ دَال مُهْمَلَة. وَهُوَ عَبْد اللَّه بْن بَرَّاد بْن يُوسُف بْن أَبِي بُرْدَةَ بْن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الْكُوفِيّ.
وَأَمَّا (أَبُو أُسَامَةَ) فَاسْمه حَمَّادُ بْن أُسَامَةَ بْن يَزِيدَ الْقُرَشِيّ مَوْلَاهُمْ الْكُوفِيّ الْحَافِظ الضَّابِط الْمُتْقِن الْعَابِد.
وَأَمَّا (مُفَضَّل) فَهُوَ اِبْن مُهَلَّل، أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السَّعْدِيّ الْكُوفِيّ الْحَافِظ الضَّابِط الْمُتْقِن الْعَابِد.
وَأَمَّا (مُغِيرَة) فَهُوَ اِبْن مِقْسَم أَبُو هِشَام الضَّبِّيّ الْكُوفِيّ وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِيمَ الْمُغِيرَةِ تُضَمُّ وَتُكْسَرُ.
وَأَمَّا قَوْله: (أَحَد الْكَذَّابِينَ) فَبِفَتْحِ النُّون عَلَى الْجَمْعِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْله: (وَهُوَ يَشْهَدُ) يَعُود عَلَى الشَّعْبِيِّ. وَالْقَائِلُ (وَهُوَ يَشْهَدُ) الْمُغِيرَةُ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْل الْحَارِث: (تَعَلَّمْت الْوَحْي فِي سَنَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاث سِنِينَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (الْقُرْآنُ هَيِّنٌ وَالْوَحْيُ أَشَدُّ) فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي جُمْلَةِ مَا أُنْكِرَ عَلَى الْحَارِثِ وَجُرِّحَ بِهِ، وَأُخِذَ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيحِ مَذْهَبِهِ وَغُلُوِّهِ فِي التَّشَيُّعِ، وَكَذِبِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّه: وَأَرْجُو أَنَّ هَذَا مِنْ أَخَفِّ أَقْوَالِهِ لِاحْتِمَالِهِ الصَّوَابَ فَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْوَحْيَ هُنَا الْكِتَابَةُ وَمَعْرِفَةُ الْخَطِّ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، يُقَال: أَوْحَى وَوَحَى إِذَا كَتَبَ، وَعَلَى هَذَا لَيْسَ عَلَى الْحَارِث فِي هَذَا دَرَكٌ وَعَلَيْهِ الدَّرَكُ فِي غَيْره، قَالَ الْقَاضِي: وَلَكِنْ لَمَّا عُرِفَ قُبْحُ مَذْهَبِهِ وَغُلُوُّهُ فِي مَذْهَبِ الشِّيعَةِ وَدَعْوَاهُمْ الْوَصِيَّةَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَسِرَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مِنْ الْوَحْيِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ مَا لَمْ يُطْلِعْ غَيْرَهُ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِمْ سِيءَ الظَّنُّ بِالْحَارِثِ فِي هَذَا وَذَهَبَ بِهِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ فَهِمَ مِنْ الْحَارِثِ مَعْنًى مُنْكَرًا فِيمَا أَرَادَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ) فَالْمُغِيرَةُ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْصُورٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَحَسَّ الْحَارِث بِالشَّرِّ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ مِنْ أُصُولٍ مُحَقَّقَةٍ (أَحَسَّ) وَوَقَعَ فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول أَوْ أَكْثَرِهَا (حَسَّ) بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ حَسَّ وَأَحَسَّ، وَلَكِنَّ أَحَسَّ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَآخَرُونَ: حَسَّ وَأَحَسَّ لُغَتَانِ بِمَعْنَى عَلِمَ وَأَيْقَنَ.
وَأَمَّا قَوْل الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول: الْحَاسَّة وَالْحَوَاسّ الْخَمْس فَإِنَّمَا يَصِحّ عَلَى اللُّغَة الْقَلِيلَة حَسَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالْكَثِير فِي حَسَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى قَتَلَ.
قَوْله: (إِيَّاكُمْ وَالْمُغِيرَة بْن سَعِيد وَأَبَا عَبْد الرَّحِيم فَإِنَّهُمَا كَذَّابَانِ) أَمَّا (الْمُغِيرَة بْن سَعِيد) فَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابه كِتَاب الضُّعَفَاء: هُوَ كُوفِيّ دَجَّال أُحْرِقَ بِالنَّارِ زَمَنَ النَّخَعِيِّ اِدَّعَى النُّبُوَّةَ.
وَأَمَّا (أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ) فَقِيلَ: هُوَ شَقِيق الضَّبِّيّ الْكُوفِيّ الْقَاصّ، وَقِيلَ هُوَ سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن النَّخَعِيُّ وَكِلَاهُمَا يُكَنَّى أَبَا عَبْد الرَّحِيم، وَهُمَا ضَعِيفَانِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرهمَا قَرِيبًا أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو كَامِل الْجَحْدَرِيُّ) هُوَ بِجِيمٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ حَاء سَاكِنَة ثُمَّ دَال مَفْتُوحَة مُهْمَلَتَيْنِ وَاسْم أَبِي كَامِلٍ فُضَيْل بْن حُسَيْنٍ بِالتَّصْغِيرِ، فيهمَا اِبْن طَلْحَةَ الْبَصْرِيُّ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَحْدَرَ اِسْمِ رَجُلٍ.
قَوْله: (كُنَّا نَأْتِي أَبَا عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَنَحْنُ غِلْمَةٌ أَيْفَاعٌ وَكَانَ يَقُول: لَا تُجَالِسُوا الْقُصَّاص غَيْرَ أَبِي الْأَحْوَصِ وَإِيَّاكُمْ وَشَقِيقًا، قَالَ: وَكَانَ شَقِيقٌ هَذَا يَرَى رَأْي الْخَوَارِج وَلَيْسَ بِأَبِي وَائِل) أَمَّا (أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ) فَبِضَمِّ السِّينِ، وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن حَبِيب ابْن رُبَيِّعَة بِضَمِّ الرَّاء وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَكَسْرِ الْمُثَنَّاة الْمُشَدَّدَة وَآخِره هَاء الْكُوفِيّ التَّابِعِيّ الْجَلِيل.
وَقَوْله: (غِلْمَة) جَمْع غُلَام، وَاسْم الْغُلَام يَقَع عَلَى الصَّبِيّ مِنْ حِين يُولَد عَلَى اِخْتِلَاف حَالَاته إِلَى أَنْ يَبْلُغ.
وَقَوْله: (أَيْفَاع) أَيْ شَبَبَة قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ بَالِغُونَ، يُقَال: غُلَام يَافِعٌ وَيَفَعٌ وَيَفَعَةٌ بِفَتْحِ الْفَاء فيهمَا إِذَا شَبَّ وَبَلَغَ أَوْ كَادَ يَبْلُغ، قَالَ الثَّعَالِبِيّ: إِذْ قَارَبَ الْبُلُوغ أَوْ بَلَغَهُ يُقَال لَهُ: يَافِع وَقَدْ أَيْفَعَ وَهُوَ نَادِر، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: أَيْفَعَ الْغُلَام إِذَا شَارَفَ الِاحْتِلَام وَلَمْ يَحْتَلِمْ هَذَا آخِر نَقْل الْقَاضِي عِيَاض، وَكَأَنَّ الْيَافِع مَأْخُوذ مِنْ الْيَفَاع بِفَتْحِ الْيَاء وَهُوَ مَا اِرْتَفَعَ مِنْ الْأَرْض، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَيُقَال غِلْمَان أَيْفَاع وَيَفَعَة أَيْضًا.
وَأَمَّا (الْقُصَّاص) بِضَمِّ الْقَاف فَجَمْعُ قَاصٍّ وَهُوَ الَّذِي يَقْرَأ الْقِصَص عَلَى النَّاس قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْقِصَّة الْأَمْر وَالْخَبَر وَقَدْ اِقْتَصَصْت الْحَدِيث إِذَا رَوَيْته عَلَى وَجْهِهِ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَر قَصَصًا بِفَتْحِ الْقَافِ. وَالِاسْم أَيْضًا الْقَصَص بِالْفَتْحِ. وَالْقَصَص بِكَسْرِ الْقَاف اِسْم جَمْعٍ لِلْقِصَّةِ.
وَأَمَّا (شَقِيقٌ) الَّذِي نَهَى عَنْ مُجَالَسَته فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هُوَ شَقِيق الضَّبِّيّ الْكُوفِيّ الْقَاصّ، ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، كُنْيَته أَبُو عَبْد الرَّحِيم، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ أَبُو عَبْد الرَّحِيم الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ إِبْرَاهِيم قَبْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا عَبْد الرَّحِيم الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ إِبْرَاهِيم هُوَ سَلَمَةُ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّخَعِيُّ ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن أَبِي حَاتِم الرَّازِيّ فِي كِتَابه عَنْ اِبْن الْمَدِينِيّ.
وَقَوْل مُسْلِم: (وَلَيْسَ بِأَبِي وَائِل) يَعْنِي لَيْسَ هَذَا الَّذِي نَهَى عَنْ مُجَالَسَته بِشَقِيقِ بْن سَلَمَة أَبِي وَائِل الْأَسَدِيِّ الْمَشْهُور مَعْدُود مِنْ كِبَار التَّابِعِينَ هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّان مُحَمَّد بْن عَمْرو الرَّازِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيد السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَسْمُوعُ فِي كُتُب الْمُحَدِّثِينَ وَرِوَايَاتهمْ غَسَّانُ غَيْرَ مَصْرُوفٍ، وَذَكَرَهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْل اللُّغَة فِي بَاب غَسَنَ وَفِي بَاب وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ يَجُوز صَرْفُهُ وَتَرْكُ صَرْفِهِ فَمَنْ جَعَلَ النُّون أَصْلًا صَرَفَهُ، وَمَنْ جَعَلَهَا زَائِدَة لَمْ يَصْرِفْهُ، وَأَبُو غَسَّان هَذَا هُوَ الْمُلَقَّب بِضَمِّ الزَّاي وَالْجِيم.
قَوْله فِي جَابِر الْجُعْفِيِّ: (كَانَ يُؤْمِن بِالرَّجْعَةِ) هِيَ بِفَتْحِ الرَّاء قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْرُهُ: لَا يَجُوز فيها إِلَّا بِفَتْحِ.
وَأَمَّا رَجْعَة الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة فَفيها لُغَتَانِ الْكَسْرُ وَالْفَتْحُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَحُكِيَ فِي هَذِهِ الرَّجْعَةِ الَّتِي كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا جَابِرٌ الْكَسْرُ أَيْضًا: وَمَعْنَى إِيمَانه بِالرَّجْعَةِ هُوَ مَا تَقُولهُ الرَّافِضَة وَتَعْتَقِدُهُ بِزَعْمِهَا الْبَاطِلِ أَنَّ عَلِيًّا- كَرَّمَ اللَّه وَجْهَهُ- فِي السَّحَاب فَلَا نَخْرُج يَعْنِي مَعَ مَنْ يَخْرُج مِنْ وَلَده حَتَّى يُنَادِيَ مِنْ السَّمَاء أَنْ اُخْرُجُوا مَعَهُ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ وَعَظِيمٌ مِنْ جَهَالَاتِهِمْ اللَّاصِقَةِ بِأَذْهَانِهِمْ السَّخِيفَة وَعُقُولهمْ الْوَاهِيَة.
قَوْله رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: (وَحَدَّثَنِي سَلَمَة بْن شَبِيبٍ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان) هُوَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ الْإِمَام الْمَشْهُور.
