فصل: باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الذِّهَابِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب بَيَانِ أَنَّ السَّعْيَ لاَ يُكَرَّرُ:

2244- قَوْله: (لَمْ يَطُفْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابه بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا) طَوَافه الْأَوَّل فيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ السَّعْي فِي الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَة لَا يُكَرَّر، بَلْ يَقْتَصِر مِنْهُ عَلَى مَرَّة وَاحِدَة وَيُكْرَه تَكْرَاره؛ لِأَنَّهُ بِدْعَة. وَفيه دَلِيل لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَأَنَّ الْقَارِن يَكْفيه طَوَاف وَاحِد، وَسَعْي وَاحِد، وَقَدْ سَبَقَ خِلَاف أَبِي حَنِيفَة وَغَيْره فِي الْمَسْأَلَة. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ إِدَامَةِ الْحَاجِّ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَشْرَعَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ:

2245- قَوْله فِي حَدِيث أُسَامَة: «رَدِفْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَات» هَذَا دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الرُّكُوب فِي الدَّفْع مِنْ عَرَفَات، وَعَلَى جَوَاز الْإِرْدَاف عَلَى الدَّابَّة إِذَا كَانَتْ مُطِيقَة، وَعَلَى جَوَاز الِارْتِدَاف مَعَ أَهْل الْفَضْل، وَلَا يَكُون ذَلِكَ خِلَاف الْأَدَب.
قَوْله: «فَصَبَبْت عَلَيْهِ الْوَضُوء فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا» فَقَوْله: «فَصَبَبْت عَلَيْهِ الْوَضُوء». الْوَضُوء هُنَا بِفَتْحِ الْوَاو، وَهُوَ الْمَاء الَّذِي يُتَوَضَّأ بِهِ، وَسَبَقَ فيه لُغَة أَنَّهُ يُقَال بِالضَّمِّ وَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ. وَقَوْله: «فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا» يَعْنِي تَوَضَّأَ وُضُوء الصَّلَاة وَخَفَّفَهُ بِأَنْ تَوَضَّأَ مَرَّة مَرَّة، أَوْ خَفَّفَ اِسْتِعْمَال الْمَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالِب عَادَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَلَمْ يَسْبُغ الْوُضُوء» أَيْ لَمْ يَفْعَلهُ عَلَى الْعَادَة. وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الْوُضُوء، قَالَ أَصْحَابنَا: الِاسْتِعَانَة فيه ثَلَاثَة أَقْسَام:
أَحَدهَا: أَنْ يَسْتَعِين فِي إِحْضَار الْمَاء مِنْ الْبِئْر وَالْبَيْت وَنَحْوهمَا، وَتَقْدِيمه إِلَيْهِ، وَهَذَا جَائِز، وَلَا يُقَال إِنَّهُ خِلَاف الْأَوْلَى.
وَالثَّانِي أَنْ يَسْتَعِين بِمَنْ يَغْسِل الْأَعْضَاء، فَهَذَا مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه، إِلَّا أَنْ يَكُون مَعْذُورًا بِمَرَضٍ أَوْ غَيْره.
وَالثَّالِث أَنْ يَسْتَعِين بِمَنْ يَصُبّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا بَأْس، وَإِلَّا فَهُوَ خِلَاف الْأَوْلَى، وَهَلْ يُسَمَّى مَكْرُوهًا؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا: لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت فيه نَهْي، وَأَمَّا اِسْتِعَانَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُسَامَة وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة فِي غَزْوَة تَبُوك وَبِالرُّبَيِّعِ بِنْت مُعَوِّذ فَلِبَيَانِ الْجَوَاز، وَيَكُون أَفْضَل فِي حَقّه حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْبَيَانِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «قُلْت: الصَّلَاة يَا رَسُول اللَّه فَقَالَ: الصَّلَاة أَمَامك» مَعْنَاهُ: أَنَّ أُسَامَة ذَكَّرَهُ بِصَلَاةِ الْمَغْرِب، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَهَا حَيْثُ أَخَّرَهَا عَنْ الْعَادَة الْمَعْرُوفَة فِي غَيْر هَذِهِ اللَّيْلَة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَاة أَمَامك، أَيْ إِنَّ الصَّلَاة فِي هَذِهِ اللَّيْلَة مَشْرُوعَة فِيمَا بَيْن يَدَيْك، أَيْ فِي الْمُزْدَلِفَة. فَفيه اِسْتِحْبَاب تَذْكِير التَّابِعِ الْمَتْبُوعَ بِمَا تَرَكَهُ خِلَاف الْعَادَة لِيَفْعَلهُ أَوْ يَعْتَذِر عَنْهُ أَوْ يُبَيِّن لَهُ وَجْه صَوَابه، وَأَنَّ مُخَالَفَته لِلْعَادَةِ سَبَبهَا كَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاة أَمَامك» فَفيه أَنَّ السُّنَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع فِي هَذِهِ اللَّيْلَة تَأْخِير الْمَغْرِب إِلَى الْعِشَاء وَالْجَمْع بَيْنهمَا فِي الْمُزْدَلِفَة، وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ بِوَاجِبٍ بَلْ سُنَّة، فَلَوْ صَلَّاهُمَا فِي طَرِيقه أَوْ صَلَّى كُلّ وَاحِدَة فِي وَقْتهَا جَازَ، وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك: إِنْ صَلَّى الْمَغْرِب فِي وَقْتهَا لَزِمَهُ إِعَادَتهَا، وَهَذَا شَاذّ ضَعِيف.
