فصل: باب اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَفِي الطَّوَافِ الأَوَّلِ فِي الْحَجِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.بَاب اِسْتِحْبَاب الْمَبِيت بِذِي طَوًى عِنْد إِرَادَة دُخُول مَكَّة وَالِاغْتِسَال لِدُخُولِهَا وَدُخُولهَا نَهَارًا.

قَوْله: «عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّة، وَكَانَ اِبْن عُمَر يَفْعَل ذَلِكَ» وَفِي رِوَايَة: «حَتَّى صَلَّى الصُّبْح»: وَفِي رِوَايَة عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر: «كَانَ لَا يَقْدَم مَكَّة إِلَّا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِح وَيَغْتَسِل ثُمَّ يَدْخُل مَكَّة نَهَارًا» وَيُذْكَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ.
فِي هَذِهِ الرِّوَايَات فَوَائِد مِنْهَا: الِاغْتِسَال لِدُخُولِ مَكَّة، وَأَنَّهُ يَكُون بِذِي طَوًى لِمَنْ كَانَتْ فِي طَرِيقه، وَيَكُون بِقَدْرٍ بَعْدهَا لِمَنْ لَمْ تَكُنْ فِي طَرِيقه، قَالَ أَصْحَابنَا: وَهَذَا الْغُسْل سُنَّة، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ تَيَمَّمَ، وَمِنْهَا: الْمَبِيت بِذِي طَوًى، وَهُوَ مُسْتَحَبّ لِمَنْ هُوَ عَلَى طَرِيقه، وَهُوَ مَوْضِع مَعْرُوف بِقُرْبِ مَكَّة، يُقَال بِفَتْحِ الطَّاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا، وَالْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر، وَيُصْرَف وَلَا يُصْرَف.
وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب دُخُول مَكَّة نَهَارًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ أَنَّ دُخُولهَا نَهَارًا أَفْضَل مِنْ اللَّيْل، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف: اللَّيْل وَالنَّهَار فِي ذَلِكَ سَوَاء، وَلَا فَضِيلَة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا مُحْرِمًا بِعُمْرَةِ الْجِعِرَّانَة لَيْلًا، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ حَمَلَهُ عَلَى بَيَان الْجَوَاز. وَاَللَّه أَعْلَم.
2206- سبق شرحه بالباب.
2207- سبق شرحه بالباب.
2208- سبق شرحه بالباب.
2209- قَوْله: «اِسْتَقْبَلَ فُرْضَتَيْ الْجَبَل» هُوَ بِفَاءٍ مَضْمُومَة ثُمَّ رَاء سَاكِنَة ثُمَّ ضَاد مُعْجَمَة مَفْتُوحَة. وَهُمَا تَثْنِيَة فُرْضَة وَهِيَ الثَّنِيَّة الْمُرْتَفِعَة مِنْ الْجَبَل.
قَوْله: (عَشَرَة أَذْرُع) كَذَا فِي بَعْض النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا (عَشْر) بِحَذْفِ الْهَاء، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي الذِّرَاع التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث، وَهُوَ الْأَفْصَح الْأَشْهَر، وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَفِي الطَّوَافِ الأَوَّلِ فِي الْحَجِّ:

2210- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَاف الْأَوَّل خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» قَوْله: (خَبَّ) هُوَ الرَّمَل بِفَتْحِ الرَّاء وَالْمِيم، فَالرَّمَل وَالْخَبَب بِمَعْنًى وَاحِد، وَهُوَ إِسْرَاع الْمَشْي مَعَ تَقَارُب الْخُطَى، وَلَا يَثِب وَثْبًا، وَالرَّمَل مُسْتَحَبّ فِي الطَّوْفَات الثَّلَاث الْأُوَل مِنْ السَّبْع، وَلَا يُسَنّ ذَلِكَ إِلَّا فِي طَوَاف الْعُمْرَة، وَفِي طَوَاف وَاحِد فِي الْحَجّ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الطَّوَاف، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحّهمَا: أَنَّهُ إِنَّمَا يَشْرَع فِي طَوَاف يَعْقُبهُ سَعْي، وَيُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي طَوَاف الْقُدُوم، وَيُتَصَوَّر فِي طَوَاف الْإِفَاضَة، وَلَا يُتَصَوَّر فِي طَوَاف الْوَدَاع؛ لِأَنَّ شَرْط طَوَاف الْوَدَاع أَنْ يَكُون قَدْ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْل إِذَا طَافَ لِلْقُدُومِ وَفِي نِيَّته أَنَّهُ يَسْعَى بَعْده اُسْتُحِبَّ الرَّمَل فيه، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي نِيَّته لَمْ يَرْمُل فيه، بَلْ يَرْمُل فِي طَوَاف الْإِفَاضَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْمُل فِي طَوَاف الْقُدُوم سَوَاء أَرَادَ السَّعْي بَعْده أَمْ لَا، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ أَصْحَابنَا: فَلَوْ أَخَلَّ بِالرَّمَلِ فِي الثَّلَاث الْأُوَل مِنْ السَّبْع لَمْ يَأْتِ بِهِ مِنْ الْأَرْبَع الْأَوَاخِر؛ لِأَنَّ السُّنَّة فِي الْأَرْبَع الْأَخِيرَة الْمَشْي عَلَى الْعَادَة فَلَا يُغَيِّرهُ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنهُ الرَّمَل لِلزَّحْمَةِ أَشَارَ فِي هَيْئَة مَشْيه إِلَى صِفَة الرَّمَل، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنهُ الرَّمَل بِقُرْبِ الْكَعْبَة لِلزَّحْمَةِ وَأَمْكَنَهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَبَاعَد وَيَرْمُل؛ لِأَنَّ فَضِيلَة الرَّمَل هَيْئَة لِلْعِبَادَةِ فِي نَفْسهَا، وَالْقُرْب مِنْ الْكَعْبَة هَيْئَة فِي مَوْضِع الْعِبَادَة لَا فِي نَفْسهَا، فَكَانَ تَقْدِيم مَا تَعَلَّقَ بِنَفْسِهَا أَوْلَى، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الرَّمَل لَا يُشْرَع لِلنِّسَاءِ كَمَا لَا يُشْرَع لَهُنَّ شِدَّة السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَلَوْ تَرَكَ الرَّجصُل الرَّمَل حَيْثُ شُرِعَ لَهُ فَهُوَ تَارِك سُنَّة وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَبنَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك فَقَالَ بَعْضهمْ: عَلَيْهِ دَم، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا دَم عَلَيْهِ، كَمَذْهَبِنَا.