وَأَمَّا (الْحُمَيْدِيّ) فَهُوَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر بْن عِيسَى بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر بْن عُبَيْد اللَّه بْن حُمَيْد أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ الْمَكِّيّ.
وَقَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيّ) هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَاسْمه عَبْد الْحَمِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْكُوفِيّ مَنْسُوب إِلَى بَطْن مِنْ هَمْدَانَ.
وَأَمَّا (الْجَرَّاحُ بْن مَلِيحٍ) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ وَالِد وَكِيعٍ، وَهَذَا الْجَرَّاح ضَعِيفٌ عِنْد الْمُحَدِّثِينَ، وَلَكِنَّهُ مَذْكُور هُنَا فِي الْمُتَابَعَات.
وَقَوْله: (عِنْدِي سَبْعُونَ أَلْفَ حَدِيث عَنْ أَبِي جَعْفَر) أَبُو جَعْفَر هَذَا هُوَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ الْمَعْرُوف بِالْبَاقِرِ لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ أَيْ شَقَّهُ وَفَتَحَهُ فَعَرَفَ أَصْلَهُ وَتَمَكَّنَ فيه.
وَقَوْله: (سَمِعْت أَبَا الْوَلِيد يَقُول سَمِعْت سَلَّام بْن أَبِي مُطِيع) اِسْم أَبِي الْوَلِيد هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك وَهُوَ الطَّيَالِسِيّ.
و: (سَلَّام) بِتَشْدِيدِ اللَّام، وَاسْم أَبِي مُطِيع سَعْدٌ.
وَقَوْله: (إِنَّ الرَّافِضَة تَقُول: إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي السَّحَاب فَلَا نَخْرُج) إِلَى آخِره (نَخْرُج) بِالنُّونِ وَسُمُّوا رَافِضَةً: مِنْ الرَّفْض وَهُوَ التَّرْك، قَالَ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْرُهُ: سُمُّوا رَافِضَةً لِأَنَّهُمْ رَفَضُوا زَيْدَ بْن عَلِيٍّ فَتَرَكُوهُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (وَحَدَّثَنِي سَلَمَة حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيّ حَدَّثَنَا سُفْيَان قَالَ: سَمِعْت جَابِرًا يُحَدِّث بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ) قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ الْجَيَّانِيّ: سَقَطَ ذِكْرُ سَلَمَة بْن شَبِيب بَيْن مُسْلِم والْحُمَيْدِيّ عِنْد اِبْن مَاهَان وَالصَّوَاب رِوَايَة بِإِثْبَاتِهِ فَإِنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَلْقَ الْحُمَيْدِيّ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه بْن الْحَذَّاء- أَحَد رُوَاة كِتَاب مُسْلِم-: سَأَلْت عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعْد هَلْ رَوَى مُسْلِم عَنْ الْحُمَيْدِيّ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِع وَمَا أَبْعَدَ ذَلِكَ أَوْ يَكُون سَقَطَ قَبْل الْحُمَيْدِيّ رَجُلٌ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَعَبْد الْغَنِيّ: إِنَّمَا رَأَى مَنْ مُسْلِمٍ نُسْخَةَ اِبْن مَاهَان فَلِذَلِكَ قَالَ مَا قَالَ، وَلَمْ تَكُنْ نُسْخَة دَخَلَتْ مِصْرَ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم قَبْل هَذَا حَدَّثَنَا سَلَمَة. حَدَّثَنَا فِي حَدِيث آخَر كَذَا هُوَ عِنْد جَمِيعهمْ وَهُوَ الصَّوَاب هُنَا أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: (الْحَارِث بْن حَصِيرَة) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْرِ الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِره هَاء وَهُوَ أَزْدِيّ كُوفِيّ سَمِعَ زَيْد بْن وَهْب قَالَهُ الْبُخَارِيّ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَإِسْكَان الْوَاو وَفَتْحِ الرَّاء وَبِالْقَافِ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذِهِ النِّسْبَة فَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ نَاسِكًا أَيْ عَابِدًا وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَان يُسَمُّونَ النَّاسِكَ، وَهَذَا الْقَوْل مَرْوِيّ عَنْ أَحْمَد الدَّوْرَقِيّ، هَذَا وَهُوَ مِنْ أَشْهَر الْأَقْوَال، وَقِيلَ هِيَ نِسْبَة إِلَى الْقَلَانِسِ الطِّوَالِ الَّتِي تُسَمَّى، وَقِيلَ: مَنْسُوب إِلَى دَوْرَق بَلْدَةٍ: بِفَارِسَ أَوْ غَيْرِهَا.
وَقَوْله: (ذَكَرَ أَيُّوب رَجُلًا فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بِمُسْتَقِيمِ اللِّسَان وَذَكَرَ آخَرَ فَقَالَ: هُوَ يَزِيدُ فِي الرَّقْمِ) أَيُّوب هَذَا هُوَ السَّخْتِيَانِيّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوَّل الْكِتَاب.
وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ كِنَايَة عَنْ الْكَذِب، وَقَوْل أَيُّوب فِي عَبْد الْكَرِيم: رَحِمَهُ اللَّه كَانَ غَيْر ثِقَة لَقَدْ سَأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ لِعِكْرِمَةَ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْت عِكْرِمَةَ، هَذَا الْقَطْعُ بِكَذِبِهِ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ ثِقَةٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّة قَدْ يُسْتَشْكَل مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون سَمِعَهُ مِنْ عِكْرِمَةَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَسُئِلَ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ فَرَوَاهُ، وَلَكِنْ عُرِفَ كَذِبُهُ بِقَرَائِنَ وَقَدْ قَدَّمْت إِيضَاحَ هَذَا فِي أَوَّل هَذَا الْبَاب، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ضَعْفِ عَبْد الْكَرِيم هَذَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْن سَعِيد الّقَطَّانُ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَابْن عَدِيّ، وَكَانَ عَبْد الْكَرِيم هَذَا مِنْ فُضَلَاء فُقَهَاء الْبَصْرَة وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى فَجَعَلَ يَقُول: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ حَدَّثَنَا زَيْد بْن أَرْقَمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِقَتَادَةَ فَقَالَ: كَذَبَ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ إِذْ ذَاكَ سَائِلًا يَتَكَفَّفُ النَّاسَ زَمَنَ طَاعُونِ الْجَارِفِ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (قَبْلَ الْجَارِفِ).
أَمَّا (أَبُو دَاوُدَ) هَذَا فَاسْمُهُ نُفَيْع بْنُ الْحَارِث الْقَاصّ الْأَعْمَى مُتَّفَق عَلَى ضَعْفه، قَالَ عَمْرو بْن عَلِيّ: هُوَ مَتْرُوك، وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين وَأَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مُنْكَر الْحَدِيث، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ.
وَقَوْله: (مَا سَمِعَ مِنْهُمْ) يَعْنِي الْبَرَاءَ وَزَيْدًا وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَدْرِيًّا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي الْكِتَاب.
وَقَوْله: (يَتَكَفَّفُ النَّاسَ) مَعْنَاهُ يَسْأَلهُمْ فِي كَفِّهِ أَوْ بِكَفِّهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخِ (يَتَطَفَّف) بِالطَّاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى يَتَكَفَّفُ أَيْ يَسْأَل فِي كَفِّهِ الطَّفِيفَ وَهُوَ الْقَلِيلُ، وَذَكَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم فِي كِتَابه الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِهِ: يَتَنَطَّفُ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: مَا تَنَطَّفَتْ بِهِ أَيْ مَا تَلَطَّخَتْ.
وَأَمَّا (طَاعُونُ الْجَارِفِ) فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ فيه مِنْ النَّاس وَسُمِّيَ الْمَوْتُ جَارِفًا لِاجْتِرَافِهِ النَّاسَ، وَسُمِّيَ السَّيْلُ جَارِفًا لِاجْتِرَافِهِ عَلَى وَجْه الْأَرْض، وَالْجَرْف: الْغَرْفُ مِنْ فَوْق الْأَرْض وَكَشْحُ مَا عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الطَّاعُون فَوَبَاءٌ مَعْرُوف وَهُوَ بَثْر وَوَرَمٌ مُؤْلِمٌ جِدًّا يَخْرُج مَعَ لَهَب وَيُسَوِّد مَا حَوْله أَوْ يَخْضَرّ أَوْ يَحْمَرّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدِرَةً وَيَحْصُل مَعَهُ خَفَقَان الْقَلْب وَالْقَيْء.
وَأَمَّا زَمَن طَاعُون الْجَارِف فَقَدْ اِخْتَلَفَ فيه أَقْوَال الْعُلَمَاء- رَحِمَهُمْ اللَّه- اِخْتِلَافًا شَدِيدًا مُتَبَايِنًا تَبَايُنًا بَعِيدًا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي أَوَّل التَّمْهِيد قَالَ: مَاتَ أَيُّوب السَّخْتِيَانِيّ فِي سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فِي طَاعُونِ الْجَارِفِ. وَنَقَلَ اِبْن قُتَيْبَة فِي الْمَعَارِف عَنْ الْأَصْمَعِيّ: أَنَّ طَاعُون الْجَارِف كَانَ فِي زَمَنِ اِبْن الزُّبَيْرِ سَنَة سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَكَذَا قَالَ أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن أَبِي سَيْف الْمَدَايِنِيّ فِي كِتَاب التَّعَازِي: أَنَّ طَاعُون الْجَارِف كَانَ فِي زَمَن اِبْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا سَنَة سَبْع وَسِتِّينَ فِي شَوَّال، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَلَابَاذِيّ فِي كِتَابه فِي رِجَال الْبُخَارِيّ مَعْنَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: وُلِدَ أَيُّوب السَّخْتِيَانِيّ سَنَة سِتٍّ وَسِتِّينَ وَفِي قَوْله: إِنَّهُ وُلِدَ قَبْل الْجَارِف بِسَنَةٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي هَذَا الْمَوْضِع: كَانَ الْجَارِف سَنَة تِسْع عَشْرَة وَمِائَةٍ، وَذَكَرَ الْحَافِظ عَبْد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِيُّ فِي تَرْجَمَة عَبْد اللَّه بْن مُطَرِّف عَنْ يَحْيَى الْقَطَّان قَالَ: مَاتَ مُطَرِّفٌ بَعْد طَاعُونِ الْجَارِف، وَكَانَ الْجَارِف سَنَة سَبْع وَثَمَانِينَ، وَذَكَرَ فِي تَرْجَمَة يُونُس بْن عُبَيْد أَنَّهُ رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَأَنَّهُ وُلِدَ بَعْد الْجَارِف وَمَاتَ سَنَة سَبْع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة؛ فَهَذِهِ أَقْوَال مُتَعَارِضَة فَيَجُوز أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهَا بِأَنَّ كُلّ طَاعُون مِنْ هَذِهِ تُسَمَّى جَارِفًا لِأَنَّ مَعْنَى الْجَرْفِ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعهَا وَكَانَتْ الطَّوَاعِينُ كَثِيرَةً.