2246- قَوْله: «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَة» دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَسْتَدِيم التَّلْبِيَة حَتَّى يَشْرَع فِي رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة غَدَاة يَوْم النَّحْر، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَبِي ثَوْر وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاء الْأَمْصَار وَمَنْ بَعْدهمْ، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: يُلَبِّي حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح يَوْم عَرَفَة، ثُمَّ يَقْطَع، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَعَائِشَة وَمَالِك وَجُمْهُور فُقَهَاء الْمَدِينَة أَنَّهُ يُلَبِّي حَتَّى تَزُول الشَّمْس يَوْم عَرَفَة، وَلَا يُلَبِّي بَعْد الشُّرُوع فِي الْوُقُوف، وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَبَعْض السَّلَف: يُلَبِّي حَتَّى يَفْرُغ مِنْ رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة، وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح مَعَ الْأَحَادِيث بَعْده، وَلَا حُجَّة لِلْآخَرِينَ فِي مُخَالَفَتهَا، فَيَتَعَيَّن اِتِّبَاع السُّنَّة.
2247- وَأَمَّا قَوْله فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة» فَقَدْ يَحْتَجّ بِهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق لِمَذْهَبِهِمَا، وَيُجِيب الْجُمْهُور عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَاد حَتَّى شَرَعَ فِي الرَّمْي؛ لِيُجْمَع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ.
2248- قَوْله: (غَدَاة جَمْع) هِيَ بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْمِيم وَهِيَ الْمُزْدَلِفَة، وَسَبَقَ بَيَانهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ» هَذَا إِرْشَاد إِلَى الْأَدَب وَالسُّنَّة فِي السَّيْر تِلْكَ اللَّيْلَة، وَيَلْحَق بِهَا سَائِر مَوَاضِع الزِّحَام.
قَوْله: «وَهُوَ كَافّ نَاقَته» أَيْ يَمْنَعهَا الْإِسْرَاع.
قَوْله: «دَخَلَ مُحَسِّرًا وَهُوَ مِنْ مِنًى» إِلَخْ، أَمَّا مُحَسِّر فَسَبَقَ ضَبْطه وَبَيَانه فِي حَدِيث جَابِر فِي صِفَة حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِحَصَى الْخَذْف» قَالَ الْعُلَمَاء: هُوَ نَحْو حَبَّة الْبَاقِلَّا، قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَوْ رَمَى بِأَكْبَر مِنْهَا أَوْ أَصْغَر جَازَ وَكَانَ مَكْرُوهًا.
وَأَمَّا قَوْله: «يُشِير بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِف الْإِنْسَان» فَالْمُرَاد بِهِ الْإِيضَاح وَزِيَادَة الْبَيَان لِحَصَى الْخَذْف، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ الرَّمْي يَكُون عَلَى هَيْئَة الْخَذْف، وَإِنْ كَانَ بَعْض أَصْحَابنَا قَدْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ غَلَط، وَالصَّوَاب أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبّ كَوْن الرَّمْي عَلَى هَيْئَة الْخَذْف، فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن الْمُغَفَّل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْي عَنْ الْخَذْف، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْإِشَارَة مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2249- قَوْله: «قَالَ عَبْد اللَّه: وَنَحْنُ بِجَمْعٍ سَمِعْت الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة يَقُول فِي هَذَا الْمَقَام: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب إِدَامَة التَّلْبِيَة بَعْد الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور كَمَا سَبَقَ. وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز قَوْل: سُورَة الْبَقَرَة وَسُورَة النِّسَاء وَشِبْه ذَلِكَ، وَكَرِهَ ذَلِكَ بَعْض الْأَوَائِل، وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَال: السُّورَة الَّتِي تُذْكَر فيها الْبَقَرَة وَالسُّورَة الَّتِي تُذْكَر فيها النِّسَاء وَشِبْه ذَلِكَ، وَالصَّوَاب جَوَاز قَوْل: سُورَة الْبَقَرَة وَسُورَة النِّسَاء وَسُورَة الْمَائِدَة وَغَيْرهَا، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ كَحَدِيثِ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِر سُورَة الْبَقَرَة فِي لَيْلَة كَفَتَاهُ» وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود: «سَمِعْت الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة»، فَإِنَّمَا خَصَّ الْبَقَرَة لِأَنَّ مُعْظَم أَحْكَام الْمَنَاسِك فيها، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا مَقَام مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْمَنَاسِك وَأُخِذَ عَنْهُ الشَّرْع، وَبَيَّنَ الْأَحْكَام فَاعْتَمِدُوهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الرَّدّ عَلَى مَنْ يَقُول بِقَطْعِ التَّلْبِيَة مِنْ الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (أَنَّ عَبْد اللَّه لَبَّى حِين أَفَاضَ مِنْ جَمْع فَقِيلَ: أَعْرَابِيّ هَذَا؟) فَقَالَ اِبْن مَسْعُود مَا قَالَ إِنْكَارًا عَلَى الْمُعْتَرِض وَرَدًّا عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الذِّهَابِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ:

2252- قَوْله: «غَدَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَات مِنَّا الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّر» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يُهَلِّل الْمُهَلِّل فَلَا يُنْكَر عَلَيْهِ وَيُكَبِّر الْمُكَبِّر فَلَا يُنْكَر عَلَيْهِ» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَابهمَا فِي الذَّهَاب مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَات يَوْم عَرَفَة، وَالتَّلْبِيَة أَفْضَل، وَفيه رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ بِقَطْعِ التَّلْبِيَة بَعْد صُبْح يَوْم عَرَفَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
2253- سبق شرحه بالباب.
