فصل: باب أَخْذِ الْحَلاَلِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب لَعْنِ آكِلِ الرِّبَا وَمُؤْكِلِهِ:

2994- قَوْله: (سَأَلَ شِبَاك إِبْرَاهِيم) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَة مَكْسُورَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة مُخَفَّفَة.
2995- قَوْله: «لَعَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِل الرِّبَا وَمُوكِله وَكَاتِبه وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ سَوَاء»، هَذَا تَصْرِيح بِتَحْرِيمِ كِتَابَة الْمُبَايَعَة بَيْن الْمُتَرَابِينَ وَالشَّهَادَة عَلَيْهِمَا.
وَفيه: تَحْرِيم الْإِعَانَة عَلَى الْبَاطِل. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب أَخْذِ الْحَلاَلِ وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ:

2996- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَال بَيِّن وَالْحَرَام بَيِّن وَبَيْنهمَا مُشْتَبِهَات لَا يَعْلَمهُنَّ كَثِير مِنْ النَّاس....» إِلَى آخِره، أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى عِظَم وَقْع هَذَا الْحَدِيث، وَكَثْرَة فَوَائِده، وَأَنَّهُ أَحَد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مَدَار الْإِسْلَام.
قَالَ جَمَاعَة: هُوَ ثُلُث الْإِسْلَام، وَأَنَّ الْإِسْلَام يَدُور عَلَيْهِ، وَعَلَى حَدِيث: «الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ»، وَحَدِيث: «مِنْ حُسْن إِسْلَام الْمَرْء تَرْكه مَا لَا يَعْنِيه».
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّخْتِيَانِيّ: يَدُور عَلَى أَرْبَعَة أَحَادِيث: هَذِهِ الثَّلَاثَة، وَحَدِيث: «لَا يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ» وَقِيلَ: حَدِيث: «اِزْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبّك اللَّه، وَازْهَدْ مَا فِي أَيْدِي النَّاس يُحِبّك النَّاس» قَالَ الْعَلَاء: وَسَبَب عَظْم مَوْقِعه أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فيه عَلَى إِصْلَاح الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب وَالْمَلْبَس وَغَيْرهَا، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْك الْمُشْتَبِهَات، فَإِنَّهُ سَبَب لِحِمَايَةِ دِينه وَعِرْضه، وَحَذَرًا مِنْ مُوَاقَعَة الشُّبُهَات، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَل بِالْحُمَّى، ثُمَّ بَيَّنَ أَهَمَّ الْأُمُور، وَهُوَ مُرَاعَاة الْقَلْب فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة...» إِلَى آخِره، فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بِصَلَاحِ الْقَلْب يَصْلُح بَاقِي الْجَسَد، وَبِفَسَادِهِ يَفْسُد بَاقِيه، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَال بَيِّن وَالْحَرَام بَيِّن» فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَشْيَاء ثَلَاثَة أَقْسَام: حَلَال بَيِّن وَاضِح لَا يَخْفَى حِلّه، كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِه وَالزَّيْت وَالْعَسَل وَالسَّمْن وَلَبَن مَأْكُول اللَّحْم وَبَيْضه وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَطْعُومَات، وَكَذَلِكَ الْكَلَام وَالنَّظَر وَالْمَشْي وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات، فيها حَلَال بَيِّن وَاضِح لَا شَكّ فِي حِلّه.
وَأَمَّا الْحَرَام الْبَيِّن فَكَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِير وَالْمَيْتَة وَالْبَوْل وَالدَّم الْمَسْفُوح، وَكَذَلِكَ الزِّنَا وَالْكَذِب وَالْغِيبَة وَالنَّمِيمَة وَالنَّظَر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة وَأَشْبَاه ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُشْتَبِهَات فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاضِحَةِ الْحِلّ وَلَا الْحُرْمَة، فَلِهَذَا لَا يَعْرِفهَا كَثِير مِنْ النَّاس، وَلَا يَعْلَمُونَ حُكْمهَا، وَأَمَّا الْعُلَمَاء فَيَعْرِفُونَ حُكْمهَا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاس أَوْ اِسْتِصْحَاب أَوْ غَيْر ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْء بَيْن الْحِلّ وَالْحُرْمَة، وَلَمْ يَكُنْ فيه نَصّ وَلَا إِجْمَاع، اِجْتَهَدَ فيه الْمُجْتَهِد، فَأَلْحَقهُ بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِهِ صَارَ حَلَالًا، وَقَدْ يَكُون غَيْر خَال عَنْ الِاحْتِمَال الْبَيِّن، فَيَكُون الْوَرَع تَرْكه، وَيَكُون دَاخِلًا فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ اِتَّقَى الشُّبُهَات فَقَدْ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه» وَمَا لَمْ يَظْهَر لِلْمُجْتَهِدِ فيه شَيْء وَهُوَ مُشْتَبَه فَهَلْ يُؤْخَذ بِحِلِّهِ أَمْ بِحُرْمَتِهِ أَمْ يُتَوَقَّف، فيه ثَلَاثَة مَذَاهِب، حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُخَرَّجَة عَلَى الْخِلَاف الْمَذْكُور فِي الْأَشْيَاء قَبْل وُرُود الشَّرْع، وَفيه أَرْبَعَة مَذَاهِب:
الْأَصَحّ: أَنَّهُ لَا يُحْكَم بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَة وَلَا إِبَاحَة وَلَا غَيْرهَا، لِأَنَّ التَّكْلِيف عِنْد أَهْل الْحَقّ لَا يَثْبُت إِلَّا بِالشَّرْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمهَا التَّحْرِيم.
وَالثَّالِث: الْإِبَاحَة.