ذَكَرَ اِبْن قُتَيْبَة فِي الْمَعَارِف عَنْ الْأَصْمَعِيّ أَنَّ أَوَّل طَاعُونٍ كَانَ فِي الْإِسْلَام طَاعُونُ عَمَوُاس بِالشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فيه تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْن الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَمُعَاذُ بْن جَبَلٍ وَامْرَأَتَاهُ وَابْنُهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ ثُمَّ الْجَارِف فِي زَمَن اِبْن الزُّبَيْر، ثُمَّ طَاعُون الْفَتَيَات؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِي الْعَذَارَى وَالْجَوَارِي بِالْبَصْرَةِ وَبِوَاسِطٍ وَبِالشَّامِ وَالْكُوفَةِ، وَكَانَ الْحَجَّاج يَوْمَئِذٍ بِوَاسِطٍ فِي وِلَايَة عَبْد الْمَلِكِ بْن مَرْوَانَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: طَاعُونُ الْأَشْرَافِ- يَعْنِي لَمَّا مَاتَ فيه مِنْ الْأَشْرَاف ثُمَّ طَاعُونُ عَدِيّ بْن أَرَطْأَة سَنَة مِائَة، ثُمَّ طَاعُونُ غُرَاب سَنَة سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَة، وَغُرَابٌ: رَجُلٌ، ثُمَّ طَاعُونُ مُسْلِمِ بْن قُتَيْبَةَ سَنَة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فِي شَعْبَان وَشَهْر رَمَضَان وَأَقْلَعَ فِي شَوَّال، وَفيه مَاتَ أَيُّوب السَّخْتِيَانِيّ قَالَ: وَلَمْ يَقَع بِالْمَدِينَةِ وَلَا بِمَكَّة طَاعُونٌ قَطُّ، هَذَا مَا حَكَاهُ اِبْن قُتَيْبَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَايِنِيّ: كَانَتْ الطَّوَاعِينُ الْمَشْهُورَةُ الْعِظَامُ فِي الْإِسْلَام خَمْسَةً: طَاعُونُ شِيرَوَيْهِ بِالْمَدَائِنِ عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَة سِتّ مِنْ الْهِجْرَة، ثُمَّ طَاعُون عَمَوَاس فِي زَمَن عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَانَ بِالشَّامِ مَاتَ فيه خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، ثُمَّ طَاعُون الْجَارِف فِي زَمَن اِبْن الزُّبَيْر فِي شَوَّال سَنَة تِسْع وَسِتِّينَ، هَلَكَ فِي ثَلَاثَة أَيَّام فِي كُلّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْفًا، مَاتَ فيه لِأَنَسِ بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ اِبْنًا وَيُقَال: ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ اِبْنًا، وَمَاتَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرَةَ أَرْبَعُونَ اِبْنًا، ثُمَّ طَاعُونُ الْفَتَيَاتِ فِي شَوَّال سَنَة سَبْع وَثَمَانِينَ، ثُمَّ كَانَ طَاعُونٌ فِي سَنَة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فِي رَجَب، وَاشْتَدَّ فِي شَهْر رَمَضَان فَكَانَ يُحْصَى فِي سِكَّةِ الْمُرِيدِ فِي كُلّ يَوْم أَلْف جِنَازَةٍ أَيَّامًا، ثُمَّ خَفَّ فِي شَوَّال، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ طَاعُون وَهُوَ الَّذِي مَاتَ فيه الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة سَنَة خَمْسِينَ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيّ، وَكَانَ طَاعُونُ عَمَوَاس سَنَة ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ سَنَة سَبْعَ عَشْرَةَ. أَوْ ثَمَانِي عَشْرَة قَرْيَة بَيْن الرَّمْلَةِ وَبَيْت الْمَقْدِسِ، نُسِبَ الطَّاعُون إِلَيْهَا لِكَوْنِهِ بَدَأَ فيها، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عَمَّ النَّاسَ فيه، ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ لِلْحَافِظِ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي تَرْجَمَة أَبِي عُبَيْدَةَ بْن الْجَرَّاح رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ فَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّق بِالطَّاعُونِ، فَإِذَا عُلِمَ مَا قَالُوهُ فِي طَاعُون الْجَارِف فَإِنَّ قَتَادَة وُلِدَ سَنَة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمَاتَ سَنَة سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَة عَلَى الْمَشْهُور وَقِيلَ: سَنَة ثَمَانِي عَشْرَة؛ وَيَلْزَم مِنْ هَذَا بُطْلَانُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه طَاعُون الْجَارِف هُنَا وَيَتَعَيَّن أَحَد الطَّاعُونَيْنِ فَإِمَّا سَنَة سَبْع وَسِتِّينَ فَإِنَّ قَتَادَة كَانَ اِبْن سِتِّ سِنِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت، وَمِثْله يَضْبِطهُ. وَإِمَّا سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْله: (لَا يَعْرِضُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا) فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْرِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ لَا يَعْتَنِي بِالْحَدِيثِ.
وَقَوْله: (مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ بَدْرِيٍّ مُشَافَهَةً، وَلَا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْن الْمُسَيَّب عَنْ بَدْرِيٍّ مُشَافَهَةً إِلَّا عَنْ سَعْدِ بْن مَالِكٍ) الْمُرَاد بِهَذَا الْكَلَام إِبْطَالُ قَوْلِ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى هَذَا وَزَعْمِهِ أَنَّهُ لَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَدْرِيًّا فَقَالَ قَتَادَة: الْحَسَن الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْن الْمُسَيَّب أَكْبَرُ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى، وَأَجَلُّ وَأَقْدَمُ سِنًّا وَأَكْثَرُ اِعْتِنَاءً بِالْحَدِيثِ وَمُلَازَمَةِ أَهْلِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَخْذ عَنْ الصَّحَابَة، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا حَدَّثَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ بَدْرِيّ وَاحِد، فَكَيْفَ يَزْعُم أَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى أَنَّهُ لَقِيَ ثَمَانِيَة عَشَرَ بَدْرِيًّا، هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
وَقَوْله: (سَعْد بْن مَالِك) هُوَ سَعْدُ بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَاسْم أَبِي وَقَّاص مَالِكُ بْن أَهْيَبَ وَيُقَال: وُهَيْب، وَأَمَّا (الْمُسَيَّب) وَالِد سَعِيدٍ فَصَحَابِيّ مَشْهُور رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحَكَى صَاحِب مَطَالِع الْأَنْوَار عَنْ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَهْل الْعِرَاق يَفْتَحُونَ الْيَاء، وَأَهْل الْمَدِينَة يَكْسِرُونَهَا، قَالَ: وَحَكَى أَنَّ سَعِيدًا كَانَ يَكْرَهُ الْفَتْحَ. وَسَعِيدٌ إِمَامُ التَّابِعِينَ وَسَيِّدُهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ فِي الْحَدِيث وَالْفِقْه وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَغَيْر ذَلِكَ، وَأَحْوَاله أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ كُنْيَته أَبُو مُحَمَّدٍ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (عَنْ رَقَبَةَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيَّ الْمَدَنِيَّ كَانَ يَضَع أَحَادِيثَ كَلَامَ حَقٍّ) أَمَّا (رَقَبَةُ) فَعَلَى لَفْظ رَقَبَة الْإِنْسَان، وَهُوَ رَقَبَةُ بْن مَسْقَلَة بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان السِّين الْمُهْمَلَة وَفَتْحِ الْقَاف اِبْن عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدِيّ الْكُوفِيّ أَبُو عَبْد اللَّه، وَكَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ جَلِيلَ الشَّأْنِ رَحِمَهُ اللَّه.
وَأَمَّا قَوْله: (كَلَامَ حَقّ) فَبِنَصْبِ كَلَام، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ أَحَادِيثَ، وَمَعْنَاهُ كَلَام صَحِيح الْمَعْنَى وَحِكْمَة مِنْ الْحِكَمِ، وَلَكِنَّهُ كَذَبَ فَنَسَبَهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا (أَبُو جَعْفَر) هَذَا فَهُوَ عَبْد اللَّه بْن مِسْوَر الْمَدَائِنِيّ أَبُو جَعْفَر الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الْكِتَاب فِي الضُّعَفَاء وَالْوَاضِعِينَ، قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه: هُوَ عَبْد اللَّه بْن مِسْوَر بْن عَوْن بْن جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب أَبُو جَعْفَر الْقُرَشِيّ الْهَاشِمِيّ، وَذَكَرَ كَلَام رَقَبَة وَهُوَ هَذَا الْكَلَام الَّذِي هُنَا، ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي الْأُصُول هُنَا (الْمَدَنِيّ) وَفِي بَعْضهَا (الْمَدِينِيّ) بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَلَمْ أَرَ فِي شَيْء مِنْهَا هُنَا الْمَدَائِنِيّ، وَوَقَعَ فِي أَوَّل الْكِتَاب الْمَدَائِنِيّ، فَأَمَّا الْمَدِينِيّ وَالْمَدَنِيّ فَنِسْبَة إِلَى مَدِينَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقِيَاس الْمَدَنِيّ بِحَذْفِ الْيَاء وَمَنْ أَثْبَتَهَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْل.
وَرَوَى أَبُو الْفَضْل مُحَمَّد بْن طَاهِر الْمَقْدِسِيُّ الْإِمَام الْحَافِظ فِي كِتَاب الْأَنْسَاب الْمُتَّفِقَة فِي الْخَطّ الْمُتَمَاثِلَة فِي النَّقْط وَالضَّبْط بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَام أَبِي عَبْد اللَّه الْبُخَارِيّ قَالَ: الْمَدِينِيّ- يَعْنِي بِالْيَاءِ-: هُوَ الَّذِي أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يُفَارِقهَا، وَالْمَدَنِيّ الَّذِي تَحَوَّلَ عَنْهَا وَكَانَ مِنْهَا.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا الْحَسَن الْحَلْوَانِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْم قَالَ: أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْم بْن حَمَّاد حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول الْمُحَقَّقَة قَوْل أَبِي إِسْحَاق، وَلَمْ يَقَع قَوْله فِي بَعْضهَا وَأَبُو إِسْحَاق هَذَا صَاحِب مُسْلِم وَرِوَايَة الْكِتَاب عَنْهُ، فَيَكُون قَدْ سَاوَى مُسْلِمًا فِي هَذَا الْحَدِيث وَعَلَا فيه بِرَجُلٍ، وَأَمَّا (أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ) فَاسْمُهُ سُلَيْمَان بْن أَبِي دَاوُدَ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَوْله: (قُلْت لِعَوْفِ بْن أَبِي جَمِيلَة: إِنَّ عَمْرو بْن عُبَيْد حَدَّثَنَا عَنْ الْحَسَن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا». قَالَ: كَذَبَ وَاَللَّهِ عَمْرٌو، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحُوزَهَا إِلَى قَوْلِهِ الْخَبِيثِ).
أَمَّا (عَوْف) فَتَقَدَّمَ بَيَانه فِي أَوَّل الْكِتَاب.
وَأَمَّا (عَمْرو بْن عُبَيْد) فَهُوَ الْقَدَرِيّ الْمُعْتَزِلِيّ الَّذِي كَانَ صَاحِب الْحَسَن الْبَصْرِيّ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا». صَحِيحٌ مَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه بَعْد هَذَا. وَمَعْنَاهُ عِنْد أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ اِهْتَدَى بِهَدْيِنَا وَاقْتَدَى بِعِلْمِنَا وَعَمَلِنَا وَحُسْنِ طَرِيقَتِنَا، كَمَا يَقُول الرَّجُل لِوَلَدِهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ فِعْلَهُ: لَسْت مِنِّي، وَهَكَذَا الْقَوْل فِي كُلّ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِنَحْوِ هَذَا الْقَوْل، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» وَأَشْبَاهِهِ، وَمُرَاد مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه بِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيث هُنَا بَيَان أَنَّ عَوْفًا جَرَّحَ عَمْرَو بْن عُبَيْدٍ وَقَالَ: كَذَبَ، وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ مَعَ أَنَّ الْحَدِيث صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ نَسَبَهُ إِلَى الْحَسَنِ، وَكَانَ عَوْفٌ مِنْ كِبَار أَصْحَاب الْحَسَن وَالْعَارِفِينَ بِأَحَادِيثِهِ، فَقَالَ كَذَبَ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْحَسَن، فَلَمْ يَرْوِ الْحَسَنُ هَذَا، أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ هَذَا مِنْ الْحَسَنِ.
