فصل: باب التَّغْلِيظِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:

1416- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَثَل الْمُهَجِّر كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَة» قَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد وَغَيْره مِنْ أَهْل اللُّغَة وَغَيْرهمْ: التَّهْجِير التَّبْكِير، وَمِنْهُ الْحَدِيث: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِير لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» أَيْ التَّبْكِير إِلَى كُلّ صَلَاة وَهَكَذَا فَسَّرُوهُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ الْحَرْبِيّ عَنْ أَبِي زَيْد عَنْ الْفَرَّاء وَغَيْره: التَّهْجِير السَّيْر فِي الْهَاجِرَة. وَالصَّحِيح هُنَا أَنَّ التَّهْجِير التَّبْكِير، وَسَبَقَ شَرْح تَمَام الْحَدِيث قَرِيبًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَام طَوَوْا الصُّحُف» وَسَبَقَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «مَنْ اِغْتَسَلَ يَوْم الْجُمُعَة ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَة، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَام حَضَرَتْ الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُونَ الذِّكْر» وَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا بَلْ ظَاهِر الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ بِخُرُوجِ الْإِمَام يَحْضُرُونَ وَلَا يَطْوُونَ الصُّحُف، فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَر طَوَوْهَا وَفيه اِسْتِحْبَاب الْجُلُوس لِلْخُطْبَةِ أَوَّل صُعُوده حَتَّى يُؤَذِّن الْمُؤَذِّن، وَهُوَ مُسْتَحَبّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك فِي رِوَايَة عَنْهُ: لَا يُسْتَحَبّ. وَدَلِيل الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث مَعَ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الصَّحِيح، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْخُطْبَة.
1417- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَّلَ الْجَزُور ثُمَّ نَزَّلَهُمْ حَتَّى صَغَّرَ إِلَى مَثَل الْبَيْضَة» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ الْأَوَّل (مَثَّلَ) بِتَشْدِيدِ الثَّاء وَفَتْح الْمِيم و«نَزَّلَهُمْ» أَيْ ذَكَرَ مَنَازِلهمْ فِي السَّبْق وَالْفَضِيلَة، وَقَوْله: (صَغَّرَ) بِتَشْدِيدِ الْغَيْن. وَقَوْله: (مَثَل الْبَيْضَة) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَالثَّاء الْمُثَلَّثَة.

.باب فَضْلِ مَنِ اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ فِي الْخُطْبَةِ:

1418- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَة فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغ مِنْ خُطْبَته ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنه وَبَيْن الْجُمُعَة الْأُخْرَى وَفَضْل ثَلَاثَة أَيَّام». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوء ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَة فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنه وَبَيْن الْجُمُعَة وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام» فيه فَضِيلَة الْغُسْل وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَة. وَفيه اِسْتِحْبَاب وَتَحْسِين الْوُضُوء. وَمَعْنَى (إِحْسَانه) الْإِتْيَان بِهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَذَلِكَ الْأَعْضَاء وَإِطَالَة الْغُرَّة وَالتَّحْجِيل، وَتَقْدِيم الْمَيَامِن، وَالْإِتْيَان بِسُنَنِهِ الْمَشْهُورَة. وَفيه أَنَّ التَّنَفُّل قَبْل خُرُوج الْإِمَام يَوْم الْجُمُعَة مُسْتَحَبّ، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور. وَفيه أَنَّ النَّوَافِل الْمُطْلَقَة لَا حَدَّ لَهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ». وَفيه الْإِنْصَات لِلْخُطْبَةِ، وَفيه أَنَّ الْكَلَام بَعْد الْخُطْبَة قَبْل الْإِحْرَام بِالصَّلَاةِ لَا بَأْس بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «ثُمَّ أَنْصَتَ» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ الْمُحَقَّقَة الْمُعْتَمَدَة بِبِلَادِنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الْجُمْهُور، وَوَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة بِبِلَادِنَا: «اِنْتَصَتَ»، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْبَاجِيّ وَآخَرُونَ: «اِنْتَصَتَ» بِزِيَادَةِ تَاء مُثَنَّاة فَوْق، قَالَ: وَهُوَ وَهْم، قُلْت: لَيْسَ هُوَ وَهْمًا بَلْ هِيَ لُغَة صَحِيحَة؛ قَالَ الْأَزْهَرِيّ فِي شَرْح أَلْفَاظ الْمُخْتَصَر: يُقَال: أَنْصَتَ وَنَصَتَ وَانْتَصَتَ ثَلَاث لُغَات.
