فصل: باب الطِّبِّ وَالْمَرَضِ وَالرُّقَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَنْ أَتَى مَجْلِسًا فَوَجَدَ فُرْجَةً فَجَلَسَ فِيهَا وَإِلاَّ وَرَاءَهُمْ:

4042- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا هُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد، وَالنَّاس مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَة نَفَر، فَأَقْبَلَ اِثْنَانِ» إِلَى آخِره فيه اِسْتِحْبَاب جُلُوس الْعَالِم لِأَصْحَابِهِ وَغَيْرهمْ فِي مَوْضِع بَارِز ظَاهِر لِلنَّاسِ، وَالْمَسْجِد أَفْضَل، فَيُذَاكِرهُمْ الْعِلْم وَالْخَيْر. وَفيه جَوَاز حِلَق الْعِلْم وَالذِّكْر فِي الْمَسْجِد، وَاسْتِحْبَاب دُخُولهَا، وَمُجَالَسَة أَهْلهَا، وَكَرَاهَة الِانْصِرَاف عَنْهَا مِنْ غَيْر عُذْر، وَاسْتِحْبَاب الْقُرْب مِنْ كَبِير الْحَلْقَة لِيَسْمَع كَلَامه سَمَاعًا بَيِّنًا، وَيَتَأَدَّب بِأَدَبِهِ. وَأَنَّ قَاصِد الْحَلْقَة إِنْ رَأَى فُرْجَة دَخَلَ فيها، وَإِلَّا جَلَسَ وَرَاءَهُمْ. وَفيه الثَّنَاء عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيث، وَأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا فَعَلَ قَبِيحًا وَمَذْمُومًا وَبَاحَ بِهِ جَازَ أَنْ يُنْسَب إِلَيْهِ. وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَأَى فُرْجَة فِي الْحَلْقَة فَدَخَلَ فيها» الْفُرْجَة بِضَمِّ الْفَاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ، وَهِيَ الْخَلَل بَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَيُقَال لَهَا أَيْضًا فَرْج، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج} جَمْع فَرْج.
وَأَمَّا الْفُرْجَة بِمَعْنَى الرَّاحَة مِنْ الْغَمّ فَذَكَر الْأَزْهَرِيّ فيها فَتْح الْفَاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا، وَقَدْ فَرَجَ لَهُ فِي الْحَلْقَة وَالصَّفّ وَنَحْوهمَا بِتَخْفِيفِ الرَّاء يَفْرُج بِضَمِّهَا.
وَأَمَّا الْحَلْقَة فَبِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى الْمَشْهُور، وَحَكَى الْجَوْهَرِيّ فَتْحهَا، وَهِيَ لُغَة رَدِيئَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَحَدهمْ فَأَوَى إِلَى اللَّه فَآوَاهُ اللَّه» لَفْظَة (أَوَى) بِالْقَصْرِ، و(آوَاهُ) بِالْمَدِّ هَكَذَا الرِّوَايَة، وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَة الْفَصِيحَة، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآن أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَازِمًا كَانَ مَقْصُورًا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ مَمْدُودًا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَرَأَيْت إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة} وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} وَقَالَ فِي الْمُتَعَدِّي: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} قَالَ الْقَاضِي: وَحَكَى بَعْض أَهْل اللُّغَة فيهمَا جَمِيعًا لُغَتَيْنِ: الْقَصْر وَالْمَدّ، فَيُقَال: أَوَيْت إِلَى الرَّجُل بِالْقَصْرِ وَالْمَدّ وَآوَيْته بِالْمَدِّ وَالْقَصْر، وَالْمَشْهُور الْفَرْق كَمَا سَبَقَ.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى أَوَى إِلَى اللَّه أَيْ لَجَأَ إِلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ هُنَا دَخَلَ مَجْلِس ذِكْر اللَّه تَعَالَى، أَوْ دَخَلَ مَجْلِس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجْمَع أَوْلِيَائِهِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى آوَاهُ اللَّه أَيْ قَبِلَهُ وَقَرَّبَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَحِمَهُ أَوْ آوَاهُ إِلَى جَنَّته أَيْ كَتَبَهَا لَهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الْآخَر فَاسْتَحَى فَاسْتَحَى اللَّه مِنْهُ» أَيْ تَرَكَ الْمُزَاحَمَة وَالتَّخَطِّي حَيَاء مِنْ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَاضِرِينَ، أَوْ اِسْتِحْيَاء مِنْهُمْ أَنْ يُعْرِض ذَاهِبًا كَمَا فَعَلَ الثَّالِث، فَاسْتَحَى اللَّه مِنْهُ أَيْ رَحِمَهُ وَلَمْ يُعَذِّبهُ، بَلْ غَفَرَ ذُنُوبه، وَقِيلَ: جَازَاهُ بِالثَّوَابِ. قَالُوا: وَلَمْ يَلْحَقهُ بِدَرَجَةِ صَاحِبه الْأَوَّل فِي الْفَضِيلَة الَّذِي آوَاهُ وَبَسَطَ لَهُ اللُّطْف وَقَرَّبَهُ.
وَأَمَّا الثَّالِث فَأَعْرَض فَأَعْرَض اللَّه عَنْهُ أَيْ لَمْ يَرْحَمهُ، وَقِيلَ: سَخِطَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ مُعْرِضًا لَا لِعُذْرٍ وَضَرُورَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّانِي: «وَأَمَّا الْآخَر فَاسْتَحَى» هَذَا دَلِيل اللُّغَة الْفَصِيحَة الصَّحِيحَة أَنَّهُ يَجُوز فِي الْجَمَاعَة أَنْ يُقَال فِي غَيْر الْأَخِير مِنْهُمْ الْآخَر، فَيُقَال: حَضَرَنِي ثَلَاثَة: أَمَّا أَحَدهمْ فَقُرَشِيّ، وَأَمَّا الْآخَر فَأَنْصَارِيّ، وَأَمَّا الْآخَر فَتَمِيمِيّ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَل الْآخَر إِلَّا فِي الْآخَر خَاصَّة، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الرَّدّ عَلَيْهِ. وَاللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ إِقَامَةِ الإِنْسَانِ مِنْ مَوْضِعِهِ الْمُبَاحِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ:

4043- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقِيمَنَّ أَحَدكُمْ الرَّجُل مِنْ مَجْلِسه ثُمَّ يَجْلِس» فيه وَفِي رِوَايَة: «وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» هَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مُبَاح فِي الْمَسْجِد وَغَيْره يَوْم الْجُمُعَة أَوْ غَيْره لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إِقَامَته لِهَذَا الْحَدِيث، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابنَا اِسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا إِذَا أَلِف مِنْ الْمَسْجِد مَوْضِعًا يُفْتِي فيه، أَوْ يَقْرَأ قُرْآنًا أَوْ غَيْره مِنْ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة، فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُد فيه. وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مِنْ الشَّوَارِع وَمَقَاعِد الْأَسْوَاق لِمُعَامَلَةِ.