2254- سبق شرحه بالباب.
2255- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب الْإِفَاضَة مِنْ عَرَفَات إِلَى الْمُزْدَلِفَة وَاسْتِحْبَاب صَلَاتَيْ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء جَمْعًا بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَة):

فيه حَدِيث أُسَامَة، وَسَبَقَ بَيَان شَرْحه فِي الْبَاب الَّذِي قَبْل هَذَا. وَفيه: الْجَمْع بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء فِي وَقْت الْعِشَاء فِي هَذِهِ اللَّيْلَة فِي الْمُزْدَلِفَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي حُكْمه: فَمَذْهَبنَا أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب، فَلَوْ صَلَّاهُمَا فِي وَقْت الْمَغْرِب أَوْ فِي الطَّرِيق أَوْ كُلّ وَاحِدَة فِي وَقْتهَا جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْمَسْأَلَة فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
2256- قَوْله: «أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَصَلَّى الْمَغْرِب ثُمَّ أَنَاخَ كُلّ إِنْسَان بَعِيره فِي مَنْزِله، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاء فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا شَيْئًا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي آخِر الْبَاب: «أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة» وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيث جَابِر الطَّوِيل فِي صِفَة حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى الْمُزْدَلِفَة فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَة مُقَدَّمَة عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعَ جَابِر زِيَادَة عِلْم، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة، وَلِأَنَّ جَابِرًا اِعْتَنَى الْحَدِيث وَنَقَلَ حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْصَاة، فَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الْأَذَان لِلْأُولَى مِنْهُمَا، وَيُقِيم لِكُلِّ وَاحِدَة إِقَامَة فَيُصَلِّيهِمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَيُتَأَوَّل حَدِيث: «إِقَامَة وَاحِدَة» أَنَّ كُلّ صَلَاة لَهَا إِقَامَة، ولابد مِنْ هَذَا لِيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن الرِّوَايَة الْأُولَى، وَبَيْنه أَيْضًا وَبَيْن رِوَايَة جَابِر، وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح الْمَسْأَلَة فِي حَدِيث جَابِر. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَة نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوء ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَصَلَّى الْمَغْرِب، ثُمَّ أَنَاخَ كُلّ إِنْسَان بَعِيره فِي مَنْزِله ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاء فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا شَيْئًا» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْمُبَادَرَة بِصَلَاتَيْ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء أَوَّل قُدُومه الْمُزْدَلِفَة، وَيَجُوز تَأْخِيرهمَا إِلَى قُبَيْل طُلُوع الْفَجْر، وَفيه أَنَّهُ لَا يَضُرّ الْفَصْل بَيْن الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ إِذَا كَانَ الْجَمْع فِي وَقْت الثَّانِيَة؛ لِقَوْلِهِ: «ثُمَّ أَنَاخَ كُلّ إِنْسَان بَعِيره فِي مَنْزِله»، وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنهمَا فِي وَقْت الْأُولَى فَلَا يَجُوز الْفَصْل بَيْنهمَا، فَإِنْ فَصَلَ؛ بَطَلَ الْجَمْع وَلَمْ تَصِحّ الصَّلَاة الثَّانِيَة إِلَّا فِي وَقْتهَا الْأَصْلِيّ.
وَأَمَّا قَوْله: «وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا شَيْئًا» فَفيه: أَنَّهُ لَا يُصَلِّي بَيْن الْمَجْمُوعَتَيْنِ شَيْئًا، وَمَذْهَبنَا اِسْتِحْبَاب السُّنَن الرَّاتِبَة، لَكِنْ يَفْعَلهَا بَعْدهمَا لَا بَيْنهمَا، وَيَفْعَل سُنَّة الظُّهْر الَّتِي قَبْلهَا الصَّلَاتَيْنِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2259- قَوْله: (وَمَا قَالَ أَهَرَاقَ الْمَاء) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء.
قَوْله: «حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاء الْآخِرَة» فيه دَلِيل لِصِحَّةِ إِطْلَاق الْعِشَاء الْآخِرَة، وَأَمَّا إِنْكَار الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره ذَلِكَ وَقَوْلهمْ: إِنَّهُ مِنْ لَحْن الْعَوَامّ، وَمَحَالّ كَلَامهمْ، وَأَنَّ صَوَابه الْعِشَاء فَقَطْ، وَلَا يَجُوز وَصْفهَا بِالْآخِرَةِ فَغَلَط مِنْهُمْ بَلْ الصَّوَاب جَوَازه، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فيه، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهِ أَحَادِيث كَثِيرَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه وَاضِحًا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة مِنْ كِتَاب الصَّلَاة.
2260- قَوْله: «لَمَّا أَتَى النَّقْب» هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَان الْقَاف وَهُوَ الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَقِيلَ: الْفُرْجَة بَيْن جَبَلَيْنِ.
قَوْله: «نَزَلَ فَبَال» وَلَمْ يَقُلْ أُسَامَة: أَرَاقَ الْمَاء، فيه: أَدَاء الرِّوَايَة بِحُرُوفِهَا، وَفيه: اِسْتِعْمَال صَرَائِح الْأَلْفَاظ الَّتِي قَدْ تُسْتَبْشَع وَلَا يُكَنَّى عَنْهَا إِذَا دَعَتْ الْحَاجَة إِلَى التَّصْرِيح بِأَنْ خِيفَ لَبْس الْمَعْنَى أَوْ اِشْتِبَاه الْأَلْفَاظ أَوْ غَيْر ذَلِكَ.