1419- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ» هُمَا شَيْئَانِ مُتَمَايِزَانِ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فَالِاسْتِمَاع الْإِصْغَاء، وَالْإِنْصَات: السُّكُوت، وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَقَوْله: «حَتَّى يَفْرُغ مِنْ خُطْبَته» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول مِنْ غَيْر ذِكْر الْإِمَام، وَعَادَ الضَّمِير إِلَيْهِ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفَضْل ثَلَاثَة أَيَّام»، وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام، هُوَ بِنَصْبِ (فَضْل وَزِيَادَة) عَلَى الظَّرْف.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْمَغْفِرَة لَهُ مَا بَيْن الْجُمُعَتَيْنِ وَثَلَاثَة أَيَّام أَنَّ الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، وَصَارَ يَوْم الْجُمُعَة الَّذِي فَعَلَ فيه هَذِهِ الْأَفْعَال الْجَمِيلَة فِي مَعْنَى الْحَسَنَة الَّتِي تُجْعَل بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: وَالْمُرَاد بِمَا بَيْن الْجُمُعَتَيْنِ مِنْ صَلَاة الْجُمُعَة وَخُطْبَتهَا إِلَى مِثْل الْوَقْت مِنْ الْجُمُعَة الثَّانِيَة حَتَّى تَكُون سَبْعَة أَيَّام بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَيُضَمّ إِلَيْهَا ثَلَاثَة فَتَصِير عَشْرَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى لَغَا» فيه النَّهْي عَنْ مَسِّ الْحَصَى وَغَيْره مِنْ أَنْوَاع الْعَبَث فِي حَالَة الْخُطْبَة، وَفيه إِشَارَة إِلَى إِقْبَال الْقَلْب وَالْجَوَارِح عَلَى الْخُطْبَة، وَالْمُرَاد بِاللَّغْوِ هُنَا الْبَاطِل الْمَذْمُوم الْمَرْدُود، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه قَرِيبًا.

.بَاب صَلَاة الْجُمُعَة حِين تَزُول الشَّمْس:

قَوْله فِي حَدِيث جَابِر: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَرْجِع فَنُرِيح نَوَاضِحنَا» وَفُسِّرَ الْوَقْت بِزَوَالِ الشَّمْس. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «حِين تَزُول الشَّمْس»، وَفِي حَدِيث سَهْل: «مَا كُنَّا نَقِيل وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْد الْجُمُعَة» وَفِي حَدِيث سَلَمَة: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْس ثُمَّ نَرْجِع نَتَتَبَّع الْفَيْء» وَفِي رِوَايَة: «مَا نَجِد لِلْحِيطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلّ بِهِ». هَذِهِ الْأَحَادِيث ظَاهِرَة فِي تَعْجِيل الْجُمُعَة، وَقَدْ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ: لَا تَجُوز الْجُمُعَة إِلَّا بَعْد زَوَال الشَّمْس، وَلَمْ يُخَالِف فِي هَذَا إِلَّا أَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق، فَجَّوَزَاهَا قَبْل الزَّوَال، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ فِي هَذَا أَشْيَاء عَنْ الصَّحَابَة لَا يَصِحّ مِنْهَا شَيْء إِلَّا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَحَمَلَ الْجُمْهُور هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى الْمُبَالَغَة فِي تَعْجِيلهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْغَدَاء وَالْقَيْلُولَة فِي هَذَا الْيَوْم إِلَى مَا بَعْد صَلَاة الْجُمُعَة، لِأَنَّهُمْ نُدِبُوا إِلَى التَّبْكِير إِلَيْهَا. فَلَوْ اِشْتَغَلُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلهَا خَافُوا فَوْتهَا أَوْ فَوْت التَّبْكِير إِلَيْهَا.
1420- قَوْله: «نُرِيح نَوَاضِحنَا» هُوَ جَمْع نَاضِح وَهُوَ الْبَعِير الَّذِي يُسْتَقَى بِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْضَح الْمَاء أَيْ يَصُبّهُ. وَمَعْنَى نُرِيح: أَيْ نُرِيحهَا مِنْ الْعَمَل وَتَعَب السَّقْي فَنُخَلِّيهَا مِنْهُ. وَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون أَرَادَ الرَّوَاح لِلرَّعْيِ. قَوْله: «كُنَّا نُجَمِّع» هُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيم الْمَكْسُورَة أَيْ نُصَلِّي الْجُمُعَة.
1421- سبق شرحه بالباب.
1422- سبق شرحه بالباب.
1423- وَقَوْله: «نَتَتَبَّع الْفَيْء» إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّبْكِير وَقِصَر حِيطَانه وَفيه تَصْرِيح بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ فَيْء يَسِير.
1424- قَوْله: «فَيْئًا نَسْتَظِلّ بِهِ» مُوَافِق لِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْفَيْء مِنْ أَصْله، وَإِنَّمَا نَفْي مَا يُسْتَظَلّ بِهِ وَهَذَا مَعَ قِصَر الْحِيطَان ظَاهِر فِي أَنَّ الصَّلَاة كَانَتْ بَعْد الزَّوَال مُتَّصِلَة بِهِ.

.بَاب ذِكْر الْخُطْبَتَيْنِ قَبْل الصَّلَاة وَمَا فيهمَا مِنْ الْجِلْسَة:

قَوْله: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب يَوْم الْجُمُعَة قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِس ثُمَّ يَقُوم» وَفِي حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة: «كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَتَانِ يَجْلِس بَيْنهمَا يَقْرَأ الْقُرْآن وَيَذْكُر النَّاس» وَفِي رِوَايَة: «كَانَ يَخْطُب قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِس ثُمَّ يَقُوم فَيَخْطُب قَائِمًا فَمَنْ نَبَّأَك أَنَّهُ كَانَ يَخْطُب جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ» وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّ خُطْبَة الْجُمُعَة لَا تَصِحّ مِنْ الْقَادِر عَلَى الْقِيَام إِلَّا قَائِمًا فِي الْخُطْبَتَيْنِ وَلَا يَصِحّ حَتَّى يَجْلِس بَيْنهمَا، وَأَنَّ الْجُمُعَة لَا تَصِحّ إِلَّا بِخُطْبَتَيْنِ.