وَقَوْله: (أَرَادَ أَنْ يَحُوزَهَا إِلَى قَوْلِهِ الْخَبِيثِ) مَعْنَاهُ: كَذَبَ بِهَذِهِ الرِّوَايَة لِيُعَضِّدَ بِهَا مَذْهَبَهُ الْبَاطِلَ الرَّدِيءَ وَهُوَ الِاعْتِزَالُ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اِرْتِكَابَ الْمَعَاصِي يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَيُخَلِّدُهُ فِي النَّار وَلَا يُسَمُّونَهُ كَافِرًا بَلْ فَاسِقًا مُخَلَّدًا فِي النَّار، وَسَيَأْتِي الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوَاطِعِ الْأَدِلَّةِ فِي كِتَاب الْإِيمَان إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَقَوْل أَيُّوب السَّخْتِيَانِيّ: (إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ) مَعْنَاهُ: إِنَّمَا نَهْرُبُ أَوْ نَخَاف مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِب الَّتِي يَأْتِي بِهَا عَمْرو بْن عُبَيْد، مَخَافَةً مِنْ كَوْنِهَا كَذِبًا فَنَقَع فِي الْكَذِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَتْ أَحَادِيثَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْآرَاء وَالْمَذَاهِب فَحَذَرًا مِنْ الْوُقُوع فِي الْبِدَع أَوْ فِي مُخَالَفَة الْجُمْهُور.
وَقَوْله: (نَفْرَق) بِفَتْحِ الرَّاءِ.
وَقَوْله: (نَفِرّ أَوْ نَفْرَق) شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي إِحْدَاهُمَا.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عُبَيْد قَبْل أَنْ يُحْدِثَ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَان الْحَاء وَكَسْرِ الدَّال يَعْنِي قَبْل أَنْ يَصِيرَ مُبْتَدِعًا قَدَرِيًّا.
قَوْله: (كَتَبْت إِلَى شُعْبَة أَسْأَلُهُ عَنْ أَبِي شَيْبَة قَاضِي وَاسِطٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ: لَا تَكْتُب عَنْهُ شَيْئًا وَمَزِّقْ كِتَابِي) وَأَبُو شَيْبَةَ هَذَا هُوَ جَدُّ أَوْلَاد أَبِي شَيْبَة وَهُمْ: أَبُو بَكْر وَعُثْمَان وَالْقَاسِم بَنُو مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم أَبِي شَيْبَة وَأَبُو شَيْبَة ضَعِيف، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانه وَبَيَانهمْ فِي أَوَّل الْكِتَاب، وَوَاسِطٌ مَصْرُوفٌ، كَذَا سَمِعَ مِنْ الْعَرَب، وَهِي مِنْ بِنَاء الْحَجَّاج بْن يُوسُف.
وَقَوْله: (مَزِّقْ كِتَابِي) هُوَ بِكَسْرِ الزَّاي أَمَرَهُ بِتَمْزِيقِهِ مَخَافَةً مِنْ بُلُوغِهِ إِلَى أَبِي شَيْبَةَ وَوُقُوفِهِ عَلَى ذِكْرِهِ لَهُ بِمَا يُكْرَه لِئَلَّا يَنَالَهُ مِنْهُ أَذًى أَوْ يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ.
قَوْله: (كَذَبَ) هُوَ مِنْ نَحْو مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْله لَمْ نَرَ الصَّالِحِينَ فِي شَيْء أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيث، مَعْنَاهُ مَا قَالَهُ مُسْلِم: يَجْرِي الْكَذِب عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْر تَعَمُّد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ صِنَاعَة هَذَا الْفَنّ فَيُخْبِرُونَ بِكُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَفيه الْكَذِبُ فَيَكُونُونَ كَاذِبِينَ، فَإِنَّ الْكَذِب الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء عَلَى خِلَاف مَا هُوَ سَهْوًا كَانَ الْإِخْبَارُ أَوْ عَمْدًا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَانَ صَالِح هَذَا مِنْ كِبَار الْعُبَّاد الزُّهَّاد الصَّالِحِينَ، وَهُوَ صَالِح بْن بَشِير بِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْرِ الشِّين أَبُو بَشِيرٍ الْبَصْرِيّ الْقَاضِي، وَقِيلَ لَهُ: الْمُرِّيّ؛ لِأَنَّ اِمْرَأَةً مِنْ بَنِي مُرَّةَ أَعْتَقَتْهُ.
وَأَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ مُعْتَقَةٌ لِلْمَرْأَةِ الْمُرِّيَّة. وَكَانَ صَالِح رَحِمَهُ اللَّه حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ مَاتَ بَعْضُ مَنْ سَمِعَ قِرَاءَتَهُ، وَكَانَ شَدِيد الْخَوْف مِنْ اللَّه تَعَالَى، كَثِير الْبُكَاء، قَالَ عَفَّان بْن مُسْلِمٍ: كَانَ صَالِح إِذَا أَخَذَ فِي قَصَصِهِ كَأَنَّهُ رَجُل مَذْعُور، يُفْزِعُك أَمْرُهُ مِنْ حُزْنِهِ وَكَثْرَةِ بُكَائِهِ كَأَنَّهُ ثَكْلَى، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (عَنْ مِقْسَم) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْحِ السِّين.
وَقَوْله: (قُلْت لِلْحَكَمِ مَا تَقُول فِي أَوْلَاد الزِّنَى قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، قُلْت: مِنْ حَدِيث مَنْ يُرْوَى، قَالَ: يُرْوَى عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْن عُمَارَةَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ يَحْيَى بْن الْجَزَّار عَنْ عَلِيّ) مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَسَنَ بْن عُمَارَةَ كَذَبَ فَرَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ الْحَكَم عَنْ يَحْيَى عَنْ عَلِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مِنْ قَوْله، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْل هَذَا وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ جَاءَ عَنْ الْحَسَن وَعَنْ عَلِيّ، لَكِنَّ الْحُفَّاظَ يَعْرِفُونَ كَذِبَ الْكَذَّابِينَ بِقَرَائِنَ، وَقَدْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِدَلَائِلَ قَطِيعَةٍ يَعْرِفهَا أَهْل هَذَا الْفَنّ فَقَوْلهمْ مَقْبُول فِي كُلّ هَذَا، وَالْحَسَنُ بْن عُمَارَةَ مُتَّفَق عَلَى ضَعْفِهِ وَتَرْكِهِ. وَعُمَارَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَيَحْيَى بْن الْجَزَّار بِالْجِيمِ وَالزَّاي وَبِالرَّاءِ آخِرَهُ قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُوَطَّأِ غَيْرُهُ، وَمَنْ سِوَاهُ أَوْ خَرَّاز بِالْخَاءِ فيهمَا.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا الْحَسَن الْحَلْوَانِيّ قَالَ: سَمِعْت يَزِيد بْن هَارُون وَذَكَرَ زِيَاد بْن مَيْمُون فَقَالَ: حَلَفْت أَنْ لَا أَرْوِيَ عَنْهُ شَيْئًا وَلَا عَنْ خَالِد بْن مَحْدُوج قَالَ: لَقِيت زِيَاد بْن مَيْمُون فَسَأَلْته عَنْ حَدِيث فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ بَكْر الْمُزَنِيِّ، ثُمَّ عُدْت إِلَيْهِ فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ مُوَرِّق ثُمَّ عُدْت إِلَيْهِ فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ الْحَسَن. وَكَانَ يَنْسُبُهُمَا إِلَى الْكَذِب) أَمَّا (مَحْدُوجٌ) فَبِمِيمٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ حَاء سَاكِنَة ثُمَّ دَالٍ مَضْمُومَة مُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ وَاوٍ ثُمَّ جِيمٍ، و(خَالِدٌ) هَذَا وَاسِطِيّ ضَعِيف، ضَعَّفَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَكُنْيَته أَبُو رَوْحٍ رَأَى أَنَسُ بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَأَمَّا (زِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ) فَبَصْرِيٌّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَمَّارٍ ضَعِيفٌ، قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه: تَرَكُوهُ.
وَأَمَّا (بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ) فَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَإِسْكَانِ الْكَاف وَهُوَ بَكْرُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ بِالزَّايِ أَبُو عَبْد اللَّه الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ الْجَلِيل الْفَقِيه رَحِمَهُ اللَّه.
وَأَمَّا (مُوَرِّق) فَبِضَمِّ الْمِيم وَفَتْحِ الْوَاو وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ مُوَرِّق بْن الْمُشَمْرَج بِضَمِّ الْمِيم الْأُولَى وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيّ أَبُو الْمُعْتَمِرِ التَّابِعِيّ الْجَلِيل الْعَابِد.
وَأَمَّا قَوْله: (وَكَانَ يَنْسُبُهُمَا إِلَى الْكَذِبِ) فَالْقَائِل هُوَ الْحَلْوَانِيّ، وَالنَّاسِب يَزِيد بْن هَارُون، وَالْمَنْسُوبَانِ خَالِدُ بْن مَحْدُوجٍ وَزِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ.
وَأَمَّا قَوْله: (حَلَفْت أَنْ لَا أَرْوِيَ عَنْهُمَا) فَفِعْلُهُ نَصِيحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُبَالَغَة فِي التَّنْفِير عَنْهُمَا لِئَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِهِمَا فَيَرْوِيَ عَنْهُمَا الْكَذِبَ؛ فَيَقَعَ فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبَّمَا رَاجَ حَدِيثُهُمَا فَاحْتُجَّ بِهِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ بِكَذِبِ مَيْمُون لِكَوْنِهِ حَدَّثَهُ بِالْحَدِيثِ عَنْ وَاحِد ثُمَّ عَنْ آخَرَ ثُمَّ عَنْ آخَرَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اِنْضِمَام الْقَرَائِن وَالدَّلَائِل عَلَى الْكَذِب. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (حَدِيث الْعَطَّارَة) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ زِيَاد بْن مَيْمُون هَذَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّ اِمْرَأَةً يُقَال لَهَا: الْحَوْلَاءُ، عَطَّارَة كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلَتْ عَلَى عَائِشَة- رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- وَذَكَرَتْ خَبَرَهَا مَعَ زَوْجِهَا، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَهَا فِي فَضْل الزَّوْج وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، ذَكَرَهُ اِبْن وَضَّاحٍ بِكَمَالِهِ وَيُقَال: إِنَّ هَذِهِ الْعَطَّارَة هِيَ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْت.
قَوْله: (فَأَنَا لَقِيت زِيَاد بْن مَيْمُون وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ) فَعَبْد الرَّحْمَن مَرْفُوع مَعْطُوف عَلَى الضَّمِير فِي قَوْله لَقِيت.
قَوْله: (إِنْ كَانَ لَا يَعْلَم النَّاس فَأَنْتُمَا لَا تَعْلَمَانِ أَنِّي لَمْ أَلْقَ أَنَسًا) هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول فَأَنْتُمَا لَا تَعْلَمَانِ وَمَعْنَاهُ فَأَنْتُمَا تَعْلَمَانِ فَيَجُوز أَنْ تَكُونَ لَا زَائِدَةً، وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَفَأَنْتُمَا لَا تَعْلَمَانِ وَيَكُون اِسْتِفْهَامَ تَقْرِيرٍ وَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ.