2261- قَوْله: (عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَطَاء مَوْلَى سِبَاع عَنْ أُسَامَة بْن زَيْد) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ عَطَاء مَوْلَى سِبَاع، وَفِي بَعْض النُّسَخ (مَوْلَى أُمّ سِبَاع) وَكِلَاهُمَا خِلَاف الْمَعْرُوف فيه، وَإِنَّمَا الْمَشْهُور (عَطَاء مَوْلَى بَنِي سِبَاع) هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه، وَابْن أَبِي حَاتِم فِي كِتَابه الْجَرْح وَالتَّعْدِيلِ، وَخَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَاف، وَالْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ، وَالسَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب، وَغَيْرهمْ، وَهُوَ عَطَاء بْن يَعْقُوب، وَقِيلَ: عَطَاء بْن نَافِع، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي اِسْم أَبِيهِ الْبُخَارِيّ وَخَلَف وَالْحُمَيْدِيّ، وَاقْتَصَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم وَالسَّمْعَانِيّ وَغَيْرهمَا عَلَى أَنَّهُ عَطَاء بْن يَعْقُوب، قَالُوا كُلّهمْ: وَهُوَ عَطَاء الْكَيْخَارَانِيّ بِفَتْحِ الْكَاف وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَيُقَال فيه أَيْضًا: الْكَوْخَارَانِيّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا نِسْبَة إِلَى مَوْضِع بِالْيَمَنِ، هَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُور، قَالَ أَبُو سَعْد السَّمْعَانِيّ: هِيَ قَرْيَة بِالْيَمَنِ يُقَال لَهَا كَيْخَرَان، قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: عَطَاء هَذَا ثِقَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
2262- قَوْله: (فَمَا زَالَ يَسِير عَلَى هَيْئَته) هُوَ بِهَاءٍ مَفْتُوحَة وَبَعْد الْيَاء هَمْزَة، هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ وَفِي بَعْضهَا (هِينَته) بِكَسْرِ الْهَاء وَبِالنُّونِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح الْمَعْنَى.
2263- قَوْله: (كَانَ يَسِير الْعَنَق فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَة نَصَّ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى قَالَ هِشَام: وَالنَّصّ فَوْق الْعَنَق، أَمَّا الْعَنَق فَبِفَتْحِ الْعَيْن وَالنُّون، وَالنَّصّ بِفَتْحِ النُّون وَتَشْدِيد الصَّاد الْمُهْمَلَة هُمَا نَوْعَانِ مِنْ إِسْرَاع السَّيْر، وَفِي الْعَنَق نَوْع مِنْ الرِّفْق. و(الْفَجْوَة) بِفَتْحِ الْفَاء: الْمَكَان الْمُتَّسِع، وَرَوَاهُ بَعْض الرُّوَاة فِي الْمُوَطَّأ (فُرْجَة) بِضَمِّ الْفَاء وَفَتْحهَا وَهِيَ بِمَعْنَى الْفَجْوَة، وَفيه، مِنْ الْفِقْه: اِسْتِحْبَاب الرِّفْق فِي السَّيْر فِي حَال الزِّحَام، فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَة اُسْتُحِبَّ الْإِسْرَاع لِيُبَادِر إِلَى الْمَنَاسِك، وَلِيَتَّسِع لَهُ الْوَقْت لِيُمْكِنهُ الرِّفْق فِي حَال الزَّحْمَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
2266- قَوْله: «جَمَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِجَمْعٍ لَيْسَ بَيْنهمَا سَجْدَة» يَعْنِي بِالسَّجْدَةِ: صَلَاة النَّافِلَة، أَيْ لَمْ يُصَلِّ بَيْنهمَا نَافِلَة، وَقَدْ جَاءَتْ السَّجْدَة بِمَعْنَى النَّافِلَة وَبِمَعْنَى الصَّلَاة.
قَوْله: «وَصَلَّى الْمَغْرِب ثَلَاث رَكَعَات وَصَلَّى الْعِشَاء رَكْعَتَيْنِ» فيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَغْرِب لَا يُقْصَر بَلْ يُصَلَّى ثَلَاثًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَجْمَع عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَفيه: أَنَّ الْقَصْر فِي الْعِشَاء وَغَيْرهَا مِنْ الرُّبَاعِيَّات أَفْضَل. وَاَللَّه أَعْلَم.
2269- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد عَنْ أَبِي إِسْحَاق قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر: أَفَضْنَا مَعَ اِبْن عُمَر..) إِلَى آخِره، هَذَا مِنْ الْأَحَادِيث الَّتِي اِسْتَدْرَكَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فَقَالَ: هَذَا عِنْدِي وَهْم مِنْ إِسْمَاعِيل، وَقَدْ خَالَفَهُ جَمَاعَة مِنْهُمْ: شُعْبَة وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْرَائِيل وَغَيْرهمْ فَرَوَوْه عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَالِك عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ: وَإِسْمَاعِيل وَإِنْ كَانَ ثِقَة فَهَؤُلَاءِ أَقْوَمُ بِحَدِيثِ أَبِي إِسْحَاق مِنْهُ. هَذَا كَلَامه، وَجَوَابه مَا سَبَقَ بَيَانه مَرَّات فِي نَظَائِره أَنَّهُ يَجُوز أَنَّ أَبَا إِسْحَاق سَمِعَهُ بِالطَّرِيقَينِ فَرَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَكَيْف كَانَ، فَالْمَتْن صَحِيح لَا مَقْدَحَ فيه. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ زِيَادَةِ التَّغْلِيسِ بِصَلاَةِ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ:

2270- قَوْله عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود: «مَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاة إِلَّا لِمِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ صَلَاة الْمَغْرِب وَالْعَشَاء بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْر يَوْمئِذٍ قَبْل مِيقَاتهَا» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِب فِي وَقْت الْعِشَاء بِجَمْعٍ، الَّتِي هِيَ الْمُزْدَلِفَة، وَصَلَّى الْفَجْر يَوْمئِذٍ قَبْل مِيقَاتهَا الْمُعْتَاد، وَلَكِنْ بَعْد تَحَقُّق طُلُوع الْفَجْر.