قَالَ الْقَاضِي: ذَهَبَ عَامَّة الْعُلَمَاء إِلَى اِشْتِرَاط الْخُطْبَتَيْنِ لِصِحَّةِ الْجُمُعَة، وَعَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأَهْل الظَّاهِر وَرِوَايَة اِبْن الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِك: أَنَّهَا تَصِحّ بِلَا خُطْبَة. وَحَكَى اِبْن عَبْد الْبَرّ إِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْخُطْبَة لَا تَكُون إِلَّا قَائِمًا لِمَنْ أَطَاقَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَصِحّ قَاعِدًا وَلَيْسَ الْقِيَام بِوَاجِبٍ.
وَقَالَ مَالِك: هُوَ وَاجِب لَوْ تَرَكَهُ أَسَاءَ وَصَحَّتْ الْجُمُعَة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَالْجُمْهُور: الْجُلُوس بَيْن الْخُطْبَتَيْنِ سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَرْط، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ فَرْض وَشَرْط لِصِحَّةِ الْخُطْبَة.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ يَقُلْ هَذَا غَيْر الشَّافِعِيّ، وَدَلِيل الشَّافِعِيّ أَنَّهُ ثَبَتَ هَذَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
1425- سبق شرحه بالباب.
1426- وَقَوْله: «يَقْرَأ الْقُرْآن وَيُذَكِّر النَّاس» فيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي الْخُطْبَة الْوَعْظ وَالْقُرْآن.
قَالَ الشَّافِعِيّ: لَا يَصِحّ الْخُطْبَتَانِ إِلَّا بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى وَالصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهمَا وَالْوَعْظ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَة وَاجِبَات فِي الْخُطْبَتَيْنِ، وَتَجِب قِرَاءَة آيَة مِنْ الْقُرْآن فِي إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأَصَحّ، وَيَجِب الدُّعَاء لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّانِيَة عَلَى الْأَصَحّ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالْجُمْهُور: يَكْفِي مِنْ الْخُطْبَة مَا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف، وَمَالِك فِي رِوَايَة عَنْهُ: يَكْفِي تَحْمِيدَة أَوْ تَسْبِيحَة أَوْ تَهْلِيلَة وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُطْبَة، وَلَا يَحْصُل بِهِ مَقْصُودهَا مَعَ مُخَالَفَته مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1427- قَوْله: عَنْ جَابِر بْن سَمُرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «فَقَدْ وَاَللَّه صَلَّيْت مَعَهُ أَكْثَر مِنْ أَلْفَيْ صَلَاة» الْمُرَاد الصَّلَوَات الْخَمْس لَا الْجُمُعَة.

.بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا}:

قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُب قَائِمًا يَوْم الْجُمُعَة فَجَاءَتْ عِير مِنْ الشَّام فَانْفَتَلَ النَّاس إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اِثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فِي الْجُمُعَة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا}» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «اِثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فيهمْ أَبُو بَكْر وَعُمَر» وَفِي الْأُخْرَى: «أَنَا فيهمْ». فيه مَنْقَبَة لِأَبِي بَكْر وَعُمَر وَجَابِر. وَفيه أَنَّ الْخُطْبَة تَكُون مِنْ قِيَام. وَفيه دَلِيل لِمَالِك وَغَيْره مِمَّنْ قَالَ تَنْعَقِد الْجُمُعَة بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَجَابَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَشْتَرِط أَرْبَعِينَ بِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ رَجَعُوا أَوْ رَجَعَ مِنْهُمْ تَمَام أَرْبَعِينَ فَأَتَمَّ بِهِمْ الْجُمُعَة، وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَتْ عِير... الْحَدِيث» وَالْمُرَاد بِالصَّلَاةِ اِنْتِظَارهَا فِي حَال الْخُطْبَة كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَات مُسْلِم هَذِهِ.
1428- سبق شرحه بالباب.
1429- قَوْله: «إِذَا أَقْبَلَتْ سُوَيْقَة» هُوَ تَصْغِير سُوق، وَالْمُرَاد الْعِير الْمَذْكُورَة فِي الرِّوَايَة الْأُولَى وَهِيَ الْإِبِل الَّتِي تَحْمِل الطَّعَام أَوْ التِّجَارَة، لَا تُسَمَّى عِيرًا إِلَّا هَكَذَا، وَسُمِّيَتْ سُوقًا لِأَنَّ الْبَضَائِع تُسَاق إِلَيْهَا، وَقِيلَ: لِقِيَامِ النَّاس فيها عَلَى سُوقهمْ.
قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيله أَنَّ خُطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الَّتِي اِنْفَضُّوا عَنْهَا إِنَّمَا كَانَتْ بَعْد صَلَاة الْجُمُعَة، وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِمْ فِي الِانْفِضَاض عَنْ الْخُطْبَة، وَأَنَّهُ قَبْل هَذِهِ الْقَضِيَّة إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي قَبْل الْخُطْبَة.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَشْبَه بِحَالِ الصَّحَابَة، وَالْمَظْنُون بِهِمْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَدَعُونَ الصَّلَاة مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا جَوَاز الِانْصِرَاف بَعْد اِنْقِضَاء الصَّلَاة.
قَالَ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْض الْعُلَمَاء كَوْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَطَبَ قَطُّ بَعْد صَلَاة الْجُمُعَة لَهَا.
1430- سبق شرحه بالباب.
1431- قَوْله: (اُنْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيث يَخْطُب قَاعِدًا وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا}) هَذَا الْكَلَام يَتَضَمَّن إِنْكَار الْمُنْكَر وَالْإِنْكَار عَلَى وُلَاة الْأُمُور إِذَا خَالَفُوا السُّنَّة. وَوَجْه اِسْتِدْلَاله بِالْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى: أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُب قَائِمًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة} مَعَ قَوْله: {فَاتَّبِعُوهُ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول فَخُذُوهُ} مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».

.باب التَّغْلِيظِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ:

1432- قَوْله: «سَمِعْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول عَلَى أَعْوَاد مِنْبَره: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعهمْ الْجُمُعَات أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبهمْ» فيه اِسْتِحْبَاب اِتِّخَاذ الْمِنْبَر وَهُوَ سُنَّة مُجْمَع عَلَيْهَا. وَقَوْله: «وَدْعهمْ» أَيْ تَرْكهمْ. وَفيه أَنَّ الْجُمُعَة فَرْض عَيْن، وَمَعْنَى الْخَتْم الطَّبْع وَالتَّغْطِيَة قَالُوا فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ} أَيْ طَبَعَهُ. وَمِثْله (الرَّيْن) فَقِيلَ: الرَّيْن الْيَسِير مِنْ الطَّبْع، وَالطَّبْع الْيَسِير مِنْ الْأَقْفَال، وَالْأَقْفَال أَشَدُّهَا.
قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذَا اِخْتِلَافًا كَثِيرًا فَقِيلَ: هُوَ إِعْدَام اللُّطْف وَأَسْبَاب الْخَيْر، وَقِيلَ: هُوَ خَلْق الْكُفْر فِي صُدُورهمْ وَهُوَ قَوْل أَكْثَر مُتَكَلِّمِي أَهْل السُّنَّة.
قَالَ غَيْرهمْ: هُوَ الشَّهَادَة عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَامَة جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى فِي قُلُوبهمْ لِتَعْرِف بِهَا الْمَلَائِكَة مَنْ يُمْدَح وَمَنْ يُذَمّ.

.باب تَخْفِيفِ الصَّلاَةِ وَالْخُطْبَةِ:

1433- قَوْله: «فَكَانَتْ صَلَاته قَصْدًا وَخُطْبَته قَصْدًا» أَيْ بَيْن الطُّول الظَّاهِر وَالتَّخْفِيف الْمَاحِق.
1435- قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ اِحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْته وَاشْتَدَّ غَضَبه حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِر جَيْش يَقُول: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ وَيَقُول: بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ وَيَقْرُن بَيْن إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَة وَالْوُسْطَى وَيَقُول: أَمَّا بَعْد فَإِنَّ خَيْر الْحَدِيث كِتَاب اللَّه، وَخَيْر الْهَدْي هَدْي مُحَمَّد، وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا، وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة، ثُمَّ يَقُول: أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِن مِنْ نَفْسه، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» فِي هَذَا الْحَدِيث جُمَل مِنْ الْفَوَائِد وَمُهِمَّات مِنْ الْقَوَاعِد، فَالضَّمِير فِي قَوْله: «يَقُول صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» عَائِد عَلَى مُنْذِر جَيْش.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَة» أَيْ بِنَصْبِهَا وَرَفْعهَا، وَالْمَشْهُور نَصْبهَا عَلَى الْمَفْعُول.
وَقَوْله: «يَقْرُن» هُوَ بِضَمِّ الرَّاء عَلَى الْمَشْهُور وَالْفَصِيح، وَحُكِيَ كَسْرهَا. وَقَوْله: «السَّبَّابَة» سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا عِنْد السَّبّ. وَقَوْله: «خَيْر الْهَدْي هَدْي مُحَمَّد» هُوَ بِضَمِّ الْهَاء وَفَتْح الدَّال فيهمَا وَبِفَتْحِ الْهَاء وَإِسْكَان الدَّال أَيْضًا ضَبَطْنَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَة بِالْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: رَوَيْنَاهُ فِي مُسْلِم بِالضَّمِّ، وَفِي غَيْره بِالْفَتْحِ، وَبِالْفَتْحِ ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ، وَفَسَّرَهُ الْهَرَوِيُّ عَلَى رِوَايَة الْفَتْح بِالطَّرِيقِ، أَيْ أَحْسَن الطُّرُق طَرِيق مُحَمَّد، يُقَال: فُلَان حَسَن الْهَدْي أَيْ الطَّرِيقَة وَالْمَذْهَب اِهْتَدُوا بِهَدْي عَمَّار، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة الضَّمّ فَمَعْنَاهُ: الدَّلَالَة وَالْإِرْشَاد قَالَ الْعُلَمَاء: لَفْظ الْهَدْي لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا: بِمَعْنَى الدَّلَالَة وَالْإِرْشَاد، وَهُوَ الَّذِي يُضَاف إِلَى الرُّسُل وَالْقُرْآن وَالْعِبَاد، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} {إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم وَيُبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ} وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُود فَهَدَيْنَاهُمْ} أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ الطَّرِيق، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل} وَ{هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وَالثَّانِي: بِمَعْنَى اللُّطْف وَالتَّوْفِيق وَالْعِصْمَة وَالتَّأْيِيد، وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ اللَّه بِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاء}.
وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّة: حَيْثُ جَاءَ الْهُدَى فَهُوَ لِلْبَيَانِ بِنَاء عَلَى أَصْلهمْ الْفَاسِد فِي إِنْكَار الْقَدَر، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْحَقّ مُثْبِتِي الْقَدَر لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللَّه يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} فَفَرَّقَ بَيْن الدُّعَاء وَالْهِدَايَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة» هَذَا عَامّ مَخْصُوص، وَالْمُرَاد غَالِب الْبِدَع.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ كُلّ شَيْء عُمِلَ عَلَى غَيْر مِثَال سَابِق.
قَالَ الْعُلَمَاء: الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام: وَاجِبَة، وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة، وَمَكْرُوهَة، وَمُبَاحَة. فَمِنْ الْوَاجِبَة: نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة وَالْمُبْتَدِعِينَ وَشِبْه ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَنْدُوبَة: تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم، وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط وَغَيْر ذَلِكَ. وَمِنْ الْمُبَاح: التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ. وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ.
وَقَدْ أَوْضَحْت الْمَسْأَلَة بِأَدِلَّتِهَا الْمَبْسُوطَة فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات، فَإِذَا عُرِفَ مَا ذَكَرْته عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص. وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة، وَيُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي التَّرَاوِيح: نِعْمَتْ الْبِدْعَة، وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحَدِيث عَامًّا مَخْصُوصًا. قَوْله: «كُلّ بِدْعَة» مُؤَكَّدًا (بِكُلِّ)، بَلْ يَدْخُلهُ التَّخْصِيص مَعَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُدَمِّر كُلّ شَيْء}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِن مِنْ نَفْسه» هُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ} أَيْ أَحَقُّ، قَالَ أَصْحَابنَا: فَكَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اُضْطُرَّ إِلَى طَعَام غَيْره وَهُوَ مُضْطَرّ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذُهُ مِنْ مَالِكه الْمُضْطَرّ، وَوَجَبَ عَلَى مَالِكه بَذْله لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَلَكِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَمَا وَقَعَ؟
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» هَذَا تَفْسِير لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِن مِنْ نَفْسه».
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الضَّيَاع- بِفَتْحِ الضَّاد- الْعِيَال، قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: أَصْله مَصْدَر ضَاعَ يَضِيع ضَيَاعًا، الْمُرَاد مَنْ تَرَكَ أَطْفَالًا وَعِيَالًا ذَوِي ضَيَاع، فَأَوْقَع الْمَصْدَر مَوْضِع الِاسْم، قَالَ أَصْحَابنَا: وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن لَمْ يُخَلِّف بِهِ وَفَاء؛ لِئَلَّا يَتَسَاهَل النَّاس فِي الِاسْتِدَانَة وَيُهْمِلُوا الْوَفَاء، فَزَجَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَبَادِي الْفُتُوح قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ» أَيْ قَضَاؤُهُ فَكَانَ يَقْضِيه؟ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا: هَلْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِب عَلَيْهِ قَضَاء ذَلِكَ الدَّيْن أَمْ كَانَ يَقْضِيه تَكَرُّمًا؟ وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا هَلْ هَذِهِ مِنْ الْخَصَائِص أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ مِنْ خَصَائِص رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَلْزَم الْإِمَام أَنْ يَقْضِي مِنْ بَيْت الْمَال دَيْن مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن إِذَا لَمْ يُخَلِّف وَفَاء، وَكَانَ فِي بَيْت الْمَال سَعَة، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَهَمَّ مِنْهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنَّهُ تَمْثِيل لِمُقَارَبَتِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنهمَا إِصْبَع أُخْرَى كَمَا أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَيْنه وَبَيْن السَّاعَة، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ لِتَقْرِيبِ مَا بَيْنهمَا مِنْ الْمُدَّة وَأَنَّ التَّفَاوُت بَيْنهمَا كَنِسْبَةِ التَّفَاوُت بَيْن الْإِصْبَعَيْنِ تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا.
قَوْله: «إِذَا خَطَبَ اِحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْته وَاشْتَدَّ غَضَبه كَأَنَّهُ مُنْذِر جَيْش» يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُفَخِّم أَمْر الْخُطْبَة، وَيَرْفَع صَوْته، وَيُجْزِل كَلَامه، وَيَكُون مُطَابِقًا لِلْفَصْلِ الَّذِي يَتَكَلَّم فيه مِنْ تَرْغِيب أَوْ تَرْهِيب. وَلَعَلَّ اِشْتِدَاد غَضَبه كَانَ عِنْد إِنْذَاره أَمْرًا عَظِيمًا وَتَحْدِيده خَطْبًا جَسِيمًا.