4044- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» هَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مُبَاح فِي الْمَسْجِد وَغَيْره يَوْم الْجُمُعَة أَوْ غَيْره لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إِقَامَته لِهَذَا الْحَدِيث، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابنَا اِسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا إِذَا أَلِف مِنْ الْمَسْجِد مَوْضِعًا يُفْتِي فيه، أَوْ يَقْرَأ قُرْآنًا أَوْ غَيْره مِنْ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة، فَهُوَ أَحَقّ بِهِ، وَإِذَا حَضَرَ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُد فيه. وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مِنْ الشَّوَارِع وَمَقَاعِد الْأَسْوَاق لِمُعَامَلَةٍ.
4045- وَأَمَّا قَوْله: (وَكَانَ اِبْن عُمَر إِذَا قَامَ لَهُ رَجُل عَنْ مَجْلِسه لَمْ يَجْلِس فيه) فَهَذَا وَرَع مِنْهُ، وَلَيْسَ قُعُوده فيه حَرَامًا إِذَا قَامَ بِرِضَاهُ، لَكِنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ رُبَّمَا اِسْتَحَى مِنْهُ إِنْسَان فَقَامَ لَهُ مِنْ مَجْلِسه مِنْ غَيْر طِيب قَلْبه، فَسَدَّ اِبْن عُمَر الْبَاب لِيَسْلَم مِنْ هَذَا. وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيثَار بِالْقُرْبِ مَكْرُوه أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى، فَكَانَ اِبْن عُمَر يَمْتَنِع مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرْتَكِب أَحَد بِسَبَبِهِ مَكْرُوهًا، أَوْ خِلَاف الْأَوْلَى بِأَنْ يَتَأَخَّر عَنْ مَوْضِعه مِنْ الصَّفّ الْأَوَّل وَيُؤْثِرهُ بِهِ وَشِبْه ذَلِكَ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِنَّمَا يُحْمَد الْإِيثَار بِحُظُوظِ النُّفُوس وَأُمُور الدُّنْيَا دُون الْقُرْب. وَاللَّه أَعْلَم.

.باب إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ:

4047- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسه ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقّ بِهِ» قَالَ أَصْحَابنَا: هَذَا الْحَدِيث فِيمَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِع مِنْ الْمَسْجِد أَوْ غَيْره لِصَلَاةٍ مَثَلًا، ثُمَّ فَارَقَهُ لِيَعُودَ بِأَنْ فَارَقَهُ لِيَتَوَضَّأ أَوْ يَقْضِي شُغْلًا يَسِيرًا ثُمَّ يَعُود لَمْ يَبْطُل اِخْتِصَاصه، بَلْ إِذَا رَجَعَ فَهُوَ أَحَقّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاة، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَعَدَ فيه غَيْره فَلَهُ أَنْ يُقِيمهُ، وَعَلَى الْقَاعِد أَنْ يُفَارِقهُ لِهَذَا الْحَدِيث. هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَأَنَّهُ يَجِب عَلَى مَنْ قَعَدَ فيه مُفَارَقَته إِذَا رَجَعَ الْأَوَّل.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: هَذَا مُسْتَحَبّ، وَلَا يَجِب، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك، وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يَقُوم مِنْهُ، وَيَتْرُك فيه سَجَّادَة وَنَحْوهَا أَمْ لَا فَهَذَا أَحَقّ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِنَّمَا يَكُون أَحَقّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاة وَحْدهَا دُون غَيْرهَا. وَاللَّه أَعْلَم.

.باب مَنْعِ الْمُخَنَّثِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ الأَجَانِبِ:

4048- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُل هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ» إِشَارَة إِلَى جَمِيع الْمُخَنَّثِينَ لِمَا رَأَى مِنْ وَصْفهمْ لِلنِّسَاءِ، وَمَعْرِفَتهمْ مَا يَعْرِفهُ لِلرِّجَالِ مِنْهُنَّ.
قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُخَنَّث ضَرْبَانِ: أَحَدهمَا مِنْ خُلِقَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَتَكَلَّف التَّخَلُّق بِأَخْلَاقِ النِّسَاء، وَزِيّهنَّ، وَكَلَامهنَّ، وَحَرَكَاتهنَّ، بَلْ هُوَ خِلْقَة خَلَقَهُ اللَّه عَلَيْهَا فَهَذَا لَاذِمٌ عَلَيْهِ، وَلَا عَتَبَ، وَلَا إِثْم وَلَا عُقُوبَة؛ لِأَنَّهُ مَعْذُور لَا صُنْع لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا دُخُوله عَلَى النِّسَاء، وَلَا خَلْقه الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ حِين كَانَ مِنْ أَصْل خِلْقَته، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ مَعْرِفَته لِأَوْصَافِ النِّسَاء، وَلَمْ يُنْكِر صِفَته وَكَوْنه مُخَنَّثًا. الضَّرْب الثَّانِي مِنْ الْمُخَنَّث هُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ خِلْقَة، بَلْ يَتَكَلَّف أَخْلَاق النِّسَاء وَحَرَكَاتهنَّ وَهَيْئَاتهنَّ وَكَلَامهنَّ، وَيَتَزَيَّا بِزِيِّهِنَّ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُوم الَّذِي جَاءَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة لَعْنه، وَهُوَ بِمَعْنَى الْحَدِيث الْآخَر: «لَعَنَ اللَّه الْمُتَشَبِّهَات مِنْ النِّسَاء بِالرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَال» وَأَمَّا الضَّرْب الْأَوَّل فَلَيْسَ بِمَلْعُونٍ، وَلَوْ كَانَ مَلْعُونًا لَمَا أَقَرَّهُ أَوَّلًا. وَاللَّه أَعْلَم.