قَوْله: (سَمِعْت شَبَابَة يَقُول: كَانَ عَبْدُ الْقُدُّوسِ يُحَدِّثنَا فَيَقُول: سُوَيْد بْن قَالَ شَبَابَة: وَسَمِعْت عَبْدَ الْقُدُّوسِ يَقُول: نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ الرَّوْحُ عَرْضًا قَالَ: فَقِيلَ لَهُ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: يَعْنِي يُتَّخَذُ كَوَّةٌ فِي حَائِطِهِ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الرَّوْحُ) الْمُرَاد بِهَذَا الْمَذْكُور بَيَانُ تَصْحِيفِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ وَغَبَاوَتِهِ وَاخْتِلَالِ ضَبْطِهِ وَحُصُولِ الْوَهْمِ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ، فَأَمَّا الْإِسْنَاد فَإِنَّهُ قَالَ: سُوَيْد بْن غَقَلَة بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَالْقَافِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ ظَاهِرٌ وَخَطَأٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ غَفَلَة بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْمَتْن فَقَالَ: الرَّوْحُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَعَرْضًا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الرَّاء وَهُوَ تَصْحِيف قَبِيح وَخَطَأ صَرِيح، وَصَوَابُهُ الرُّوحُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَغَرَضًا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمَفْتُوحَتَيْنِ. وَمَعْنَاهُ: نَهَى أَنْ نَتَّخِذ الْحَيَوَان الَّذِي فيه الرُّوح غَرَضًا أَيْ هَدَفًا لِلرَّمْيِ فَيُرَبَّى إِلَيْهِ بِالنُّشَّابِ وَشِبْهِهِ، وَسَيَأْتِي إِيضَاح هَذَا الْحَدِيث وَبَيَان فِقْهِهِ فِي كِتَاب الصَّيْد وَالذَّبَائِح إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا (شَبَابَة) فَتَقَدَّمَ بَيَان اِسْمِهِ وَضَبْطِهِ.
وَأَمَّا (الْكَوَّة) فَبِفَتْحِ الْكَاف عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: وَحُكِيَ فيها الضَّمُّ.
وَقَوْله (لِيَدْخُل عَلَيْهِ الرَّوْحُ) أَيْ النَّسِيمُ.
قَوْله: (قَالَ حَمَّاد بَعْدَمَا جَلَسَ مَهْدِيّ بْن هِلَال: مَا هَذِهِ الْعَيْنُ الْمَالِحَةُ الَّتِي نَبَعَتْ قِبَلَكُمْ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا إِسْمَاعِيل) أَمَّا (مَهْدِيّ) هَذَا: فَمُتَّفَق عَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ النَّسَائِيُّ هُوَ بَصْرِيّ مَتْرُوك يَرْوِي عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد وَيُونُس بْن عُبَيْد.
وَقَوْله: (الْعَيْنُ الْمَالِحَةُ) كِنَايَةٌ عَنْ ضَعْفِهِ وَجَرْحِهِ.
وَقَوْله: (قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا إِسْمَاعِيل) كَأَنَّهُ وَافَقَهُ عَلَى جَرْحِهِ، وَأَبُو إِسْمَاعِيل كُنْيَةُ حَمَّاد بْن زَيْد.
قَوْله: (سَمِعْت أَبَا عَوَانَة قَالَ: مَا بَلَغَنِي عَنْ الْحَسَن حَدِيثٌ إِلَّا أَتَيْت بِهِ أَبَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاش فَقَرَأَهُ عَلَيَّ) أَمَّا (أَبُو عَوَانَة) فَاسْمه الْوَضَّاحُ بْن عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَان يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ وَالصَّرْفُ أَجْوَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَبِي عَوَانَة وَأَبَان، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ الْحَسَن بِكُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ.
قَوْله: (إِنَّ حَمْزَة الزَّيَّات رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَام فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا سَمِعَهُ مِنْ أَبَانَ فَمَا عَرَفَ مِنْهُ إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا وَمِثْله اِسْتِئْنَاس وَاسْتِظْهَار عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ ضَعْفِ أَبَانَ لَا أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَمْرِ الْمَنَام وَلَا أَنَّهُ تَبْطُلُ بِسَبَبِهِ سُنَّةٌ ثَبَتَتْ وَلَا تَثْبُتُ بِهِ سُنَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء، هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرهمْ فَنَقَلُوا الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَيَّرُ بِسَبَبِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ مَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ. وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَام فَقَدْ رَآنِي». فَإِنَّ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ رُؤْيَتَهُ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ وَتَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ وَلَكِنْ لَا يَجُوز إِثْبَات حُكْم شَرْعِيّ بِهِ لِأَنَّ حَالَة النَّوْم لَيْسَتْ حَالَةَ ضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ لِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي، وَقَدْ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَشَهَادَتُهُ أَنْ يَكُون مُتَيَقِّظًا لَا مُغَفَّلًا وَلَا سَيِّئَ الْحِفْظِ وَلَا كَثِيرَ الْخَطَأِ وَلَا مُخْتَلَّ الضَّبْطِ، وَالنَّائِم لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَة فَلَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ لِاخْتِلَالِ ضَبْطِهِ، هَذَا كُلّه فِي مَنَام يَتَعَلَّق بِإِثْبَاتِ حُكْمٍ عَلَى خِلَاف مَا يَحْكُمُ بِهِ الْوُلَاةُ، أَمَّا إِذَا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ بِفِعْلِ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ يُرْشِدُهُ إِلَى فِعْلِ مَصْلَحَة فَلَا خِلَاف فِي اِسْتِحْبَاب الْعَمَل عَلَى وَفْقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ الْمَنَام بَلْ تَقَرَّرَ مِنْ أَصْل ذَلِكَ الشَّيْء. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا الدَّارِمِيُّ) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى دَارِمَ.
وَأَمَّا (أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ) فَبِفَتْحِ الْفَاءِ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن الْحَسَنِ بْن أَسْمَاءَ بْن جَارِحَةَ الْكُوفِيُّ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْمُجْمَع عَلَى جَلَالَته وَتَقَدُّمِهِ فِي الْعِلْم وَفَضِيلَتِهِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ: اُكْتُبْ عَنْ بَقِيَّةَ مَا رَوَى عَنْ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَا تَكْتُبْ عَنْهُ مَا رَوَى عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَا تَكْتُبْ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش مَا رَوَى عَنْ الْمَعْرُوفِينَ وَلَا غَيْرهمْ) هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ فِي إِسْمَاعِيل خِلَافُ قَوْل جُمْهُور الْأَئِمَّة، قَالَ عَبَّاس: سَمِعْت يَحْيَى بْن مَعِين يَقُول: إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش ثِقَة وَكَانَ أَحَبَّ إِلَى أَهْل الشَّام مِنْ بَقِيَّةَ، وَقَالَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ: سَمِعْت يَحْيَى بْن مَعِين يَقُول: هُوَ ثِقَةٌ، وَالْعِرَاقِيُّونَ يَكْرَهُونَ حَدِيثه وَقَالَ الْبُخَارِيّ: مَا رُوِيَ عَنْ الشَّامِيِّينَ أَصَحُّ، وَقَالَ عَمْرو بْن عَلِيّ: إِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْل بِلَاده فَصَحِيحٌ، وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْل الْمَدِينَة مِثْل هِشَام بْن عُرْوَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد وَسُهَيْل بْن أَبِي صَالِح فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ يَعْقُوب بْن سُفْيَان: كُنْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: عِلْمُ الشَّام عِنْد إِسْمَاعِيلَ بْن عَيَّاشٍ وَالْوَلِيدِ بْن مُسْلِمٍ، قَالَ يَعْقُوب: وَتَكَلَّمَ قَوْم فِي إِسْمَاعِيل، وَهُوَ ثِقَة عَدْل أَعْلَمُ النَّاس بِحَدِيثِ الشَّام، وَلَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، وَأَكْثَرُ مَا تَكَلَّمُوا قَالُوا: يُغْرِبُ عَنْ ثِقَات الْمَكِّيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ، وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: إِسْمَاعِيل ثِقَة فِيمَا رَوَى عَنْ الشَّامِيِّينَ، وَأَمَّا رِوَايَته عَنْ أَهْل الْحِجَاز فَإِنَّ كِتَابَهُ ضَاعَ فَخَلَطَ فِي حِفْظِهِ عَنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ لَيِّنٌ يَكْتُب حَدِيثَهُ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَفَّ عَنْهُ إِلَّا أَبَا إِسْحَاقَ الْفَزَارِيَّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَصْلَحُ مِنْ بَقِيَّةَ فَإِنَّ لِبَقَيَّةَ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، وَقَالَ أَحْمَد بْن أَبِي الْحَوَارِيّ: قَالَ لِي وَكِيعٌ: يَرْوُونَ عِنْدَكُمْ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، فَقُلْت: أَمَّا الْوَلِيد وَمَرْوَان فَيَرْوِيَانِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْهَيْثَمُ بْن خَارِجَةَ وَمُحَمَّدُ بْن إِيَاسٍ فَلَا، فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ الْهَيْثَمُ وَابْن إِيَاسٍ إِنَّمَا أَصْحَاب الْبَلَد الْوَلِيد وَمَرْوَان، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِيّ قَالَ سَمِعْت بَعْض أَصْحَاب عَبْد اللَّه قَالَ: قَالَ اِبْن الْمُبَارَك: نِعْمَ الرَّجُلُ بَقِيَّةُ لَوْلَا أَنَّهُ يَكْنِي الْأَسَامِيَ وَيُسَمِّي الْكُنَى، كَانَ دَهْرًا يُحَدِّثنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْوُحَاظِيّ فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ عَبْدُ الْقُدُّوسِ) قَوْله: (سَمِعْت بَعْض أَصْحَاب عَبْد اللَّه) هَذَا مَجْهُول وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مُتَابَعَةً لَا أَصْلًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكِتَاب نَظِير هَذَا وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ إِدْخَالِهِ هُنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (يَكْنِي الْأَسَامِيَ وَيُسَمِّي الْكُنَى) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا رَوَى عَنْ إِنْسَانٍ مَعْرُوفٍ بِاسْمِهِ كَنَاهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَإِذَا رَوَى عَنْ مَعْرُوفٍ بِكُنْيَتِهِ سَمَّاهُ وَلَمْ يَكْنِهِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ التَّدْلِيس وَهُوَ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ فَإِنَّهُ يُلَبِّسُ أَمْرَهُ عَلَى النَّاس وَيُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّاوِيَ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الضَّعِيفَ فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَرْحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَعَلَى تَرْكِهِ إِلَى حَالَةِ الْجَهَالَةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاء؛ بَلْ يَحْتَجُّونَ لِصَاحِبِهَا وَتُفْضِي تَوَقُّفًا عَنْ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ عِنْد الْآخَرِينَ، وَقَدْ يَعْتَضِدُ الْمَجْهُولُ فَيُحْتَجُّ بِهِ أَوْ يُرَجَّحُ بِهِ غَيْرُهُ أَوْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ. وَأَقْبَحُ هَذَا النَّوْع أَنْ يَكُنِي الضَّعِيف، أَوْ يُسَمِّيَهُ بِكُنْيَةِ الثِّقَة أَوْ بِاسْمِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَشُهْرَة الثِّقَة بِهِ فَيُوهِمُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْم التَّدْلِيس وَبَسْطَهُ فِي الْفُصُول الْمُتَقَدِّمَة وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (الْوُحَاظِيّ) فَبِضَمِّ الْوَاو وَتَخْفِيفِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَة وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع وَغَيْره فَتْحَ الْوَاو أَيْضًا، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيُّ: بَطْنٌ مِنْ حِمْيَر، وَعَبْد الْقُدُّوس هَذَا هُوَ الشَّامِيّ الَّذِي تَقَدَّمَ تَضْعِيفُهُ وَتَصْحِيفه وَهُوَ عَبْد الْقُدُّوس بْن حَبِيب الْكَلَاعِيُّ بِفَتْحِ الْكَافِ أَبُو سَعِيدٍ الشَّامِيّ فَهُوَ.
