فصل: باب اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب اِسْتِحْبَاب صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر وَصَوْم يَوْم عَرَفَة وَعَاشُورَاء وَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس):

فيه حَدِيث عَائِشَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر، وَلَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيّ أَيَّام الشَّهْر يَصُوم» وَحَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ- أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَسْمَعُ-: يَا فُلَانُ أَصُمْت مِنْ سُرَّةِ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْت فَصُمْ يَوْمَيْنِ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «مِنْ سُرَّة هَذَا الشَّهْر» بِالْهَاءِ بَعْد الرَّاء، وَذَكَرَ مُسْلِم بَعْده حَدِيث أَبِي قَتَادَة ثُمَّ حَدِيث عِمْرَان أَيْضًا فِي: «سُرَر شَعْبَان» وَهَذَا تَصْرِيح مِنْ مُسْلِم بِأَنَّ رِوَايَة عِمْرَانَ الْأُولَى بِالْهَاءِ وَالثَّانِيَة بِالرَّاءِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنهمَا وَأَدْخَل الْأُولَى مَعَ حَدِيث عَائِشَة كَالتَّفْسِيرِ لَهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُول: يُسْتَحَبّ أَنْ تَكُون الْأَيَّام الثَّلَاثَة مِنْ سُرَّة الشَّهْر، وَهِيَ وَسَطُهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى اِسْتِحْبَابه، وَهُوَ اِسْتِحْبَاب كَوْن الثَّلَاثَة هِيَ أَيَّام الْبِيض، وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَقَدْ جَاءَ فيها حَدِيث فِي كِتَاب التِّرْمِذِيّ وَغَيْره، وَقِيلَ: هِيَ الثَّانِي عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَاظِب عَلَى ثَلَاثَة مُعَيَّنَةٍ، لِئَلَّا يُظَنّ تَعَيُّنُهَا، وَنَبَّهَ بِسُرَّةِ الشَّهْر وَبِحَدِيثِ التِّرْمِذِيّ فِي أَيَّام الْبِيض عَلَى فَضِيلَتهَا.
1974- سبق شرحه بالباب.
1975- سبق شرحه بالباب.
1976- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيّ) هُوَ بِزَايٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مِيمٍ مُشَدَّدَةٍ.
قَوْله: عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَعْبَد الزِّمَّانِيّ عَنْ أَبِي قَتَادَة: «رَجُل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْف تَصُوم؟» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (عَنْ أَبِي قَتَادَة رَجُل أَتَى) وَعَلَى هَذَا يُقْرَأُ رَجُل بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف، أَيْ الشَّأْن وَالْأَمْر رَجُل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ، وَقَدْ أُصْلِحَ فِي بَعْض النُّسَخ (أَنَّ رَجُلًا أَتَى) وَكَانَ مُوجَب هَذَا الْإِصْلَاح جَهَالَة اِنْتِظَام الْأَوَّل، وَهُوَ مُنْتَظِم كَمَا ذَكَرْته، فَلَا يَجُوز تَغْيِيره. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «رَجُل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْف تَصُوم؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَبُ غَضَبِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ مَسْأَلَتَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُجِيبَهُ وَيَخْشَى مِنْ جَوَابه مَفْسَدَةً، وَهِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا اِعْتَقَدَ السَّائِل وُجُوبه أَوْ اِسْتَقَلَّهُ أَوْ اِقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقْتَضِي حَاله أَكْثَر مِنْهُ، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشُغْلِهِ بِمَصَالِح الْمُسْلِمِينَ وَحُقُوقهمْ وَحُقُوق أَزْوَاجه وَأَضْيَافه وَالْوَافِدِينَ إِلَيْهِ، لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فَيُؤَدِّيَ إِلَى الضَّرَر فِي حَقّ بَعْضهمْ، وَكَانَ حَقّ السَّائِل أَنْ يَقُول: كَمْ أَصُوم أَوْ كَيْف أَصُوم؟ فَيَخُصّ السُّؤَال بِنَفْسِهِ لِيُجِيبَهُ بِمَا تَقْتَضِيهِ حَالُهُ، كَمَا أَجَابَ غَيْره بِمُقْتَضَى أَحْوَالهمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «كَيْف مَنْ يَصُوم يَوْمًا وَيُفْطِر يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: وَدِدْت أَنِّي طُوِّقْت ذَاكَ» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ: وَدِدْت أَنَّ أُمَّتِي تُطَوِّقُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطِيقُهُ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَكَانَ يُوَاصِل وَيَقُول: «إِنِّي لَسْت كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أَبِيت عِنْد رَبِّي يُطْعِمنِي وَيَسْقِينِي»، قُلْت: وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «لَيْتَ أَنَّ اللَّه قَوَّانَا لِذَلِكَ»، أَوْ يُقَال: إِنَّمَا قَالَهُ لِحُقُوقِ نِسَائِهِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ وَالْقَاصِدِينَ إِلَيْهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَام يَوْم عَرَفَة أَحْتُسِبَ عَلَى اللَّه أَنْ يُكَفِّر السَّنَة الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَة الَّتِي بَعْده» مَعْنَاهُ: يُكَفِّر ذُنُوب صَائِمه فِي السَّنَتَيْنِ، قَالُوا: وَالْمُرَاد بِهَا الصَّغَائِر، وَسَبَقَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا فِي تَكْفِير الْخَطَايَا بِالْوُضُوءِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَغَائِرُ يُرْجَى التَّخْفِيف مِنْ الْكَبَائِر، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُفِعَتْ دَرَجَات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِيَام الدَّهْر: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