4049- قَوْلهَا: «كَانَ يَدْخُل عَلَى أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّث، فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْر أُولِي الْإِرْبَة، فَدَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، وَهُوَ عِنْد بَعْض نِسَائِهِ، وَهُوَ يَنْعَت اِمْرَأَة قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أَرَى هَذَا يَعْرِف مَا هَاهُنَا لَا يَدْخُل عَلَيْكُنَّ فَحَجَبُوهُ».
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمُخَنَّث هُوَ بِكَسْرِ النُّون وَفَتْحهَا، وَهُوَ الَّذِي يُشْبِه النِّسَاء فِي أَخْلَاقه وَكَلَامه وَحَرَكَاته، وَتَارَة يَكُون هَذَا خُلُقه مِنْ الْأَصْل، وَتَارَة بِتَكَلُّفٍ، وَسَنُوضِحُهُمَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْد وَسَائِر الْعُلَمَاء: مَعْنَى قَوْله: «تُقْبَل بِأَرْبَعِ، وَتُدْبِر بِثَمَانٍ» أَيْ أَرْبَع عُكَن، وَثَمَان عُكَن. قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا أَرْبَع عُكَن تُقْبَل بِهِنَّ، مِنْ كُلّ نَاحِيَة ثِنْتَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَة طَرَفَانِ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ صَارَتْ الْأَطْرَاف ثَمَانِيَة. قَالُوا: وَإِنَّمَا ذَكَرَ فَقَالَ بِثَمَانٍ، وَكَانَ أَصْله أَنْ يَقُول: بِثَمَانِيَةٍ، فَإِنَّ الْمُرَاد الْأَطْرَاف، وَهِيَ مُذَكَّرَة، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُر لَفْظ الْمُذَكَّر، وَمَتَى لَمْ يَذْكُرهُ جَازَ حَذْف الْهَاء كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَان وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّال» سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة هُنَاكَ وَاضِحَة.
وَأَمَّا دُخُول هَذَا الْمُخَنَّث أَوَّلًا عَلَى أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ بَيَّنَ سَبَبه فِي هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ غَيْر أُولِي الْإِرْبَة، وَأَنَّهُ مُبَاح دُخُوله عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْكَلَام عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَة، فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّخُول. فَفيه مَنْع الْمُخَنَّث مِنْ الدُّخُول عَلَى النِّسَاء، وَمَنْعهنَّ مِنْ الظُّهُور عَلَيْهِ، وَبَيَان أَنَّ لَهُ حُكْم الرِّجَال الْفُحُول الرَّاغِبِينَ فِي النِّسَاء فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَا حُكْم الْخَصِيّ وَالْمَجْبُوب ذَكَرَهُ. وَاللَّه أَعْلَم.
وَاخْتُلِفَ فِي اِسْم هَذَا الْمُخَنَّث.
قَالَ الْقَاضِي: الْأَشْهَر أَنَّ اِسْمه (هِيت) بِكَسْرِ الْهَاء وَمُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق.
قَالَ: وَقِيلَ: صَوَابه (هَنَب) بِالنُّونِ وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة قَالَهُ اِبْن دَرَسْتَوَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا سِوَاهُ تَصْحِيف.
قَالَ: وَالْهَنَب الْأَحْمَق، وَقِيلَ (مَاتِع) بِالْمُثَنَّاةِ فَوْق مَوْلَى فَاخِتَة الْمَخْزُومِيَّة، وَجَاءَ هَذَا فِي حَدِيث آخَر ذُكِرَ فيه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَّبَ مَاتِعًا هَذَا وَهِيتًا إِلَى الْحِمَى، ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ. وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُور الْبَادَرْدِيّ نَحْو الْحِكَايَة عَنْ مُخَنَّث كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُقَال لَهُ (أَنَهُ) وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَاهُ إِلَى حَمْرَاء الْأَسَد. وَالْمَحْفُوظ أَنَّهُ هِيت.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِخْرَاجه وَنَفيه كَانَ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدهَا الْمَعْنَى الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث أَنَّهُ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُ مِنْ غَيْر أُولَى الْإِرْبَة، وَكَانَ مِنْهُمْ، وَيَتَكَتَّم بِذَلِكَ. وَالثَّانِي وَصْفه النِّسَاء وَمَحَاسِنهنَّ وَعَوْرَاتهنَّ بِحَضْرَةِ الرِّجَال، وَقَدْ نَهَى أَنْ تَصِف الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا، فَكَيْف إِذَا وَصَفَهَا الرَّجُل لِلرِّجَالِ؟ وَالثَّالِث أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَطَّلِع مِنْ النِّسَاء وَأَجْسَامهنَّ وَعَوْرَاتهنَّ عَلَى مَا لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ كَثِير مِنْ النِّسَاء، فَكَيْف الرِّجَال لاسيما عَلَى مَا جَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم أَنَّهُ وَصَفَهَا حَتَّى وَصَفَ مَا بَيْن رِجْلَيْهَا أَيْ فَرْجهَا وَحَوَالَيْهِ. وَاللَّه أَعْلَم.

.باب جَوَازِ إِرْدَافِ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ إِذَا أَعْيَتْ فِي الطَّرِيقِ:

4050- قَوْله: «عَنْ أَسْمَاء إِنَّهَا كَانَتْ تَعْلِف فَرَس زَوْجهَا الزُّبَيْر، وَتَكْفيه مُؤْنَته، وَتَسُوسهُ، وَتَدُقّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَتَعْلِفهُ، وَتَسْتَقِي الْمَاء، وَتَعْجِن» هَذَا كُلّه مِنْ الْمَعْرُوف وَالْمَرْوَات الَّتِي أَطْبَقَ النَّاس عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَة تَخْدُم زَوْجهَا بِهَذِهِ الْأُمُور الْمَذْكُورَة وَنَحْوهَا مِنْ الْخَبْز وَالطَّبْخ وَغَسْل الثِّيَاب وَغَيْر ذَلِكَ، وَكُلّه تَبَرُّع مِنْ الْمَرْأَة وَإِحْسَان مِنْهَا إِلَى زَوْجهَا وَحُسْن مُعَاشَرَة وَفِعْل مَعْرُوف مَعَهُ، وَلَا يَجِب عَلَيْهَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ اِمْتَنَعَتْ مِنْ جَمِيع هَذَا لَمْ تَأْثَم، وَيَلْزَمهُ هُوَ تَحْصِيل هَذِهِ الْأُمُور لَهَا، وَلَا يَحِلّ لَهُ إِلْزَامهَا بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا تَفْعَلهُ الْمَرْأَة تَبَرُّعًا، وَهِيَ عَادَة جَمِيلَة اِسْتَمَرَّ عَلَيْهَا النِّسَاء مِنْ الزَّمَن الْأَوَّل إِلَى الْآن، وَإِنَّمَا الْوَاجِب عَلَى الْمَرْأَة شَيْئَانِ: تَمْكِينهَا زَوْجهَا مِنْ نَفْسهَا، وَمُلَازَمَة بَيْته.