وَالرَّابِع: التَّوَقُّف. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضه» أَيْ: حَصَلَ لَهُ الْبَرَاءَة لِدِينِهِ مِنْ الذَّمّ الشَّرْعِيّ، وَصَانَ عِرْضه عَنْ كَلَام النَّاس فيه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ مَلِك حِمَى وَإِنْ حِمَى اللَّه مَحَارِمه» مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُلُوك مِنْ الْعَرَب وَغَيْرهمْ يَكُون لِكُلِّ مَلِك مِنْهُمْ حِمَى يَحْمِيه عَنْ النَّاس، وَيَمْنَعهُمْ دُخُوله، فَمَنْ دَخَلَهُ أَوْقَعَ بِهِ الْعُقُوبَة، وَمَنْ اِحْتَاطَ لِنَفْسِهِ لَا يُقَارِب ذَلِكَ الْحِمَى خَوْفًا مِنْ الْوُقُوع فيه، وَلِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا حِمَى وَهِيَ مَحَارِمه، أَيْ: الْمَعَاصِي الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّه، كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْقَذْف وَالْخَمْر وَالْكَذِب وَالْغِيبَة وَالنَّمِيمَة، وَأَكْل الْمَال بِالْبَاطِلِ، وَأَشْبَاه ذَلِكَ، فَكُلّ هَذَا حِمَى اللَّه تَعَالَى مَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاصِي اِسْتَحَقَّ الْعُقُوبَة، وَمَنْ قَارَبَهُ يُوشِك أَنْ يَقَع فيه، فَمَنْ اِحْتَاطَ لِنَفْسِهِ لَمْ يُقَارِبهُ، وَلَا يَتَعَلَّق بِشَيْءٍ يُقَرِّبهُ مِنْ الْمَعْصِيَة، فَلَا يَدْخُل فِي شَيْء مِنْ الشُّبُهَات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَد كُلّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَد كُلّه أَلَا وَهِيَ الْقَلْب» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: أَصْلَحَ الشَّيْء وَفَسَدَ بِفَتْحِ اللَّام وَالسِّين، وَضَمّهمَا، وَالْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر، وَالْمُضْغَة: الْقِطْعَة مِنْ اللَّحْم، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُمْضَغ فِي الْفَم لِصِغَرِهَا، قَالُوا: الْمُرَاد تَصْغِير الْقَلْب بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَد، مَعَ أَنَّ صَلَاح الْجَسَد وَفَسَاده تَابِعَانِ لِلْقَلْبِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: تَأْكِيد عَلَى السَّعْي فِي صَلَاح الْقَلْب وَحِمَايَته مِنْ الْفَسَاد. وَاحْتُجَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْعَقْل فِي الْقَلْب لَا فِي الرَّأْس وَفيه خِلَاف مَشْهُور. وَمَذْهَب أَصْحَابنَا وَجَمَاهِير الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ فِي الْقَلْب، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: هُوَ فِي الدِّمَاغ، وَقَدْ يُقَال فِي الرَّأْس، وَحَكَوْا الْأَوَّل أَيْضًا عَنْ الْفَلَاسِفَة، وَالثَّانِي عَنْ الْأَطِبَّاء: قَالَ الْمَازِرِيّ: وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ؛ بِأَنَّهُ فِي الْقَلْب بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْض فَتَكُون لَهُمْ قُلُوب يَعْقِلُونَ بِهَا} وَقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب} وَبِهَذَا الْحَدِيث، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ صَلَاح الْجَسَد وَفَسَاده تَابِعًا لِلْقَلْبِ، مَعَ أَنَّ الدِّمَاغ مِنْ جُمْلَة الْجَسَد، فَيَكُون صَلَاحه وَفَسَاده تَابِعًا لِلْقَلْبِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلْعَقْلِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ فِي الدِّمَاغ بِأَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الدِّمَاغ فَسَدَ الْعَقْل، وَيَكُون مِنْ فَسَاد الدِّمَاغ الصَّرَع فِي زَعْمهمْ، وَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَجْرَى الْعَادَة بِفَسَادِ الْعَقْل عِنْد فَسَاد الدِّمَاغ مَعَ أَنَّ الْعَقْل لَيْسَ فيه، وَلَا اِمْتِنَاع مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَازِرِيّ: لاسيما عَلَى أُصُولهمْ فِي الِاشْتِرَاك الَّذِي يَذْكُرُونَهُ بَيْن الدِّمَاغ وَالْقَلْب، وَهُمْ يَجْعَلُونَ بَيْن الرَّأْس وَالْمَعِدَة وَالدِّمَاغ اِشْتِرَاكًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ: «سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول، وَأَهْوَى النُّعْمَان بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ» هَذَا تَصْرِيح بِسَمَاعِ النُّعْمَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي قَالَهُ أَهْل الْعِرَاق، وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: إِنَّ أَهْل الْمَدِينَة لَا يُصِحُّونَ سَمَاع النُّعْمَان مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ حِكَايَة ضَعِيفَة أَوْ بَاطِلَة، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَام» يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنَّهُ مِنْ كَثْرَة تَعَاطِيه الشُّبُهَات يُصَادِف الْحَرَام، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدهُ، وَقَدْ يَأْثَم بِذَلِكَ إِذَا نُسِبَ إِلَى تَقْصِير.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَاد التَّسَاهُل، وَيَتَمَرَّن عَلَيْهِ، وَيَجْسُر عَلَى شُبْهَة ثُمَّ شُبْهَة أَغْلَظ مِنْهَا، ثُمَّ أُخْرَى أَغْلَظ، وَهَكَذَا حَتَّى يَقَع فِي الْحَرَام عَمْدًا، وَهَذَا نَحْو قَوْل السَّلَف: الْمَعَاصِي بَرِيد الْكُفْر، أَيْ تَسُوق إِلَيْهِ. عَافَانَا اللَّه تَعَالَى مِنْ الشَّرّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِك أَنْ يَقَع فيه» يُقَال: أَوْشَكَ يُوشِك بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الشِّين، أَيْ: يُسْرِع وَيَقْرَب.