1977- قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة شُعْبَة: «قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْر الْخَمِيس لِمَا نَرَاهُ وَهْمًا» ضَبَطُوا (نَرَاهُ) بِفَتْحِ النُّون وَضَمِّهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّمَا تَرَكَهُ وَسَكَتَ عَنْهُ؛ لِقَوْلِهِ: «فيه وُلِدْت وَفيه بُعِثْت أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ» وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَات الْبَاقِيَات (يَوْم الِاثْنَيْنِ) دُون ذِكْر الْخَمِيس، فَلَمَّا كَانَ فِي رِوَايَة شُعْبَة ذِكْر الْخَمِيس تَرَكَهُ مُسْلِم، لِأَنَّهُ رَآهُ وَهْمًا، قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل صِحَّة رِوَايَة شُعْبَة، وَيَرْجِع الْوَصْف بِالْوِلَادَةِ وَالْإِنْزَال إِلَى الِاثْنَيْنِ دُون الْخَمِيس، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي مُتَعَيِّن. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِين هَذِهِ الْأَيَّام الثَّلَاثَة الْمُسْتَحَبَّة مِنْ كُلّ شَهْر، فَفَسَّرَهُ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِأَيَّامِ الْبِيض، وَهِيَ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، مِنْهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَابْن مَسْعُود، وَأَبُو ذَرّ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ، وَاخْتَارَ النَّخَعِيُّ وَآخَرُونَ آخِر الشَّهْر، وَاخْتَارَ آخَرُونَ ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّله مِنْهُمْ الْحَسَن، وَاخْتَارَتْ عَائِشَة وَآخَرُونَ صِيَام السَّبْت وَالْأَحَد وَالِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْر، ثُمَّ الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس مِنْ الشَّهْر الَّذِي بَعْده، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، وَفِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ اِبْن عُمَر: أَوَّل إِثْنَيْنِ فِي الشَّهْر وَخَمِيسَانِ بَعْده، وَعَنْ أُمّ سَلَمَة أَوَّل خَمِيس وَالِاثْنَيْنِ بَعْده، ثُمَّ الِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ: أَوَّل يَوْم الشَّهْر وَالْعَاشِر وَالْعِشْرِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ صِيَام مَالِك بْن أَنَس، وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَة صَوْم أَيَّام الْبِيض، وَقَالَ اِبْن شَعْبَان الْمَالِكِيّ: أَوَّل يَوْم مِنْ الشَّهْر وَالْحَادِي وَعِشْرُونَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَاب صَوْم سُرَر شَعْبَان):

فيه: عِمْرَان بْن الْحُصَيْنِ: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَوْ لِآخَرَ: أَصُمْت مِنْ سُرَر شَعْبَان؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْت فَصُمْ يَوْمَيْنِ» وَفِي رِوَايَة: «فَإِذَا أَفْطَرْت مِنْ رَمَضَان فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانه» ضَبَطُوا (سَرَر) بِفَتْحِ السِّين وَكَسْرهَا، وَحَكَى الْقَاضِي ضَمَّهَا، قَالَ: وَهُوَ جَمْع (سُرَّة) وَيُقَال: أَيْضًا سَرَار وَسِرَار بِفَتْحِ السِّين وَكَسْرهَا وَكُلّه مِنْ الِاسْتِسْرَار، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْحَدِيث وَالْغَرِيب: الْمُرَاد بِالسُّرَرِ آخِر الشَّهْر، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِسْرَارِ الْقَمَر فيها، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَبُو عُبَيْد وَأَهْل اللُّغَة: السُّرَر آخِر الشَّهْر، قَالَ: وَأَنْكَرَ بَعْضهمْ هَذَا، وَقَالَ: الْمُرَاد وَسَط الشَّهْر، قَالَ: وَسِرَار كُلّ شَيْء وَسَطه، قَالَ هَذَا الْقَائِل: لَمْ يَأْتِ فِي صِيَام آخِر الشَّهْر نَدْب فَلَا يُحْمَل الْحَدِيث عَلَيْهِ، بِخِلَافِ وَسَطه فَإِنَّهَا أَيَّام الْبِيض، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ سُرَره: أَوَّله، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ سُرَره: آخِره، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَن الْكَبِير بَعْد أَنْ رَوَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: الصَّحِيح آخِره، وَلَمْ يَعْرِف الْأَزْهَرِيّ أَنَّ سُرَره أَوَّله، قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَاَلَّذِي يَعْرِفهُ النَّاس أَنَّ سُرَره آخِره، وَيُعْضَد مِنْ فَسِرّه بِوَسَطِهِ الرِّوَايَة السَّابِقَة فِي الْبَاب قَبْله: «سُرَّة هَذَا الشَّهْر»، وَسَرَارَة الْوَادِي وَسَطُه وَخِيَاره، وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: سِرَار الْأَرْض: أَكْرَمهَا وَوَسَطهَا، وَسِرَار كُلّ شَيْء: وَسَطه وَأَفْضَله، فَقَدْ يَكُون سِرَار الشَّهْر مِنْ هَذَا، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَشْهَر أَنَّ الْمُرَاد آخِر الشَّهْر كَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْد وَالْأَكْثَرُونَ، وَعَلَى هَذَا يُقَال: هَذَا الْحَدِيث مُخَالِف لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ تَقْدِيم رَمَضَان بِصَوْمِ يَوْم وَيَوْمَيْنِ، وَيُجَاب عَنْهُ بِمَا أَجَابَ الْمَازِرِيّ وَغَيْره، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّجُل كَانَ مُعْتَاد الصِّيَام آخِر الشَّهْر أَوْ نَذَرَهُ فَتَرَكَهُ بِخَوْفِهِ مِنْ الدُّخُول فِي النَّهْي عَنْ تَقَدَّمَ رَمَضَان، فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصَّوْم الْمُعْتَاد لَا يَدْخُل فِي النَّهْي، وَإِنَّمَا نَنْهَى عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَادِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1979- سبق شرحه بالباب.
