فصل: باب النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ:

423- «نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاء الرَّاكِد» وَأَمَّا (الرَّاكِد) الْقَلِيل فَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا أَنَّهُ مَكْرُوه، وَالصَّوَاب الْمُخْتَار أَنَّهُ يَحْرُم الْبَوْل فيه لِأَنَّهُ يُنَجِّسهُ وَيُتْلِف مَالِيَّته وَيَغُرّ غَيْره بِاسْتِعْمَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: وَالتَّغَوُّط فِي الْمَاء كَالْبَوْلِ فيه وَأَقْبَح، وَكَذَلِكَ إِذَا بَالَ فِي إِنَاء ثُمَّ صَبَّهُ فِي الْمَاء. وَكَذَا إِذَا بَالَ بِقُرْبِ النَّهَرِ بِحَيْثُ يَجْرِي إِلَيْهِ الْبَوْل فَكُلّه مَذْمُوم مَنْهِيّ عَنْهُ عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُور، وَلَمْ يُخَالِف فِي هَذَا أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْن عَلِيّ الظَّاهِرِيّ أَنَّ النَّهْي مُخْتَصّ بِبَوْلِ الْإِنْسَان بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الْغَائِط لَيْسَ كَالْبَوْلِ وَكَذَا إِذَا بَالَ فِي إِنَاء ثُمَّ صَبَّهُ فِي الْمَاء أَوْ بَالَ بِقُرْبِ الْمَاء. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ خِلَاف إِجْمَاع الْعُلَمَاء وَهُوَ أَقْبَح مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْجُمُود عَلَى الظَّاهِر. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَالَ الْعُلَمَاء: وَيُكْرَه الْبَوْل وَالتَّغَوُّط بِقُرْبِ الْمَاء وَإِنْ لَمْ يَصِل إِلَيْهِ لِعُمُومِ نَهْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَرَاز فِي الْمَوَارِد، وَلِمَا فيه مِنْ إِيذَاء الْمَارِّينَ بِالْمَاءِ، وَلِمَا يُخَاف مِنْ وُصُوله إِلَى الْمَاء. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا اِنْغِمَاس مَنْ لَمْ يَسْتَنْجِ فِي الْمَاء لِيَسْتَنْجِيَ فيه؛ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَنْجُس بِوُقُوعِ النَّجَاسَة فيه فَهُوَ حَرَام؛ لِمَا فيه مِنْ تَلَطُّخِهِ بِالنَّجَاسَةِ وَتَنْجِيس الْمَاء، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجُس بِوُقُوعِ النَّجَاسَة فيه، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا تَظْهَر كَرَاهَته لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَوْل وَلَا يُقَارِبهُ، وَلَوْ اِجْتَنَبَ الْإِنْسَان هَذَا كَانَ أَحْسَن. وَاَللَّه أَعْلَم.
424- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنّ أَحَدكُمْ فِي الْمَاء الدَّائِم ثُمَّ يَغْتَسِل مِنْهُ» الرِّوَايَة (يَغْتَسِل) مَرْفُوع أَيْ: لَا تَبُلْ ثُمَّ أَنْتَ تَغْتَسِل مِنْهُ، وَذَكَرَ شَيْخنَا أَبُو عَبْد اللَّه بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوز أَيْضًا جَزْمه عَطْفًا عَلَى مَوْضِع (يَبُولَنّ)، وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ (أَنْ) وَإِعْطَاء (ثُمَّ) حُكْم (وَاو) الْجَمْع، فَأَمَّا الْجَزْم فَظَاهِر، وَأَمَّا النَّصْب فَلَا يَجُوز لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيّ عَنْهُ الْجَمْع بَيْنهمَا دُون إِفْرَاد أَحَدهمَا، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَد؛ بَلْ الْبَوْل فيه مَنْهِيّ عَنْهُ، سَوَاء أَرَادَ الِاغْتِسَال فيه أَوْ مِنْهُ أَمْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا (الدَّائِم) فَهُوَ الرَّاكِد.
425- قَوْله: «لَا يَبُلْ فِي الْمَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِل مِنْهُ» وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي لَا يَجْرِي»، تَفْسِير لِلدَّائِمِ وَإِيضَاح لِمَعْنَاهُ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ اِحْتَرَزَ بِهِ عَنْ رَاكِد لَا يَجْرِي بَعْضه كَالْبِرَكِ وَنَحْوهَا، وَهَذَا النَّهْي فِي بَعْض الْمِيَاه لِلتَّحْرِيمِ، وَفِي بَعْضهَا لِلْكَرَاهَةِ، وَيُؤْخَذ ذَلِكَ مِنْ حُكْم الْمَسْأَلَة، فَإِنْ كَانَ الْمَاء كَثِيرًا جَارِيًا لَمْ يَحْرُم الْبَوْل فيه لِمَفْهُومِ الْحَدِيث، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى اِجْتِنَابه، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَارِيًا فَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا: يُكْرَه وَالْمُخْتَار أَنَّهُ يَحْرُم؛ لِأَنَّهُ يُقَذِّرهُ وَيُنَجِّسهُ عَلَى الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره، وَيَغُرّ غَيْره فَيَسْتَعْمِلهُ مَعَ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَإِنْ كَانَ الْمَاء كَثِيرًا رَاكِدًا، فَقَالَ أَصْحَابنَا: يُكْرَه وَلَا يَحْرُم، وَلَوْ قِيلَ يَحْرُم لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، فَإِنَّ النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم عَلَى الْمُخْتَار عِنْد الْمُحَقِّقِينَ وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْل الْأُصُول. وَفيه مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَذِّرُهُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَنْجِيسه بِالْإِجْمَاعِ لِتَغَيُّرِهِ أَوْ إِلَى تَنْجِيسه عِنْد أَبِي حَنِيفَة وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الْغَدِير الَّذِي يَتَحَرَّك بِتَحَرُّكِ طَرَفه الْآخَر يَنْجُس بِوُقُوعِ نَجَسٍ فيه.

