فصل: باب الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب كَرَاهَةِ التَّدَاوِي بِاللَّدُودِ:

4101- قَوْلهَا: «لَدَدْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضه، فَأَشَارَ أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَة الْمَرِيض لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَد إِلَّا لُدّ غَيْر الْعَبَّاس فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدكُمْ» قَالَ أَهْل اللُّغَة اللَّدُود بِفَتْحِ اللَّام هُوَ الدَّوَاء الَّذِي يُصَبّ فِي أَحَد جَانِبَيْ فَم الْمَرِيض وَيُسْقَاهُ، أَوْ يَدْخُل هُنَاكَ بِأُصْبُعٍ وَغَيْرهَا وَيُحَنَّك بِهِ، وَيُقَال مِنْهُ لَدَدْته أَلُدّهُ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيّ أَيْضًا أَلَدَدْته رُبَاعِيًّا، وَالْتَدَدْت أَنَا.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَيُقَال لِلَّدُودِ لَدِيد أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُدِّهِمْ عُقُوبَة لَهُمْ حِين خَالَفُوهُ فِي إِشَارَته إِلَيْهِمْ: لَا تَلُدُّونِي. فَفيه أَنَّ الْإِشَارَة الْمُفْهِمَة كَصَرِيحِ الْعِبَارَة فِي نَحْو هَذِهِ الْمَسْأَلَة. وَفيه تَعْزِيز الْمُتَعَدِّي بِنَحْوِ مِنْ فِعْله الَّذِي تَعَدَّى بِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُون فِعْلًا مُحَرَّمًا.

.باب التَّدَاوِي بِالْعُودِ الْهِنْدِيِّ وَهُوَ الْكُسْتُ:

4102- قَوْلهَا: «دَخَلْت عَلَيْهِ بِابْنٍ لِي قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَة، فَقَالَ: عَلَامَ تَدْغَرْنَ أَوْلَادكُنَّ بِهَذَا الْعَلَاق، عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُود الْهِنْدِيّ، فَإِنَّ فيه سَبْعَة أَشْفِيَة مِنْهَا ذَات الْجَنْب يُسْعَط مِنْ الْعُذْرَة، وَيُلَدّ مِنْ ذَات الْجَنْب».
أَمَّا قَوْلهَا: (أَعَلَقْت عَلَيْهِ) فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم (عَلَيْهِ) وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة مَعْمَر وَغَيْره (عَلَيْهِ) فَأَعْلَقْت عَلَيْهِ كَمَا هُنَا. وَمَنْ رِوَايَة سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ (فَأَعْلَقْت عَنْهُ) بِالنُّونِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أَهْل اللُّغَة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُحَدِّثُونَ يَرْوُونَهُ (أَعَلَقْت عَلَيْهِ)، وَالصَّوَاب (عَنْهُ) وَكَذَا قَالَهُ غَيْره، وَحَكَاهُمَا بَعْضهمْ لُغَتَيْنِ: أَعَلَقْت عَنْهُ، وَعَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ عَالَجْت وَجَع لَهَاته بِأُصْبُعِي، وَأَمَّا (الْعُذْرَة) فَقَالَ الْعُلَمَاء هِيَ بِضَمِّ الْعَيْن وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَهِيَ وَجَع فِي الْحَلْق يَهِيج مِنْ الدَّم، يُقَال فِي عِلَاجهَا: عَذَرْته، فَهُوَ مَعْذُور.
وَقِيلَ: هِيَ قُرْحَة تَخْرُج فِي الْخُرْم الَّذِي بَيْن الْحَلْق وَالْأَنْف، تَعْرِض لَلصِّبْيَان غَالِبًا عِنْد طُلُوع الْعُذْرَة، وَهِيَ خَمْسَة كَوَاكِب تَحْت الشَّعْرَى الْعُبُور، وَتُسَمَّى الْعَذَارَى، وَتَطْلُع فِي وَسَط الْحَزّ، وَعَادَة النِّسَاء فِي مُعَالَجَة الْعُذْرَة أَنْ تَأْخُذ الْمَرْأَة خِرْقَة فَتَفْتِلهَا فَتْلًا شَدِيدًا وَتُدْخِلهَا فِي أَنْف الصَّبِيّ، وَتَطْعَن ذَلِكَ الْمَوْضِع، فَيَنْفَجِر مِنْهُ دَم أَسْوَد، وَرُبَّمَا أَقْرَحَتْهُ، وَذَلِكَ الطَّعْن يُسَمَّى دَغْرًا وَغَدْرًا. فَمَعْنَى: «تَدْغَرْنَ أَوْلَادكُنَّ» أَنَّهَا تَغْمِز حَلْق الْوَلَد بِأُصْبُعِهَا، فَتَرْفَع ذَلِكَ الْمَوْضِع، وَتَكْبِسهُ.
وَأَمَّا (الْعَلَاق) فَبِفَتْحِ الْعَيْن وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (الْإِعْلَاق) وَهُوَ الْأَشْهَر عِنْد أَهْل اللُّغَة حَتَّى زَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهُ الصَّوَاب، وَأَنَّ الْعَلَاق لَا يَجُوز. قَالُوا: وَالْإِعْلَاق مَصْدَر أَعَلَقْت عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَزَلْت عَنْهُ الْعَلُوق، وَهِيَ الْآفَة وَالدَّاهِيَة، وَالْإِعْلَاق هُوَ مُعَالَجَة عُذْرَة الصَّبِيّ، وَهِيَ وَجَع حَلْقه كَمَا سَبَقَ.
قَالَ اِبْن الْأَثِير: وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْعَلَاق هُوَ الِاسْم مِنْهُ.