قَوْله: «وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيل إِذَا طَافَ بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة» هَذَا مُجْمَع عَلَى اِسْتِحْبَابه، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا سَعَى بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة اُسْتُحِبَّ أَنْ يَكُون سَعْيه شَدِيدًا فِي بَطْن الْمَسِيل، وَهُوَ قَدْر مَعْرُوف، وَهُوَ مِنْ قَبْل وُصُوله إِلَى الْمَيْل الْأَخْضَر الْمُعَلَّق بِفِنَاءِ الْمَسْجِد إِلَى أَنْ يُحَاذِي الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِد وَدَار الْعَبَّاس، وَاَللَّه أَعْلَم.
2211- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة أَوَّل مَا يَقْدَم فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَة أَطَوَاف بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَطُوف بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة». أَمَّا قَوْله: (أَوَّل مَا يَقْدَم) فَتَصْرِيح بِأَنَّ الرَّمَل أَوَّل مَا يَشْرَع فِي طَوَاف الْعُمْرَة أَوْ فِي طَوَاف الْقُدُوم فِي الْحَجّ، وَأَمَّا قَوْله: (يَسْعَى ثَلَاثَة أَطْوَاف) فَمُرَاده يَرْمُل، وَسَمَّاهُ سَعْيًا مَجَازًا، لِكَوْنِهِ يُشَارِك السَّعْي فِي أَصْل الْإِسْرَاع، وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ صِفَتهمَا.
وَأَمَّا قَوْله: (ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة) فَمُجْمَع عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّمَل لَا يَكُون إِلَّا فِي الثَّلَاثَة الْأُوَل مِنْ السَّبْع، وَأَمَّا قَوْله: (ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ) فَالْمُرَاد رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا سُنَّة عَلَى الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبنَا، وَفِي قَوْل: وَاجِبَتَانِ، وَسَمَّاهُمَا سَجْدَتَيْنِ مَجَازًا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره فِي كِتَاب الصَّلَاة.
وَأَمَّا قَوْله: (ثُمَّ يَطُوف بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة)، فَفيه: دَلِيل عَلَى وُجُوب التَّرْتِيب بَيْن الطَّوَاف وَالسَّعْي، وَأَنَّهُ يُشْتَرَط تَقَدُّم الطَّوَاف عَلَى السَّعْي، فَلَوْ قَدَّمَ السَّعْي لَمْ يَصِحّ السَّعْي، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَفيه: خِلَاف ضَعِيف لِبَعْضِ السَّلَف. وَاَللَّه أَعْلَم.
2212- قَوْله: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين يَقْدَم مَكَّة إِذَا اِسْتَلَمَ الرُّكْن الْأَسْوَد أَوَّل مَا يَطُوف إِلَى آخِره» فيه: اِسْتِحْبَاب اِسْتِلَام الْحَجَر الْأَسْوَد فِي اِبْتِدَاء الطَّوَاف، وَهُوَ سُنَّة مِنْ سُنَن الطَّوَاف بِلَا خِلَاف، وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّب مِنْ أَصْحَابنَا فِي قَوْله إِنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَلِم الْحَجَر الْأَسْوَد، وَأَنْ يَسْتَلِم مَعَهُ الرُّكْن الَّذِي هُوَ فيه، فَيَجْمَع فِي اِسْتِلَامه بَيْن الْحَجَر وَالرُّكْن جَمِيعًا، وَاقْتَصَرَ جُمْهُور أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلِم الْحَجَر، وَأَمَّا الِاسْتِلَام فَهُوَ الْمَسْح بِالْيَدِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ (السِّلَام) بِكَسْرِ السِّين وَهِيَ الْحِجَارَة، وَقِيلَ: مِنْ (السَّلَام) بِفَتْحِ السِّين الَّذِي هُوَ التَّحِيَّة.