قَوْلهَا: «وَأَخْرُز غَرْبه» هُوَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَة ثُمَّ بَاءَ مُوَحَّدَة، وَهُوَ الدَّلْو الْكَبِير.
قَوْلهَا: «وَكُنْت أَنْقُل النَّوَى مِنْ أَرْض الزُّبَيْر الَّتِي أَقَطَعَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي، وَهُوَ عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: أَقَطَعَهُ إِذَا أَعْطَاهُ قَطِيعَة، وَهِيَ قِطْعَة أَرْض، سُمِّيَتْ قَطِيعَة لِأَنَّهَا اِقْتَطَعَهَا مِنْ جُمْلَة الْأَرْض.
وَقَوْله: «عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخ» أَيْ مِنْ مَسْكَنهَا بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا الْفَرْسَخ فَهُوَ ثَلَاثَة أَمْيَال، وَالْمِيل سِتَّة آلَاف ذِرَاع، وَالذِّرَاع أَرْبَع وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا مُعْتَرِضَة مُعْتَدِلَة، وَالْأُصْبُع سِتّ شَعِيرَات مُعْتَرِضَات مُعْتَدِلَات. وَفِي هَذَا دَلِيل لِجَوَازِ إِقْطَاع الْإِمَام. فَأَمَّا الْأَرْض الْمَمْلُوكَة لِبَيْتِ الْمَال فَلَا يَمْلِكهَا أَحَد إِلَّا بِإِقْطَاعِ الْإِمَام، ثُمَّ تَارَة يَقْطَع رَقَبَتهَا، وَيَمْلِكهَا الْإِنْسَان يَرَى فيه مَصْلَحَة، فَيَجُوز، وَيَمْلِكهَا كَمَا يَمْلِك مَا يُعْطِيه مِنْ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَغَيْرهَا إِذَا رَأَى فيه مَصْلَحَة، وَتَارَة يَقْطَعهُ مَنْفَعَتهَا، فَيَسْتَحِقّ الِانْتِفَاع بِهَا مُدَّة الْإِقْطَاع.
وَأَمَّا الْمَوَات فَيَجُوز لِكُلِّ أَحَد إِحْيَاؤُهُ، وَلَا يَفْتَقِر إِلَى إِذْن الْإِمَام. هَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يُمْلَك الْمَوَات بِالْإِحْيَاءِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام.
وَأَمَّا قَوْلهَا: «وَكُنْت أَنْقُل النَّوَى مِنْ أَرْض الزُّبَيْر» فَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَلْتَقِطهُ مِنْ النَّوَى السَّاقِط فيها مِمَّا أَكَلَهُ النَّاس وَأَلْقَوْهُ قَالَ: فَفيه جَوَاز اِلْتِقَاط الْمَطْرُوحَات رَغْبَة عَنْهَا كَالنَّوَى، وَالسَّنَابِل، وَخِرَق الْمَزَابِل، وَسُقَاطَتهَا، وَمَا يَطْرَحهُ النَّاس مِنْ رَدِيء الْمَتَاع، وَرَدِيء الْخُضَر، وَغَيْرهَا مِمَّا يُعْرَف أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ رَغْبَة عَنْهُ، فَكُلّ هَذَا يَحِلّ اِلْتِقَاطه، وَيَمْلِكهُ الْمُلْتَقِط، وَقَدْ لَقَطَهُ الصَّالِحُونَ وَأَهْل الْوَرَع، وَرَأَوْهُ مِنْ الْحَلَال الْمَحْض، وَارْتَضَوْهُ لِأَكْلِهِمْ وَلِبَاسهمْ.
قَوْلهَا: «فَجِئْت يَوْمًا وَالنَّوَي عَلَى رَأْسِي فَلَقِيت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ نَفَر مِنْ أَصْحَابه فَدَعَانِي وَقَالَ: إِخْ إِخْ لِيَحْمِلنِي خَلْفه، فَاسْتَحْيَيْت، وَعَرَفْت غَيْرَتك» أَمَّا لَفْظَة إِخْ إِخْ فَهِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَهِيَ كَلِمَة تُقَال لِلْبَعِيرِ لِيَبْرُك. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الْإِرْدَاف عَلَى الدَّابَّة إِذَا كَانَتْ مُطِيقَة، وَلَهُ نَظَائِر كَثِيرَة فِي الصَّحِيح سَبَقَ بَيَانهَا فِي مَوَاضِعهَا. وَفيه مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَرَحْمَتهمْ وَمُوَاسَاتهمْ فِيمَا أَمْكَنَهُ. وَفيه جَوَاز إِرْدَاف الْمَرْأَة الَّتِي لَيْسَتْ مَحْرَمًا إِذَا وُجِدَتْ فِي طَرِيق قَدْ أَعْيَتْ، لاسيما مَعَ جَمَاعَة رِجَال صَالِحِينَ، وَلَا شَكّ فِي جَوَاز مِثْل هَذَا.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا خَاصّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ غَيْره، فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْمُبَاعَدَةِ مِنْ أَنْفَاس الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَكَانَتْ عَادَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاعَدَتهنَّ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّته، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ خُصُوصِيَّة لَهُ لِكَوْنِهَا بِنْت أَبِي بَكْر، وَأُخْت عَائِشَة، وَامْرَأَة الزُّبَيْر، فَكَانَتْ كَإِحْدَى أَهْله وَنِسَائِهِ، مَعَ مَا خُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمْلَك لِإِرْبِهِ.
وَأَمَّا إِرْدَاف الْمَحَارِم فَجَائِز بِلَا خِلَاف بِكُلِّ حَال.
قَوْلهَا: «أَرْسَلَ إِلَيَّ بِخَادِمٍ» أَيْ جَارِيَة تَخْدُمنِي، يُقَال لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى خَادِم بِلَا هَاء.