فَقَوْله: (قَبْل وَقْتهَا) الْمُرَاد قَبْل وَقْتهَا الْمُعْتَاد، لَا قَبْل طُلُوع الْفَجْر؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَعَيَّن تَأْوِيله عَلَى مَا ذَكَرْته، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي بَعْض رِوَايَاته أَنَّ اِبْن مَسْعُود صَلَّى الْفَجْر حِين طَلَعَ الْفَجْر بِالْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْر هَذِهِ السَّاعَة، وَفِي رِوَايَة: «فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْر» قَالَ: إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَة إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاة فِي هَذَا الْمَكَان مِنْ هَذَا الْيَوْم. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا حُجَّة لِأَبِي حَنِيفَة فِي اِسْتِحْبَاب الصَّلَاة فِي آخِر الْوَقْت فِي غَيْر هَذَا الْيَوْم، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور اِسْتِحْبَاب الصَّلَاة فِي أَوَّل الْوَقْت فِي كُلّ الْأَيَّام، ولَكِنْ فِي هَذَا الْيَوْم أَشَدّ اِسْتِحْبَابًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الصَّلَاة إِيضَاح الْمَسْأَلَة بِدَلَائِلِهَا، وَتُسَنّ زِيَادَة التَّبْكِير فِي هَذَا الْيَوْم، وَأَجَابَ أَصْحَابنَا عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَات بِأَنَّ مَعْنَاهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَيْر هَذَا الْيَوْم يَتَأَخَّر عَنْ أَوَّل طُلُوع الْفَجْر لَحْظَة إِلَى أَنْ يَأْتِيه بِلَال، وَفِي هَذَا الْيَوْم لَمْ يَتَأَخَّر؛ لِكَثْرَةِ الْمَنَاسِك فيه فَيَحْتَاج إِلَى الْمُبَالَغَة فِي التَّبْكِير؛ لِيَتَّسِع الْوَقْت لِفِعْلِ الْمَنَاسِك. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ يَحْتَجْ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى مَنْع الْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَر؛ لِأَنَّ اِبْن مَسْعُود مِنْ مُلَازِمِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا رَآهُ يَجْمَع إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور جَوَاز الْجَمْع فِي جَمِيع الْأَسْفَار الْمُبَاحَة الَّتِي يَجُوز فيها الْقَصْر وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصَّلَاة بِأَدِلَّتِهَا، وَالْجَوَاب عَنْ هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ مَفْهُوم، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَنَحْنُ نَقُول بِالْمَفْهُومِ، وَلَكِنْ إِذَا عَارَضَهُ مَنْطُوق قَدَّمْنَاهُ عَلَى الْمَفْهُوم، قَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِجَوَازِ الْجَمْع، ثُمَّ هُوَ مَتْرُوك الظَّاهِر بِالْإِجْمَاعِ فِي صَلَاتِي الظُّهْر وَالْعَصْر بِعَرَفَاتٍ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ دَفْعِ الضَّعَفَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فِي أَوَاخِرِ اللَّيَالِي قَبْلَ زَحْمَةِ النَّاسِ وَاسْتِحْبَابِ الْمُكْثِ لِغَيْرِهِمْ حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمُزْدَلِفَةَ:

2271- قَوْله: «قَبْل حَطْمَة النَّاس» بِفَتْحِ الْحَاء أَيْ زَحْمَتهمْ.
قَوْله: «وَكَانَتْ اِمْرَأَة ثَبِطَة» هِيَ بِفَتْحِ الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكَسْر الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَإِسْكَانهَا، وَفَسَّرَهُ فِي الْكِتَاب بِأَنَّهَا الثَّقِيلَة أَيْ ثَقِيلَة الْحَرَكَة بَطِيئَة مِنْ التَّثْبِيط وَهُوَ التَّعْوِيق.
2272- قَوْله: «إِنَّ سَوْدَة أَسْتَأْذَنَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُفِيض مِنْ جَمْع بِلَيْلٍ فَأَذِنَ لَهَا» فيه: دَلِيل لِجَوَازِ الدَّفْع مِنْ مُزْدَلِفَة قَبْل الْفَجْر، قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه: يَجُوز قَبْل نِصْف اللَّيْل، وَيَجُوز رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة بَعْد نِصْف اللَّيْل، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيث، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَبِيت الْحَاجّ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَة النَّحْر، وَالصَّحِيح مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ وَاجِب، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَم وَصَحَّ حَجّه، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاء الْكُوفَة وَأَصْحَاب الْحَدِيث، وَقَالَتْ طَائِفَة: هُوَ سُنَّة إِنْ تَرَكَهُ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا دَم وَلَا غَيْره، وَهُوَ قَوْل لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَة، وَقَالَتْ طَائِفَة: لَا يَصِحّ حَجّه، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ النَّخَعِيُّ وَغَيْره، وَبِهِ قَالَ إِمَامَانِ كَبِيرَانِ مِنْ أَصْحَابنَا وَهُمَا: أَبُو عَبْد الرَّحْمَن بْن بِنْت الشَّافِعِيّ وَأَبُو بَكْر بْن خُزَيْمَةَ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاء وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ الْمَبِيت بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَة لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِب وَلَا سُنَّة، وَلَا فَضِيلَة فيه، بَلْ هُوَ مَنْزِل كَسَائِرِ الْمَنَازِل، إِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتْرُكهُ، وَلَا فَضِيلَة فيه، وَهَذَا قَوْل بَاطِل، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْر الْمَبِيت الْوَاجِب، فَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيّ أَنَّهُ سَاعَة فِي النِّصْف الثَّانِي مِنْ اللَّيْل، وَفِي قَوْل لَهُ: سَاعَة مِنْ النِّصْف الثَّانِي أَوْ مَا بَعْده إِلَى طُلُوع الشَّمْس. وَفِي قَوْل ثَالِث لَهُ: أَنَّهُ مُعْظَم اللَّيْل، وَعَنْ مَالِك ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهَا: كُلّ اللَّيْل، وَالثَّانِي: مُعْظَمه، وَالثَّالِث: أَقَلّ زَمَان.