قَوْل الدَّارِمِيِّ: (سَمِعْت أَبَا نُعَيْمٍ وَذَكَرَ الْمُعَلَّى بْن عُرْفَان فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِل قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا اِبْن مَسْعُود بِصِفِّينَ فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: أَتُرَاهُ بُعِثَ بَعْد الْمَوْت) مَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّ الْمُعَلَّى كَذَبَ عَلَى أَبِي وَائِل فِي قَوْله هَذَا؛ لِأَنَّ اِبْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تُوُفِّيَ سَنَة اِثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهَذَا قَبْل اِنْقِضَاء خِلَافَة عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَصِفِّينَ كَانَتْ فِي خِلَافَة عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَعْد ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ فَلَا يَكُون اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ بِصِفِّينَ إِلَّا أَنْ يَكُون بُعِثَ بَعْد الْمَوْت وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بَعْد الْمَوْت، وَأَبُو وَائِل مَعَ جَلَالَته وَكَمَالِ فَضِيلَتِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَالِاتِّفَاق عَلَى صِيَانَته لَا يَقُول خَرَجَ عَلَيْنَا مَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ، هَذَا مَا لَا شَكَّ فيه فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ مِنْ الْمُعَلَّى بْن عُرْفَان مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ ضَعْفِهِ.
وَقَوْله: (أَتُرَاهُ) هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَمَعْنَاهُ أَتَظُنُّهُ.
وَأَمَّا (صِفِّين) فَبِكَسْرِ الصَّاد وَالْفَاء الْمُشَدَّدَة وَبَعْدهَا يَاء فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث: الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَة الْمَشْهُورَة وَفيها لُغَةٌ أُخْرَى حَكَاهَا أَبُو عُمَر الزَّاهِد عَنْ ثَعْلَب عَنْ الْفَرَّاء، وَحَكَاهَا صَاحِب الْمَطَالِع وَغَيْره مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْوَاوِ فِي حَال الرَّفْع، وَهِيَ مَوْضِع الْوَقْعَة بَيْن أَهْل الشَّام وَالْعِرَاق مَعَ عَلِيّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَأَمَّا (عُرْفَان) وَالِد الْمُعَلَّى فَبِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالْفَاءِ هَذَا وَهُوَ الْمَشْهُور، وَحُكِيَ فيه كَسْرُ الْعَيْن، وَبِالْكَسْرِ ضَبَطَهُ الْحَافِظ أَبُو عَامِر الْعَبْدَرِيّ، وَالْمُعَلَّى هَذَا أَسَدِيّ كُوفِيّ ضَعِيف، قَالَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه فِي تَارِيخه: هُوَ مُنْكَر الْحَدِيث، وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا (أَبُو نُعَيْمٍ) فَهُوَ الْفَضْل بْن دُكَيْن بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، لَقَب وَاسْمه عَمْرو بْن حَمَّاد بْن زُهَيْر وَأَبُو نُعَيْم كُوفِيّ مِنْ أَجَلِّ أَهْل زَمَانه وَمِنْ أَتْقَنِهِمْ رَحِمَهُ اللَّه.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: (وَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر الدَّارِمِيّ) اِسْم جَعْفَر هَذَا أَحْمَد بْن سَعِيد بْن صَخْر النَّيْسَابُورِيّ، كَانَ ثِقَة عَالِمًا ثَبْتًا مُتْقِنًا أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَيَّامِهِ الرِّحْلَةَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ.
قَوْله: (صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَة) هُوَ بِتَاءٍ مُثَنَّاة مِنْ فَوْق ثُمَّ وَاو سَاكِنَة ثُمَّ هَمْزَة مَفْتُوحَة قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا صَوَابهَا، قَالَ: وَقَدْ يُسَهَّل فَتُفْتَحُ الْوَاوُ وَيُنْقَلُ إِلَيْهَا حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَمَنْ ضَمَّ التَّاءَ وَهَمَزَ الْوَاوَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَهِيَ رِوَايَة أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَالرُّوَاةِ وَكَمَا قَيَّدْنَاهُ أَوَّلًا قَيَّدَهُ أَصْحَاب الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَكَذَلِكَ أَتْقَنَاهُ عَلَى أَهْل الْمَعْرِفَة مِنْ شُيُوخنَا، قَالَ: وَالتَّوْأَمَة هَذِهِ هِيَ بِنْت أُمَيَّة بْن خَلَف الْجُمَحِيِّ قَالَهُ الْبُخَارِيّ وَغَيْره، قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَكَانَتْ مَعَ أُخْت لَهَا فِي بَطْن وَاحِد فَلِذَلِكَ قِيلَ: التَّوْأَمَة وَهِيَ مَوْلَاة أَبِي صَالِحٍ، وَأَبُو صَالِحٍ هَذَا اِسْمُهُ نَبْهَان، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي، ثُمَّ إِنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّه حَكَمَ بِضَعْفِ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَة وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ ثِقَة، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ يَحْيَى ابْن مَعِين: صَالِح هَذَا ثِقَة حُجَّة فَقِيلَ: إِنَّ مَالِكًا تَرَكَ السَّمَاع مِنْهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَدْرَكَهُ مَالِكٌ بَعْدَمَا كَبِرَ وَخَرِفَ وَكَذَلِكَ الثَّوْرِيّ إِنَّمَا أَدْرَكَهُ بَعْد أَنْ خَرِفَ فَسَمِعَ مِنْهُ أَحَادِيثَ مُنْكَرَاتٍ، وَلَكِنْ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ فَهُوَ ثَبْتٌ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَد بْن عَدِيّ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا سَمِعُوا مِنْهُ قَدِيمًا مِثْل اِبْن أَبِي ذِئْب وَابْن جُرَيْجٍ وَزِيَاد بْن سَعْد وَغَيْرهمْ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: صَالِح هَذَا ضَعِيف، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم بْن حَيَّانَ: تَغَيَّرَ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَة فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَة، وَاخْتَلَطَ حَدِيثُهُ الْأَخِيرُ بِحَدِيثِهِ الْقَدِيمِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (أَبُو الْحُوَيْرِث) الَّذِي قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَةٍ فَهُوَ بِضَمِّ الْحَاء وَاسْمه عَبْد الرَّحْمَن بْن مُعَاوِيَة بْن الْحُوَيْرِث الْأَنْصَارِيّ الزُّرَقِيّ الْمَدَنِيّ، قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَدَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدهمْ، وَأَنْكَرَ أَحْمَد بْن حَنْبَل قَوْل مَالِك: إِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَةٍ.
وَقَالَ: رَوَى عَنْهُ شُعْبَة. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فيه، قَالَ: وَكَانَ شُعْبَة يَقُول فيه: أَبُو الْجُوَيْرِيَّةِ، وَحَكَى الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد هَذَا الْقَوْل ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ وَهْمٌ.
وَأَمَّا (شُعْبَة) الَّذِي رَوَى عَنْهُ اِبْن أَبِي ذِئْبٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ هُوَ بِثِقَةٍ- فَهُوَ شُعْبَة الْقُرَشِيّ الْهَاشِمِيّ الْمَدَنِيّ أَبُو عَبْد اللَّه، وَقِيلَ: أَبُو يَحْيَى، مَوْلَى اِبْن عَبَّاس، سَمِعَ اِبْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ضَعَّفَهُ كَثِيرُونَ مَعَ مَالِكٍ وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَيَحْيَى بْن مَعِين: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، قَالَ اِبْن عَدِيّ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا.
وَأَمَّا (اِبْن أَبِي ذِئْب) فَهُوَ السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْمُغِيرَة بْن الْحَارِث بْن أَبِي ذِئْب وَاسْمه هِشَام بْن شُعْبَة بْن عَبْد اللَّه الْقُرَشِيّ الْعَامِرِيّ الْمَدَنِيّ فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى جَدِّ جَدِّهِ، وَأَمَّا (حَرَامُ بْن عُثْمَانَ) الَّذِي قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ هُوَ بِثِقَةٍ فَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَبِالرَّاءِ، قَالَ الْبُخَارِيّ: هُوَ أَنْصَارِيّ سُلَمِيّ مُنْكَر الْحَدِيث، قَالَ الزُّبَيْر: كَانَ يَتَشَيَّع رَوَى عَنْ اِبْن جَابِر بْن عَبْد اللَّه، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هُوَ مَدَنِيٌّ ضَعِيفٌ.
قَوْله: (وَسَأَلْته- يَعْنِي مَالِكًا- عَنْ رَجُل فَقَالَ: لَوْ كَانَ ثِقَةً لَرَأَيْته فِي كُتُبِي) هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي كِتَابه فَهُوَ ثِقَةٌ، فَمَنْ وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِهِ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ ثِقَة عِنْد مَالِكٍ، وَقَدْ لَا يَكُون ثِقَةً عِنْد غَيْره.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي رِوَايَة الْعَدْل عَنْ مَجْهُول هَلْ يَكُون تَعْدِيلًا لَهُ؟ فَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّهُ تَعْدِيل، وَذَهَبَ الْجَمَاهِير إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْوِي عَنْ غَيْر الثِّقَة لَا لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ لِلِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِشْهَاد أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا قَالَ: مِثْل قَوْل مَالِك أَوْ نَحْوه فَمَنْ أَدْخَلَهُ فِي كِتَابه فَهُوَ عِنْده عَدْلٌ، أَمَّا إِذَا قَالَ أَخْبَرَنِي الثِّقَة؛ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي التَّعْدِيل عِنْد مَنْ يُوَافِق الْقَائِل فِي الْمَذْهَب وَأَسْبَاب الْجَرْح عَلَى الْمُخْتَار فَأَمَّا مَنْ لَا يُوَافِقُهُ أَوْ يُجْهَلُ حَالُهُ فَلَا يَكْفِي فِي التَّعْدِيل فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون فيه سَبَبُ جَرْحٍ لَا يَرَاهُ الْقَائِل جَارِحًا وَنَحْنُ نَرَاهُ جَارِحًا؛ فَإِنَّ أَسْبَابَ الْجَرْحِ تَخْفَى وَمُخْتَلَفٌ فيها، وَرُبَّمَا لَوْ ذَكَرَ اِسْمَهُ اِطَّلَعْنَا فيه عَلَى جَارِحٍ.
قَوْله: (عَنْ شُرَحْبِيل بْن سَعْد وَكَانَ مُتَّهَمًا) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ شُرَحْبِيلَ اِسْمٌ عَجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِف، وَكَانَ شُرَحْبِيل هَذَا مِنْ أَئِمَّة الْمَغَازِي، قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ بِالْمَغَازِي فَاحْتَاجَ، وَكَانُوا يَخَافُونَ إِذَا جَاءَ إِلَى الرَّجُلِ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطِهِ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يَشْهَدْ أَبُوك بَدْرًا، قَالَ غَيْرُ سُفْيَانَ: كَانَ شُرَحْبِيلُ مَوْلًى لِلْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ كُنْيَته أَبُو سَعْدٍ، قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: كَانَ شَيْخًا قَدِيمًا رَوَى عَنْ زَيْد بْن ثَابِت وَعَامَّة أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى اِخْتَلَطَ، وَاحْتَاجَ حَاجَةً شَدِيدَةً، وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِهِ.
قَوْله: (اِبْن قُهْزَاذ عَنْ الطَّالَقَانِيّ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُمَا فِي الْبَاب الَّذِي قَبْل هَذَا.