2213- قَوْله: «رَمَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَجَر إِلَى الْحَجَر ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» فيه: بَيَان أَنَّ الرَّمَل يُشْرَع فِي جَمِيع الْمَطَاف مِنْ الْحَجَر إِلَى الْحَجَر، وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس الْمَذْكُور بَعْد هَذَا بِقَلِيلٍ: «قَالَ: وَأَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَة أَشْوَاط وَيَمْشُوا مَا بَيْن الرُّكْنَيْنِ» فَمَنْسُوخ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّل؛ لِأَنَّ حَدِيث اِبْن عَبَّاس كَانَ فِي عُمْرَة الْقَضَاء سَنَة سَبْع قَبْل فَتْح مَكَّة، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْف فِي أَبْدَانهمْ، وَإِنَّمَا رَمَلُوا إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ وَاحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْر مَا بَيْن الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحِجْر، وَكَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ بَيْن هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَيَرَوْنَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَلَمَّا حَجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّة الْوَدَاع سَنَة عَشْر رَمَلَ مِنْ الْحَجَر إِلَى الْحَجَر، فَوَجَبَ الْأَخْذ بِهَذَا الْمُتَأَخِّر.
2214- قَوْله: (حَدَّثَنَا سُلَيْم بْن الْأَخْضَر) هُوَ بِضَمِّ السِّين (وَأَخْضَر) بِالْخَاءِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَتَيْنِ.
2216- قَوْله: فِي رِوَايَة أَبِي الطَّاهِر بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِر: «رَمَلَ الثَّلَاثَة أَطْوَاف» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة، وَفِي نَادِر مِنْهَا: «الثَّلَاثَة الْأَطْوَاف» وَفِي أَنْدَر مِنْهُ: «ثَلَاثَة أَطْوَاف» فَأَمَّا ثَلَاثَة أَطْوَاف فَلَا شَكّ فِي جَوَازه وَفَصَاحَته، وَأَمَّا الثَّلَاثَة الْأَطْوَاف بِالْأَلِفِ وَاللَّام فيهمَا فَفيه خِلَاف مَشْهُور بَيْن النَّحْوِيِّينَ، مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَجَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَأَمَّا الثَّلَاثَة أَطْوَاف بِتَعْرِيفِ الْأَوَّل وَتَنْكِير الثَّانِي كَمَا وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ فَمَنَعَهُ جُمْهُور النَّحْوِيِّينَ، وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ لِمَنْ جَوَّزَهُ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْله فِي رِوَايَة سَهْل بْن سَعْد فِي صِفَة مِنْبَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلَاث دَرَجَات، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِم هَكَذَا فِي كِتَاب الصَّلَاة، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
2217- قَوْله: (قُلْت لِابْنِ عَبَّاس: أَرَأَيْت هَذَا الرَّمَل بِالْبَيْتِ ثَلَاثَة أَطْوَاف وَمَشْي أَرْبَعَة أَطْوَاف أَسُنَّة هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمك يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّة. فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا) إِلَى آخِره، يَعْنِي صَدَقُوا فِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، وَكَذَبُوا فِي قَوْلهمْ: إِنَّهُ سُنَّة مَقْصُودَة مُتَأَكِّدَة؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلهُ سُنَّة مَطْلُوبَة دَائِمًا عَلَى تَكَرُّر السِّنِينَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ تِلْكَ السَّنَة لِإِظْهَارِ الْقُوَّة عِنْد الْكُفَّار، وَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى. هَذَا مَعْنَى كَلَام اِبْن عَبَّاس، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ كَوْن الرَّمَل لَيْسَ سُنَّة مَقْصُودَة هُوَ مَذْهَبه، وَخَالَفَهُ جَمِيع الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعهمْ وَمَنْ بَعْدهمْ، فَقَالُوا: هُوَ سُنَّة فِي الطَّوْفَات الثَّلَاث مِنْ السَّبْع، فَإِنْ تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّة، وَفَاتَتْهُ فَضِيلَة، وَيَصِحّ طَوَافه وَلَا دَم عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر: يُسَنّ فِي الطَّوْفَات السَّبْع، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَعَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيّ: إِذَا تَرَكَ الرَّمَل لَزِمَهُ دَم، وَكَانَ مَالِك يَقُول بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
دَلِيل الْجُمْهُور أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي حَجَّة الْوَدَاع فِي الطَّوْفَات الثَّلَاث الْأُوَل وَمَشَى فِي الْأَرْبَع، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِككُمْ عَنِّي». وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (قُلْت لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ الطَّوَاف بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة رَاكِبًا أَسُنَّة هُوَ، فَإِنَّ قَوْمك يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّة، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا) إِلَى آخِره، يَعْنِي صَدَقُوا فِي أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا، وَكَذَبُوا فِي أَنَّ الرُّكُوب أَفْضَل، بَلْ الْمَشْي أَفْضَل، وَإِنَّمَا رَكِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن عَبَّاس مُجْمَع عَلَيْهِ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرُّكُوب فِي السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة جَائِز، وَأَنَّ الْمَشْي أَفْضَل مِنْهُ إِلَّا لِعُذْرٍ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزْل) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (الْهُزْل) بِضَمِّ الْهَاء وَإِسْكَان الزَّاي، وَهَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق، وَصَاحِب الْمَطَالِع عَنْ رِوَايَة بَعْضهمْ، قَالَا: وَهُوَ وَهْم وَالصَّوَاب (الْهُزَال) بِضَمِّ الْهَاء وَزِيَادَة الْأَلِف، قُلْت: وَلِلْأَوَّلِ وَجْه، وَهُوَ أَنْ يَكُون بِفَتْحِ الْهَاء لِأَنَّ الْهَزْل بِالْفَتْحِ مَصْدَر هَزَلْتَهُ هَزْلًا، كَضَرَبْتَهُ ضَرْبًا، وَتَقْدِيره لَا يَسْتَطِيعُونَ يَطُوفُونَ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى هَزَلَهُمْ، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِق مِنْ الْبُيُوت) هُوَ جَمْع عَاتِق، وَهِيَ الْبِكْر الْبَالِغَة أَوْ الْمُقَارِبَة لِلْبُلُوغِ، وَقِيلَ: الَّتِي تَتَزَوَّج سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ مِنْ اِسْتِخْدَام أَبَوَيْهَا وَابْتِذَالهَا فِي الْخُرُوج وَالتَّصَرُّف الَّتِي تَفْعَلهُ الطِّفْلَة الصَّغِيرَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا فِي صَلَاة الْعِيد.