2274- قَوْله: «يَا هَنْتَاه» أَيْ يَا هَذِهِ، هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَبَعْدهَا نُون سَاكِنَة وَمَفْتُوحَة وَإِسْكَانهَا أَشْهَر، ثُمَّ تَاء مُثَنَّاة مِنْ فَوْق، قَالَ اِبْن الْأَثِير: وَتُسَكَّن الْهَاء الَّتِي فِي آخِرهَا وَتُضَمّ، وَفِي التَّثْنِيَة (يَا هَنَتَانِ) وَفِي الْجَمْع (يَا هَنَات) و(هَنَوَات) وُفِيَ الْمُذَكَّر (هَن وَهَنَانِ وَهَنُونِ).
قَوْله: «لَقَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ: كَلَّا» أَيْ لَقَدْ تَقَدَّمْنَا عَلَى الْوَقْت الْمَشْرُوع قَالَتْ: لَا.
قَوْلهَا: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ» هُوَ بِضَمِّ الظَّاء وَالْعَيْن وَبِإِسْكَانِ الْعَيْن أَيْضًا، وَهُنَّ النِّسَاء، الْوَاحِدَة: ظَعِينَة، كَسَفِينَةِ وَسُفُن، وَأَصْل الظَّعِينَة: الْهَوْدَج الَّذِي تَكُون فيه الْمَرْأَة عَلَى الْبَعِير، فَسُمِّيَتْ الْمَرْأَة بِهِ مَجَازًا، وَاشْتُهِرَ هَذَا الْمَجَاز حَتَّى غَلَبَ، وَخَفِيَتْ الْحَقِيقَة، وَظَعِينَة الرَّجُل: اِمْرَأَته.
2277- قَوْله: «بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّقَل» هُوَ بِفَتْحِ الثَّاء وَالْقَاف وَهُوَ الْمَتَاع وَنَحْوه.
2281- قَوْله: (إِنَّ عَبْدَ اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ يُقَدِّم ضَعَفَة أَهْله فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ عِنْد الْمَشْعَر الْحَرَام بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّه مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَدْفَعُونَ) قَدْ سَبَقَ بَيَان الْمَشْعَر الْحَرَام وَذِكْر الْخِلَاف فيه، وَأَنَّ مَذْهَب الْفُقَهَاء أَنَّهُ اِسْم لِقُزَح خَاصَّة، وَهُوَ جَبَل بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَمَذْهَب الْمُفَسِّرِينَ وَمَذْهَب أَهْل السِّيَر أَنَّهُ جَمِيع الْمُزْدَلِفَة، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيث مَا يَدُلّ لِكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِمَذْهَبِ الْفُقَهَاء، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَشْهُور فَتْح الْمِيم مِنْ الْمَشْعَر الْحَرَام وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا وَفيه: اِسْتِحْبَاب الْوُقُوف عِنْد الْمَشْعَر الْحَرَام بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْر.
وَقَوْله: (مَا بَدَا لَهُمْ) هُوَ بِلَا هَمْز، أَيْ مَا أَرَادُوا.

.باب رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَتَكُونُ مَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ:

2282- قَوْله: (رَمَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود جَمْرَة الْعَقَبَة مِنْ بَطْن الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَات يُكَبِّر مَعَ كُلّ حَصَاة قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقهَا فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود: هَذَا وَاَلَّذِي لَا إِلَه غَيْره مَقَام الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة) فيه فَوَائِد مِنْهَا: إِثْبَات رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاجِب، وَهُوَ أَحَد أَسْبَاب التَّحَلُّل، وَهِيَ ثَلَاثَة: رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة يَوْم النَّحْر، فَطَوَاف الْإِفَاضَة مَعَ سَعْيه إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى، وَالثَّالِث: الْحَلْق عِنْد مَنْ يَقُول: إِنَّهُ نُسُك وَهُوَ الصَّحِيح، فَلَوْ تَرَكَ رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة حَتَّى فَاتَتْ أَيَّام التَّشْرِيق فَحَجّه صَحِيح، وَعَلَيْهِ دَم، هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك: الرَّمْي رُكْن لَا يَصِحّ الْحَجّ إِلَّا بِهِ، وَحَكَى اِبْن جَرِير عَنْ بَعْض النَّاس أَنَّ رَمْي الْجِمَار إِنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلتَّكْبِيرِ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَكَبَّرَ أَجْزَأَهُ، وَنَحْوه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور مَا قَدَّمْنَا. وَمِنْهَا: كَوْن الرَّمْي سَبْع حَصَيَات، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب التَّكْبِير مَعَ كُلّ حَصَاة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَالْعُلَمَاء كَافَّة، قَالَ الْقَاضِي: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّكْبِير لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب كَوْن الرَّمْي مِنْ بَطْن الْوَادِي، فَيُسْتَحَبّ أَنْ يَقِف تَحْتهَا فِي بَطْن الْوَادِي فَيَجْعَل مَكَّة عَنْ يَسَاره، وَمِنًى عَنْ يَمِينه، وَيَسْتَقْبِل الْعَقَبَة وَالْجَمْرَة وَيَرْمِيهَا بِالْحَصَيَاتِ السَّبْع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ يَقِف مُسْتَقْبِل الْجَمْرَة، مُسْتَدْبِرًا مَكَّة، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ يَقِف مُسْتَقْبِل الْكَعْبَة، وَتَكُون الْجَمْرَة عَنْ يَمِينه، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ رَمَاهَا جَازَ، سَوَاء اِسْتَقْبَلَهَا أَوْ جَعَلَهَا عَنْ يَمِينه أَوْ عَنْ يَسَاره، أَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقهَا أَوْ أَسْفَلهَا، أَوْ وَقْف فِي وَسَطهَا وَرَمَاهَا، وَأَمَّا رَمْي بَاقِي الْجَمَرَات فِي أَيَّام التَّشْرِيق فَيُسْتَحَبّ مِنْ فَوْقهَا.