قَوْله: (لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّة وَبَيْن أَنْ أَلْقَى عَبْدَ اللَّهِ بْن مُحَرَّرٍ لَاخْتَرْت أَنْ أَلْقَاهُ ثُمَّ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ).
و: (مُحَرَّرٌ) بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَبِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَة الْأُولَى مَفْتُوحَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
قَوْله: (قَالَ زَيْد يَعْنِي اِبْن أَبِي أُنَيْسَة، لَا تَأْخُذُوا عَنْ أَخِي) أَمَّا (أُنَيْسَة) فَبِضَمِّ الْهَمْزَة وَفَتْحِ النُّونِ، وَاسْمُ أَبِي أُنَيْسَة زَيْدٌ، وَأَمَّا الْأَخ الْمَذْكُور فَاسْمه (يَحْيَى) وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ الزُّهْرِيّ، وَعَمْرو بْن شُعَيْب، وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ الْبُخَارِيّ: لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيف مَتْرُوك الْحَدِيث، وَأَمَّا أَخُوهُ زَيْد فَثِقَةٌ جَلِيلٌ اِحْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، قَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: كَانَ ثِقَةً، كَثِيرَ الْحَدِيثِ، فَقِيهًا رَاوِيَةً لِلْعِلْمِ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد السَّلَام) أَمَّا (الدَّوْرَقِيّ) فَتَقَدَّمَ بَيَانه فِي وَسَطِ هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا (...) فَبِكَسْرِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَة وَهُوَ عَبْدُ السَّلَامِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن صَخْرِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن وَابِصَةَ بْن مَعْبَدٍ، الْأَسَدِيُّ، أَبُو الْفَضْلِ الرَّقِّيّ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- قَاضِي الرَّقَّة وَحَرَّان وَحَلَب وَقَضَى بِبَغْدَاد.
قَوْله: (ذَكَرَ فَرْقَد عِنْد أَيُّوب فَقَالَ: لَيْسَ بِصَاحِبِ حَدِيث) و(فَرْقَد) بِفَتْحِ الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَفَتْحِ الْقَاف وَهُوَ فَرْقَد بْن يَعْقُوب السَّبَخِيّ بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَالْمُوَحَّدَة وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة- مَنْسُوب إِلَى سَبَخَةِ الْبَصْرَة، أَبُو يَعْقُوب، التَّابِعِيّ الْعَابِد، لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ عِنْد أَهْل الْحَدِيث؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ صَنْعَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْله: لَمْ نَرَ الصَّالِحِينَ فِي شَيْء أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين فِي رِوَايَة عَنْهُ: ثِقَةٌ.
قَوْله: (فَضَعَّفَهُ جِدًّا) هُوَ بِكَسْرِ الْجِيم وَهُوَ مَصْدَرُ جَدَّ يَجِدُّ جِدًّا وَمَعْنَاهُ: تَضْعِيفًا بَلِيغًا.
قَوْله: (سَمِعْت يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان ضَعَّفَ حَكِيم بْن جُبَيْر، وَعَبْد الْأَعْلَى، وَضَعَّفَ يَحْيَى بْن مُوسَى بْن دِينَار، وَقَالَ: حَدِيثه رِيحٌ. وَضَعَّفَ مُوسَى بْن الدِّهْقَان، وَعِيسَى بْن أَبِي عِيسَى الْمَدَنِيّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول كُلِّهَا وَضَعَّفَ يَحْيَى بْن مُوسَى بِإِثْبَاتِ لَفْظَةِ (بْن) بَيْنَ يَحْيَى وَمُوسَى، وَهُوَ غَلَطٌ بِلَا شَكٍّ. وَالصَّوَاب حَذْفُهَا. كَذَا قَالَهُ الْحُفَّاظ؛ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ الْجَيَّانِيّ وَجَمَاعَاتٌ آخَرُونَ. وَالْغَلَط فيه مِنْ رُوَاة كِتَاب مُسْلِم، لَا مِنْ مُسْلِم. وَيَحْيَى هُوَ اِبْن سَعِيد الْقَطَّان الْمَذْكُور أَوَّلًا فَضَعَّفَ يَحْيَى بْن سَعِيد حَكِيم بْن جُبَيْرٍ، وَعَبْدَ الْأَعْلَى، وَمُوسَى بْن دِينَارٍ، وَمُوسَى بْن الدِّهْقَانِ، وَعِيسَى. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِمْ.
وَأَقْوَال الْأَئِمَّة فِي تَضْعِيفِهِمْ مَشْهُورَةٌ.
فَأَمَّا (حَكِيم): كُوفِيّ مُتَشَيِّع.
قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ غَالٍ فِي التَّشْيِيع. وَقِيلَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ، وَلِشُعْبَةَ: لِمَ تَرَكْتُمَا حَدِيث حَكِيمٍ؟ قَالَا: نَخَافُ النَّارَ.
وَأَمَّا (عَبْد الْأَعْلَى) فَهُوَ اِبْن عَامِر الثَّعَالِبِيّ- بِالْمُثَلَّثَةِ الْكُوفِيّ.
وَأَمَّا (مُوسَى بْن دِينَار) فَمَكِّيٌّ يَرْوِي عَنْ سَالِمٍ، قَالَهُ النَّسَائِيُّ.
وَأَمَّا (مُوسَى بْن الدِّهْقَانِ) فَبَصْرِيٌّ يَرْوِي عَنْ اِبْن كَعْب بْن مَالِك، وَالدِّهْقَانُ بِكَسْرِ الدَّال.
وَأَمَّا (عِيسَى بْن أَبِي عِيسَى) فَهُوَ عِيسَى بْن مَيْسَرَةَ أَبُو مُوسَى، وَيُقَال أَبُو مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيُّ، الْمَدَنِيّ أَصْلُهُ كُوفِيٌّ يُقَال لَهُ: الْخَيَّاط وَالْحَنَّاط، الْأَوَّلُ إِلَى الْخِيَاطَةِ، وَالثَّانِي إِلَى الْحِنْطَةِ وَالثَّالِثُ إِلَى الْخَبَطِ قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: كَانَ خَيَّاطًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَصَارَ حَنَّاطًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَصَارَ يَبِيعُ الْخَبَطَ.
قَوْله (لَا تَكْتُبْ حَدِيث عُبَيْدَةَ بْن مُعَتِّبٍ وَالسَّرِيّ بْن إِسْمَاعِيل، وَمُحَمَّد بْن سَالِم) هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مَشْهُورُونَ بِالضَّعْفِ وَالتَّرْك فَعُبَيْدَة بِضَمِّ الْعَيْن هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور فِي كُتُبِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَغَيْرِهِمَا. وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع عَنْ بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِضَمِّ الْعَيْن وَفَتْحِهَا. و(مُعَتِّب) بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْرِ الْمُثَنَّاة فَوْق بَعْدهَا مُوَحَّدَة. و(عُبَيْدَة) هَذَا صَبِيّ كُوفِيّ كُنْيَته أَبُو عَبْد الْكَرِيم وَأَمَّا (السَّرِيّ) بِإِسْكَانِ الْمِيم- كُوفِيّ، وَأَمَّا (مُحَمَّد بْن سَالِم) كُوفِيّ أَيْضًا؛ فَاسْتَوَى الثَّلَاثَة فِي كَوْنِهِمْ: كُوفِيِّينَ مَتْرُوكِينَ وَاَللَّه أَعْلَمُ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّه فِي الْأَحَادِيث الضَّعِيفَة: (وَلَعَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَكَاذِيب لَا أَصْل لَهَا) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول الْمُحَقَّقَة مِنْ رِوَايَة الْفُرَاوِيّ عَنْ الْفَارِسِيّ عَنْ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض أَنَّهُ هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْفَارِسِيّ عَنْ، وَأَنَّهَا الصَّوَاب، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَات شُيُوخهمْ عَنْ الْعُذْرِيّ عَنْ الرَّازِيِّ عَنْ (وَأَقَلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا) قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مُخْتَلٌّ مُصَحَّفٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي فيه نَظَرٌ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَم بِكَوْنِهِ تَصْحِيفًا فَإِنَّ لِهَذِهِ الرِّوَايَة وَجْهًا فِي الْجُمْلَة لِمَنْ تَدَبَّرَهَا.
قَوْله: (وَأَهْل الْقَنَاعَة) هِيَ بِفَتْحِ الْقَاف أَيْ الَّذِينَ يُقْنَعُ بِحَدِيثِهِمْ، لِكَمَالِ حِفْظِهِمْ وَإِتْقَانهمْ وَعَدَالَتهمْ.
قَوْله: (وَلَا مَقْنَعَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَالنُّونِ.
(الْجَرْح وَشُرُوطه) فَرْع فِي جُمْلَة الْمَسَائِل وَالْقَوَاعِد الَّتِي تَتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب:
إِحْدَاهَا: اِعْلَمْ أَنَّ جَرْحَ الرُّوَاة جَائِز؛ بَلْ وَاجِب بِالِاتِّفَاقِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَة إِلَيْهِ لِصِيَانَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ؛ بَلْ مِنْ النَّصِيحَة لِلَّهِ تَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَزَلْ فُضَلَاءُ الْأَئِمَّةِ وَأَخْيَارُهُمْ، وَأَهْل الْوَرَع مِنْهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْبَاب عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ ذَكَرْت أَنَا قِطْعَةً صَالِحَة مِنْ كَلَامهمْ فيه فِي أَوَّل شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه ثُمَّ عَلَى الْجَارِح تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَالتَّثَبُّت فيه، وَالْحَذَر مِنْ التَّسَاهُل بِجَرْحِ سَلِيمٍ مِنْ الْجَرْحِ، أَوْ بِنَقْصِ مَنْ لَمْ يَظْهَر نَقْصُهُ؛ فَإِنَّ مَفْسَدَة الْجَرْح عَظِيمَة؛ فَإِنَّهَا غِيبَة مُؤَبَّدَة مُبْطِلَة لِأَحَادِيثِهِ، مُسْقِطَة لِسُنَّةٍ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَادَّة لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَام الدِّين. ثُمَّ إِنَّمَا يَجُوز الْجَرْحُ لِعَارِفٍ بِهِ، مَقْبُول الْقَوْل فيه، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْجَارِح مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَة، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَقْبَل قَوْله فيه؛ فَلَا يَجُوز لَهُ الْكَلَام فِي أَحَد؛ فَإِنْ تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ: وَهَذَا كَالشَّاهِدِ يَجُوزُ جَرْحُهُ لِأَهْلِ الْجَرْح، وَلَوْ عَابَهُ قَائِلٌ بِمَا جُرِّحَ بِهِ أُدِّبَ وَكَانَ غِيبَةً.