2219- قَوْله: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يُدَعُّونَ عَنْهُ وَلَا يُكْرَهُونَ) أَمَّا (يُدَعُّونَ) فَبِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الدَّال وَضَمّ الْعَيْن الْمُشَدَّدَة، أَيْ يُدْفَعُونَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يُدَعُّونَ إِلَى نَار جَهَنَّم دَعًّا}.
وَقَوْله تَعَالَى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعّ الْيَتِيم}.
وَأَمَّا قَوْله: (يُكْرَهُونَ)، فَفِي بَعْض الْأُصُول مِنْ صَحِيح مُسْلِم (يُكْرَهُونَ) كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِكْرَاه، وَفِي بَعْضهَا (يُكْهَرُونَ) بِتَقْدِيمِ الْهَاء مِنْ الْكَهْر، وَهُوَ الِانْتِهَار، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَصْوَب، وَقَالَ: وَهُوَ رِوَايَة الْفَارِسِيّ، وَالْأَوَّل رِوَايَة اِبْن مَاهَان وَالْعَذَرِيّ.
2220- قَوْله: (وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِب) هُوَ بِتَخْفِيفِ الْهَاء أَيْ أَضْعَفَتْهُمْ.
قَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره: يُقَال: وَهَنَتْهُ الْحُمَّى وَغَيْرهَا وَأَوْهَنَتْهُ لُغَتَانِ.
وَأَمَّا (يَثْرِب) فَهُوَ الِاسْم الَّذِي كَانَ لِلْمَدِينَةِ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَسُمِّيَتْ فِي الْإِسْلَام (الْمَدِينَة) (فَطِيبَة) (فَطَابَة) قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة}. {وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة} {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} وَسَيَأْتِي بَسْط ذَلِكَ فِي آخِر كِتَاب الْحَجّ، حَيْثُ ذَكَرَ مُسْلِم أَحَادِيث الْمَدِينَة وَتَسْمِيَتهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: «وَأَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَة أَشْوَاط» هَذَا تَصْرِيح بِجَوَازِ تَسْمِيَة الرَّمَل شَوْطًا، وَقَدْ نَقَلَ أَصْحَابنَا أَنَّ مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ كَرِهَا تَسْمِيَته شَوْطًا أَوْ دَوْرًا، بَلْ يُسَمَّى طَوْفَة، وَهَذَا الْحَدِيث ظَاهِر فِي أَنَّهُ لَا كَرَاهَة فِي تَسْمِيَته شَوْطًا، فَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا كَرَاهَة فيه.
قَوْله: «وَلَمْ يَمْنَعهُ أَنْ يَأْمُرهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاط كُلّهَا إِلَّا الْإِبْقَاء عَلَيْهِمْ» (الْإِبْقَاء) بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَبِالْبَاءِ وَالْمُوَحَّدَة وَالْمَدّ أَيْ الرِّفْق بِهِمْ.