4051- قَوْلهَا فِي الْفَقِير الَّذِي اِسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يَبِيع فِي ظِلّ دَارهَا وَذَكَرْت الْحِيلَة فِي اِسْتِرْضَاء الزُّبَيْر. هَذَا فيه حُسْن الْمُلَاطَفَة فِي تَحْصِيل الْمَصَالِح، وَمُدَارَاة أَخْلَاق النَّاس فِي تَتْمِيم ذَلِكَ. وَاللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ مُنَاجَاةِ الاِثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ بِغَيْرِ رِضَاهُ:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَة فَلَا يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون وَاحِد» وَفِي رِوَايَة: «حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْل أَنْ يُحْزِنهُ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال حَزَنَهُ وَأَحْزَنَهُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع. وَالْمُنَاجَاة الْمُسَارَة. وَانْتَجَى الْقَوْم، وَتَنَاجَوْا أَيْ سَارَ بَعْضهمْ بَعْضًا. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث النَّهْي عَنْ تَنَاجِي اِثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِث، وَكَذَا ثَلَاثَة وَأَكْثَر بِحَضْرَةِ وَاحِد، وَهُوَ نَهْي تَحْرِيم، فَيَحْرُم عَلَى الْجَمَاعَة الْمُنَاجَاة دُون وَاحِد مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَأْذَن. وَمَذْهَب اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمَالِك وَأَصْحَابنَا وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء أَنَّ النَّهْي عَامّ فِي كُلّ الْأَزْمَان، وَفِي الْحَضَر وَالسَّفَر.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّمَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ الْمُنَاجَاة فِي السَّفَر دُون الْحَضَر، لِأَنَّ السَّفَر مَظِنَّة الْخَوْف. وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ وَأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَام، وَأَمِنَ النَّاس سَقَطَ النَّهْي. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُحْزِنُوهُمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَة، فَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون اِثْنَيْنِ فَلَا بَأْس بِالْإِجْمَاعِ. وَاللَّه أَعْلَم.
4052- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَة فَلَا يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون وَاحِد» وَفِي رِوَايَة: «حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْل أَنْ يُحْزِنَهُ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال حُزْنه وَأُحْزِنهُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع. وَالْمُنَاجَاة الْمُسَارَة. وَانْتَجَى الْقَوْم، وَتُنَاجُوا أَيْ سَارَ بَعْضهمْ بَعْضًا. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث النَّهْي عَنْ تُنَاجِي اِثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِث، وَكَذَا ثَلَاثَة وَأَكْثَر بِحَضْرَةِ وَاحِد، وَهُوَ نَهْي تَحْرِيم، فَيُحَرِّم عَلَى الْجَمَاعَة الْمُنَاجَاة دُون وَاحِد مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَأْذَن. وَمَذْهَب اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمَالك وَأَصْحَابنَا وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء أَنَّ النَّهْي عَامّ فِي كُلّ الْأَزْمَان، وَفِي الْحَضَر وَالسَّفَر.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّمَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ الْمُنَاجَاة فِي السَّفَر دُون الْحَضَر، لِأَنَّ السَّفَر مَظِنَّة الْخَوْف. وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ وَأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام، فَلِمَا فَشَا الْإِسْلَام، وَأُمَنِّ النَّاس سَقَطَ النَّهْي. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُحْزِنُوهُمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَة، فَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون اِثْنَيْنِ فَلَا بَأْس بِالْإِجْمَاعِ. وَاللَّه أَعْلَم.
4053- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجَل أَنْ يَحْزُنَهُ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال حَزَنَه وَأَحْزَنَهُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع. وَالْمُنَاجَاة الْمُسَارَة. وَانْتَجَى الْقَوْم، وَتَنَاجَوا أَيْ سَارَ بَعْضهمْ بَعْضًا.
4054- قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال حُزْنه وَأُحْزِنهُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع. وَالْمُنَاجَاة الْمُسَارَة. وَانْتَجَى الْقَوْم، وَتُنَاجُوا أَيْ سَارَ بَعْضهمْ بَعْضًا.

.باب الطِّبِّ وَالْمَرَضِ وَالرُّقَى:

4055- قَوْله: «إِنَّ جِبْرِيل رَقَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَذَكَرَ الْأَحَادِيث بَعْده فِي الرُّقَى، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر فِي الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب: «لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ» فَقَدْ يَظُنّ مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَلَا مُخَالَفَة، بَلْ الْمَدْح فِي تَرْك الرُّقَى الْمُرَاد بِهَا الرُّقَى الَّتِي هِيَ مِنْ كَلَام الْكُفَّار، وَالرُّقَى الْمَجْهُولَة، وَالَّتِي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّة، وَمَا لَا يُعْرَف مَعْنَاهَا، فَهَذِهِ مَذْمُومَة لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَعْنَاهَا كُفْر، أَوْ قَرِيب مِنْهُ، أَوْ مَكْرُوه.
وَأَمَّا الرُّقَى بِآيَاتِ الْقُرْآن، وَبِالْأَذْكَارِ الْمَعْرُوفَة، فَلَا نَهْي فيه، بَلْ هُوَ سُنَّة. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ إِنَّ الْمَدْح فِي تَرْك الرُّقَى لِلْأَفْضَلِيَّةِ، وَبَيَان التَّوَكُّل. وَاَلَّذِي فَعَلَ الرُّقَى، وَأَذِنَ فيها لِبَيَانِ الْجَوَاز، مَعَ أَنَّ تَرْكهَا أَفْضَل، وَبِهَذَا قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ، وَحَكَاهُ عَمَّنْ حَكَاهُ. وَالْمُخْتَار الْأَوَّل، وَقَدْ نَقَلُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَاز الرُّقَى بِالْآيَاتِ، وَأَذْكَار اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الْمَازِرِيّ: جَمِيع الرُّقَى جَائِزَة إِذَا كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّه، أَوْ بِذِكْرِهِ، وَمَنْهِيّ عَنْهَا إِذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّة، أَوْ بِمَا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُون فيه كُفْر.
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي رُقْيَة أَهْل الْكِتَاب، فَجَوَّزَهَا أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَكَرِهَهَا مَالِك خَوْفًا أَنْ يَكُون مِمَّا بَدَّلُوهُ. وَمَنْ جَوَّزَهَا قَالَ: الظَّاهِر أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوا الرُّقَى، فَإِنَّهُمْ لَهُمْ غَرَض فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرهَا مِمَّا بَدَّلُوهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم بَعْد هَذَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اِعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ لَا بَأْس بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فيها شَيْء».
وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَا رَسُول اللَّه إِنَّك نُهِيَتْ عَنْ الرُّقَى» فَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ أَحَدهَا كَانَ نَهَى أَوَّلًا، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ، وَأَذِنَ فيها، وَفَعَلَهَا، وَاسْتَقَرَّ الشَّرْع عَلَى الْإِذْن. وَالثَّانِي أَنَّ النَّهْي عَنْ الرُّقَى الْمَجْهُولَة كَمَا سَبَقَ. وَالثَّالِث أَنَّ النَّهْي لِقَوْمٍ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مَنْفَعَتهَا وَتَأْثِيرهَا بِطَبْعِهَا كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَزْعُمهُ فِي أَشْيَاء كَثِيرَة. أَمَّا قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ حُمَّة» فَقَالَ الْعُلَمَاء: لَمْ يُرِدْ بِهِ حَصْر الرُّقْيَة الْجَائِزَة فيهمَا، وَمَنْعهَا فِيمَا عَدَاهُمَا، وَإِنَّمَا الْمُرَاد لَا رُقْيَة أَحَقّ وَأَوْلَى مَنْ رُقْيَة الْعَيْن وَالْحُمَّة لِشِدَّةِ الضَّرَر فيهمَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَجَاءَ فِي حَدِيث فِي غَيْر مُسْلِم: سُئِلَ عَنْ النَّشْرَة، فَأَضَافَهَا إِلَى الشَّيْطَان.
قَالَ: وَالنَّشْرَة مَعْرُوفَة مَشْهُورَة عِنْد أَهْل التَّعْزِيم، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَنْشُر عَنْ صَاحِبهَا، أَيْ تُخَلِّي عَنْهُ.
وَقَالَ الْحَسَن: هِيَ مِنْ السَّحَر.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهَا أَشْيَاء خَارِجَة عَنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَأَذْكَاره، وَعَنْ الْمُدَاوَاة الْمَعْرُوفَة الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْس الْمُبَاح.
وَقَدْ اِخْتَارَ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا، فَكَرِهَ حَلَّ الْمَعْقُود عَنْ اِمْرَأَته.
وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُل بِهِ طِبّ أَيْ ضَرْب مِنْ الْجُنُون، أَوْ يُؤْخَذ عَنْ اِمْرَأَته، أَيُخَلَّى عَنْهُ أَوْ يُنْشَر؟ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الصَّلَاح، فَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَع. وَمِمَّنْ أَجَازَ النَّشْرَة الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيح.
قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ: يَجُوز الِاسْتِرْقَاء لِلصَّحِيحِ لِمَا يَخَاف أَنْ يَغْشَاهُ مِنْ الْمَكْرُوهَات، وَالْهَوَامّ. وَدَلِيله أَحَادِيث، وَمِنْهَا حَدِيث عَائِشَة فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشه تَفَلَ فِي كَفّه، وَيَقْرَأ: قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد، وَالْمُعَوذِّتَيْنِ، ثُمَّ يَمْسَح بِهَا وَجْهه، وَمَا بَلَغَتْ يَده مِنْ جَسَده» وَاللَّه أَعْلَم.
4056- قَوْله: «بِاسْمِ اللَّه أَرْقِيك، مِنْ كُلّ شَيْء يُؤْذِيك مِنْ شَرّ كُلّ نَفْس أَوْ عَيْن حَاسِد» هَذَا تَصْرِيح الرُّقَى بِأَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، وَفيه تَوْكِيد الرُّقْيَة، وَالدُّعَاء، وَتَكْرِيره. وَقَوْله: «مِنْ شَرّ كُلّ نَفْس» قِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد بِالنَّفْسِ نَفْس الْآدَمِيّ، وَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد بِهَا الْعَيْن، فَإِنَّ النَّفْس تُطْلَق عَلَى الْعَيْن، وَيُقَال: رَجُل نَفُوس إِذَا كَانَ يُصِيب النَّاس بِعَيْنِهِ. كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مِنْ شَرّ كُلّ ذِي عَيْن» وَيَكُون قَوْله: «أَوْ عَيْن حَاسِد» مِنْ بَاب التَّوْكِيد بِلَفْظٍ مُخْتَلِف، أَوْ شَكًّا مِنْ الرَّاوِي فِي لَفْظه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
4057- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَيْن حَقّ».
قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيّ: أَخَذَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث، وَقَالُوا: الْعَيْن حَقّ، وَأَنْكَرَهُ طَوَائِف مِنْ الْمُبْتَدِعَة، وَالدَّلِيل عَلَى فَسَاد قَوْلهمْ أَنَّ كُلّ مَعْنَى لَيْسَ مُخَالِفًا فِي نَفْسه، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى قَلْب حَقِيقَة، وَلَا إِفْسَاد دَلِيل، فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوِّزَات الْعُقُول. إِذَا أَخْبَرَ الشَّرْع بِوُقُوعِهِ وَجَبَ اِعْتِقَاده، وَلَا يَجُوز تَكْذِيبه. وَهَلْ مَنْ فَرَّقَ بَيْن تَكْذِيبهمْ بِهَذَا، وَتَكْذِيبهمْ بِمَا يُخْبِرهُ بِهِ مِنْ أُمُور الْآخِرَة؟ قَالَ: وَقَدْ زَعَمَ بَعْض الطَّبَائِعِيِّينَ مِنْ الْمُثَبِّتِينَ لِلْعَيْنِ أَنَّ الْعَائِن تَنْبَعِث مِنْ عَيْنه قُوَّة سُمَيَّة تَتَّصِل بِالْعَيْنِ، فيهلَك أَوْ يَفْسُد. قَالُوا: وَلَا يَمْتَنِع هَذَا، كَمَا لَا يَمْتَنِع اِنْبِعَاث قُوَّة سُمَيَّة مِنْ الْأَفْعَى وَالْعَقْرَب تَتَّصِل بِاللَّدِيغِ فيهلَك، وَإِنْ كَانَ غَيْر مَحْسُوس لَنَا، فَكَذَا الْعَيْن.