1436- قَوْله: «وَيَقُول: أَمَّا بَعْد» فيه: اِسْتِحْبَاب قَوْل: (أَمَّا بَعْد) فِي خُطَب الْوَعْظ وَالْجُمْعَة وَالْعِيد وَغَيْرهَا، وَكَذَا فِي خُطَب الْكُتُب الْمُصَنَّفَة، وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيّ بَابًا فِي اِسْتِحْبَابه، وَذَكَرَ فيه جُمْلَة مِنْ الْأَحَادِيث، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَوَّل مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فَقِيلَ: دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام، وَقِيلَ: يَعْرُب بْن قَحْطَان، وَقِيلَ: قُسّ بْن سَاعِدَة، وَقَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ أَوْ كَثِير مِنْهُمْ: إِنَّهُ فَصْل الْخِطَاب الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: فَصْل الْخِطَاب الْفَصْل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل.
قَوْله: كَانَتْ خُطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْجُمُعَة يَحْمَد اللَّه وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُول: إِلَى آخِره فيه: دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجِب حَمْد اللَّه تَعَالَى فِي الْخُطْبَة وَيَتَعَيَّن لَفْظه، وَلَا يَقُوم غَيْره مَقَامه.
قَوْله: «إِنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّة وَكَانَ مِنْ أَزْد شَنُوءَة وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيح» أَمَّا ضِمَاد فَبِكَسْرِ الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَشَنُوءَة بِفَتْحِ الشِّين وَضَمِّ النُّون وَبَعْدهَا مَدَّة، وَيَرْقِي بِكَسْرِ الْقَاف، وَالْمُرَاد بِالرِّيحِ هُنَا الْجُنُون وَمَسّ الْجِنّ فِي غَيْر رِوَايَة مُسْلِم يَرْقِي مِنْ الْأَرْوَاح أَيْ الْجِنّ سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُبْصِرهُمْ النَّاس فَهُمْ كَالرُّوحِ وَالرِّيح.
قَوْله: «فَمَا سَمِعْت مِثْل كَلِمَاتك هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوس الْبَحْر» ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ أَشْهَرهمَا: (نَاعُوس) بِالنُّونِ وَالْعَيْن هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي أَكْثَر نُسَخ بِلَادنَا، وَالثَّانِي: (قَامُوس) بِالْقَافِ وَالْمِيم، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمَشْهُور فِي رِوَايَات الْحَدِيث فِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: أَكْثَر نُسَخ صَحِيح مُسْلِم وَقَعَ فيها (قَاعُوس) بِالْقَافِ وَالْعَيْن.
قَالَ: وَوَقَعَ عِنْد أَبَى مُحَمَّد بْن سَعِيد (تَاعُوس) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق.
قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (نَاعُوس) بِالنُّونِ وَالْعَيْن.
قَالَ: وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ فِي أَطْرَاف الصَّحِيحَيْنِ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ (قَامُوس) بِالْقَافِ وَالْمِيم.
قَالَ بَعْضهمْ: هُوَ الصَّوَاب.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: قَامُوس الْبَحْر وَسَطه.
وَقَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: لُجَّته.
وَقَالَ صَاحِب كِتَاب الْعَيْن: قَعْره الْأَقْصَى، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: قَامُوس الْبَحْر قَعْره.
وَقَالَ أَبُو مَرْوَان بْن سَرَّاج: قَامُوس فَاعُول مِنْ قَمَسْته إِذَا غَمَسْته فَقَامُوس الْبَحْر لُجَّته الَّتِي تَضْطَرِب أَمْوَاجهَا، وَلَا تَسْتَقِرّ مِيَاههَا، وَهِيَ لَفْظَة عَرَبِيَّة صَحِيحَة.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْجَيَّانِيّ: لَمْ أَجِد فِي هَذِهِ اللَّفْظَة ثَلْجًا.
وَقَالَ شَيْخنَا أَبُو الْحُسَيْن: قَاعُوس الْبَحْر بِالْقَافِ وَالْعَيْن صَحِيح بِمَعْنَى قَامُوس كَأَنَّهُ مِنْ الْقَعْس، وَهُوَ تَطَامُن الظَّهْر وَتَعَمُّقه فَيَرْجِع إِلَى عُمْق الْبَحْر وَلُجَّته، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِيّ: وَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم (نَاعُوس الْبَحْر) بِالنُّونِ وَالْعَيْن قَالَ: وَفِي سَائِر الرِّوَايَات (قَامُوس)، وَهُوَ وَسَطه وَلُجَّته، قَالَ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة مَوْجُودَة فِي مُسْنَد إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ الَّذِي رَوَى مُسْلِم هَذَا الْحَدِيث عَنْهُ، لَكِنَّهُ قَرَنَهُ بِأَبِي مُوسَى فَلَعَلَّهُ فِي رِوَايَة أَبِي مُوسَى قَالَ: وَإِنَّمَا أَوْرَدَ مِثْل هَذِهِ الْأَلْفَاظ لِأَنَّ الْإِنْسَان قَدْ يَطْلُبهَا فَلَا يَجِدهَا فِي شَيْء مِنْ الْكُتُب فَيَتَحَيَّر فَإِذَا نَظَرَ فِي كِتَابِي عَرَفَ أَصْلهَا وَمَعْنَاهَا.