.باب اسْتِحْبَابِ اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ فِي الطَّوَافِ دُونَ الرُّكْنَيْنِ الآخَرَيْنِ:

2222- قَوْله: «لَمْ أَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَح مِنْ الْبَيْت إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِم مِنْ أَرْكَان الْبَيْت إِلَّا الرُّكْن الْأَسْوَد وَاَلَّذِي يَلِيه مِنْ نَحْو دُور الْجُمَحِيِّينَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَا يَسْتَلِم إِلَّا الْحَجَر وَالرُّكْن الْيَمَانِي» هَذِهِ الرِّوَايَات مُتَّفِقَة، فَالرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَانِ هُمَا الرُّكْن الْأَسْوَد وَالرُّكْن الْيَمَانِي، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمَا الْيَمَانِيَانِ لِلتَّغْلِيبِ، كَمَا قِيلَ: فِي الْأَب وَالْأُمّ: الْأَبَوَانِ، وَفِي الشَّمْس وَالْقَمَر: الْقَمَرَانِ، وَفِي أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْعُمَرَانِ، وَفِي الْمَاء وَالتَّمْر: الْأَسْوَدَانِ، وَنَظَائِره مَشْهُورَة، (وَالْيَمَانِيَانِ) بِتَخْفِيفِ الْيَاء هَذِهِ اللُّغَة الْفَصِيحَة الْمَشْهُورَة، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْجَوْهَرِيّ وَغَيْرهمَا فيها لُغَة أُخْرَى بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ خَفَّفَ قَالَ: هَذِهِ نِسْبَة إِلَى الْيَمَن، فَالْأَلِف عِوَض مِنْ إِحْدَى يَائَيْ النَّسَب، فَتَبْقَى الْيَاء الْأُخْرَى مُخَفَّفَة، وَلَوْ شَدَّدْنَاهَا لَكَانَ جَمْعًا بَيْن الْعِوَض وَالْمُعَوَّض، وَذَلِكَ مُمْتَنِع، وَمَنْ شَدَّدَ قَالَ: الْأَلِف فِي الْيَمَانِي زَائِدَة، وَأَصْله الْيَمَنِيّ فَتَبْقَى الْيَاء مُشَدَّدَة، وَتَكُون الْأَلِف زَائِدَة، كَمَا زِيدَتْ النُّون فِي صَنْعَانِيّ وَرَقَبَانِيّ، وَنَظَائِر ذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (يَمْسَح) فَمُرَادَة يَسْتَلِم، وَسَبَقَ بَيَان الِاسْتِلَام.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْبَيْتِ أَرْبَعَة أَرْكَان: الرُّكْن الْأَسْوَد. وَالرُّكْن الْيَمَانِي، وَيُقَال لَهُمَا الْيَمَانِيَانِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ فَيُقَال لَهُمَا: الشَّامِيَّانِ، فَالرُّكْن الْأَسْوَد فيه: فَضِيلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: كَوْنه عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِيَة كَوْنه فيه الْحَجَر الْأَسْوَد، وَأَمَّا الْيَمَانِي فَفيه فَضِيلَة وَاحِدَة وَهِيَ كَوْنه عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ فَلَيْسَ فيهمَا شَيْء مِنْ هَاتَيْنِ الْفَضِيلَتَيْنِ، فَلِهَذَا خُصَّ الْحَجَر الْأَسْوَد بِشَيْئَيْنِ: الِاسْتِلَام وَالتَّقْبِيل لِلْفَضِيلَتَيْنِ، وَأَمَّا الْيَمَانِي فَيَسْتَلِمهُ وَلَا يُقَبِّلهُ؛ لِأَنَّ فيه فَضِيلَة وَاحِدَة، وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ فَلَا يُقَبَّلَانِ وَلَا يُسْتَلَمَانِ، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى اِسْتِحْبَاب اِسْتِلَام الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ، وَاتَّفَقَ الْجَمَاهِير عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْسَح الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَاسْتَحَبَّهُ بَعْض السَّلَف، وَمِمَّنْ كَانَ يَقُول بِاسْتِلَامِهِمَا الْحَسَن وَالْحُسَيْن اِبْنَا عَلِيّ وَابْن الزُّبَيْر وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَنَس بْن مَالِك وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَأَبُو الشَّعْثَاء جَابِر بْن زَيْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّب: أَجْمَعَتْ أَئِمَّة الْأَمْصَار وَالْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُسْتَلَمَانِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ فيه خِلَاف لِبَعْضِ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَانْقَرَضَ الْخِلَاف، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُسْتَلَمَانِ، وَاَللَّه أَعْلَم.
2224- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَسْتَلِم إِلَّا الْحَجَر الْأَسْوَد وَالرُّكْن الْيَمَانِي» يَحْتَجّ بِهِ الْجُمْهُور فِي أَنَّهُ يَقْتَصِر بِالِاسْتِلَامِ فِي الْحَجَر الْأَسْوَد عَلَيْهِ دُون الرُّكْن الَّذِي هُوَ فيه، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا فيه خِلَاف الْقَاضِي أَبِي الطِّيب.
2226- قَوْله: «رَأَيْت اِبْن عُمَر يَسْتَلِم الْحَجَر بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّلَ يَده وَقَالَ: مَا تَرَكْته مُنْذُ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلهُ» فيه: اِسْتِحْبَاب تَقْبِيل الْيَد بَعْد اِسْتِلَام الْحَجَر الْأَسْوَد إِذَا عَجَزَ عَنْ تَقْبِيل الْحَجَر، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ تَقْبِيل الْحَجَر، وَإِلَّا فَالْقَادِر يُقَبِّل الْحَجَر، وَلَا يَقْتَصِر فِي الْيَد عَلَى الِاسْتِلَام بِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اِسْتِحْبَاب تَقْبِيل الْيَد بَعْد الِاسْتِلَام لِلْعَاجِزِ هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد التَّابِعِيّ الْمَشْهُور: لَا يُسْتَحَبّ التَّقْبِيل، وَبِهِ قَالَ مَالِك فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ:

2228- قَوْله: (قَبَّلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب الْحَجَر ثُمَّ قَالَ: أَمَ وَاَللَّه لَقَدْ عَلِمْت أَنَّك حَجَر وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلك مَا قَبَّلْتُك). وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّك حَجَر وَأَنَّك لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع».