وَأَمَّا: «ذَات الْجَنْب» فَعِلَّة مَعْرُوفَة. وَالْعُود الْهِنْدِيّ يُقَال لَهُ: الْقُسْط، وَالْكُسْت لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَامَه تَدْغَرْنَ أَوْلَادكُنَّ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «عَلَامَه» وَهِيَ هَاء السَّكْت ثَبَتَتْ هُنَا فِي الدَّرْج.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيه سَبْعَة أَشْفِيَة» فَقَدْ أَطْبَقَ الْأَطِبَّاء فِي كُتُبهمْ عَلَى أَنَّهُ يُدِرّ الطَّمْث وَالْبَوْل، وَيَنْفَع مِنْ السُّمُوم، وَيُحَرِّك شَهْوَة الْجِمَاع، وَيَقْتُل الدُّود وَحُبّ الْقَرْع فِي الْأَمْعَاء إِذَا شُرِبَ بِعَسَلٍ، وَيُذْهِب الْكَلَف إِذَا طُلِيَ عَلَيْهِ، وَيَنْفَع مِنْ بَرْد الْمَعِدَة وَالْكَبِد، وَيَرُدّهُمَا، وَمِنْ حُمَّى الْوَرْد وَالرِّبْع، وَغَيْر ذَلِكَ، وَهُوَ صِنْفَانِ بَحْرِيّ وَهِنْدِيّ، وَالْبَحْرِيّ هُوَ الْقُسْط الْأَبْيَض، وَهُوَ أَكْثَر مِنْ صِنْفَيْنِ، وَنَصَّ بَعْضهمْ أَنَّ الْبَحْرِيّ أَفْضَل مِنْ الْهِنْدِيّ، وَهُوَ أَقَلّ حَرَارَة مِنْهُ، وَقِيلَ: هُمَا حَارَّانِ يَابِسَانِ فِي الدَّرَجَة الثَّالِثَة، وَالْهِنْدِيّ أَشَدّ حَرًّا فِي الْجُزْء الثَّالِث مِنْ الْحَرَارَة، وَقَالَ اِبْن سِينَا: الْقُسْط حَارّ فِي الثَّالِثَة يَابِس فِي الثَّانِيَة. فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذِهِ الْمَنَافِع الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْقُسْط، فَصَارَ مَمْدُوحًا شَرْعًا وَطِبًّا، وَإِنَّمَا عَدَدْنَا مَنَافِع الْقُسْط مِنْ كُتُب الْأَطِبَّاء لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْهَا عَدَدًا مُجْمَلًا.
4103- سبق شرحه بالباب.

.باب التَّدَاوِي بِالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ:

4104- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْحَبَّة السَّوْدَاء شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء إِلَّا السَّام» فَيُحْمَل أَيْضًا عَلَى الْعِلَل الْبَارِدَة عَلَى نَحْو مَا سَبَقَ فِي الْقُسْط، وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَصِف بِحَسَبِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ غَالِب أَحْوَال أَصْحَابه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض كَلَام الْمَازِرِيّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ الْأَطِبَّاء فِي مَنْفَعَة الْحَبَّة السَّوْدَاء الَّتِي هِيَ الشُّونِيز أَشْيَاء كَثِيرَة، وَخَوَاصّ عَجِيبَة، يَصْدُقهَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها؛ فَذَكَر جَالِينُوس أَنَّهَا تَحِلّ النَّفْخ، وَتُقِلّ دِيدَان الْبَطْن إِذَا أُكِلَ أَوْ وُضِعَ عَلَى الْبَطْن، وَتَنْفِي الزُّكَام إِذَا قُلِيَ وَصُرَّ فِي خِرْقَة وَشُمَّ، وَتُزِيل الْعِلَّة الَّتِي تَقْشُر مِنْهَا الْجِلْد، وَتَقْلَع الثَّآلِيل الْمُتَعَلِّقَة وَالْمُنَكَّسَة وَالْخِيلَان، وَتُدِرّ الطَّمْث الْمُنْحَبِس إِذَا كَانَ اِنْحِبَاسه مِنْ أَخْلَاط غَلِيظَة لَزِجَة، وَيَنْفَع الصُّدَاع إِذَا طُلِيَ بِهِ الْجَبِين، وَتَقْلَع الْبُثُور وَالْجَرَب، وَتُحَلِّل الْأَوْرَام الْبَلْغَمِيَّة إِذَا تُضَمَّد بِهِ مَعَ الْخَلّ، وَتَنْفَع مِنْ الْمَاء الْعَارِض فِي الْعَيْن إِذَا اُسْتُعِطَ بِهِ مَسْحُوقًا بِدُهْنِ الْأَرَلْيَا، وَتَنْفَع مِنْ اِنْتِصَاب النَّفْس، وَيُتَمَضْمَض بِهِ مِنْ وَجَع الْأَسْنَان، وَتُدِرّ الْبَوْل وَاللَّبَن، وَتَنْفَع مِنْ نَهْشَة الرَّتِيلَا، وَإِذَا بُخِّرَ بِهِ طَرَدَ الْهَوَامّ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ غَيْر جَالِينُوس؛ خَاصِّيَّته إِذْهَاب حُمَّى الْبَلْغَم وَالسَّوْدَاء، وَتَقْتُل حَبّ الْقَرْع، وَإِذَا عُلِّقَ فِي عُنُق الْمَزْكُوم نَفَعَهُ، وَيَنْفَع مِنْ حُمَّى الرِّبْع.
قَالَ: وَلَا يَبْعُد مَنْفَعَة الْحَارّ مِنْ أَدْوَاء حَارَّة بِخَوَاصّ فيها، فَقَدْ نَجِد ذَلِكَ فِي أَدْوِيَة كَثِيرَة، فَيَكُون الشُّونِيز مِنْهَا لِعُمُومِ الْحَدِيث، وَيَكُون اِسْتِعْمَاله أَحْيَانًا مُنْفَرِدًا، وَأَحْيَانًا مُرَكَّبًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَفِي جُمْلَة هَذِهِ الْأَحَادِيث مَا حَوَاهُ مِنْ عُلُوم الدِّين وَالدُّنْيَا، وَصِحَّة عِلْم الطِّبّ، وَجَوَاز التَّطَبُّب فِي الْجُمْلَة، وَاسْتِحْبَابه بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَة مِنْ الْحِجَامَة، وَشُرْب الْأَدْوِيَة، وَالسَّعُوط، وَاللَّدُود، وَقَطْع الْعُرُوق، وَالرُّقَى قَالَ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ الدَّوَاء الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاء» هَذَا إِعْلَام لَهُمْ، وَإِذْن فيه، وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِإِنْزَالِهِ إِنْزَال الْمَلَائِكَة الْمُوَكَّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ مَخْلُوقَات الْأَرْض مِنْ دَاء وَدَوَاء. وَذَكَرَ بَعْض الْأَطِبَّاء فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَرْطَة مِحْجَم أَوْ شَرْبَة عَسَل أَوْ لَذْعَة بِنَارٍ» أَنَّهُ إِشَارَة إِلَى جَمِيع ضُرُوب الْمُعَافَاة وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «وَالْحَبَّة السَّوْدَاء الشُّونِيز» هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُور.
قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ الْحَرْبِيّ عَنْ الْحَسَن أَنَّهَا الْخَرْدَل.
قَالَ: وَقِيلَ: هِيَ الْحَبَّة الْخَضْرَاء، وَهِيَ الْبُطْم، وَالْعَرَب تُسَمِّي الْأَخْضَر أَسْوَد، وَمِنْهُ سَوَاد الْعِرَاق لِخُضْرَتِهِ بِالْأَشْجَارِ، وَتُسَمِّي الْأَسْوَد أَيْضًا أَخْضَر.
4105- سبق شرحه بالباب.

.باب التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ:

4106- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيض، وَتُذْهِب بَعْض الْحَزَن» أَمَّا (مَجَمَّةٌ) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَالْجِيم، وَيُقَال بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر الْجِيم، أَيْ تُرِيح فُؤَاده، وَتُزِيل عَنْهُ الْهَمّ، وَتُنَشِّطهُ. وَالْجَمَام الْمُسْتَرِيح كَأَهْلِ النَّشَاط.
وَأَمَّا (التَّلْبِينَةُ) فَبِفَتْحِ التَّاء وَهِيَ حَسَاء مِنْ دَقِيق أَوْ نُخَالَة. قَالُوا: وَرُبَّمَا جُعِلَ فيها عَسَل.
قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: سُمِّيَتْ تَلْبِينَةٌ تَشْبِيهًا بِاللَّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقَّتهَا. وَفيه اِسْتِحْبَاب التَّلْبِينَة لِلْمَحْزُونِ.

.باب التَّدَاوِي بِسَقْيِ الْعَسَلِ:

4107- قَوْله: «إِنَّ أَخِي عَرِب بَطْنُهُ» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر الرَّاء مَعْنَاهُ فَسَدَتْ مَعِدَته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللَّه وَكَذَبَ بَطْن أَخِيك» الْمُرَاد قَوْله تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فيه شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} وَهُوَ الْعَسَل، وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى: {فيه شِفَاءٌ} يَعُود إِلَى الشَّرَاب الَّذِي هُوَ الْعَسَل، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَغَيْرهمْ، وَقَالَ مُجَاهِد الضَّمِير عَائِد إِلَى الْقُرْآن، وَهَذَا ضَعِيف مُخَالِف لِظَاهِرِ الْقُرْآن وَلِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: الْآيَة عَلَى الْخُصُوص أَيْ شِفَاء مِنْ بَعْض الْأَدْوَاء، وَلِبَعْضِ النَّاس، وَكَانَ دَاء هَذَا الْمَبْطُون مِمَّا يُشْفَى بِالْعَسَلِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَة تَصْرِيح بِأَنَّهُ شِفَاء مِنْ كُلّ دَاء، وَلَكِنَّ عِلْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دَاء هَذَا الرَّجُل مِمَّا يُشَفَّى بِالْعَسَلِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا:

4108- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّاعُون: «إِنَّهُ رِجْز أُرْسِل عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ هَذَا الْوَجَع أَوْ السَّقَم رُجْز عُذِّبَ بِهِ بَعْض الْأُمَم قَبْلكُمْ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدُ بِالْأَرْضِ، فَيَذْهَب الْمَرَّة، وَيَأْتِي الْأُخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدُمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَهُوَ بِهَا فَلَا يُخْرِجَنَّه الْفِرَار مِنْهُ». وَفِي حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ الْوَبَاء وَقَعَ بِالشَّامِ.
وَأَمَّا (الطَّاعُون) فَهُوَ قُرُوح تَخْرُج فِي الْجَسَد فَتَكُون فِي الْمَرَافِق أَوْ الْآبَاط أَوْ الْأَيْدِي أَوْ الْأَصَابِع وَسَائِر الْبَدَن، وَيَكُون مَعَهُ وَرَم وَأَلَم شَدِيد، وَتَخْرُج تِلْكَ الْقُرُوح مَعَ لَهِيب، وَيَسْوَدّ مَا حَوَالَيْهِ، أَوْ يَخْضَرّ، أَوْ يَحْمَرّ حُمْرَة بَنَفْسَجِيَّة كَدِرَة، وَيَحْصُل مَعَهُ خَفَقَان الْقَلْب وَالْقَيْء.
وَأَمَّا (الْوَبَاء) فَقَالَ الْخَلِيل وَغَيْره: هُوَ مَرَض الطَّاعُون، وَقَالَ: هُوَ كُلّ مَرَض عَامّ. وَالصَّحِيح الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مَرَض الْكَثِيرِينَ مِنْ النَّاس فِي جِهَة مِنْ الْأَرْض دُون سَائِر الْجِهَات، وَيَكُون مُخَالِفًا لِلْمُعْتَادِ مِنْ أَمْرَاض فِي الْكَثْرَة وَغَيْرهَا، وَيَكُون مَرَضهمْ نَوْعًا وَاحِدًا بِخِلَافِ سَائِر الْأَوْقَات، فَإِنَّ أَمْرَاضهمْ فيها مُخْتَلِفَة. قَالُوا: وَكُلّ طَاعُون وَبَاء، وَلَيْسَ كُلّ وَبَاء طَاعُونًا. وَالْوَبَاء الَّذِي وَقَعَ فِي الشَّام فِي زَمَن عُمَر كَانَ طَاعُونًا، وَهُوَ طَاعُون عَمْوَاس، وَهِيَ قَرْيَة مَعْرُوفَة بِالشَّامِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْح مُقَدِّمَة الْكِتَاب فِي ذِكْر الضُّعَفَاء مِنْ الرُّوَاة عِنْد ذِكْره طَاعُون الْجَارِف بَيَان الطَّوَاعِين، وَأَزْمَانهَا، وَعَدَدهَا، وَأَمَاكِنهَا، وَنَفَائِس مِمَّا يَتَعَلَّق بِهَا. وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل أَوْ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ عَذَابًا لَهُمْ. هَذَا الْوَصْف وَبِكَوْنِهِ عَذَابًا مُخْتَصّ بِمَنْ كَانَ قَبْلنَا، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّة فَهُوَ لَهَا رَحْمَة وَشَهَادَة، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَطْعُون شَهِيد». وَفِي حَدِيث آخَر فِي غَيْر الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ الطَّاعُون كَانَ عَذَابًا يَبْعَثهُ اللَّه عَلَى مَنْ يَشَاء، فَجَعَلَهُ رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْد يَقَع الطَّاعُون فَيَمْكُث فِي بَلَده صَابِرًا يَعْلَم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر شَهِيد» وَفِي حَدِيث آخَر: «الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم». وَإِنَّمَا يَكُون شَهَادَة لِمَنْ صَبَرَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْحَدِيث الْمَذْكُور. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مَنْع الْقُدُوم عَلَى بَلَد الطَّاعُون، وَمَنْع الْخُرُوج مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْخُرُوج لِعَارِضٍ فَلَا بَأْس بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.
قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْل الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ: حَتَّى قَالَتْ عَائِشَة: الْفِرَار مِنْهُ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْف.
قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُوم عَلَيْهِ وَالْخُرُوج مِنْهُ فِرَارًا.
قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعه مِنْ سَرْغ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَمَسْرُوق وَالْأَسْوَد بْن هِلَال أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ الطَّاعُون، وَقَالَ عَمْرو بْن الْعَاصِ: فِرُّوا عَنْ هَذَا الرِّجْز فِي الشِّعَاب وَالْأَوْدِيَة وَرُءُوس الْجِبَال، فَقَالَ مَعَاذ: بَلْ هُوَ شَهَادَة وَرَحْمَة. وَيَتَأَوَّل هَؤُلَاءِ النَّهْي عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ الدُّخُول عَلَيْهِ وَالْخُرُوج مِنْهُ مَخَافَة أَنْ يُصِيبهُ غَيْر الْمُقَدَّر، لَكِنْ مَخَافَة الْفِتْنَة عَلَى النَّاس، لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاك الْقَادِم إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ، وَسَلَامَة الْفَارّ إِنَّمَا كَانَتْ بِفِرَارِهِ. قَالُوا: وَهُوَ مِنْ نَحْو النَّهْي عَنْ الطِّيَرَة وَالْقُرْب مِنْ الْمَجْذُوم، وَقَدْ جَاءَ عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ: الطَّاعُون فِتْنَة عَلَى الْمُقِيم وَالْفَارّ، أَمَّا الْفَارّ فَيَقُول: فَرَرْت فَنَجَوْت، وَأَمَّا الْمُقِيم فَيَقُول: أَقَمْت فَمُتّ، وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَله، وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَله وَالصَّحِيح مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ النَّهْي عَنْ الْقُدُوم عَلَيْهِ وَالْفِرَار مِنْهُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَهُوَ قَرِيب الْمَعْنَى مِنْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوّ، وَاسْأَلُوا اللَّه الْعَافِيَة، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» وَفِي هَذَا الْحَدِيث الِاحْتِرَاز مِنْ الْمَكَارِه وَأَسْبَابهَا. وَفيه التَّسْلِيم لِقَضَاءِ اللَّه عِنْد حُلُول الْآفَات. وَاللَّه أَعْلَم. وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز الْخُرُوج بِشُغْلٍ وَغَرَض غَيْر الْفِرَار، وَدَلِيله صَرِيح الْأَحَادِيث.
قَوْله فِي رِوَايَة أَبِي النَّضْر: «لَا يُخْرِجكُمْ إِلَّا فِرَار مِنْهُ» وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ (فِرَار) بِالرَّفْعِ، وَفِي بَعْضهَا (فِرَارًا) بِالنَّصْبِ، وَكِلَاهُمَا مُشْكِل مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّة، وَالْمَعْنَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الرِّوَايَة ضَعِيفَة عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة مُفْسِدَة لِلْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ظَاهِرهَا الْمَنْع مِنْ الْخُرُوج لِكُلِّ سَبَب إِلَّا لِلْفِرَارِ، فَلَا مَنْع مِنْهُ، وَهَذَا ضِدّ الْمُرَاد.
وَقَالَ جَمَاعَة: إِنَّ لَفْظَة (إِلَّا) هُنَا غَلَط مِنْ الرَّاوِي، وَالصَّوَاب حَذْفهَا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي سَائِر الرِّوَايَات.
قَالَ الْقَاضِي: وَخَرَّجَ بَعْض مُحَقِّقِي الْعَرَبِيَّة لِرِوَايَةِ النَّصْب وَجْهًا فَقَالَ: هُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال.
قَالَ: وَلَفْظَة (إِلَّا) هُنَا لِلْإِيجَابِ لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَتَقْدِيره لَا تَخْرُجُوا إِذَا لَمْ يَكُنْ خُرُوجكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيث الْبَاب كُلّهَا مِنْ رِوَايَة أُسَامَة بْن زَيْد، وَذَكَرَ فِي الطُّرُق الثَّلَاث فِي آخِر الْبَاب مَا يُوهِم أَوْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ رِوَايَة سَعْد بْن أَبِي وَقَاصّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: هَذَا وَهْم إِنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَة سَعْد عَنْ أُسَامَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَم.
4109- سبق شرحه بالباب.
4110- سبق شرحه بالباب.
4111- سبق شرحه بالباب.
4112- سبق شرحه بالباب.
4113- سبق شرحه بالباب.
4114- أَمَّا (الْوَبَاء) فَمَهْمُوز مَقْصُور وَمَمْدُود، لُغَتَانِ، الْقَصْر أَفْصَح وَأَشْهَر. قَوْله: «حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغ لَقِيَهُ أَهْل الْأَجْنَاد» أَمَّا (سَرْغ) فَبِسِينٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَة ثُمَّ غَيْن مُعْجَمَة، وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْره أَيْضًا فَتْح الرَّاء، وَالْمَشْهُور إِسْكَانهَا، وَيَجُوز صَرْفه وَتَرْكه، وَهِيَ قَرْيَة فِي طَرَف الشَّام مِمَّا يَلِي الْحِجَاز.