قَوْله: (هَاتِ) هُوَ بِكَسْرِ التَّاء.
قَوْله: «أَصَبْت مِطْهَرَة» هِيَ بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْحهَا حَكَاهَا اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره وَالْكَسْر أَشْهَر.
1437- قَوْله: (عَبْد الْمَلَك بْن أَبْجَرَ) بِالْجِيمِ.
قَوْله: (وَاصِل بْن حَيَّان) بِالْمُثَنَّاةِ.
قَوْله: «لَوْ كُنْت تَنَفَّسْت» أَيْ أَطَلْت قَلِيلًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَئِنَّة مِنْ فِقْهه» بِفَتْحِ الْمِيم ثُمَّ هَمْزَة مَكْسُورَة ثُمَّ نُون مُشَدَّدَة أَيْ عَلَامَة.
قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَالْأَكْثَرُونَ: الْمِيم فيها زَائِدَة، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ.
قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ الْأَزْهَرِيّ: غَلِطَ أَبُو عُبَيْد فِي جَعْله الْمِيم أَصْلِيَّة.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ شَيْخنَا اِبْن سَرَّاج: هِيَ أَصْلِيَّة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاقْصِرُوا الْخُطْبَة» الْهَمْزَة فِي وَاقْصِرُوا هَمْزَة وَصْل. وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيث مُخَالِفًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَة فِي الْأَمْر بِتَخْفِيفِ الصَّلَاة لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: وَكَانَتْ صَلَاته قَصْدًا وَخُطْبَته قَصْدًا؛ لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فيه أَنَّ الصَّلَاة تَكُون طَوِيلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخُطْبَة لَا تَطْوِيلًا يَشُقّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَهِيَ حِينَئِذٍ قَصْدٌ أَيْ مُعْتَدِلَة وَالْخُطْبَة قَصْدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ مِنْ الْبَيَان سِحْرًا» قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُوَ مِنْ الْفَهْم وَذَكَاء الْقَلْب.
قَالَ الْقَاضِي: فيه تَأْوِيلَانِ أَحَدهمَا: أَنَّهُ ذَمّ لِأَنَّهُ إِمَالَة الْقُلُوب وَصَرْفهَا بِمَقَاطِع الْكَلَام إِلَيْهِ حَتَّى يَكْسِب مِنْ الْإِثْم بِهِ كَمَا يَكْسِب بِالسِّحْرِ، وَأَدْخَلَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ فِي بَاب مَا يُكْرَه مِنْ الْكَلَام وَهُوَ مَذْهَبه فِي تَأْوِيل الْحَدِيث. وَالثَّانِي أَنَّهُ مَدْح لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى اِمْتَنَّ عَلَى عِبَاده بِتَعْلِيمِهِمْ الْبَيَان وَشَبَّهَهُ بِالسِّحْرِ لِمَيْلِ الْقُلُوب إِلَيْهِ وَأَصْل السِّحْر الصَّرْف فَالْبَيَان يَصْرِف الْقُلُوب وَيَمِيلهَا إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهَذَا التَّأْوِيل الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار.
قَوْله: (عَنْ اِبْن أَبْجَرَ عَنْ وَاصِل عَنْ أَبِي وَائِل قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّار) هَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ اِبْن أَبْجَرَ عَنْ وَاصِل عَنْ أَبِي وَائِل، وَخَالَفَهُ الْأَعْمَش، وَهُوَ أَحْفَظ بِحَدِيثِ أَبِي وَائِل فَحَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ اِبْن مَسْعُود. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْل هَذَا الِاسْتِدْرَاك مَرْدُود لِأَنَّ اِبْن أَبْجَرَ ثِقَة يَجِب قَبُول رِوَايَته.
1438- قَوْله: «فَقَدْ رَشَدَ» بِكَسْرِ الشِّين وَفَتْحهَا.