هَذَا الْحَدِيث فيه فَوَائِد مِنْهَا: اِسْتِحْبَاب تَقْبِيل الْحَجَر الْأَسْوَد فِي الطَّوَاف بَعْد اِسْتِلَامه، وَكَذَا يُسْتَحَبّ السُّجُود عَلَى الْحَجَر أَيْضًا بِأَنْ يَضَع جَبْهَته عَلَيْهِ، فَيُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَلِمهُ ثُمَّ يُقَبِّلهُ، ثُمَّ يَضَع جَبْهَته عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْن عَبَّاس وَطَاوُسٍ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد، قَالَ: وَبِهِ أَقُول، قَالَ: وَقَدْ رَوَيْنَا فيه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْفَرَدَ مَالِك عَنْ الْعُلَمَاء فَقَالَ: السُّجُود عَلَيْهِ بِدْعَة، وَاعْتَرَفَ الْقَاضِي عِيَاض الْمَالِكِيّ بِشُذُوذِ مَالِك فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَنْ الْعُلَمَاء، وَأَمَّا الرُّكْن الْيَمَانِي فَيَسْتَلِمهُ وَلَا يُقَبِّلهُ، بَلْ يُقَبِّل الْيَد بَعْد اِسْتِلَامه، هَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَبُو سَعِيد الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَسْتَلِمهُ، وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد: يَسْتَلِمهُ وَلَا يُقَبِّل الْيَد بَعْده، وَعَنْ مَالِك رِوَايَة أَنَّهُ يُقَبِّلهُ، وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَة أَنَّهُ يُقَبِّلهُ، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَقَدْ عَلِمْت أَنَّك حَجَر وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّك حَجَر وَأَنَّك لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع» فَأَرَادَ بِهِ بَيَان الْحَثّ عَلَى الِاقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْبِيله، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا الِاقْتِدَاء بِهِ لَمَا فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَإِنَّك لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع؛ لِئَلَّا يَغْتَرّ بَعْض قَرِيبِي الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ الَّذِينَ كَانُوا أَلِفُوا عِبَادَة الْأَحْجَار وَتَعْظِيمهَا وَرَجَاء نَفْعهَا، وَخَوْف الضَّرَر بِالتَّقْصِيرِ فِي تَعْظِيمهَا، وَكَانَ الْعَهْد قَرِيبًا بِذَلِكَ، فَخَافَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَرَاهُ بَعْضهمْ يُقَبِّلهُ، وَيَعْتَنِي بِهِ، فَيَشْتَبِه عَلَيْهِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَع بِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ اِمْتِثَال مَا شَرَعَ فيه يَنْفَع بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَاب فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى نَفْع وَلَا ضَرّ، وَأَنَّهُ حَجَر مَخْلُوق كَبَاقِي الْمَخْلُوقَات الَّتِي لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع وَأَشَاعَ عُمَر هَذَا فِي الْمَوْسِم؛ لِيُشْهَد فِي الْبُلْدَان، وَيَحْفَظهُ عَنْهُ أَهْل الْمَوْسِم الْمُخْتَلِفُو الْأَوْطَان. وَاَللَّه أَعْلَم.
2229- سبق شرحه بالباب.
2230- قَوْله: (رَأَيْت الْأَصْلَع) وَفِي رِوَايَة (الْأُصَيْلِع) يَعْنِي عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
فيه أَنَّهُ لَا بَأْس بِذِكْرِ الْإِنْسَان بِلَقَبِهِ وَوَصْفه الَّذِي يَكْرَههُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكْرَه غَيْره مِثْله.
2232- قَوْله: (رَأَيْت عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَبَّلَ الْحَجَر وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِك حَفِيًّا) يَعْنِي مُعْتَنِيًا، وَجَمْعه: أَحْفِيَاء.
قَوْله: (وَالْتَزَمَهُ) فيه إِشَارَة إِلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ اِسْتِحْبَاب السُّجُود عَلَيْهِ، وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب جَوَازِ الطَّوَافِ عَلَى بَعِيرٍ وَغَيْرِهِ وَاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ بِمِحْجَنٍ وَنَحْوِهِ لِلرَّاكِبِ:

2233- قَوْله: (أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّة الْوَدَاع عَلَى بَعِير يَسْتَلِم الرُّكْن بِمِحْجَنٍ) (الْمِحْجَن) بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الْحَاء وَفَتْح الْجِيم، وَهُوَ عَصًا مَعْقُوفَة، يَتَنَاوَل بِهَا الرَّاكِب مَا سَقَطَ لَهُ، وَيُحَرِّك بِطَرَفِهَا بَعِيره لِلْمَشْيِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الطَّوَاف رَاكِبًا، وَاسْتِحْبَاب اِسْتِلَام الْحَجَر، وَأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ اِسْتِلَامه بِيَدِهِ اِسْتَلَمَهُ بِعُودٍ.