1980- سبق شرحه بالباب.
1981- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن مُثَنَّى: «إِذَا أَفْطَرْت رَمَضَانَ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ وَهُوَ صَحِيح، أَيْ: أَفْطَرْت مِنْ رَمَضَان كَمَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْلهَا، وَحَذَفَ لَفْظَة (مِنْ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَة، وَهِيَ مُرَاده كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أَيْ: مِنْ قَوْمه. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب فَضْلِ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ:

1982- قَوْله: (عَنْ حُمَيْدِ بْن عَبْد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة) أَعْلَم أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة يَرْوِي عَنْهُ اِثْنَانِ: كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حُمَيْدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن، أَحَدهمَا: هَذَا الْحِمْيَرِيّ، وَالثَّانِي: حُمَيْدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف الزُّهْرِيُّ، قَالَ الْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ: كُلّ مَا فِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم حُمَيْدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، فَهُوَ الزُّهْرِيُّ، إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيث خَاصَّة حَدِيث: «أَفْضَل الصِّيَام بَعْد شَهْر رَمَضَان شَهْر اللَّه الْمُحَرَّم، وَأَفْضَل الصَّلَاة بَعْد الْفَرِيضَة صَلَاة اللَّيْل» فَإِنَّ رَاوِيَهُ حُمَيْدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَهَذَا الْحَدِيث لَمْ يَذْكُرهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه، وَلَا ذَكَرَ لِلْحِمْيَرِيِّ فِي الْبُخَارِيّ أَصْلًا، وَلَا فِي مُسْلِم إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَل الصِّيَام بَعْد رَمَضَان شَهْر اللَّه الْمُحَرَّم» تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَفْضَل الشُّهُور لِلصَّوْمِ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَاب عَنْ إِكْثَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَوْم شَعْبَان دُون الْمُحْرِم، وَذَكَرنَا فيه جَوَابَيْنِ: أَحَدهمَا: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ فَضْلَهُ فِي آخِر حَيَاته، وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِض فيه أَعْذَار، مَنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَفْضَل الصَّلَاة بَعْد الْفَرِيضَة صَلَاة اللَّيْل» فيه دَلِيل لِمَا اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ أَنَّ تَطَوُّعَ اللَّيْل أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ، وَفيه حُجَّةُ لِأَبِي إِسْحَاق الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابنَا وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ صَلَاة اللَّيْل أَفْضَل مِنْ السُّنَن الرَّاتِبَة، وَقَالَ أَكْثَر أَصْحَابنَا: الرَّوَاتِب أَفْضَل، لِأَنَّهَا تُشْبِه الْفَرَائِضَ، وَالْأَوَّل أَقْوَى وَأَوْفَقُ لِلْحَدِيثِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ اتِّبَاعًا لِرَمَضَانَ:

1984- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَان ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْر» فيه دَلَالَة صَرِيحَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَمُوَافِقَيْهِمْ فِي اِسْتِحْبَاب صَوْم هَذِهِ السِّتَّة، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة: يُكْرَه ذَلِكَ، قَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ: مَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْم يَصُومهَا، قَالُوا: فَيُكْرَهُ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ. وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح، وَإِذَا ثَبَتَتْ السُّنَّة لَا تُتْرَكُ لِتَرْكِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَوْ كُلِّهِمْ لَهَا، وَقَوْلهمْ: قَدْ يُظَنّ وُجُوبهَا، يُنْتَقَض بِصَوْمِ عَرَفَة وَعَاشُورَاء وَغَيْرهمَا مِنْ الصَّوْم الْمَنْدُوب.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْأَفْضَل أَنْ تُصَامَ السِّتَّةُ مُتَوَالِيَةً عَقِبَ يَوْم الْفِطْرِ، فَإِنْ فَرَّقَهَا أَوْ أَخَّرَهَا عَنْ أَوَائِل شَوَّال إِلَى أَوَاخِره حَصَلَتْ فَضِيلَة الْمُتَابَعَةُ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ أَنَّهُ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّال، قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْر؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَرَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَالسِّتَّة بِشَهْرَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي حَدِيث مَرْفُوع فِي كِتَاب النَّسَائِيِّ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِتًّا مِنْ شَوَّال» صَحِيح، وَلَوْ قَالَ: (سِتَّة) بِالْهَاءِ جَازَ أَيْضًا، قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: صُمْنَا خَمْسًا وَسِتًّا وَخَمْسَةً وَسِتَّةً، وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُونَ الْهَاء فِي الْمُذَكَّر إِذَا ذَكَرُوهُ بِلَفْظِهِ صَرِيحًا، فَيَقُولُونَ: صُمْنَا سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَجُوز: سِتَّ أَيَّامٍ، فَإِذَا حَذَفُوا الْأَيَّام جَازَ الْوَجْهَانِ، وَمِمَّا جَاءَ حَذْفُ الْهَاءِ فيه مِنْ الْمُذَكَّرِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ بِلَفْظِهِ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أَيْ: عَشَرَة أَيَّام، وَقَدْ بَسَطْت إِيضَاحَ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات، وَفِي شَرْح الْمُهَذَّب. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَاب فَضْل لَيْلَة الْقَدْر وَالْحَثّ عَلَى طَلَبهَا وَبَيَان مَحَلّهَا وَأَرْجَى أَوْقَات طَلَبهَا):

قَالَ الْعُلَمَاء: وَسُمِّيَتْ لَيْلَة الْقَدْر؛ لِمَا يُكْتَب فيها لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ الْأَقْدَار وَالْأَرْزَاق وَالْآجَال الَّتِي تَكُون فِي تِلْكَ السَّنَة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فيها يُفْرَق كُلّ أَمْر حَكِيم} وَقَوْله تَعَالَى: {تَنَزَّل الْمَلَائِكَة وَالرُّوح فيها بِإِذْنِ رَبّهمْ مِنْ كُلّ أَمْر} وَمَعْنَاهُ: يَظْهَر لِلْمَلَائِكَةِ مَا سَيَكُونُ فيها، وَيَأْمُرهُمْ بِفِعْلِ مَا هُوَ مِنْ وَظِيفَتهمْ، وَكُلّ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ عِلْم اللَّه تَعَالَى بِهِ، وَتَقْدِيره لَهُ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ لَيْلَة الْقَدْر؛ لِعِظَمِ قَدْرهَا وَشَرَفهَا، وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى وُجُودهَا وَدَوَامهَا إِلَى آخِر الدَّهْر؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة، قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلّهَا، فَقَالَ جَمَاعَة: هِيَ مُنْتَقِلَة تَكُون فِي سَنَة فِي لَيْلَة، وَفِي سَنَة أُخْرَى فِي لَيْلَة أُخْرَى، وَهَكَذَا، وَبِهَذَا يُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيث، وَيُقَال: كُلّ حَدِيث جَاءَ بِأَحَدِ أَوْقَاتهَا وَلَا تَعَارُض فيها، قَالَ: وَنَحْو هَذَا قَوْل مَالِك وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر وَغَيْرهمْ، قَالُوا: وَإِنَّمَا تَنْتَقِل فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان، وَقِيلَ: بَلْ فِي كُلّه، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُعَيَّنَة فَلَا تَنْتَقِل أَبَدًا بَلْ هِيَ لَيْلَة مُعَيَّنَة فِي جَمِيع السِّنِينَ لَا تُفَارِقهَا، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: فِي السَّنَة كُلّهَا، وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَأَبِي حَنِيفَة وَصَاحِبَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ فِي شَهْر رَمَضَان كُلّه، وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، وَقِيلَ: بَلْ فِي الْعَشْر الْوَسَط وَالْأَوَاخِر، وَقِيلَ: فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر، وَقِيلَ: تَخْتَصّ بِأَوْتَارِ الْعَشْر، وَقِيلَ: بِأَشْفَاعِهَا. كَمَا فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد، وَقِيلَ: بَلْ فِي ثَلَاث وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْع وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس، وَقِيلَ: تُطْلَب فِي لَيْلَة سَبْع عَشْرَة أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاث وَعِشْرِينَ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود، وَقِيلَ: لَيْلَة ثَلَاث وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْل كَثِيرِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ، وَقِيلَ: لَيْلَة أَرْبَع وَعِشْرِينَ، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ بِلَال وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَةَ، وَقِيلَ: لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ، وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، وَقِيلَ: سَبْع عَشْرَة، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم وَابْن مَسْعُود أَيْضًا، وَقِيلَ: تِسْع عَشْرَة، وَحُكِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيّ أَيْضًا، وَقِيلَ: آخِر لَيْلَة مِنْ الشَّهْر، قَالَ الْقَاضِي: وَشَذَّ قَوْم فَقَالُوا: رُفِعَتْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين تَلَاحَا الرَّجُلَانِ: «فَرُفِعَتْ»، وَهَذَا غَلَط مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّاذِّينَ؛ لِأَنَّ آخِر الْحَدِيث يَرُدّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُون خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي السَّبْع وَالتِّسْع»، هَكَذَا هُوَ فِي أَوَّل صَحِيح الْبُخَارِيّ، وَفيه تَصْرِيح بِأَنَّ الْمُرَاد بِرَفْعِهَا رَفْع بَيَان عِلْم عَيْنهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد رَفْع وُجُودهَا لَمْ يَأْمُر بِالْتِمَاسِهَا.