الثَّانِيَة: الْجَرْحُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ عَدْلٍ عَارِفٍ بِأَسْبَابِهِ، وَهَلْ يُشْتَرَط فِي الْجَارِح وَالْمُعَدِّلِ الْعَدَدُ؟ فيه خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَالصَّحِيح أَنَّهُ؛ لَا يُشْتَرَط بَلْ يَصِير مَجْرُوحًا أَوْ عَدْلًا بِقَوْلِ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَاب الْخَبَر؛ فَيُقْبَلُ فيه الْوَاحِدُ. وَهَلْ يُشْتَرَط ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ أَمْ لَا؟ اِخْتَلَفُوا فيه؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَكَثِيرُونَ إِلَى اِشْتِرَاطه لِكَوْنِهِ قَدْ يَعُدُّهُ مَجْرُوحًا بِمَا لَا يَجْرَحُ لِخَفَاءِ الْأَسْبَاب وَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاء فيها. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْبَاقِلَّانِيّ فِي آخَرِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط مِنْ الْعَارِف بِأَسْبَابِهِ، وَيُشْتَرَط مِنْ غَيْرِهِ. وَعَلَى مَذْهَب مَنْ اِشْتَرَطَ فِي الْجَرْحِ التَّفْسِيرَ يَقُول: فَائِدَةُ الْجَرْحِ فِيمَنْ جُرِّحَ مُطْلَقًا أَنْ يُتَوَقَّف عَنْ الِاحْتِجَاج بِهِ إِلَى أَنْ يُبْحَث عَنْ ذَلِكَ الْجَرْحِ. ثُمَّ مَنْ وُجِدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّنْ جَرَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ يُحْمَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ جَرْحُهُ مُفَسَّرًا بِمَا يَجْرَحُ، وَلَوْ تَعَارَضَ جَرْحٌ وَتَعْدِيلٌ، قُدِّمَ الْجَرْحُ، عَلَى الْمُخْتَار الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجَمَاهِير، وَلَا فَرْقَ بَيْن أَنْ يَكُون عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَقِيلَ: إِذَا كَانَ الْمُعَدِّلُونَ أَكْثَرَ قُدِّمَ التَّعْدِيلُ، وَالصَّحِيح الْأَوَّل لِأَنَّ الْجَارِح اِطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ جَهِلَهُ الْمُعَدِّلُ.
الثَّالِثَة: قَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّه فِي هَذَا الْبَاب: أَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ الْحَارِث الْأَعْوَر وَشَهِدَ أَنَّهُ كَاذِب. وَعَنْ غَيْره: حَدَّثَنِي فُلَان وَكَانَ مُتَّهَمًا، وَعَنْ غَيْره الرِّوَايَة عَنْ الْمُغَفَّلِينَ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَتْرُوكِينَ. فَقَدْ يُقَال لِمَ حَدَّثَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ عَنْ هَؤُلَاءِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُحْتَجُّ بِهِمْ؟ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رَوَوْهَا لِيَعْرِفُوهَا، وَلِيُبَيِّنُوا ضَعْفَهَا؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ فِي وَقْتٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ، أَوْ يَتَشَكَّكُوا فِي صِحَّتِهَا.
الثَّانِي: أَنَّ الضَّعِيف يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِيُعْتَبَرَ بِهِ أَوْ يُسْتَشْهَدَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي فَصْل الْمُتَابَعَات، وَلَا يُحْتَجّ بِهِ عَلَى اِنْفِرَاده.
الثَّالِث: أَنَّ رِوَايَات الرَّاوِي الضَّعِيف يَكُون فيها الصَّحِيح وَالضَّعِيف وَالْبَاطِل؛ فَيَكْتُبُونَهَا ثُمَّ يُمَيِّزُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْإِتْقَان بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ، وَذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِمْ مَعْرُوف عِنْدهمْ. وَبِهَذَا اِحْتَجَّ سُفْيَان الثَّوْرِيّ رَحِمَهُ اللَّه حِين نَهَى عَنْ الرِّوَايَة عَنْ الْكَلْبِيّ، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ تَرْوِي عَنْهُ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ.
الرَّابِع: أَنَّهُمْ قَدْ يَرْوُونَ عَنْهُمْ أَحَادِيثَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالْقَصَص، وَأَحَادِيث الزُّهْد، وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّق بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِر الْأَحْكَام، وَهَذَا الضَّرْب مِنْ الْحَدِيث يَجُوز عِنْد أَهْل الْحَدِيث وَغَيْرهمْ التَّسَاهُل فيه.
وَرِوَايَة مَا سِوَى الْمَوْضُوع مِنْهُ وَالْعَمَل بِهِ، لِأَنَّ أُصُول ذَلِكَ صَحِيحَة مُقَرَّرَة فِي الشَّرْع مَعْرُوفَة عِنْد أَهْله. وَعَلَى كُلّ حَال فَإِنَّ الْأَئِمَّة لَا يَرْوُونَ عَنْ الضُّعَفَاء شَيْئًا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى اِنْفِرَاده فِي الْأَحْكَام، فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يَفْعَلُهُ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا مُحَقِّقٌ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَأَمَّا فِعْلُ كَثِيرِينَ مِنْ الْفُقَهَاء أَوْ أَكْثَرِهِمْ ذَلِكَ، وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ بِصَوَابٍ، بَلْ قَبِيح جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْرِف ضَعْفَهُ لَمْ يَحِلّ لَهُ أَنْ يَحْتَجّ بِهِ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجّ بِالضَّعِيفِ فِي الْأَحْكَام، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ضَعْفُهُ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَهْجُم عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ مِنْ غَيْر بَحْثٍ عَلَيْهِ بِالتَّفْتِيشِ عَنْهُ إِنْ كَانَ عَارِفًا، أَوْ بِسُؤَالِ أَهْل الْعِلْم بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة: فِي بَيَان أَصْنَاف الْكَاذِبِينَ فِي الْحَدِيث وَحُكْمهمْ وَقَدْ نَقَّحَهَا الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ: الْكَاذِبُونَ ضَرْبَانِ:
أَحَدهمَا: ضَرْبٌ عُرِفُوا بِالْكَذِبِ فِي حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَنْوَاع: مِنْهُمْ: مَنْ يَضَع عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَصْلًا، إِمَّا تَرَافُعًا وَاسْتِخْفَافًا كَالزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَرْجُ لِلدِّينِ وَقَارًا. وَإِمَّا حِسْبَةً بِزَعْمِهِمْ وَتَدَيُّنًا كَجَهَلَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ الَّذِينَ وَضَعُوا الْأَحَادِيث فِي الْفَضَائِل وَالرَّغَائِب، وَإِمَّا إِغْرَابًا وَسُمْعَةً كَفَسَقَةِ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِمَّا تَعَصُّبًا وَاحْتِجَاجًا كَدُعَاةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَمُتَعَصِّبِي الْمَذَاهِب، وَإِمَّا اِتِّبَاعًا لِهَوَى أَهْل الدُّنْيَا فِيمَا أَرَادُوهُ وَطَلَب الْعُذْرِ فِيمَا أَتَوْهُ.
وَقَدْ تَعَيَّنَ جَمَاعَة مِنْ كُلّ طَبَقَة مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَات عِنْد أَهْل الصَّنْعَة وَعِلْم الرِّجَال، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَضَع مَتْن الْحَدِيث، وَلَكِنْ رُبَّمَا وَضَعَ لِلْمَتْنِ الضَّعِيف إِسْنَادًا صَحِيحًا مَشْهُورًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَلِّب الْأَسَانِيد أَوْ يَزِيد فيها، وَيَتَعَمَّد ذَلِكَ إِمَّا لِلْإِغْرَابِ عَلَى غَيْره، وَإِمَّا لِرَفْعِ الْجَهَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْذِب فَيَدَّعِي سَمَاعَ مَا لَمْ يَسْمَعْ، وَلِقَاءَ مَنْ لَمْ يَلْقَ، وَيُحَدِّث بِأَحَادِيثِهِمْ الصَّحِيحَةِ عَنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمِدُ إِلَى كَلَام الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ وَحُكْم الْعَرَب وَالْحُكَمَاء فَيَنْسُبُهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَذَّابُونَ مَتْرُوكُو الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ مَنْ تَجَاسَرَ بِالْحَدِيثِ بِمَا لَمْ يُحَقِّقهُ وَلَمْ يَضْبِطهُ أَوْ هُوَ شَاكٌّ فيه، فَلَا يُحَدِّثُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَقْبَلُ مَا حَدَّثُوا بِهِ. وَلَوْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مَا جَاءُوا بِهِ إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة؛ كَشَاهِدِ الزُّور إِذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ سَقَطَتْ شَهَادَته. وَاخْتُلِفَ هَلْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَته؟ قُلْت: الْمُخْتَار الْأَظْهَرُ قَبُولُ تَوْبَتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاع الْفِسْق. وَحُجَّة مَنْ رَدَّهَا أَبَدًا وَإِنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ التَّغْلِيظُ، وَتَعْظِيمُ الْعُقُوبَةِ فِي هَذَا الْكَذِبِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ».
قَالَ الْقَاضِي وَالضَّرْب الثَّانِي: مَنْ لَا يَسْتَجِيز شَيْئًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي الْحَدِيث، وَلَكِنَّهُ يَكْذِبُ فِي حَدِيث النَّاس، قَدْ عُرِفَ بِذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَتَنْفَعهُ التَّوْبَة، وَيَرْجِعُ إِلَى الْقَبُولِ.
فَأَمَّا مَنْ يَنْدُر مِنْهُ الْقَلِيل مِنْ الْكَذِب، وَلَمْ يُعْرَفْ بِهِ، فَلَا يُقْطَعُ بِجَرْحِهِ بِمِثْلِهِ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ عَلَيْهِ وَالْوَهْمِ، وَإِنْ اِعْتَرَفَ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، مَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ مُسْلِمًا، فَلَا يُجَرَّحُ بِهَذَا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً لِنُدُورِهَا، وَلِأَنَّهَا لَا تَلْحَق بِالْكَبَائِرِ الْمُوبِقَات، وَلِأَنَّ أَكْثَر النَّاس قَلَّمَا يَسْلَمُونَ مِنْ مُوَاقَعَاتِ بَعْضِ الْهَنَاتِ. وَكَذَلِكَ لَا يُسْقِطُهَا كَذِبُهُ فِيمَا هُوَ مِنْ بَاب التَّعْرِيض، أَوْ الْغُلُوّ فِي الْقَوْل؛ إِذْ لَيْسَ بِكَذِبٍ فِي الْحَقِيقَة، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَة الْكَذِب، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُل تَحْت حَدِّ الْكَذِبِ، وَلَا يُرِيد الْمُتَكَلِّمُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ ظَاهِر لَفْظه.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ أُخْتِي». هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه وَقَدْ أَتْقَنَ هَذَا الْفَصْلَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ حِكَايَته) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول ضَرَبْنَا وَهُوَ صَحِيح وَإِنْ كَانَتْ لُغَةً قَلِيلَةً قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَال ضَرَبْت عَنْ الْأَمْر، وَأَضْرَبْت عَنْهُ، بِمَعْنَى كَفَفْت، وَأَعْرَضْت. وَالْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَضْرَبْت بِالْأَلِفِ.
قَوْله: (لَكَانَ رَأْيًا مَتِينًا) أَيْ قَوِيًّا.
قَوْله: (وَإِخْمَال ذِكْرِ قَائِلِهِ) أَيْ: إِسْقَاطه. وَالْخَامِلُ السَّاقِطُ وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (أَجْدَى عَلَى الْأَنَامِ) هُوَ بِالْجِيمِ وَالْأَنَامُ بِالنُّونِ وَمَعْنَاهُ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ. هَذَا هُوَ الصَّوَاب وَالصَّحِيح. وَوَقَعَ فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول أَجْدَى عَنْ الْآثَام بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ؛ فَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَيُقَال فِي الْأَنَام أَيْضًا حَكَاهُ الزُّبَيْدِيّ وَالْوَاحِدِيّ وَغَيْرُهُمَا.
قَوْله: (وَسُوء رَوِيَّتِهِ) بِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، أَيْ: فِكْرِهِ.
قَوْله: (حَتَّى يَكُون عِنْده الْعِلْم بِأَنَّهُمَا قَدْ اِجْتَمَعَا) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول الصَّحِيحَة الْمُعْتَمَدَة (حَتَّى) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق ثُمَّ الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت. وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ (حِينَ) بِالْيَاءِ ثُمَّ بِالنُّونِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.