وَفيه: جَوَاز قَوْل: حَجَّة الْوَدَاع، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ بَعْض الْعُلَمَاء كَرِهَ أَنْ يُقَال لَهَا: حَجَّة الْوَدَاع، وَهُوَ غَلَط، وَالصَّوَاب جَوَاز قَوْل: حَجَّة الْوَدَاع. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَاب مَالِك وَأَحْمَد عَلَى طَهَارَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه وَرَوْثه؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن ذَلِكَ مِنْ الْبَعِير، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا عَرَّضَ الْمَسْجِد لَهُ. وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَآخَرِينَ نَجَاسَة ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث لَا دَلَالَة فيه؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَته أَنْ يَبُول أَوْ يَرُوث فِي حَال الطَّوَاف، وَإِنَّمَا هُوَ مُحْتَمَل، وَعَلَى تَقْدِير حُصُوله يُنَظَّف الْمَسْجِد مِنْهُ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ إِدْخَال الصِّبْيَان الْأَطْفَال الْمَسْجِد مَعَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَن بَوْلهمْ، بَلْ قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَقَّقًا لَنَزَّهَ الْمَسْجِد مِنْهُ سَوَاء كَانَ نَجِسًا أَوْ طَاهِرًا لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَر.
2234- قَوْله فِي طَوَافه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا: «لِأَنْ يَرَاهُ النَّاس وَلِيُشْرِف وَلِيَسْأَلُوهُ» هَذَا بَيَان لِعِلَّةِ رُكُوبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ أَيْضًا لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَجَاءَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَوَافه هَذَا مَرِيضًا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْبُخَارِيّ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَاب الْمَرِيض يَطُوف رَاكِبًا، فَيُحْتَمَل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا لِهَذَا كُلّه.
قَوْله: «فَإِنَّ النَّاس غَشُوهُ» هُوَ بِتَخْفِيفِ الشِّين أَيْ اِزْدَحَمُوا عَلَيْهِ.
2236- قَوْلهَا: «كَرَاهِيَة أَنْ يُضْرَب عَنْهُ النَّاس» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (يُضْرَب) بِالْبَاءِ وَفِي بَعْضهَا (يُصْرَف) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَة وَالْفَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله: (حَدَّثَنِي الْحَكَم بْن مُوسَى الْقَنْطَرِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف، قَالَ السَّمْعَانِيّ: هُوَ مِنْ قَنْطَرَة بَرَدَان وَهِيَ مَحَلَّة مِنْ بَغْدَاد.
2237- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا مَعْرُوف بْن خَرَّبُوذ) هُوَ بِخَاءٍ مُعْجَمَة مَفْتُوحَة وَمَضْمُومَة، الْفَتْح أَشْهَر، وَمِمَّنْ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق، وَالْقَائِل بِالضَّمِّ هُوَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَقَالَ الْجُمْهُور بِالْفَتْحِ وَبَعْد الْخَاء رَاء مَفْتُوحَة مُشَدَّدَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة مَضْمُومَة ثُمَّ وَاو ثُمَّ ذَال مُعْجَمَة.
قَوْله: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوف بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِم الرُّكْن بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّل الْمِحْجَن» فيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب اِسْتِلَام الْحَجَر الْأَسْوَد، وَأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ اِسْتِلَامه بِيَدِهِ بِأَنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ غَيْره اِسْتَلَمَهُ بِعَصًا وَنَحْوهَا، ثُمَّ قَبَّلَ مَا اِسْتَلَمَ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبنَا.
2238- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاء النَّاس وَأَنْتِ رَاكِبَة، قَالَتْ: فَطُفْت وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْب الْبَيْت وَهُوَ يَقْرَأ بِالطُّورِ وَكِتَاب مَسْطُور» إِنَّمَا أَمَرَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّوَافِ مِنْ وَرَاء النَّاس لِشَيْئَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ سُنَّة النِّسَاء التَّبَاعُد عَنْ الرِّجَال فِي الطَّوَاف.
وَالثَّانِي: أَنَّ قُرْبهَا يُخَاف مِنْهُ تَأَذِّي النَّاس بِدَابَّتِهَا، وَكَذَا إِذَا طَافَ الرَّجُل رَاكِبًا، وَإِنَّمَا طَافَتْ فِي حَال صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَسْتَر لَهَا وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح، وَاَللَّه أَعْلَم.

.(بَاب بَيَان أَنَّ السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة رُكْن لَا يَصِحّ الْحَجّ إِلَّا بِهِ):

مَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ: أَنَّ السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة رُكْن مِنْ أَرْكَان الْحَجّ، لَا يَصِحّ إِلَّا بِهِ وَلَا يُجْبَر بِدَمٍ وَلَا غَيْره، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ بَعْض السَّلَف: هُوَ تَطَوُّع، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: هُوَ وَاجِب، فَإِنْ تَرَكَهُ عَصَى وَجَبَرَهُ بِالدَّمِ وَصَحَّحَ حَجّه.
دَلِيل الْجُمْهُور أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَى، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ» وَالْمَشْرُوع سَعْي وَاحِد، وَالْأَفْضَل أَنْ يَكُون بَعْد طَوَاف الْقُدُوم، وَيَجُوز تَأْخِيره إِلَى مَا بَعْد طَوَاف الْإِفَاضَة.