وَقَوْله: «أَهْل الْأَجْنَاد» وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِوَايَة: «أُمَرَاء الْأَجْنَاد» وَالْمُرَاد بِالْأَجْنَادِ هُنَا مَدَن الشَّام الْخَمْس، وَهِيَ فِلَسْطِين وَالْأُرْدُنّ وَدِمَشْق وَحِمْص وَقِنِّسْرِين، هَكَذَا فَسَّرُوهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمَعْلُوم أَنَّ فِلَسْطِين اِسْم لِنَاحِيَةِ بَيْت الْمَقْدِس، وَالْأَرْدُن اِسْم لِنَاحِيَةِ سِيَّان وَطَبَرِية، وَمَا يَتَعَلَّق بِهِمَا، وَلَا يَضُرّ إِطْلَاق اِسْم الْمَدِينَة عَلَيْهِ.
قَوْله: «اُدْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فَدَعَا، ثُمَّ دَعَا الْأَنْصَار، ثُمَّ مَشْيَخَة قُرَيْش مِنْ مُهَاجِرَة الْفَتْح» إِنَّمَا رَتَّبَهُمْ هَكَذَا عَلَى حَسَب فَضَائِلهمْ.
قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ صَلَّى لِلْقِبْلَتَيْنِ، فَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ بَعْد تَحْوِيل الْقِبْلَة فَلَا يُعَدّ فيهمْ.
قَالَ: وَأَمَّا مُهَاجِرَة الْفَتْح، فَقِيلَ: هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْل الْفَتْح، فَحَصَلَ لَهُمْ فَضْل بِالْهِجْرَةِ قَبْل الْفَتْح، إِذْ لَا هِجْرَة بَعْد الْفَتْح، وَقِيلَ: هُمْ مُسْلِمَة الْفَتْح الَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْده، فَحَصَلَ لَهُمْ اِسْم دُون الْفَضِيلَة.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَظْهَر؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُطْلَق عَلَيْهِمْ مَشْيَخَة قُرَيْش. وَكَانَ رُجُوع عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِرُجْحَانِ طَرَف الرُّجُوع لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَأَنَّهُ أَحْوَط، وَلَمْ يَكُنْ مُجَرَّد تَقْلِيد لِمُسْلِمَةِ الْفَتْح؛ لِأَنَّ بَعْض الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَبَعْض الْأَنْصَار أَشَارُوا بِالرُّجُوعِ، وَبَعْضهمْ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَانْضَمَّ إِلَى الْمُشِيرِينَ بِالرُّجُوعِ رَأْي مَشْيَخَة قُرَيْش، فَكَثُرَ الْقَائِلُونَ بِهِ، مَعَ مَا لَهُمْ مِنْ السِّنّ وَالْخِبْرَة وَكَثْرَة التَّجَارِب وَسَدَاد الرَّأْي. وَحُجَّة الطَّائِفَتَيْنِ وَاضِحَة مُبَيَّنَة فِي الْحَدِيث، وَهُمَا مُسْتَمَدَّانِ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي الشَّرْع: أَحَدهمَا التَّوَكُّل وَالتَّسْلِيم لِلْقَضَاءِ، وَالثَّانِي الِاحْتِيَاط وَالْحَذَر وَمُجَانَبَة أَسْبَاب الْإِلْقَاء بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَة.
قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: إِنَّمَا رَجَعَ عُمَر لِحَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف كَمَا قَالَ مُسْلِم هُنَا فِي رِوَايَته عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ سَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ: إِنَّ عُمَر إِنَّمَا اِنْصَرَفَ بِالنَّاسِ عَنْ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَرْجِع لِرَأْيٍ دُون رَأْي حَتَّى يَجِد عِلْمًا وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ.
قَوْله: «إِنِّي مُصْبِح عَلَى ظَهْر فَأَصْبَحُوا» فَقَالُوا أَيْ مُسَافِر إِلَى الْجِهَة الَّتِي قَصَدْنَاهَا أَوَّلًا، لَا لِلرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَة، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسِد، وَمَذْهَب ضَعِيف، بَلْ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث أَوْ صَرِيحه، أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الرُّجُوع أَوَّلًا بِالِاجْتِهَادِ حِين رَأَى الْأَكْثَرِينَ عَلَى تَرْك الرُّجُوع، مَعَ فَضِيلَة الْمُشِيرِينَ بِهِ، وَمَا فيه مِنْ الِاحْتِيَاط، ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن، فَحَمِدَ اللَّه تَعَالَى، وَشَكَرَهُ عَلَى مُوَافَقَة اِجْتِهَاده وَاجْتِهَاد مُعْظَم أَصْحَابه نَصَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: «إِنِّي مُصْبِح عَلَى ظَهْر فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ» هُوَ بِإِسْكَانِ الصَّاد فيهمَا أَيْ مُسَافِر رَاكِب عَلَى ظَهْر الرَّاحِلَة، رَاجِع إِلَى وَطَنِي، فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ، وَتَأَهَّبُوا لَهُ.
وَأَمَّا قَوْل مُسْلِم: (إِنَّهُ رَجَعَ لِحَدِيثِ عَبْد الرَّحْمَن) فَيُحْتَمَل أَنَّ سَالِمًا لَمْ يَبْلُغهُ مَا كَانَ عُمَر عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ الرُّجُوع قَبْل حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن لَهُ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ لَمْ يَرْجِع إِلَّا بَعْد حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَفِرَارًا مِنْ قَدَر اللَّه؟ فَقَالَ عُمَر لَوْ غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة ‚ وَكَانَ عُمَر يَكْرَه خِلَافه نَعَمْ نَفِرّ مِنْ قَدَر اللَّه إِلَى قَدَر اللَّه، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك إِبِل فَهَبَطْت وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِيبَة وَالْأُخْرَى جَدْبَة، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْت الْخَصِيبَة رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّه، وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَة رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّه)؟
أَمَّا (الْعُدْوَة) فَبِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْرهَا وَهِيَ جَانِب الْوَادِي، (وَالْجَدْبَة) بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الدَّال الْمُهْمَلَة، وَهِيَ ضِدّ الْخَصِيبَة.