قَوْله: (أَتَمَّ مِنْ حَدِيثهمْ وَأَكْبَر) هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَفِي كَثِير مِنْ النُّسَخ بِالْمُثَلَّثَةِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب بَيْعِ الْبَعِيرِ وَاسْتِثْنَاءِ رُكُوبِهِ:

فيه حَدِيث جَابِر، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَد وَمَنْ وَافَقَهُ فِي جَوَاز بَيْع الدَّابَّة وَيَشْتَرِط الْبَائِع لِنَفْسِهِ رُكُوبهَا.
وَقَالَ مَالِك: يَجُوز ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَسَافَة الرُّكُوب قَرِيبَة، وَحُمِلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى هَذَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ: لَا يَجُوز ذَلِكَ سَوَاء قَلَّتْ الْمَسَافَة أَوْ كَثُرَتْ، وَلَا يَنْعَقِد الْبَيْع، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ السَّابِق فِي النَّهْي عَنْ بَيْع الثُّنْيَا، وَبِالْحَدِيثِ الْآخَر فِي النَّهْي عَنْ بَيْع وَشَرْط، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث جَابِر بِأَنَّهَا قَضِيَّة عَيْن تَتَطَرَّق إِلَيْهَا اِحْتِمَالَات، قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيه الثَّمَن، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَة الْبَيْع. قَالُوا: وَيُحْتَمَل أَنَّ الشَّرْط لَمْ يَكُنْ فِي نَفْس الْعَقْد، وَإِنَّمَا يَضُرّ الشَّرْط إِذَا كَانَ فِي نَفْس الْعَقْد، وَلَعَلَّ الشَّرْط كَانَ سَابِقًا فَلَمْ يُؤَثِّر، ثُمَّ تَبَرَّعَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرْكَابِهِ.
2997- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (بِوُقِيَّةٍ) وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة سَبَقَتْ مِرَارًا، وَيُقَال: (أُوقِيَّة) وَهِيَ أَشْهَر. وَفيه: أَنَّهُ لَا بَأْس بِطَلَبِ الْبَيْع مِنْ مَالِك السِّلْعَة، وَإِنْ لَمْ يَعْرِضهَا لِلْبَيْعِ.
قَوْله: «وَاسْتَثْنَيْت عَلَيْهِ حُمْلَانه» هُوَ بِضَمِّ الْحَاء أَيْ الْحَمْل عَلَيْهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَانِي مَاكِسَتك؟» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمُمَاكَسَة: هِيَ الْمُكَالَمَة فِي النَّقْص مِنْ الثَّمَن، وَأَصْلهَا النَّقْص، وَمِنْهُ مَكْس الظَّالِم، وَهُوَ مَا يَنْتَقِصهُ وَيَأْخُذهُ مِنْ أَمْوَال النَّاس.
قَوْله: «فَبِعْته بِوُقِيَّةٍ»، وَفِي رِوَايَة: «بِخَمْسِ أَوَاقٍ وَزَادَنِي أُوقِيَّة»، وَفِي بَعْضهَا: «بِأُوقَتَيْنِ وَدِرْهَم أَوْ دِرْهَمَيْنِ»، وَفِي بَعْضهَا: «بِأُوقِيَّةِ ذَهَب»، وَفِي بَعْضهَا: «بِأَرْبَعَةِ دَنَانِير» وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَيْضًا اِخْتِلَاف الرِّوَايَات، وَزَادَ: «بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَم»، وَفِي رِوَايَة: «بِعِشْرِينَ دِينَارًا»، وَفِي رِوَايَة: «أَحْسِبهُ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ» قَالَ الْبُخَارِيّ: وَقَوْل الشَّعْبِيّ: بِوُقِيَّةٍ أَكْثَر، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ أَبُو جَعْفَر الدَّاوُدِيّ: أُوقِيَّة الذَّهَب قَدْرهَا مَعْلُوم، وَأُوقِيَّة الْفِضَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قَالَ: وَسَبَب اِخْتِلَاف هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّهُمْ رُوُوا بِالْمَعْنَى، وَهُوَ جَائِز، فَالْمُرَاد: وُقِيَّة ذَهَب كَمَا فَسَّرَهُ فِي رِوَايَة سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد عَنْ جَابِر، وَيُحْمَل عَلَيْهَا رِوَايَة مَنْ رَوَى أُوقِيَّة مُطْلَقَة، وَأَمَّا مِنْ رَوَى خَمْس أَوَاقٍ، فَالْمُرَاد خَمْس أَوَاقٍ مِنْ الْفِضَّة، وَهِيَ بِقَدْرِ قِيمَة أُوقِيَّة الذَّهَب فِي ذَلِكَ الْوَقْت، فَيَكُون الْإِخْبَار بِأُوقِيَّةِ الذَّهَب عَمَّا وَقَعَ بِهِ الْعَقْد، عَنْ أَوَاقٍ الْفِضَّة عَمَّا حَصَلَ بِهِ الْإِبْقَاء زِيَادَة عَلَى الْأُوقِيَّة، كَمَا قَالَ: فَمَا زَالَ يَزِيدنِي.