1985- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَتْ» أَيْ: تَوَافَقَتْ، وَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ بِطَاءٍ ثُمَّ تَاء، وَهُوَ مَهْمُوز وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَب بِأَلِفٍ بَيْن الطَّاء وَالتَّاء صُورَة لِلْهَمْزَةِ، ولابد مِنْ قِرَاءَته مَهْمُوزًا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّة مَا حَرَّمَ اللَّه}.
1986- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَة الْقَدْر» أَيْ: اِحْرِصُوا عَلَى طَلَبهَا وَاجْتَهِدُوا فيه.
1988- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْر الْغَوَابِر» يَعْنِي: الْبَوَاقِي وَهِيَ الْأَوَاخِر.
1989- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْع الْبَوَاقِي»، وَفِي بَعْض النُّسَخ (عَنْ السَّبْع) بَدَل (عَلَى) وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
1991- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَيَّنُوا لَيْلَة الْقَدْر» أَيْ اُطْلُبُوا حِينهَا وَهُوَ زَمَانهَا.
1992- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْقَظَنِي أَهْلِي فَنُسِّيتهَا وَقَالَ حَرْمَلَة: فَنَسِيتهَا» الْأَوَّل بِضَمِّ النُّون وَتَشْدِيد السِّين، وَالثَّانِي: بِفَتْحِ وَتَخْفِيف السِّين.
1993- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ اِعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَبِتْ فِي مُعْتَكَفه» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (فَلْيَبِتْ) مِنْ الْمَبِيت، وَفِي بَعْضهَا (فَلْيَثْبُتْ) مِنْ الثُّبُوت، وَفِي بَعْضهَا (فَلْيَلْبَثْ) مِنْ اللُّبْث، وَكُلّه صَحِيح، وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (غَيْر أَنَّهُ قَالَ فَلْيَثْبُتْ) هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة مِنْ الثُّبُوت، وَفِي بَعْضهَا (فَلْيَبِتْ) مِنْ الْمَبِيت، وَمُعْتَكَفه بِفَتْحِ الْكَاف وَهُوَ مَوْضِع الِاعْتِكَاف.
قَوْله: «فَوَكَفَ الْمَسْجِد» أَيْ: قَطَرَ مَاء الْمَطَر مِنْ سَقْفه.
قَوْله: «فَنَظَرْت إِلَيْهِ وَقَدْ اِنْصَرَفَ مِنْ صَلَاة الصُّبْح، وَوَجْهه مُبْتَلّ طِينًا وَمَاء» قَالَ الْبُخَارِيّ: وَكَانَ الْحُمَيْدِيّ يَحْتَجّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ السُّنَّة لِلْمُصَلِّي أَلَّا يَمْسَح جَبْهَته فِي الصَّلَاة، وَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاء: يُسْتَحَبّ أَلَّا يَمْسَحهَا فِي الصَّلَاة، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يَمْنَع مُبَاشَرَة بَشَرَة الْجَبْهَة لِلْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَمْنَع ذَلِكَ لَمْ يَصِحّ سُجُوده بَعْده عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ فِي مَنْع السُّجُود عَلَى حَائِل مُتَّصِل بِهِ.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «وَجَبِينه مُمْتَلِئًا طِينًا وَمَاء» لَا يُخَالِف مَا تَأَوَّلْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَبِين غَيْر الْجَبْهَة، فَالْجَبِين فِي جَانِب الْجَبْهَة، وَلِلْإِنْسَانِ جَبِينَانِ يَكْتَنِفَانِ الْجَبْهَة، وَلَا يَلْزَم مِنْ اِمْتِلَاء الْجَبِين اِمْتِلَاء الْجَبْهَة وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: (مُمْتَلِئًا) كَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (مُمْتَلِئًا) بِالنَّصْبِ وَفِي بَعْضهَا: (مُمْتَلِئ) وَيُقَدَّر لِلْمَنْصُوبِ فِعْل مَحْذُوف، أَيْ: وَجَبِينه رَأَيْته مُمْتَلِئًا.
1994- قَوْله فِي حَدِيث مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى: «ثُمَّ اِعْتَكَفْت الْعَشْر الْأَوْسَط» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، وَالْمَشْهُور فِي الِاسْتِعْمَال تَأْنِيث الْعَشْر كَمَا قَالَ فِي أَكْثَر الْأَحَادِيث: «الْعَشْر الْأَوَاخِر» وَتَذْكِيره أَيْضًا لُغَة صَحِيحَة بِاعْتِبَارِ الْأَيَّام، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْوَقْت وَالزَّمَان، وَيَكْفِي فِي صِحَّتهَا ثُبُوت اِسْتِعْمَالهَا فِي الْحَدِيث مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: (قُبَّة تُرْكِيَّة) أَيْ: قُبَّة صَغِيرَة مِنْ لُبُود.