وَقَالَ صَاحِب التَّحْرِير: الْجَدْبَة هُنَا بِسُكُونِ الدَّال وَكَسْرهَا.
قَالَ: وَالْخِصْبَة كَذَلِكَ. أَمَّا قَوْله: (لَوْ غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة) فَجَوَاب (لَوْ) مَحْذُوف، وَفِي تَقْدِيره وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِب التَّحْرِير وَغَيْره. أَحَدهمَا لَوْ قَالَهُ غَيْرك لَأَدَّبْته، لِاعْتِرَاضِهِ عَلَيَّ فِي مَسْأَلَة اِجْتِهَادِيَّة وَافَقَنِي عَلَيْهَا أَكْثَر النَّاس، وَأَهْل الْحِلّ وَالْعَقْد فيها. وَالثَّانِي لَوْ قَالَهَا غَيْرك لَمْ أَتَعَجَّب مَعَهُ، وَإِنَّمَا أَتَعَجَّب مِنْ قَوْلك أَنْتَ ذَلِكَ مَعَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْم وَالْفَضْل، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عُمَر دَلِيلًا وَاضِحًا مِنْ الْقِيَاس الْجَلِيّ الَّذِي لَا شَكّ فِي صِحَّته، وَلَيْسَ ذَلِكَ اِعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّ الرُّجُوع يَرُدّ الْمَقْدُور، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمْر بِالِاحْتِيَاطِ وَالْحَزْم وَمُجَانَبَة أَسْبَاب الْهَلَاك كَمَا أَمَرَ سُبْحَانه وَتَعَالَى بِالتَّحَصُّنِ مِنْ سِلَاح الْعَدُوّ، وَتَجَنُّب الْمَهَالِك، وَإِنْ كَانَ كُلّ وَاقِع فَبِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرَهُ السَّابِق فِي عِلْمه، وَقَاسَ عُمَر عَلَى رَعْي الْعُدْوَتَيْنِ لِكَوْنِهِ وَاضِحًا لَا يُنَازِع فيه أَحَد مَعَ مُسَاوَاته لِمَسْأَلَةِ النِّزَاع.
قَوْله: «أَكُنْت مُعَجِّزه» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَتَشْدِيد الْجِيم أَيْ تَنْسُبهُ إِلَى الْعَجْز، مَقْصُود عُمَر أَنَّ النَّاس رَعِيَّة لِي اِسْتَرْعَانِيهَا اللَّه تَعَالَى، فَيَجِب عَلِيّ الِاحْتِيَاط لَهَا، فَإِنْ تَرَكْته نَسَبْت إِلَى الْعَجْز وَاسْتَوْجَبْت الْعُقُوبَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «هَذَا الْمَحَلّ أَوْ قَالَ هَذَا الْمَنْزِل» هُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْرهَا، وَالْفَتْح أَقْيَس، فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْن (فَعَلَ) وَمُضَارِعه (يَفْعُل) بِضَمِّ ثَالِثه كَانَ مَصْدَره وَاسْم الزَّمَان وَالْمَكَان (مَفْعَلًا) بِالْفَتْحِ كَقَعَدِ يَقْعُد مَقْعَدًا، وَنَظَائِره، إِلَّا أَحْرُفًا شَذَّتْ جَاءَتْ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْهَا الْمَحَلّ.
قَوْله فِي الْإِسْنَاد: (عَنْ مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن الْخَطَّاب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن نَوْفَل عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَا قَالَ مَالِك، وَقَالَ مَعْمَر وَيُونُس: عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث.
قَالَ: وَالْحَدِيث صَحِيح عَلَى اِخْتِلَافه.
قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث، وَأَمَّا الْبُخَارِيّ فَلَمْ يُخَرِّجهُ إِلَّا مِنْ طَرِيق مَالِك.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيث عُمَر هَذَا فَوَائِد كَثِيرَة: مِنْهَا خُرُوج الْإِمَام بِنَفْسِهِ فِي وِلَايَته فِي بَعْض الْأَوْقَات لِيُشَاهِد أَحْوَال رَعِيَّته، وَيُزِيل ظُلْم الْمَظْلُوم، وَيَكْشِف كَرْب الْمَكْرُوب، وَيَسُدّ خَلَّة الْمُحْتَاج، وَيَقْمَع أَهْل الْفَسَاد، وَيَخَافهُ أَهْل الْبَطَالَة وَالْأَذَى وَالْوُلَاة، وَيَحْذَرُوا تَجَسُّسه عَلَيْهِمْ وَوُصُول قَبَائِحهمْ إِلَيْهِ، فَيَنْكُفُوا، وَيُقِيم فِي رَعِيَّته شَعَائِر الْإِسْلَام، وَيُؤَدِّب مَنْ رَآهُمْ مُخِلِّينَ بِذَلِكَ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِح. وَمِنْهَا تَلَقِّي الْأُمَرَاء وَوُجُوه النَّاس الْإِمَام عِنْد قُدُومه، وَإِعْلَامهمْ إِيَّاهُ بِمَا حَدَثَ فِي بِلَادهمْ مِنْ خَيْر وَشَرّ، وَوَبَاء، وَرُخْص، وَغَلَاء، وَشِدَّة، وَرَخَاء وَغَيْر ذَلِكَ. وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب مُشَاوَرَة أَهْل الْعِلْم وَالرَّأْي فِي الْأُمُور الْحَادِثَة، وَتَقْدِيم أَهْل السَّابِقَة فِي ذَلِكَ. وَمِنْهَا تَنْزِيل النَّاس مَنَازِلهمْ، وَتَقْدِيم أَهْل الْفَضْل عَلَى غَيْرهمْ، وَالِابْتِدَاء بِهِمْ فِي الْمَكَارِم. وَمِنْهَا جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْحُرُوب وَنَحْوهَا كَمَا يَجُوز فِي الْأَحْكَام. وَمِنْهَا قَبُول خَبَر الْوَاحِد، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا خَبَر عَبْد الرَّحْمَن. وَمِنْهَا صِحَّة الْقِيَاس، وَجَوَاز الْعَمَل بِهِ. وَمِنْهَا اِبْتِدَاء الْعَالِم بِمَا عِنْده مِنْ الْعِلْم قَبْل أَنْ يَسْأَلهُ كَمَا فَعَلَ عَبْد الرَّحْمَن. وَمِنْهَا اِجْتِنَاب أَسْبَاب الْهَلَاك. وَمِنْهَا مَنْع الْقُدُوم عَلَى الطَّاعُون، وَمَنْع الْفِرَار مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
4115- سبق شرحه بالباب.