قَالَ الْمَازِرِيّ: وَهَذَا غَيْر مُسَلَّم لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُب عِلْم الْكَلَام أَنَّ لَا فَاعِل إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَبَيَّنَّا فَسَاد الْقَوْل بِالطَّبَائِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْدِث لَا يَفْعَل فِي غَيْره شَيْئًا، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَطَل مَا قَالُوهُ. ثُمَّ نَقُول: هَذَا الْمُنْبَعِث مِنْ الْعَيْن إِمَّا جَوْهَر، وَإِمَّا عَرَض. فَبَاطِل أَنْ يَكُون عَرَضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَل الِانْتِقَال، وَبَاطِل أَنْ يَكُون جَوْهَرًا؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِر مُتَجَانِسَة، فَلَيْسَ بَعْضهَا بِأَنْ يَكُون مُفْسِدًا لِبَعْضِهَا بِأَوْلَى مِنْ عَكْسه، فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ.
قَالَ: وَأَقْرَب طَرِيقَة قَالَهَا مَنْ يَنْتَحِل الْإِسْلَام مِنْهُمْ أَنْ قَالُوا: لَا يَبْعُد أَنْ تَنْبَعِث جَوَاهِر لَطِيفَة غَيْر مَرْئِيَّة مِنْ الْعَيْن، فَتَتَّصِل بِالْمَعِينِ، وَتَتَخَلَّل مَسَامّ جِسْمه، فَيَخْلُق اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْهَلَاك عِنْدهَا كَمَا يَخْلُق الْهَلَاك عِنْد شُرْب السُّمّ، عَادَة أَجْرَاهَا اللَّه تَعَالَى، وَلَيْسَتْ ضَرُورَة، وَلَا طَبِيعَة أَلْجَأَ الْعَقْل إِلَيْهَا. وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْعَيْن إِنَّمَا تَفْسُد وَتَهْلَك عِنْد نَظَر الْعَائِن بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى، أَجْرَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى الْعَادَة أَنْ يَخْلُق الضَّرَر عِنْد مُقَابَلَة هَذَا الشَّخْص لِشَخْصٍ آخَر. وَهَلْ ثَمَّ جَوَاهِر خَفِيَّة أَمْ لَا؟ هَذَا مِنْ مُجَوِّزَات الْعُقُول، لَا يُقْطَع فيه بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا يُقْطَع بِنَفْيِ الْفِعْل عَنْهَا وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى. فَمَنْ قَطَعَ مِنْ أَطِبَّاء الْإِسْلَام بِانْبِعَاثِ الْجَوَاهِر فَقَدْ أَخْطَأَ فِي قَطْعه، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْجَائِزَات. هَذَا مَا يَتَعَلَّق بِعِلْمِ الْأُصُول. أَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِعِلْمِ الْفِقْه فَإِنَّ الشَّرْع وَرَدَ بِالْوُضُوءِ لِهَذَا الْأَمْر فِي حَدِيث سَهْل بْن حُنَيْف لَمَّا أُصِيب بِالْعَيْنِ عِنْد اِغْتِسَاله فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِنه أَنْ يَتَوَضَّأ. رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ. وَصِفَة وُضُوء الْعَائِن عِنْد الْعُلَمَاء أَنْ يُؤْتَى بِقَدَحِ مَاء، وَلَا يُوضَع الْقَدَح فِي الْأَرْض، فَيَأْخُذ مِنْهُ غَرْفَة فَيَتَمَضْمَض بِهَا، ثُمَّ يَمُجّهَا فِي الْقَدَح، ثُمَّ يَأْخُذ مِنْهُ مَاء يَغْسِل وَجْهه، ثُمَّ يَأْخُذ بِشِمَالِهِ مَاء يَغْسِل بِهِ كَفّه الْيُمْنَى، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَاء يَغْسِل بِهِ مِرْفَقه الْأَيْسَر، وَلَا يَغْسِل مَا بَيْن الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يَغْسِل قَدَمَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى عَلَى الصِّفَة الْمُتَقَدِّمَة، وَكُلّ ذَلِكَ فِي الْقَدَح، ثُمَّ دَاخِلَة إِزَاره، وَهُوَ الطَّرَف الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَلِي حِقْوه الْأَيْمَن.
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّ دَاخِلَة الْإِزَار كِنَايَة عَنْ الْفَرْج، وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِذَا اِسْتَكْمَلَ هَذَا صَبَّهُ مِنْ خَلْفه عَلَى رَأْسه. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِن تَعْلِيله وَمَعْرِفَة وَجْهه، وَلَيْسَ فِي قُوَّة الْعَقْل الِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَار جَمِيع الْمَعْلُومَات، فَلَا يُدْفَع هَذَا بِأَلَّا يُعْقَل مَعْنَاهُ.
قَالَ: وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْعَائِن هَلْ يُجْبَر عَلَى الْوُضُوء لِلْمَعِينِ أَمْ لَا؟ وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة مُسْلِم هَذِهِ: «وَإِذَا اُسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» وَبِرِوَايَةِ الْمُوَطَّأ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ، وَالْأَمْر لِلْوُجُوبِ.