وَأَمَّا قَوْله: (هَذَا مَقَام الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة)، فَسَبَقَ شَرْحه قَرِيبًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
2283- قَوْله: (عَنْ الْأَعْمَش سَمِعْت الْحَجَّاج بْن يُوسُف يَقُول وَهُوَ يَخْطُب عَلَى الْمِنْبَر: أَلِّفُوا الْقُرْآن كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيل السُّورَة الَّتِي يُذْكَر فيها الْبَقَرَة وَالسُّورَة الَّتِي يُذْكَر فيها النِّسَاء وَالسُّورَة الَّتِي يُذْكَر فيها آل عِمْرَان فَلَقِيت إِبْرَاهِيم فَأَخْبَرْته بِقَوْلِهِ فَسَبَّهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: إِنْ كَانَ الْحَجَّاج أَرَادَ بِقَوْلِهِ: (كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيل) تَأْلِيف الْآي فِي كُلّ سُورَة وَنَظْمهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصْحَف فَهُوَ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ تَأْلِيف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يُرِيد تَأْلِيف السُّورَة بَعْضهَا فِي إِثْر بَعْض فَهُوَ قَوْل بَعْض الْفُقَهَاء وَالْقُرَّاء، وَخَالَفَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ وَقَالُوا: بَلْ هُوَ اِجْتِهَاد مِنْ الْأَئِمَّة وَلَيْسَ بِتَوْقِيفٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَتَقْدِيمه هُنَا النِّسَاء عَلَى آل عِمْرَان دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِلَّا نَظْم الْآي؛ لِأَنَّ الْحَجَّاج إِنَّمَا كَانَ يَتَّبِع مُصْحَف عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَا يُخَالِفهُ وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ تَرْتِيب الْآي لَا تَرْتِيب السُّوَر.
2284- قَوْله: (وَجَعَلَ الْبَيْت عَنْ يَسَاره وَمِنًى عَنْ يَمِينه) هَذَا دَلِيل لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي الْمَوْقِف الْمُسْتَحَبّ لِلرَّمْيِ.
2285- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو الْمُحَيَّاة) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْت. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب اسْتِحْبَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا وَبَيَانِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ»:

2286- قَوْله: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه يَقُول: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَته يَوْم النَّحْر وَيَقُول: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِككُمْ فَإِنَى لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجّ بَعْد حَجَّتِي هَذِهِ» فيه: دَلَالَة لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ وَصَلَ مِنًى رَاكِبًا أَنْ يَرْمِي جَمْرَة الْعَقَبَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا، وَلَوْ رَمَاهَا مَاشِيًا جَازَ، وَأَمَّا مَنْ وَصَلَهَا مَاشِيًا فَيَرْمِيهَا مَاشِيًا، وَهَذَا فِي يَوْم النَّحْر، وَأَمَّا الْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ أَيَّام التَّشْرِيق فَالسُّنَّة أَنْ يَرْمِي فيهمَا جَمِيع الْجَمَرَات مَاشِيًا، وَفِي الْيَوْم الثَّالِث يَرْمِي رَاكِبًا، وَيَنْفِر، هَذَا كُلّه مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا، وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق: يُسْتَحَبّ يَوْم النَّحْر أَنْ يَرْمِي مَاشِيًا، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: وَكَانَ اِبْن عُمَر وَابْن الزُّبَيْر وَسَالِم يَرْمُونَ مُشَاة، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّمْي يُجْزِيه عَلَى أَيّ حَال رَمَاهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَرْمَى.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِككُمْ» فَهَذِهِ اللَّام لَام الْأَمْر، وَمَعْنَاهُ: خُذُوا مَنَاسِككُمْ: وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة غَيْر مُسْلِم، وَتَقْدِيره هَذِهِ الْأُمُور الَّتِي أَتَيْت بِهَا فِي حَجَّتِي مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال وَالْهَيْئَات هِيَ أُمُور الْحَجّ وَصِفَته وَهِيَ مَنَاسِككُمْ فَخُذُوهَا عَنِّي وَاقْبَلُوهَا وَاحْفَظُوهَا وَاعْمَلُوا بِهَا وَعَلِّمُوهَا النَّاس.