وَأَمَّا رِوَايَة: «أَرْبَعَة دَنَانِير» فَمُوَافَقَة أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون أُوقِيَّة الذَّهَب حِينَئِذٍ وَزْن أَرْبَعَة دَنَانِير.
وَأَمَّا رِوَايَة: «أُوقِيَّتَيْنِ» فَيُحْتَمَل أَنَّ إِحْدَاهُمَا وَقَعَ بِهَا الْبَيْع، وَالْأُخْرَى زِيَادَة، كَمَا قَالَ: «وَزَادَنِي أُوقِيَّة»، وَقَوْله: «وَدِرْهَم أَوْ دِرْهَمَيْنِ» مُوَافِق لِقَوْلِهِ: «وَزَادَنِي قِيرَاطًا»، وَأَمَّا رِوَايَة: «عِشْرِينَ دِينَارًا» فَمَحْمُولَة عَلَى دَنَانِير صِغَار كَانَتْ لَهُمْ، وَرِوَايَة: «أَرْبَع أَوَاقٍ» شَكَّ فيها الرَّاوِي فَلَا اِعْتِبَار بِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
2998- قَوْله: «عَلَى أَنَّ لِي فَقَار ظَهْره» هُوَ بِفَاءٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ قَاف، وَهِيَ خَرَزَاته، أَيْ: مَفَاصِل عِظَامه، وَاحِدَتهَا فَقَارَة.
قَوْله: «قُلْت لَهُ: يَا رَسُول اللَّه إِنِّي عَرُوس» هَكَذَا يُقَال لِلرَّجُلِ: عَرُوس كَمَا يُقَال ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ، لَفْظهَا وَاحِد لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي الْجَمْع، فَيُقَال: رَجُل عَرُوس، وَرِجَال عُرُس بِضَمِّ الْعَيْن وَالرَّاء، وَامْرَأَة عَرُوس وَنِسْوَة عَرَائِس.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَلَا تَزَوَّجْت بِكْرًا تُلَاعِبهَا وَتُلَاعِبك؟» سَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب النِّكَاح، وَضُبِطَ لَفْظه، وَالْخِلَاف فِي مَعْنَاهُ، مَعَ شَرْح مَا يَتَعَلَّق بِهِ.
قَوْله: «فَإِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّة ذَهَب فَهُوَ لَك بِهَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْته بِهِ» هَذَا قَدْ يَحْتَجّ بِهِ أَصْحَابنَا فِي اِشْتِرَاط الْإِيجَاب وَالْقَبُول فِي الْبَيْع، وَأَنَّهُ لَا يَنْعَقِد بِالْمُعَاطَاةِ، وَلَكِنْ الْأَصَحّ الْمُخْتَار اِنْعِقَاده بِالْمُعَاطَاةِ، وَهَذَا لَا يَمْنَع اِنْعِقَاده بِالْمُعَاطَاةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْهَ فيه عَنْ الْمُعَاطَاة، وَالْقَائِل بِالْمُعَاطَاةِ يَجُوز هَذَا فَلَا يَرُدّ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَاطَاة إِنَّمَا تَكُون إِذَا حَضَرَ الْعِوَضَانِ فَأَعْطَى وَأَخَذَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْضُر الْعِوَضَانِ أَوْ أَحَدهمَا فلابد مِنْ لَفْظ، وَفِي هَذَا دَلِيل لِأَصَحّ الْوَجْهَيْنِ عِنْد أَصْحَابنَا، وَهُوَ اِنْعِقَاد الْبَيْع بِالْكِنَايَةِ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَخَذْته بِهِ» مَعَ قَوْل جَابِر: هُوَ لَك، وَهَذَانِ اللَّفْظَانِ كِنَايَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ: «أَعْطِهِ أُوقِيَّة مِنْ ذَهَب وَزِدْهُ» فيه: جَوَاز الْوَكَالَة فِي قَضَاء الدُّيُون، وَأَدَاء الْحُقُوق، وَفيه: اِسْتِحْبَاب الزِّيَادَة فِي أَدَاء الدَّيْن، وَإِرْجَاع الْوَزْن.
قَوْله: «فَأَخَذَهُ أَهْل الشَّام يَوْم الْحَرَّة» يَعْنِي: حَرَّة الْمَدِينَة، كَانَ قِتَال وَنَهْب مِنْ أَهْل الشَّام هُنَاكَ سَنَة ثَلَاث وَسِتِّينَ مِنْ الْهِجْرَة.
2999- قَوْله: «فَبِعْته مِنْهُ بِخَمْسِ أَوَاقٍ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «فَبِعْته مِنْهُ» وَهُوَ صَحِيح جَائِز فِي الْعَرَبِيَّة يُقَال: بِعْته وَبِعْت مِنْهُ، وَقَدْ كَثُرَ ذِكْر نَظَائِره فِي الْحَدِيث، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي تَهْذِيب اللُّغَات.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عُقْبَة بْن مُكْرَم الْعَمِّيّ) هُو: (مُكْرَم) بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْكَاف وَفَتْح الرَّاء، وَأَمَّا (الْعَمِّيّ) فَبِتَشْدِيدِ الْمِيم مَنْسُوب إِلَى بَنِي الْعَمّ مِنْ تَمِيم.
قَوْله: (عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّل النَّاجِيّ) هُوَ بِالنُّونِ وَالْجِيم مَنْسُوب إِلَى بَنِي نَاجِيَة، وَهُمْ مِنْ بَنِي أُسَامَة بْن لُؤَيّ، وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ: هُمْ أَوْلَاد نَاجِيَة اِمْرَأَة كَانَتْ تَحْت أُسَامَة اِبْن لُؤَيّ.