.باب لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ وَلاَ نَوْءَ وَلاَ غُول:

4116- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «لَا عَدْوَى، وَلَا صَفَر وَلَا هَامَة فَقَالَ أَعْرَابِيّ: يَا رَسُول اللَّه فَمَا بَال الْإِبِل تَكُون فِي الرَّمْل كَأَنَّهَا الظِّبَاء، فَيَجِيء الْبَعِير الْأَجْرَب، فَيَدْخُل فيها، فَيُجْرِبُها كُلّهَا؟ قَالَ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل» وَفِي رِوَايَة: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَة، وَلَا صَفَر، وَلَا هَامَة» وَفِي رِوَايَة أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يُحَدِّث بِحَدِيث: «لَا عَدْوَى» وَيُحَدِّث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ» ثُمَّ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَة اِقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَة حَدِيث: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ» وَأَمْسَكَ عَنْ حَدِيث: «لَا عَدْوَى» فَرَاجِعُوهُ فيه، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا سَمِعْنَاك تُحَدِّثهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْتَرِف بِهِ.
قَالَ أَبُو سَلَمَة الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَة: فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَة أَوْ نَسَخَ أَحَد الْقَوْلَيْنِ الْآخَر؟ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: يَجِب الْجَمْع بَيْن هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ. قَالُوا: وَطَرِيق الْجَمْع أَنَّ حَدِيث: «لَا عَدْوَى» الْمُرَاد بِهِ نَفْي مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَزْعُمهُ وَتَعْتَقِدهُ أَنَّ الْمَرَض وَالْعَاهَة تَعَدَّى بِطَبْعِهَا لَا بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيث: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ» فَأُرْشِدَ فيه إِلَى مُجَانَبَة مَا يَحْصُل الضَّرَر عِنْده فِي الْعَادَة بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى وَقَدْره. فَنَفَى فِي الْحَدِيث الْأَوَّل الْعَدْوَى بِطَبْعِهَا، وَلَمْ يَنْفِ حُصُول الضَّرَر عِنْد ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّه تَعَالَى وَفِعْله، وَأَرْشَدَ فِي الثَّانِي إِلَى الِاحْتِرَاز مِمَّا يَحْصُل عِنْده الضَّرَر بِفِعْلِ اللَّه وَإِرَادَته وَقَدَره. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَصْحِيح الْحَدِيثَيْنِ وَالْجَمْع بَيْنهمَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَيَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ. وَلَا يُؤَثِّر نِسْيَان أَبِي هُرَيْرَة لِحَدِيث: «وَلَا عَدْوَى» لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ نِسْيَان الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ لَا يَقْدَح فِي صِحَّته عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء، بَلْ يَجِب الْعَمَل بِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظ ثَابِت مِنْ رِوَايَة غَيْر أَبِي هُرَيْرَة؛ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم هَذَا مِنْ رِوَايَة السَّائِب بْن يَزِيد، وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه، وَأَنَس بْن مَالِك، وَابْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَكَى الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ حَدِيث: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ» مَنْسُوخ بِحَدِيث: «لَا عَدْوَى» وَهَذَا غَلَط لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ النَّسْخ يُشْتَرَط فيه تَعَذُّر الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَذَّر، بَلْ قَدْ جَمَعْنَا بَيْنهمَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُشْتَرَط فيه مَعْرِفَة التَّارِيخ، وَتَأَخُّر النَّاسِخ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا هُنَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: حَدِيث: «لَا عَدْوَى» عَلَى ظَاهِره، وَأَمَّا النَّهْي عَنْ إِيرَاد الْمُمْرِض عَلَى الْمُصِحّ فَلَيْسَ لِلْعَدْوَى، بَلْ لِلتَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَة، وَقُبْح صُورَته، وَصُورَة الْمَجْذُوم. وَالصَّوَاب مَا سَبَقَ. وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا صَفَر» فيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدهمَا الْمُرَاد تَأْخِيرهمْ تَحْرِيم الْمُحَرَّم إِلَى صَفَر، وَهُوَ النَّسِيء الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَأَبُو عُبَيْدَة. وَالثَّانِي أَنَّ الصَّفَر دَوَابّ فِي الْبَطْن، وَهِيَ دُود، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي الْبَطْن دَابَّة تَهِيج عِنْد الْجُوع، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ صَاحِبهَا، وَكَانَتْ الْعَرَب تَرَاهَا أَعْدَى مِنْ الْجَرَب، وَهَذَا التَّفْسِير هُوَ الصَّحِيح، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّف وَابْن وَهْب وَابْن حَبِيب وَأَبُو عُبَيْد وَخَلَائِق مِنْ الْعُلَمَاء، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَاوِي الْحَدِيث، فَيَتَعَيَّن اِعْتِمَاده، وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد هَذَا وَالْأَوَّل جَمِيعًا، وَأَنَّ الصَّفَرَيْن جَمِيعًا بَاطِلَانِ، لَا أَصْل لَهُمَا، وَلَا تَصْرِيح عَلَى وَاحِد مِنْهُمَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا هَامَة» فيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدهمَا أَنَّ الْعَرَب تَتَشَاءَم بِالْهَامَةِ، وَهِيَ الطَّائِر الْمَعْرُوف مِنْ طَيْر اللَّيْل وَقِيلَ: هِيَ الْبُومَة. قَالُوا: كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دَار أَحَدهمْ رَآهَا نَاعِيَة لَهُ نَفْسه، أَوْ بَعْض أَهْله، وَهَذَا تَفْسِير مَالِك بْن أَنَس. وَالثَّانِي أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ تَعْتَقِد أَنَّ عِظَام الْمَيِّت، وَقِيلَ: رُوحه تَنْقَلِب هَامَة تَطِير، وَهَذَا تَفْسِير أَكْثَر الْعُلَمَاء، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد النَّوْعَيْنِ، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَانِ، فَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْطَال ذَلِكَ، وَضَلَالَة الْجَاهِلِيَّة فِيمَا تَعْتَقِدهُ مِنْ ذَلِكَ. و«الْهَامَة» بِتَخْفِيفِ الْمِيم عَلَى الْمَشْهُور الَّذِي لَمْ يَذْكُر الْجُمْهُور غَيْره، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِهَا، قَالَهُ جَمَاعَة، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي زَيْد الْأَنْصَارِيّ الْإِمَام فِي اللُّغَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل؟» مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَعِير الْأَوَّل الَّذِي جَرِبَ مَنْ أَجْرَبه، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَتَعْتَرِفُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْر مُلَاصَقَة لِبَعِيرٍ أَجْرَب، فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبَعِير الثَّانِي وَالثَّالِث وَمَا بَعْدهمَا إِنَّمَا جَرِبَ بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى وَإِرَادَته، لَا بِعَدْوَى تُعْدِي بِطَبْعِهَا، وَلَوْ كَانَ الْجَرَب بِالْعَدْوَى بِالطَّبَائِعِ لَمْ يَجْرَب الْأَوَّل لِعَدَمِ الْمُعْدِي. فَفِي الْحَدِيث بَيَان الدَّلِيل الْقَاطِع لِإِبْطَالِ قَوْلهمْ فِي الْعَدْوَى بِطَبْعِهَا.