قَالَ الْمَازِرِيّ: وَالصَّحِيح عِنْدِي الْوُجُوب، وَيَبْعُد الْخِلَاف فيه إِذَا خَشِيَ عَلَى الْمَعِين الْهَلَاك، وَكَانَ وُضُوء الْعَائِن مِمَّا جَرَتْ الْعَادَة بِالْبُرْءِ بِهِ، أَوْ كَانَ الشَّرْع أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَوَال الْهَلَاك إِلَّا بِوُضُوءِ الْعَائِن فَإِنَّهُ يَصِير مِنْ بَاب مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِحْيَاء نَفْس مُشْرِفَة عَلَى الْهَلَاك، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَر عَلَى بَذْل الطَّعَام لِلْمُضْطَرِّ، فَهَذَا أَوْلَى، وَبِهَذَا التَّقْرِير يَرْتَفِع الْخِلَاف فيه. هَذَا آخِر كَلَام الْمَازِرِيّ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض بَعْد أَنْ ذَكَرَ قَوْل الْمَازِرِيّ الَّذِي حَكَيْته. بَقِيَ مِنْ تَفْسِير هَذَا الْغُسْل عَلَى قَوْل الْجُمْهُور، وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ الزُّهْرِيّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعُلَمَاء يَصِفُونَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَمَضَى بِهِ الْعَمَل أَنَّ غُسْل الْعَائِن وَجْهه إِنَّمَا هُوَ صَبّه، وَأَخْذه بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَكَذَلِكَ بَاقِي أَعْضَائِهِ إِنَّمَا هُوَ صَبّه صَبَّة عَلَى ذَلِكَ الْوُضُوء فِي الْقَدَح، لَيْسَ عَلَى صِفَة غَسْل الْأَعْضَاء فِي الْوُضُوء وَغَيْره، وَكَذَلِكَ غَسْل دَاخِلَة الْإِزَار إِنَّمَا هُوَ إِدْخَاله وَغَمْسه فِي الْقَدَح، ثُمَّ يَقُوم الَّذِي فِي يَده الْقَدْح فَيَصُبّهُ عَلَى رَأْس الْمَعِين مِنْ وَرَائِهِ عَلَى جَمِيع جَسَده، ثُمَّ يَكْفَأ الْقَدَح وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْر الْأَرْض، وَقِيلَ: يَسْتَغْفِلهُ بِذَلِكَ عِنْد صَبّه عَلَيْهِ. هَذِهِ رِوَايَة اِبْن أَبِي ذِئْب.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ اِبْن شِهَاب مِنْ رِوَايَة عُقَيْل مِثْل هَذَا، إِلَّا أَنَّ فيه الِابْتِدَاء بِغَسْلِ الْوَجْه قَبْل الْمَضْمَضَة، وَفيه فِي غَسْل الْقَدَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَغْسِل جَمِيعهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ يَفْعَل مِثْل ذَلِكَ فِي طَرَف قَدَمه الْيُمْنَى مِنْ عِنْد أُصُول أَصَابِعه، وَالْيُسْرَى كَذَلِكَ، وَدَاخِلَة الْإِزَار هُنَا الْمِئْزَر، وَالْمُرَاد بِدَاخِلَتِهِ مَا يَلِي الْجَسَد مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمُرَاد مَوْضِعه مِنْ الْجَسَد، وَقِيلَ: الْمُرَاد مَذَاكِيره كَمَا يُقَال: عَفِيف الْإِزَار أَيْ الْفَرْج.
وَقِيلَ: الْمُرَاد وَرِكه إِذْ هُوَ مُعَقَّد الْإِزَار.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث سَهْل بْن حُنَيْف مِنْ رِوَايَة مَالِك فِي صِفَته أَنَّهُ قَالَ لِلْعَائِنِ: اِغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ وَجْهه، وَيَدَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَاف رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَة إِزَاره. وَفِي رِوَايَة: فَغَسَلَ وَجْهه، وَظَاهِر كَفيه، وَمِرْفَقَيْهِ، وَغَسَلَ صَدْره، وَدَاخِلَة إِزَاره، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَاف قَدَمَيْهِ. ظَاهِرهمَا فِي الْإِنَاء.
قَالَ: وَحَسِبَتْهُ قَالَ: وَأَمَرَ فَحَسَا مِنْهُ حَسَوَات. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفِقْه مَا قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ أَحَد بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنَب وَيُتَحَرَّز مِنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعه مِنْ مُدَاخَلَة النَّاس، وَيَأْمُرهُ بِلُزُومِ بَيْته. فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفيه، وَيَكُفّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس، فَضَرَره أَشَدّ مِنْ ضَرَر آكِل الثُّوم وَالْبَصَل الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُول الْمَسْجِد لِئَلَّا يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ضَرَر الْمَجْذُوم الَّذِي مَنَعَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْعُلَمَاء بَعْده الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ، وَمِنْ ضَرَر الْمُؤْذِيَات مِنْ الْمَوَاشِي الَّتِي يُؤْمَر بِتَغْرِيبِهَا إِلَى حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهِ أَحَد. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِل صَحِيح مُتَعَيِّن، وَلَا يُعْرَف عَنْ غَيْره تَصْرِيح بِخِلَافِهِ. وَاللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِجَوَازِ النَّشْرَة وَالتَّطَبُّب بِهَا، وَسَبَقَ بَيَان الْخِلَاف فيها. وَاللَّهُ أَعْلَم.
4058- قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن الدَّارِمِيُّ وَحَجَّاج بْن الشَّاعِر وَأَحْمَد بْن خِرَاش) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (أَحْمَد بْن خِرَاش) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة وَبِالرَّاءِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الصَّوَاب، وَلَا خِلَاف فيه فِي شَيْء مِنْ النُّسَخ، وَهُوَ أَحْمَد بْن الْحَسَن بْن خِرَاش، أَبُو جَعْفَر الْبَغْدَادِيّ نُسِبَ إِلَى جَدّه.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
قَالَ: قِيلَ: إِنَّهُ وَهْم، وَصَوَابه أَحْمَد بْن جَوَّاسٍ بِفَتْحِ الْجِيم وَبِوَاوٍ مُشَدَّدَة وَسِين مُهْمَلَة. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهُوَ غَلَط فَاحِش، وَلَا خِلَاف أَنَّ الْمَذْكُور فِي مُسْلِم إِنَّمَا هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالشِّين الْمُعْجَمَة كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ مُسْلِم بْن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور فِي صَحِيح مُسْلِم هُنَا.
وَأَمَّا (اِبْن جَوَّاسٍ) بِالْجِيمِ فَهُوَ أَبُو عَاصِم الْحَنَفِيّ الْكُوفِيّ رَوَى عَنْهُ مُسْلِم أَيْضًا فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع، وَلَكِنَّهُ لَا يُرْوَى عَنْ مُسْلِم بْن إِبْرَاهِيم، وَلَا هُوَ الْمُرَاد هُنَا قَطْعًا. وَكَانَ سَبَب غَلَط مَنْ غَلَط كَوْن أَحْمَد بْن خِرَاش وَقَعَ مَنْسُوبًا إِلَى جَدّه كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْ كَانَ شَيْء سَابِق الْقَدَر سَبَقَتْهُ الْعَيْن» فيه إِثْبَات الْقَدَر، وَهُوَ حَقّ، بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاع أَهْل السُّنَّة. وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاء كُلّهَا بِقَدَرِ اللَّه تَعَالَى، وَلَا تَقَع إِلَّا عَلَى حَسَب مَا قَدَّرَهَا اللَّه تَعَالَى، وَسَبَقَ بِهَا عِلْمه، فَلَا يَقَع ضَرَر الْعَيْن وَلَا غَيْره مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ إِلَّا بِقَدَرِ اللَّه تَعَالَى. وَفيه صِحَّة أَمْر الْعَيْن؛ وَأَنَّهَا قَوِيَّة الضَّرَر. وَاللَّهُ أَعْلَم.