3000- قَوْله: «فَلَمَّا قَدِمَ صِرَارًا» هُوَ بِصَادٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة، وَمَكْسُورَة، وَالْكَسْر أَفْصَح وَأَشْهَر، وَلَمْ يَذْكُر الْأَكْثَرُونَ غَيْره.
قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ عِنْد الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْخَطَّابِيّ وَغَيْرهمَا وَعِنْد أَكْثَر شُيُوخنَا (صِرَارًا) بِصَادٍ مُهْمَلَة مَكْسُورَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَهُوَ مَوْضِع قَرِيب مِنْ الْمَدِينَة، قَالَ: وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: هِيَ بِئْر قَدِيمَة عَلَى الثَّلَاثَة أَمْيَال مِنْ الْمَدِينَة عَلَى طَرِيق الْعِرَاق، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَشْبَه عِنْدِي أَنَّهُ مَوْضِع لَا بِئْر، قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْض الرُّوَاة فِي مُسْلِم، وَبَعْضهمْ فِي الْبُخَارِيّ (ضِرَارًا) بِكَسْرِ الضَّاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ خَطَأ، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة: «فَلَمَّا قَدِمَ صِرَار» غَيْر مَصْرُوف وَالْمَشْهُور صَرْفه.
قَوْله: «أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَذُبِحَتْ» فيه: أَنَّ السُّنَّة فِي الْبَقَر الذَّبْح لَا النَّحْر وَلَوْ عُكِسَ جَازَ.
وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَمَرَ بِبَقَرَةٍ فَنُحِرَتْ» فَالْمُرَاد بِالنَّحْرِ: الذَّبْح، جَمْعًا بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ.
قَوْله: «أَمَرَنِي أَنْ آتِي الْمَسْجِد فَأُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» فيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْقَادِمِ مِنْ السَّفَر أَنْ يَبْدَأ بِالْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي فيه رَكْعَتَيْنِ. وَفيه: أَنَّ نَافِلَة النَّهَار يُسْتَحَبّ كَوْنهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ اللَّيْل، وَهُوَ مَذْهَبنَا، وَمَذْهَب الْجُمْهُور وَسَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الصَّلَاة.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيث جَابِر هَذَا فَوَائِد كَثِيرَة:
إِحْدَاهَا: هَذِهِ الْمُعْجِزَة الظَّاهِرَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِنْبِعَاث جَمَل جَابِر وَإِسْرَاعه بَعْد إِعْيَائِهِ.
الثَّانِيَة: جَوَاز طَلَب الْبَيْع مِمَّنْ لَمْ يَعْرِض سِلْعَته لِلْبَيْعِ.
الثَّالِثَة: جَوَاز الْمُمَاكَسَة فِي الْبَيْع وَسَبَقَ تَفْسِيرهَا.
الرَّابِعَة: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الرَّجُل الْكَبِير أَصْحَابه عَنْ أَحْوَالهمْ وَالْإِشَارَة عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِهِمْ.
الْخَامِسَة: اِسْتِحْبَاب نِكَاح الْبِكْر.
السَّادِسَة: اِسْتِحْبَاب مُلَاعَبَة الزَّوْجَيْنِ.
السَّابِعَة: فَضِيلَة جَابِر فِي أَنَّهُ تَرَكَ حَظّ نَفْسه مِنْ نِكَاح الْبِكْر وَاخْتَارَ مَصْلَحَة أَخَوَاته بِنِكَاحِ ثَيِّب تَقُوم بِمَصَالِحِهِنَّ.
الثَّامِنَة: اِسْتِحْبَاب الِابْتِدَاء بِالْمَسْجِدِ وَصَلَاة رَكْعَتَيْنِ فيه عِنْد الْقُدُوم مِنْ السَّفَر.
التَّاسِعَة: اِسْتِحْبَاب الدَّلَالَة عَلَى الْخَيْر.
الْعَاشِرَة: اِسْتِحْبَاب إِرْجَاح الْمِيزَان فِيمَا يَدْفَعهُ.
الْحَادِيَة عَشْرَة: أَنَّ أُجْرَة وَزْن الثَّمَن عَلَى الْبَائِع.
الثَّانِيَة عَشْرَة: التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ، لِقَوْلِهِ: لَا تُفَارِقهُ زِيَادَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّالِثَة عَشْرَة: جَوَاز تَقَدُّم بَعْض الْجَيْش الرَّاجِعِينَ بِإِذْنِ الْأَمِير.
الرَّابِعَة عَشْرَة: جَوَاز الْوَكَالَة فِي أَدَاء الْحُقُوق وَنَحْوهَا. وَفيه غَيْر ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب مَنِ اسْتَسْلَفَ شَيْئًا فَقَضَى خَيْرًا مِنْهُ وَ«خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»:

3002- قَوْله: «عَنْ أَبِي رَافِع أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُل بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِل مِنْ إِبِل الصَّدَقَة، فَأَمَرَ أَبَا رَافِع أَنْ يَقْضِي الرَّجُل بَكْره، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِع فَقَالَ: مَا أَجِد فيها إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِيه إِيَّاهُ فَإِنَّ خِيَار النَّاس أَحَسَنهمْ قَضَاء» وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «اِشْتَرُوا لَهُ سِنًّا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَجِد إِلَّا سِنًّا هُوَ خَيْر مِنْ سِنّه»، قَالَ: «فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْركُمْ أَوْ خَيْركُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاء»، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «اِسْتَقْرَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنًّا فَأَعْطَاهُ سِنًّا فَوْقه، وَقَالَ: خِيَاركُمْ مَحَاسِنكُمْ قَضَاء» أَمَّا الْبَكْر مِنْ الْإِبِل: فَبِفَتْحِ الْبَاء وَهُوَ الصَّغِير كَالْغُلَامِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَالْأُنْثَى بَكْرَة وَقَلُوص، وَهِيَ الصَّغِيرَة كَالْجَارِيَةِ، فَإِذَا اِسْتَكْمَلَ سِتّ سِنِينَ وَدَخَلَ فِي السَّابِعَة، وَأَلْقَى رَبَاعِيَة بِتَخْفِيفِ الْيَاء فَهُوَ رَبَاع، وَالْأُنْثَى رَبَاعِيَة، بِتَخْفِيفِ الْيَاء، وَأَعْطَاهُ رَبَاعِيًا بِتَخْفِيفِهَا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِيَاركُمْ مَحَاسِنكُمْ قَضَاء» قَالُوا: مَعْنَاهُ ذَوُو الْمَحَاسِن، سَمَّاهُمْ بِالصِّفَةِ، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: هُوَ جَمْع مَحْسَن بِفَتْحِ الْمِيم وَأَكْثَر مَا يَجِيء: أَحَاسِنكُمْ جَمْع أَحْسَن.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الِاقْتِرَاض وَالِاسْتِدَانَة، وَإِنَّمَا اِقْتَرَضَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَاجَةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذ بِاَللَّهِ مِنْ الْمَغْرَم، وَهُوَ الدَّيْن.