وَهَذَا الْحَدِيث أَصْل عَظِيم فِي مَنَاسِك الْحَجّ وَهُوَ نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاة: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَيَّ لَا أَحُجّ بَعْد حَجَّتِي هَذِهِ» فيه: إِشَارَة إِلَى تَوْدِيعهمْ وَإِعْلَامهمْ بِقُرْبِ وَفَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَثّهمْ عَلَى الِاعْتِنَاء بِالْأَخْذِ عَنْهُ، وَانْتِهَاز الْفُرْصَة مِنْ مُلَازَمَته، وَتَعْلَم أُمُور الدِّين، وَبِهَذَا سُمِّيَتْ حَجَّة الْوَدَاع. وَاَللَّه أَعْلَم.
2287- قَوْلهَا: «حَجَجْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّة الْوَدَاع، فَرَأَيْته حِين رَمَى جَمْرَة الْعَقَبَة وَانْصَرَفَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته وَمَعَهُ بِلَال وَأُسَامَة، أَحَدهمَا يَقُود بِهِ رَاحِلَته، وَالْآخَر يَرْفَع ثَوْبه عَلَى رَأْس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّمْس» فيه: جَوَاز تَسْمِيَتهَا حَجَّة الْوَدَاع، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ، وَهُوَ غَلَط، وَسَبَقَ بَيَان إِبْطَاله. وَفيه الرَّمْي رَاكِبًا كَمَا سَبَقَ. وَفيه: جَوَاز تَظْلِيل الْمُحْرِم عَلَى رَأْسه بِثَوْبٍ وَغَيْره، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء، سَوَاء كَانَ رَاكِبًا أَوْ نَازِلًا، وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد: لَا يَجُوز، وَإِنْ فَعَل لَزِمَتْهُ الْفِدْيَة، وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَة: أَنَّهُ لَا فِدْيَة، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ تَحْت خَيْمَة أَوْ سَقْف جَازَ، وَوَافَقُونَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الزَّمَان يَسِيرًا فِي الْمَحْمَل لَا فِدْيَة، وَكَذَا لَوْ اِسْتَظَلَّ بِيَدِهِ، وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس بْن أَبِي رَبِيعَة قَالَ: صَحِبْتُ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَمَا رَأَيْته مُضْرِبًا فُسْطَاطًا حَتَّى رَجَعَ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَن.
وَعَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَى بَعِيره وَهُوَ مُحْرِم قَدْ اِسْتَظَلَّ بَيْنه وَبَيْن الشَّمْس فَقَالَ: اِضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح.
وَعَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُحْرِم يُضْحِي لِلشَّمْسِ حَتَّى تَغْرُب إِلَّا غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ حَتَّى يَعُود كَمَا وَلَدَتْهُ أُمّه». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِحَدِيثِ أُمّ الْحُصَيْن، وَهَذَا الْمَذْكُور فِي مُسْلِم، وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى لُبْسًا.
وَأَمَّا حَدِيث جَابِر فَضَعِيف كَمَا ذَكَرْنَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فيه نَهْي، وَكَذَا فَعَلَ عُمَر، وَقَوْل اِبْن عُمَر لَيْسَ فيه نَهْي وَلَوْ كَانَ فَحَدِيث أُمّ الْحُصَيْن مُقَدَّم عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «سَمِعَتْهُ يَقُول إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْد مُجَدَّع حَسِبْتهَا قَالَتْ: أَسْوَد يَقُودكُمْ بِكِتَابِ اللَّه فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا» الْمُجَدَّع بِفَتْحِ الْجِيم وَالدَّال الْمُهْمَلَة الْمُشَدَّدَة، و(الْجَدْع) الْقَطْع مِنْ أَصْل الْعُضْو، وَمَقْصُوده: التَّنْبِيه عَلَى نِهَايَة خِسَّته، فَإِنَّ الْعَبْد خَسِيس فِي الْعَادَة، ثُمَّ سَوَاده نَقْصٌ آخَر، وَجَدْعه نَقْص آخَر، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: (كَأَنَّ رَأْسه زَبِيبَة) وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَات مَجْمُوعَة فيه فَهُوَ فِي نِهَايَة الْخِسَّة، وَالْعَادَة أَنْ يَكُون مُمْتَهَنًا فِي أَرْذَل الْأَعْمَال، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاعَةِ وَلِي الْأَمْر وَلَوْ كَانَ بِهَذِهِ الْخَسَاسَة مَا دَامَ يَقُودنَا بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى، قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْإِسْلَامِ وَالدُّعَاء إِلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى عَلَى أَيّ حَال كَانُوا فِي أَنْفُسهمْ وَأَدْيَانهمْ وَأَخْلَاقهمْ، وَلَا يُشَقّ عَلَيْهِمْ الْعَصَا، بَلْ إِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُمْ الْمُنْكَرَات وُعِظُوا وَذُكِّرُوا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يُؤْمَر بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لِلْعَبْدِ مَعَ أَنَّ شَرْط الْخَلِيفَة كَوْنه قُرَشِيًّا؟ فَالْجَوَاب مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ الْمُرَاد بَعْض الْوُلَاة الَّذِينَ يُوَلِّيهِمْ الْخَلِيفَة وَنُوَّابه، لَا أَنَّ الْخَلِيفَة يَكُون عَبْدًا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد لَوْ قَهَرَ عَبْد مُسْلِم وَاسْتَوْلَى بِالْقَهْرِ نَفَذَتْ أَحْكَامه، وَوَجَبَتْ طَاعَته، وَلَمْ يَجُزْ شَقّ الْعَصَا عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.