2239- قَوْله: (عَنْ عُرْوَة أَنَّهُ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ السَّعْي لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّف بِهِمَا} وَأَنَّ عَائِشَة أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: لَا يَتِمّ الْحَجّ إِلَّا بِهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُول يَا عُرْوَة لَكَانَتْ فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّف بِهِمَا) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا مِنْ دَقِيق عِلْمهَا وَفَهْمهَا الثَّاقِب وَكَبِير مَعْرِفَتهَا بِدَقَائِق الْأَلْفَاظ؛ لِأَنَّ الْآيَة الْكَرِيمَة إِنَّمَا دَلَّ لَفْظهَا عَلَى رَفْع الْجُنَاح عَمَّنْ يَطَّوَّف بِهِمَا، وَلَيْسَ فيه دَلَالَة عَلَى عَدَم وُجُوب السَّعْي، وَلَا عَلَى وُجُوبه، فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ الْآيَة لَيْسَتْ فيها دَلَالَة لِلْوُجُوبِ وَلَا لِعَدَمِهِ، وَبَيَّنَتْ السَّبَب فِي نُزُولهَا، وَالْحِكْمَة فِي نَظْمهَا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَار حِين تَحَرَّجُوا مِنْ السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَمَا يَقُول عُرْوَة لَكَانَتْ فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّف بِهِمَا، وَقَدْ يَكُون الْفِعْل وَاجِبًا وَيَعْتَقِد إِنْسَان أَنَّهُ يُمْنَع إِيقَاعه عَلَى صِفَة مَخْصُوصَة، وَذَلِكَ كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاة الظُّهْر وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوز فِعْلهَا عِنْد غُرُوب الشَّمْس، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَيُقَال فِي جَوَابه: لَا جُنَاح عَلَيْك إِنْ صَلَّيْتهَا فِي هَذَا الْوَقْت، فَيَكُون جَوَابًا صَحِيحًا، وَلَا يَقْتَضِي نَفْي وُجُوب صَلَاة الظُّهْر.
قَوْلهَا: (وَهَلْ تَدْرِي فِيمَا كَانَ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَار كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّة لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطّ الْبَحْر يُقَال لَهُمَا: إِسَاف وَنَائِلَة) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة، قَالَ: وَهُوَ غَلَط، وَالصَّوَاب مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَات الْأُخَر فِي الْبَاب (يُهِلُّونَ لِمَنَاة) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (لِمَنَاة الطَّاغِيَة الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ) قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف و(مَنَاة) صَنَم كَانَ نَصَبَهُ عَمْرو بْن لُحَيّ فِي جِهَة الْبَحْر بِالْمُشَلَّلِ مِمَّا يَلِي قُدَيْدًا، وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي هَذَا الْحَدِيث فِي الْمُوَطَّأ، وَكَانَتْ الْأَزْد وَغَسَّان تُهِلّ لَهُ بِالْحَجِّ، وَقَالَ اِبْن الْكَلْبِيّ: (مَنَاة) صَخْرَة لِهُذَيْل بِقُدَيْد.
وَأَمَّا (إِسَاف وَنَائِلَة) فَلَمْ يَكُونَا قَطُّ فِي نَاحِيَة الْبَحْر، وَإِنَّمَا كَانَا فِيمَا يُقَال رَجُلًا وَامْرَأَة، فَالرَّجُل اِسْمه إِسَاف بْن بَقَاء، وَيُقَال اِبْن عَمْرو، وَالْمَرْأَة اِسْمهَا نَائِلَة بِنْت ذِئْب، وَيُقَال بِنْت سَهْل، قِيلَ: كَانَا مِنْ جُرْهُم فَزَنَيَا دَاخِل الْكَعْبَة، فَمَسَخَهُمَا اللَّه حَجَرَيْنِ، فَنُصِّبَا عِنْد الْكَعْبَة، وَقِيلَ: عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَة لِيَعْتَبِر النَّاس بِهِمَا وَيَتَّعِظُوا، ثُمَّ حَوَّلَهُمَا قُصَيّ بْن كِلَاب فَجَعَلَ أَحَدهمَا مُلَاصِق الْكَعْبَة وَالْآخَر بِزَمْزَم، وَقِيلَ: جَعَلَهُمَا بِزَمْزَم، وَنَحَرَ عِنْدهمَا وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِمَا فَلَمَّا فَتَحَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة كَسَرَهُمَا. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض.
2240- سبق شرحه بالباب.
2241- قَوْله: فِي حَدِيث عَمْرو النَّاقِد وَابْن أَبِي عُمَر: (بِئْسَ مَا قُلْت يَا اِبْن أُخْتِي) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ بِالتَّاءِ وَفِي بَعْضهَا (أَخِي) بِحَذْفِ التَّاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَشْهَر، وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة.
قَوْله: (فَأَعْجَبَهُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْم) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ (إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ) بِالتَّنْوِينِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَمَعْنَى الْأَوَّل: أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْم الْمُتْقَن، وَمَعْنَاهُ: اِسْتِحْسَان قَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَبَلَاغَتهَا فِي تَفْسِير الْآيَة الْكَرِيمَة.
قَوْله: (فَأُرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ) ضَبَطُوهُ بِضَمِّ الْهَمْزَة مِنْ (أُرَاهَا) وَفَتْحهَا، وَالضَّمّ أَحْسَن وَأَشْهَر.
قَوْلهَا: (قَدْ سَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَاف بَيْنهمَا) يَعْنِي شَرَعَهُ، وَجَعَلَهُ رُكْنًا. وَاَللَّه أَعْلَم.