وَفيه: جَوَاز اِقْتِرَاض الْحَيَوَان. وَفيه ثَلَاثَة مَذَاهِب.
الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: أَنَّهُ يَجُوز قَرْض جَمِيع الْحَيَوَان إِلَّا الْجَارِيَة لِمَنْ يَمْلِك وَطْأَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوز، وَيَجُوز إِقْرَاضهَا لِمَنْ لَا يَمْلِك وَطْأَهَا كَمَحَارِمِهَا وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى.
وَالْمَذْهَب الثَّانِي: مَذْهَب الْمُزَنِيِّ وَابْن جَرِير وَدَاوُد أَنَّهُ يَجُوز قَرْض الْجَارِيَة وَسَائِر الْحَيَوَان لِكُلِّ وَاحِد.
وَالثَّالِث: مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوز قَرْض شَيْء مِنْ الْحَيَوَان.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث: تُرَدّ عَلَيْهِمْ وَلَا تُقْبَل دَعْوَاهُمْ النَّسْخ بِغَيْرِ دَلِيل.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز السَّلَم فِي الْحَيَوَان، وَحُكْمه حُكْم الْقَرْض. وَفيها: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْن مِنْ قَرْض وَغَيْره أَنْ يَرُدّ أَجْوَد مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ السُّنَّة وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَرْض جَرَّ مَنْفَعَة فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيّ عَنْهُ مَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْد الْقَرْض، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الزِّيَادَة فِي الْأَدَاء عَمَّا عَلَيْهِ. وَيَجُوز لِلْمُقْرِضِ أَخْذهَا سَوَاء زَادَ فِي الصِّفَة أَوْ فِي الْعَدَد بِأَنْ أَقْرَضَهُ عَشَرَة فَأَعْطَاهُ أَحَد عَشَر، وَمَذْهَب مَالِك: أَنَّ الزِّيَادَة فِي الْعَدَد مَنْهِيّ عَنْهَا، وَحُجَّة أَصْحَابنَا عُمُوم قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْركُمْ أَحْسَنكُمْ قَضَاء».
قَوْله: «فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِل الصَّدَقَة.... إِلَى آخِره» هَذَا مِمَّا يُسْتَشْكَل فَيُقَال: فَكَيْفَ قَضَى مِنْ إِبِل الصَّدَقَة أَجْوَد مِنْ الَّذِي يَسْتَحِقّهُ الْغَرِيم مَعَ أَنَّ النَّاظِر فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا جَاءَتْ إِبِل الصَّدَقَة اِشْتَرَى مِنْهَا بَعِيرًا رَبَاعِيًّا مِمَّنْ اِسْتَحَقَّهُ، فَمَلَكَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَنِهِ، وَأَوْفَاهُ مُتَبَرِّعًا بِالزِّيَادَةِ مِنْ مَاله، وَيَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة الَّتِي قَدَّمْنَاهَا: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اِشْتَرُوا لَهُ سِنًّا» فَهَذَا هُوَ الْجَوَاب الْمُعْتَمَد.
وَقَدْ قِيلَ فيه أَجْوِبَة غَيْره، مِنْهَا: أَنَّ الْمُقْتَرِض كَانَ بَعْض الْمُحْتَاجِينَ اِقْتَرَضَ لِنَفْسِهِ فَأَعْطَاهُ مِنْ الصَّدَقَة حِين جَاءَتْ وَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ.