قَوْله: «أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ غَوَى» قَالَ الْقَاضِي وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ لِتَشْرِيكِهِ فِي الضَّمِير الْمُقْتَضِي لِلتَّسْوِيَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَطْفِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ اِسْمه كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ مَا شَاءَ اللَّه وَشَاءَ فُلَان وَلَكِنْ لِيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ شَاءَ فُلَان» وَالصَّوَاب أَنَّ سَبَب النَّهْي أَنَّ الْخُطَب شَأْنهَا الْبَسْط وَالْإِيضَاح وَاجْتِنَاب الْإِشَارَات وَالرُّمُوز، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِيُفْهَم، وَأَمَّا قَوْل الْأُولَيَيْنِ فَيُضَعَّف بِأَشْيَاء مِنْهَا أَنَّ مِثْل هَذَا الضَّمِير قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مِنْ كَلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ يَكُون اللَّه وَرَسُوله أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» وَغَيْره مِنْ الْأَحَادِيث وَإِنَّمَا ثَنَّى الضَّمِير هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ خُطْبَة وَعْظ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيم حُكْم، فَكُلَّمَا قَلَّ لَفْظه كَانَ أَقْرَب إِلَى حِفْظه بِخِلَافِ خُطْبَة الْوَعْظ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد حِفْظه وَإِنَّمَا يُرَاد الِاتِّعَاظ بِهَا. وَمِمَّا يُؤَيِّد هَذَا مَا ثَبَتَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: (عَلَّمَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَة الْحَاجَة الْحَمْد لِلَّهِ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَغْفِرهُ وَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُور أَنْفُسنَا مِنْ يَهْدِ اللَّه فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِي لَهُ وَأَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْن يَدَيْ السَّاعَة مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرّ إِلَّا نَفْسه، وَلَا يَضُرّ اللَّه شَيْئًا). وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (قَالَ اِبْن نُمَيْر فَقَدْ غَوَى) هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخ غَوَى بِكَسْرِ الْوَاو قَالَ الْقَاضِي: وَقَعَ فِي رِوَايَتَيْ مُسْلِم بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْرهَا وَالصَّوَاب الْفَتْح، وَهُوَ مِنْ الْغَيّ وَهُوَ الِانْهِمَاك فِي الشَّرّ.
1439- قَوْله: (سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ عَلَى الْمِنْبَر {وَنَادَوْا يَا مَالِك}) فيه الْقِرَاءَة فِي الْخُطْبَة وَهِيَ مَشْرُوعَة بِلَا خِلَاف، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبهَا وَالصَّحِيح عِنْدنَا وُجُوبهَا وَأَقَلّهَا آيَة.
1440- قَوْله (عَنْ أُخْت لِعَمْرَةَ) هَذَا صَحِيح يُحْتَجّ بِهِ وَلَا يَضُرّ عَدَم تَسْمِيَتهَا لِأَنَّهَا صَحَابِيَّة وَالصَّحَابَة كُلّهمْ عُدُول.
1441- قَوْله: (مَا حَفِظْت {ق} إِلَّا مِنْ فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب بِهَا كُلّ جُمْعَة) قَالَ الْعُلَمَاء سَبَب اِخْتِيَار (ق) أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الْبَعْث وَالْمَوْت وَالْمَوَاعِظ الشَّدِيدَة وَالزَّوَاجِر الْأَكِيدَة وَفيه: دَلِيل لِلْقِرَاءَةِ فِي الْخُطْبَة كَمَا سَبَقَ وَفيه اِسْتِحْبَاب قِرَاءَة (ق) أَوْ بَعْضهَا فِي كُلّ خُطْبَة.
قَوْله: (حَارِثَة بْن النُّعْمَان) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة.
قَوْله: (سَعِيد عَنْ خُبَيْب) هُوَ بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ خُبَيْب بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن خُبَيْب بْن يَسَافٍ الْأَنْصَارِيّ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات.
قَوْلهَا: «وَكَانَ تَنُّورنَا وَتَنُّور رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا» إِشَارَة إِلَى حِفْظهَا وَمَعْرِفَتهَا بِأَحْوَالِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرْبهَا مِنْ مَنْزِله.
1442- قَوْله: (عَنْ يَحْيَى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن سَعْد بْن زُرَارَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ سَعْد بْن زُرَارَةَ وَهُوَ الصَّوَاب وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيع النُّسَخ وَرِوَايَات جَمِيع شُيُوخهمْ قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب.
قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ صَوَابه (أَسْعَد)، وَغَلِطَ فِي زَعْمه، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي الْغَلَط اِغْتِرَاره بِمَا فِي كِتَاب الْحَاكِم أَبِي عَبْد اللَّه بْن البيع، فَإِنَّهُ قَالَ: صَوَابه أَسْعَد. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سَعْد، وَحَكَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ الْبُخَارِيّ، وَاَلَّذِي فِي تَارِيخ الْبُخَارِيّ ضِدّ مَا قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَارِيخه: سَعْد، وَقِيلَ: أَسْعَد، وَهُوَ وَهْم. فَانْقَلَبَ الْكَلَام عَلَى الْحَاكِم وَأَسْعَد بْن زُرَارَةَ سَيِّد الْخَزْرَج وَأَخُوهُ هَذَا سَعْد بْن زُرَارَةَ جَدُّ يَحْيَى وَعَمْرَة، أَدْرَكَ الْإِسْلَام وَلَمْ يَذْكُرهُ كَثِيرُونَ فِي الصَّحَابَة لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْمُنَافِقِينَ.
1443- قَوْله: (عَنْ عُمَارَة بْن رُؤَيْبَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين رَفَعَ بِشْر بْن مَرْوَان يَدَيْهِ فِي الْخُطْبَة قَبَّحَ اللَّه هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ لَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيد عَلَى أَنْ يَقُول بِيَدِهِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَة) هَذَا فيه أَنَّ السُّنَّة أَنْ لَا يَرْفَع الْيَد فِي الْخُطْبَة وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض السَّلَف وَبَعْض الْمَالِكِيَّة إِبَاحَته لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي خُطْبَة الْجُمُعَة حِين اِسْتَسْقَى وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ هَذَا الرَّفْع كَانَ لِعَارِضٍ.