قَوْله: (وَرَوْثَة أَنْفه) هِيَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة، وَهِيَ طَرَفه، وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: أَرْنَبَة الْأَنْف، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
1995- قَوْله: «وَمَا نَرَى فِي السَّمَاء قَزَعَة» أَيْ: قِطْعَة سَحَابٍ.
1996- قَوْله: «أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ» هُوَ بِقَافٍ مَضْمُومَة وَوَاو مَكْسُورَة مُشَدَّدَة وَضَاد مُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ: أُزِيلَ، يُقَال: قَاضَ الْبِنَاء وَانْقَاضَ، أَيْ: اِنْهَدَمَ وَقَوَّضْته أَنَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ» هُوَ بِالْقَافِ، وَمَعْنَاهُ: يَطْلُب كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حَقّه، وَيَدَّعِي أَنَّهُ الْمُحِقّ، وَفيه أَنَّ الْمُخَاصَمَة وَالْمُنَازَعَة مَذْمُومَة، وَأَنَّهَا سَبَب لِلْعُقُوبَةِ الْمَعْنَوِيَّة.
قَوْله: «فَإِذَا مَضَتْ وَاحِدَة وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ فَهِيَ التَّاسِعَة» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ) بِالْيَاءِ وَفِي بَعْضهَا (ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ) بِالْأَلِفِ وَالْوَاو، وَالْأَوَّل أَصْوَب، وَهُوَ مَنْصُوب بِفِعْلٍ مَحْذُوف تَقْدِيره: أَعْنِي ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ.
1997- قَوْله: (وَكَانَ عَبْد اللَّه بْن أُنَيْس يَقُول: ثَلَاث وَعِشْرِينَ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ وَفِي بَعْضهَا: (ثَلَاث وَعِشْرُونَ) وَهَذَا ظَاهِر، وَالْأَوَّل جَارٍ عَلَى لُغَة شَاذَّة: أَنَّهُ يَجُوز حَذْف الْمُضَاف وَيَبْقَى الْمُضَاف إِلَيْهِ مَجْرُورًا، أَيْ: لَيْلَة ثَلَاث وَعِشْرِينَ.
1999- قَوْله: «أَنَّهَا تَطْلُع يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاع لَهَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «أَنَّهَا تَطْلُع» مِنْ غَيْر ذِكْر الشَّمْس، وَحُذِفَتْ لِلْعِلْمِ، فَعَادَ الضَّمِير إِلَى مَعْلُوم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وَنَظَائِره، و(الشُّعَاع) بِضَمِّ الشِّين، قَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ مَا يُرَى مِنْ ضَوْئِهَا عِنْد بُرُوزهَا مِثْل الْحِبَال وَالْقُضْبَان مُقْبِلَة إِلَيْك إِذَا نَظَرْت إِلَيْهَا، قَالَ صَاحِب الْمُحْكَم بَعْد أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْمَشْهُور: وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَرَاهُ مُمْتَدًّا بَعْد الطُّلُوع، قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ اِنْتِشَار ضَوْئِهَا، وَجَمْعه: أَشِعَّة، وَشُعُع: بِضَمِّ الشِّين وَالْعَيْن، وَأَشَعَّتْ الشَّمْس: نَشَرَتْ شُعَاعهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قِيلَ مَعْنَى لَا شُعَاع لَهَا: أَنَّهَا عَلَامَة جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى لَهَا، قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ لِكَثْرَةِ اِخْتِلَاف الْمَلَائِكَة فِي لَيْلَتهَا وَنُزُولهَا إِلَى الْأَرْض وَصُعُودهَا بِمَا تَنْزِل بِهِ سَتَرَتْ بِأَجْنِحَتِهَا وَأَجْسَامهَا اللَّطِيفَة ضَوْء الشَّمْس وَشُعَاعهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
2001- قَوْله: «تَذَاكَرْنَا لَيْلَة الْقَدْر عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيّكُمْ يَذْكُر حِين طَلَعَ الْقَمَر وَهُوَ مِثْل شِقّ جَفْنَة» بِكَسْرِ الشِّين، وَهُوَ النِّصْف، و(الْجَفْنَة) بِفَتْحِ الْجِيم مَعْرُوفَة، قَالَ الْقَاضِي: فيه إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُون فِي أَوَاخِر الشَّهْر؛ لِأَنَّ الْقَمَر لَا يَكُون كَذَلِكَ عِنْد طُلُوعه إِلَّا فِي أَوَاخِر الشَّهْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر مَوْجُودَة كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل الْبَاب، فَإِنَّهَا تُرَى، وَيَتَحَقَّقهَا مَنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَم كُلّ سَنَة فِي رَمَضَان كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْبَاب، وَإِخْبَار الصَّالِحِينَ بِهَا وَرُؤْيَتهمْ لَهَا أَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَر، وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: عَنْ الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة لَا يُمْكِن رُؤْيَتهَا حَقِيقَة، فَغَلَط فَاحِش، نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرّ بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم

.كِتَاب الِاعْتِكَاف:

هُوَ فِي اللُّغَة: الْحَبْس وَالْمُكْث وَاللُّزُوم، وَفِي الشَّرْع: الْمُكْث فِي الْمَسْجِد مِنْ شَخْص مَخْصُوص بِصِفَةٍ مَخْصُوصَة، وَيُسَمَّى الِاعْتِكَاف جَوَازًا، وَمِنْهُ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مِنْهَا حَدِيث عَائِشَة فِي أَوَائِل الِاعْتِكَاف مِنْ صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسه وَهُوَ مُجَاوِر فِي الْمَسْجِد فَأُرَجِّلهُ وَأَنَا حَائِض وَذَكَرَ مُسْلِم الْأَحَادِيث فِي اِعْتِكَاف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان، وَالْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال، فَفيها اِسْتِحْبَاب الِاعْتِكَاف وَتَأَكُّد اِسْتِحْبَابه فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اِسْتِحْبَابه، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَعَلَى أَنَّهُ مُتَأَكِّد فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَمُوَافِقِيهِمْ: أَنَّ الصَّوْم لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَاف، بَلْ يَصِحّ اِعْتِكَاف الْفِطْر، وَيَصِحّ اِعْتِكَاف سَاعَة وَاحِدَة، وَلَحْظَة وَاحِدَة، وَضَابِطه عِنْد أَصْحَابنَا: مُكْث يَزِيد عَلَى طُمَأْنِينَة الرُّكُوع أَدْنَى زِيَادَة، هَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَفيه خِلَاف شَاذّ فِي الْمَذْهَب، وَلَنَا وَجْه أَنَّهُ يَصِحّ اِعْتِكَاف الْمَارّ فِي الْمَسْجِد مِنْ غَيْر لُبْث، وَالْمَشْهُور: الْأَوَّل، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ جَالِس فِي الْمَسْجِد؛ لِانْتِظَارِ صَلَاة أَوْ لِشُغْلٍ آخَر مِنْ آخِرَة أَوْ دُنْيَا أَنْ يَنْوِي الِاعْتِكَاف، فَيُحْسَب لَهُ وَيُثَاب عَلَيْهِ مَا لَمْ يَخْرُج مِنْ الْمَسْجِد، فَإِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ جَدَّدَ نِيَّة أُخْرَى، وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ ذِكْر مَخْصُوص وَلَا فِعْل آخَر سِوَى اللُّبْث فِي الْمَسْجِد بِنِيَّةِ الِاعْتِكَاف، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ دُنْيَا، أَوْ عَمِلَ صَنْعَة مِنْ خِيَاطَة أَوْ غَيْرهَا، لَمْ يَبْطُل اِعْتِكَافه، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَكْثَرُونَ: يُشْتَرَط فِي الِاعْتِكَاف الصَّوْم، فَلَا يَصِحّ اِعْتِكَاف مُفْطِر، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِاعْتِكَافِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَشْر الْأُوَل مِنْ شَوَّال، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَبِحَدِيثِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِك، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَاللَّيْل لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَاف.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: أَنَّ الِاعْتِكَاف لَا يَصِحّ إِلَّا فِي الْمَسْجِد؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجه وَأَصْحَابه إِنَّمَا اِعْتَكَفُوا فِي الْمَسْجِد مَعَ الْمَشَقَّة فِي مُلَازَمَته، فَلَوْ جَازَ فِي الْبَيْت لَفَعَلُوهُ وَلَوْ مَرَّة لاسيما النِّسَاء؛ لِأَنَّ حَاجَتهنَّ إِلَيْهِ فِي الْبُيُوت أَكْثَر.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اِخْتِصَاصه بِالْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحّ فِي غَيْره، هُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَالْجُمْهُور سَوَاء الرَّجُل وَالْمَرْأَة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَصِحّ اِعْتِكَاف الْمَرْأَة فِي مَسْجِد بَيْتهَا، وَهُوَ الْمَوْضِع الْمُهَيَّأ مِنْ بَيْتهَا لِصَلَاتِهَا، قَالَ: وَلَا يَجُوز لِلرَّجُلِ فِي مَسْجِد بَيْته، وَكَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَة قَوْل قَدِيم لِلشَّافِعِيِّ ضَعِيف عِنْد أَصْحَابه، وَجَوَّزَهُ بَعْض أَصْحَاب مَالِك، وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُل فِي مَسْجِد بَيْتهمَا، ثُمَّ اِخْتَلَفَ الْجُمْهُور الْمُشْتَرِطُونَ الْمَسْجِد الْعَامّ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجُمْهُورهمْ: يَصِحّ الِاعْتِكَاف فِي كُلّ مَسْجِد، وَقَالَ أَحْمَد: يَخْتَصّ بِمَسْجِدٍ تُقَام الْجَمَاعَة الرَّاتِبَة فيه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَخْتَصّ بِمَسْجِدٍ تُصَلَّى فيه الصَّلَوَات كُلّهَا، وَقَالَ الزُّهْرِيّ وَآخَرُونَ: يَخْتَصّ بِالْجَامِعِ الَّذِي تُقَام فيه الْجُمُعَة، وَنَقَلُوا عَنْ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان الصَّحَابِيّ اِخْتِصَاصه بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَة: الْمَسْجِد الْحَرَام، وَمَسْجِد الْمَدِينَة، وَالْأَقْصَى، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حَدّ لِأَكْثَر الِاعْتِكَاف. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ:

2002- سبق شرحه بالباب.