3003- قَوْله: «كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقّ مَقَالًا» فيه أَنَّهُ يَحْتَمِل مِنْ صَاحِب الدَّيْن الْكَلَام الْمُعْتَاد فِي الْمُطَالَبَة، وَهَذَا الْإِغْلَاظ الْمَذْكُور مَحْمُول عَلَى تَشَدُّد فِي الْمُطَالَبَة وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ غَيْر كَلَام فيه قَدْح أَوْ غَيْره مِمَّا يَقْتَضِي الْكُفْر، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْقَائِل الَّذِي لَهُ الدَّيْن كَانَ كَافِرًا مِنْ الْيَهُود أَوْ غَيْرهمْ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب جَوَازِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً:

3006- قَوْله: «جَاءَ عَبْد فَبَايَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَة وَلَمْ يَشْعُر أَنَّهُ عَبْد، فَجَاءَ سَيِّده يُرِيدهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْنِيهِ، فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبَايِع أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى يَسْأَلهُ أَعَبْدٌ هُوَ؟» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ سَيِّده كَانَ مُسْلِمًا، وَلِهَذَا بَاعَهُ بِالْعَبْدَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَا يَجُوز بَيْع الْعَبْد الْمُسْلِم لِكَافِرٍ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ، ولابد مِنْ ثُبُوت مِلْكه لِلْعَبْدِ الَّذِي بَايَعَ عَلَى الْهِجْرَة إِمَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِمَّا بِتَصْدِيقِ الْعَبْد قَبْل إِقْرَاره بِالْحُرِّيَّةِ. وَفيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق وَالْإِحْسَان الْعَامّ، فَإِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَرُدّ ذَلِكَ الْعَبْد خَائِبًا بِمَا قَصَدَهُ مِنْ الْهِجْرَة وَمُلَازَمَة الصُّحْبَة، فَاشْتَرَاهُ لِيُتِمّ لَهُ مَا أَرَادَ. وَفيه: جَوَاز بَيْع عَبْد بِعَبْدَيْنِ، سَوَاء كَانَتْ الْقِيمَة مُتَّفِقَة أَوْ مُخْتَلِفَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ نَقْدًا، وَكَذَا حُكْم سَائِر الْحَيَوَان، فَإِنْ بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدَيْنِ أَوْ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى أَجَل، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور جَوَازه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَجُوز، وَفيه مَذَاهِب لِغَيْرِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الرَّهْنِ وَجَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ:

فِي الْبَاب حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَرَى مِنْ يَهُودِيّ طَعَامًا إِلَى أَجَل وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيد» فيه: جَوَاز مُعَامَلَة أَهْل الذِّمَّة، وَالْحُكْم بِثُبُوتِ أَمْلَاكهمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهمْ. وَفيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا، وَمُلَازَمَة الْفَقْر. وَفيه: جَوَاز الرَّهْن، وَجَوَاز رَهْن آلَة الْحَرْب عِنْد أَهْل الذِّمَّة، وَجَوَاز الرَّهْن فِي الْحَضَر، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مُجَاهِدًا وَدَاوُد فَقَالَا: لَا يَجُوز إِلَّا فِي السَّفَر تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَان مَقْبُوضَة} وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِهَذَا الْحَدِيث، وَهُوَ مُقَدَّم عَلَى دَلِيل خِطَاب الْآيَة.
وَأَمَّا اِشْتِرَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَام مِنْ الْيَهُودِيّ وَرَهْنه عِنْده دُون الصَّحَابَة، فَقِيلَ: فَعَلَهُ بَيَانًا لِجَوَازِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعَام فَاضِل عَنْ حَاجَة صَاحِبه إِلَّا عِنْده، وَقِيلَ: لِأَنَّ الصَّحَابَة لَا يَأْخُذُونَ رَهْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَقْبِضُونَ مِنْهُ الثَّمَن، فَعَدَلَ إِلَى مُعَامَلَة الْيَهُودِيّ لِئَلَّا يُضَيِّق عَلَى أَحَد مِنْ أَصْحَابه.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز مُعَامَلَة أَهْل الذِّمَّة وَغَيْرهمْ مِنْ الْكُفَّار إِذَا لَمْ يَتَحَقَّق مَا مَعَهُ، لَكِنْ لَا يَجُوز لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبِيع أَهْل الْحَرْب سِلَاحًا وَآلَة حَرْب، وَلَا مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي إِقَامَة دِينهمْ، وَلَا بَيْع مُصْحَف، وَلَا الْعَبْد الْمُسْلِم لِكَافِرٍ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب السَّلَمِ:

قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: السَّلَم وَالسَّلَف وَأَسْلَمَ وَسَلَّمَ وَأَسْلَفَ وَسَلَّفَ، وَيَكُون السَّلَف أَيْضًا قَرْضًا، وَيُقَال: اِسْتَسْلَفَ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَيَشْتَرِك السَّلَم وَالْقَرْض فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِثْبَات مَال فِي الذِّمَّة بِمَبْذُولٍ فِي الْحَال، وَذَكَرُوا فِي حَدِّ السَّلَم عِبَارَات أَحْسَنهَا: أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوف فِي الذِّمَّة، بِبَذْلٍ يُعْطَى عَاجِلًا. سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ رَأْس الْمَال فِي الْمَجْلِس، وَسُمِّيَ سَلَفًا لِتَقْدِيمِ رَأْس الْمَال، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز السَّلَم.