4117- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ» قَوْله: (يُورِد) بِكَسْرِ الرَّاء، وَالْمُمْرِض وَالْمُصِحّ بِكَسْرِ الرَّاء وَالصَّاد، وَمَفْعُول (يُورِد) مَحْذُوف أَيْ لَا يُورِد إِبِله الْمِرَاض.
قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُمْرِض صَاحِب الْإِبِل الْمِرَاض، وَالْمُصِحّ صَاحِب الْإِبِل الصِّحَاح، فَمَعْنَى الْحَدِيث لَا يُورِد صَاحِب الْإِبِل الْمِرَاض إِبِله عَلَى إِبِل صَاحِب الْإِبِل الصِّحَاح؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَهَا الْمَرَض بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى وَقَدَره الَّذِي أَجْرَى بِهِ الْعَادَة، لَا بِطَبْعِهَا، فَيَحْصُل لِصَاحِبِهَا ضَرَر بِمَرَضِهَا، وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ ضَرَر أَعْظَم مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِقَادِ الْعَدْوَى بِطَبْعِهَا، فَيَكْفُر. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُحَدِّثهُمَا كِلْتَيْهِمَا) كَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (كِلْتَيْهِمَا) بِالتَّاءِ وَالْيَاء مَجْمُوعَتَيْنِ، وَالضَّمِير عَائِد إِلَى الْكَلِمَتَيْنِ أَوْ الْقِصَّتَيْنِ أَوْ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَنَحْو ذَلِكَ.
4118- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا نَوْء» أَيْ لَا تَقُولُوا: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَلَا تَعْتَقِدُوهُ، وَسَبَقَ شَرْحه وَاضِحًا فِي كِتَاب الصَّلَاة.
4119- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا غُول» قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُم أَنَّ الْغِيلَان فِي الْفَلَوَات، وَهِيَ جِنْس مِنْ الشَّيَاطِين، فَتَتَرَاءَى لِلنَّاسِ، و«تَتَغَوَّل تَغَوُّلًا» أَيْ تَتَلَوَّن تَلَوُّنًا، فَتُضِلّهُمْ عَنْ الطَّرِيق فَتُهْلِكهُمْ، فَأَبْطَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ نَفْي وُجُود الْغِيلَان، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَال مَا تَزْعُمهُ الْعَرَب مِنْ تَلَوُّن الْغُول بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَة، وَاغْتِيَالهَا. قَالُوا: وَمَعْنَى: «لَا غُول» أَيْ لَا تَسْتَطِيع أَنْ تَضِلّ أَحَدًا، وَيَشْهَد لَهُ حَدِيث آخَر: «لَا غُول وَلَكِنَّ السَّعَالِي»، قَالَ الْعُلَمَاء: السَّعَالِي بِالسِّينِ الْمَفْتُوحَة وَالْعَيْن الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُمْ سَحَرَة الْجِنّ، أَيْ وَلَكِنَّ فِي الْجِنّ سَحَرَة لَهُمْ تَلْبِيس وَتَخَيُّل. وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «إِذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَان فَنَادُوا بِالْأَذَانِ» أَيْ اِرْفَعُوا شَرّهَا بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد نَفْي أَصْل وُجُودهَا. وَفِي حَدِيث أَبِي أَيُّوب: «كَانَ لِي تَمْر فِي سَهْوَة، وَكَانَتْ الْغُول تَجِيء فَتَأْكُل مِنْهُ» 4121- قَوْله: «قَالَ أَبُو الزُّبَيْر هَذِهِ الْغُول الَّتِي تَغَوَّل» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: (قَالَ أَبُو الزُّبَيْر) وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُور.
وَقَالَ: وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ أَحَد رُوَاة صَحِيح مُسْلِم (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
قَوْله أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِير الصَّفَر: «هِيَ دَوَابّ الْبَطْن» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا (دَوَابّ) بِدَالٍ مُهْمَلَة وَبَاء مُوَحَّدَة مُشَدَّدَة، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْجُمْهُور قَالَ: وَفِي رِوَايَة الْعُذْرِيّ: (ذَوَات) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة فَوْق، وَلَهُ وَجْه، وَلَكِنَّ الصَّحِيح الْمَعْرُوف هُوَ الْأَوَّل.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى» فَقِيلَ: هُوَ نَهْي عَنْ أَنْ يُقَال ذَلِكَ، أَوْ يُعْتَقَد.
وَقِيلَ: هُوَ خَبَر، أَيْ لَا تَقَع عَدْوَى بِطَبْعِهَا.