2003- سبق شرحه بالباب.
2004- سبق شرحه بالباب.
2005- سبق شرحه بالباب.
2006- سبق شرحه بالباب.

.باب مَتَى يَدْخُلُ مَنْ أَرَادَ الاِعْتِكَافَ فِي مُعْتَكَفِهِ:

2007- قَوْله: «إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِف صَلَّى الْفَجْر ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفه» اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُول: يَبْدَأ بِالِاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّل النَّهَار، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْث فِي أَحَد قَوْلَيْهِ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد: يَدْخُل فيه قَبْل غُرُوب الشَّمْس إِذَا أَرَادَ اِعْتِكَاف شَهْر أَوْ اِعْتِكَاف عَشْر، وَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْمُعْتَكَف، وَانْقَطَعَ فيه، وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ بَعْد صَلَاته الصُّبْح، لَا أَنَّ ذَلِكَ وَقْت اِبْتِدَاء الِاعْتِكَاف، بَلْ كَانَ مِنْ قَبْل الْمَغْرِب مُعْتَكِفًا لَابِثًا فِي جُمْلَة الْمَسْجِد، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْح اِنْفَرَدَ.
قَوْله: «وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ» قَالُوا: فيه دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ الْمُعْتَكِف لِنَفْسِهِ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِد يَنْفَرِد فيه مُدَّة اِعْتِكَافه مَا لَمْ يُضَيِّق عَلَى النَّاس، وَإِذَا اِتَّخَذُوهُ يَكُون فِي آخِر الْمَسْجِد وَرِحَابه؛ لِئَلَّا يُضَيِّق عَلَى غَيْره؛ وَلِيَكُونَ أَخْلَى لَهُ وَأَكْمَل فِي اِنْفِرَاده.
قَوْله: «نَظَرَ فَإِذَا الْأَخْبِيَة فَقَالَ: الْبِرّ يُرِدْنَ؟ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ» (قُوِّضَ) بِالْقَافِ الْمَضْمُومَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، أَيْ: أُزِيلَ، وَقَوْله: (الْبِرّ) أَيْ: الطَّاعَة، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَام إِنْكَارًا لِفِعْلِهِنَّ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِبَعْضِهِنَّ فِي ذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، قَالَ: وَسَبَب إِنْكَاره أَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُنَّ غَيْر مُخْلِصَات فِي الِاعْتِكَاف، بَلْ أَرَدْنَ الْقُرْب مِنْهُ؛ لِغَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ، أَوْ لِغَيْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ، فَكَرِهَ مُلَازَمَتهنَّ الْمَسْجِد مَعَ أَنَّهُ يَجْمَع النَّاس وَيَحْضُرهُ الْأَعْرَاب وَالْمُنَافِقُونَ، وَهُنَّ مُحْتَاجَات إِلَى الْخُرُوج وَالدُّخُول لِمَا يَعْرِض لَهُنَّ، فَيَبْتَذِلْنَ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُنَّ عِنْده فِي الْمَسْجِد وَهُوَ فِي الْمَسْجِد فَصَارَ كَأَنَّهُ فِي مَنْزِله بِحُضُورِهِ مَعَ أَزْوَاجه، وَذَهَبَ الْمُهِمّ مِنْ مَقْصُود الِاعْتِكَاف، وَهُوَ التَّخَلِّي عَنْ الْأَزْوَاج وَمُتَعَلِّقَات الدُّنْيَا وَشِبْه ذَلِكَ؛ أَوْ لِأَنَّهُنَّ ضَيَّقْنَ الْمَسْجِد بِأَبْنِيَتِهِنَّ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِصِحَّةِ اِعْتِكَاف النِّسَاء؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَذِنَ لَهُنَّ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُنَّ بَعْد ذَلِكَ لِعَارِضٍ، وَفيه أَنَّ لِلرَّجُلِ مَنْع زَوْجَته مِنْ الِاعْتِكَاف بِغَيْرِ إِذْنه، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاء كَافَّة، فَلَوْ أَذِنَ لَهَا فَهَلْ لَهُ مَنْعهَا بَعْد ذَلِكَ؟ فيه خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ، فَعِنْد الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد لَهُ مَنْع زَوْجَته وَمَمْلُوكه وَإِخْرَاجهمَا مِنْ اِعْتِكَاف التَّطَوُّع، وَمَنَعَهُمَا مَالِك، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَة إِخْرَاج الْمَمْلُوك دُون الزَّوْجَة.