3010- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْر فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْل مَعْلُوم وَوَزْن مَعْلُوم إِلَى أَجَل مَعْلُوم» فيه: جَوَاز السَّلَم، وَأَنَّهُ يُشْتَرَط أَنْ يَكُون قَدْره مَعْلُومًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْن أَوْ غَيْرهمَا مِمَّا يُضْبَط بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَذْرُوعًا كَالثَّوْبِ، اُشْتُرِطَ ذِكْر ذُرْعَان مَعْلُومَة، وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا كَالْحَيَوَانِ، اُشْتُرِطَ ذِكْر عَدَد مَعْلُوم. وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيل فَلْيَكُنْ كَيْله مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْزُون فَيَكُنْ وَزْنًا مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلْيَكُنْ أَجَله مَعْلُومًا. وَلَا يَلْزَم مِنْ هَذَا اِشْتِرَاط كَوْن السَّلَم مُؤَجَّلًا، بَلْ يَجُوز حَالًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ مُؤَجَّلًا مَعَ الْغَرَر فَجَوَاز الْحَال أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَبْعَد مِنْ الْغَرَر، وَلَيْسَ ذِكْر الْأَجَل فِي الْحَدِيث لِاشْتِرَاطِ الْأَجَل، بَلْ مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ أَجَل فَيَكُنْ مَعْلُومًا، كَمَا أَنَّ الْكَيْل لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ يَجُوز السَّلَم فِي الثَّبَات بِالذَّرْعِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَيْل بِمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيل فَلْيَكُنْ كَيْلًا مَعْلُومًا أَوْ فِي مَوْزُون فَلْيَكُنْ وَزْنًا مَعْلُومًا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَوَاز السَّلَم الْحَالّ مَعَ إِجْمَاعهمْ عَلَى جَوَاز الْمُؤَجَّل، فَجَوَّزَ الْحَالَّ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَمَنَعَهُ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى اِشْتِرَاط وَصْفه بِمَا يُضْبَط بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْر فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْل مَعْلُوم وَوَزْن مَعْلُوم» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول (تَمْر) بِالْمُثَنَّاةِ، وَفِي بَعْضهَا: (ثَمَر) بِالْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ أَعَمّ، وَهَكَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ. وَوَزْن مَعْلُوم بِالْوَاوِ لَا (بِأَوْ) وَمَعْنَاهُ: إِنْ أَسْلَمَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، فَيَكُنْ مَعْلُومًا. وَفيه: دَلِيل لِجَوَازِ السَّلَم فِي الْمَكِيل وَزْنًا وَهُوَ جَائِز بِلَا خِلَاف. وَفِي جَوَاز السَّلَم فِي الْمَوْزُون كَيْلًا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا: جَوَازه كَعَكْسِهِ.
3011- قَوْله: «حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَإِسْمَاعِيل بْن سَالِم جَمِيعًا عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا (عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ) وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي أَحْمَد الْجُلُودِيّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ عَنْ مُسْلِم عَنْ شُيُوخه هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة (عَنْ اِبْن عُلَيَّةَ) وَهُوَ إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَآخَرُونَ مِنْ الْحُفَّاظ: وَالصَّوَاب رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ، قَالُوا: وَمَنْ تَأَمَّلَ الْبَاب عَرَفَ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ مُسْلِمًا ذَكَرَ أَوَّلًا حَدِيث اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح. وَفيه ذِكْر الْأَجَل، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث عَبْد الْوَارِث عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح،وَلَيْسَ فيه ذِكْر الْأَجَل، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث اِبْن عُلَيَّةَ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح، وَقَالَ بِمِثْلِ حَدِيث عَبْد الْوَارِث، وَلَمْ يَذْكُر إِلَى أَجَل مَعْلُوم، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح، وَقَالَ: بِمِثْلِ حَدِيث اِبْن عُيَيْنَةَ يَذْكُر فيه الْأَجَل.

.باب تَحْرِيمِ الاِحْتِكَارِ فِي الأَقْوَاتِ:

3012- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِحْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئ»، فِي رِوَايَة: «لَا يَحْتَكِر إِلَّا خَاطِئ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَاطِئ بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِم.
وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار.
قَالَ أَصْحَابنَا: الِاحْتِكَار الْمُحَرَّم هُوَ الِاحْتِكَار فِي الْأَقْوَات خَاصَّة، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِي الطَّعَام فِي وَقْت الْغَلَاء لِلتِّجَارَةِ، وَلَا يَبِيعهُ فِي الْحَال، بَلْ يَدَّخِرهُ لِيَغْلُوَ ثَمَنه، فَأَمَّا إِذَا جَاءَ مِنْ قَرْيَته، أَوْ اِشْتَرَاهُ فِي وَقْت الرُّخْص وَادَّخَرَهُ، أَوْ اِبْتَاعَهُ فِي وَقْت الْغَلَاء لِحَاجَتِهِ إِلَى أَكْله، أَوْ اِبْتَاعَهُ لِيَبِيعَهُ فِي وَقْته، فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا تَحْرِيم فيه، وَأَمَّا غَيْر الْأَقْوَات فَلَا يَحْرُم الِاحْتِكَار فيه بِكُلِّ حَال، هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار دَفْع الضَّرَر عَنْ عَامَّة النَّاس، كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْد إِنْسَان طَعَام، وَاضْطُرَّ النَّاس إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْره، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعه دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاس.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَاب عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَعْمَر رَاوِي الْحَدِيث أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ فَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَآخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ يَحْتَكِرَانِ الزَّيْت، وَحَمَلَا الْحَدِيث عَلَى اِحْتِكَار الْقُوت عِنْد الْحَاجَة إِلَيْهِ وَالْغَلَاء، وَكَذَا حَمَلَهُ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ وَهُوَ صَحِيح.
3013- قَوْل مُسْلِم: (وَحَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا عَنْ عَمْرو بْن عَوْن قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن عَبْد اللَّه عَنْ عُمَر بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب) قَالَ الْغَسَّانِيّ وَغَيْره: هَذَا أَحَد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة عَشْرَ الْمَقْطُوعَة فِي صَحِيح مُسْلِم، قَالَ الْقَاضِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مَقْطُوعًا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَة الْمَجْهُول، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي، وَلَا يَضُرّ هَذَا الْحَدِيث؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مُتَابَعَة، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ طُرُق مُتَّصِلَة بِرِوَايَةِ مَنْ سَمَّاهُمْ مِنْ الثِّقَات.
وَأَمَّا الْمَجْهُول فَقَدْ جَاءَ مُسَمًّى فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه عَنْ وَهْب بْن بَقِيَّة عَنْ خَالِد بْن عَبْد اللَّه عَنْ عُمَر بْن يَحْيَى بِإِسْنَادِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.