.باب النَّهْيِ عَنْ الاِغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ:

426- أَبُو السَّائِب أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَغْتَسِل أَحَدكُمْ فِي الْمَاء الدَّائِم وَهُوَ جُنُب. فَقَالَ: كَيْف يَفْعَل يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ: يَتَنَاوَلهُ تَنَاوُلًا» أَمَّا (أَبُو السَّائِب) فَلَا يُعْرَف اِسْمه.
وَأَمَّا أَحْكَام الْمَسْأَلَة فَقَالَ الْعُلَمَاء مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: يُكْرَه الِاغْتِسَال فِي الْمَاء الرَّاكِد قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَكَذَا يُكْرَه الِاغْتِسَال فِي الْعَيْن الْجَارِيَة.
قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْبُوَيْطِيّ: أَكْرَه لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْتَسِل فِي الْبِئْر مَعِينَة كَانَتْ أَوْ دَائِمَة، وَفِي الْمَاء الرَّاكِد الَّذِي لَا يَجْرِي.
قَالَ الشَّافِعِيّ: وَسَوَاء قَلِيل الرَّاكِد وَكَثِيره أَكْرَه الِاغْتِسَال فيه. هَذَا نَصّه وَكَذَا صَرَّحَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ بِمَعْنَاهُ. وَهَذَا كُلّه عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه لَا التَّحْرِيم. وَإِذَا اِغْتَسَلَ فيه الْجَنَابَة فَهَلْ يَصِير الْمَاء مُسْتَعْمَلًا؟ فيه تَفْصِيل مَعْرُوف عِنْد أَصْحَابنَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَاء قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَلَوْ اِغْتَسَلَ فيه جَمَاعَات فِي أَوْقَات مُتَكَرِّرَات، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاء دُون الْقُلَّتَيْنِ فَإِنْ اِنْغَمَسَ فيه الْجُنُب بِغَيْرِ نِيَّة ثُمَّ لَمَّا صَارَ تَحْت الْمَاء نَوَى اِرْتَفَعَتْ جَنَابَته وَصَارَ الْمَاء مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ نَزَلَ فيه إِلَى رُكْبَتَيْهِ مَثَلًا ثُمَّ نَوَى قَبْل اِنْغِمَاس بَاقِيه صَارَ الْمَاء فِي الْحَال مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْره وَارْتَفَعَتْ الْجَنَابَة عَنْ ذَلِكَ لِقَدْرِ الْمُنْغَمِس بِلَا خِلَاف، وَارْتَفَعَتْ أَيْضًا عَنْ الْقَدْر الْبَاقِي إِذَا تَمَّمَ اِنْغِمَاسه عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار الْمَنْصُوص الْمَشْهُور؛ لِأَنَّ الْمَاء إِنَّمَا يَصِير مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَطَهِّر إِذَا اِنْفَصَلَ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه الْخِضْرِيّ مِنْ أَصْحَابنَا- وَهُوَ بِكَسْرِ الْخَاء وَإِسْكَان الضَّاد الْمُعْجَمَتَيْنِ-: لَا يَرْتَفِع عَنْ بَاقِيه، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَهَذَا إِذَا تَمَّمَ الِانْغِمَاس مِنْ غَيْر اِنْفِصَاله، فَلَوْ اِنْفَصَلَ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ يُجْزِئهُ مَا يَغْسِلهُ بِهِ بَعْد ذَلِكَ بِلَا خِلَاف، وَلَوْ اِنْغَمَسَ رَجُلَانِ تَحْت الْمَاء النَّاقِص عَنْ قُلَّتَيْنِ إِنْ تُصَوِّرَا ثُمَّ نَوَيَا دُفْعَة وَاحِدَة اِرْتَفَعَتْ جَنَابَتهمَا وَصَارَ الْمَاء مُسْتَعْمَلًا، فَإِنْ نَوَى أَحَدهمَا قَبْل الْآخَر اِرْتَفَعَتْ جَنَابَة النَّاوِي وَصَارَ الْمَاء مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَفِيقه؛ فَلَا تَرْتَفِع جَنَابَته عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمَشْهُور. وَفيه وَجْه شَاذّ: أَنَّهَا تَرْتَفِع؛ وَإِنْ نَزَلَا فيه إِلَى رُكْبَتَيْهِمَا فَنَوَيَا اِرْتَفَعَتْ جَنَابَتهمَا عَنْ ذَلِكَ الْقَدْر، وَصَارَ مُسْتَعْمَلًا فَلَا تَرْتَفِع عَنْ بَاقِيهمَا إِلَّا عَلَى الْوَجْه الشَّاذّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب وُجُوبِ غَسْلِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِذَا حَصُلَتْ فِي الْمَسْجِدِ:

قَوْله: (بَاب وُجُوب غَسْلِ الْبَوْل وَغَيْره مِنْ النَّجَاسَات إِذَا حَصَلَتْ فِي الْمَسْجِد إلَخْ) فيه حَدِيث أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَال فِي الْمَسْجِد فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْض الْقَوْم فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُزْرِمُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَصَاحَ بِهِ النَّاس فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْله». الْأَعْرَابِيّ هُوَ الَّذِي يَسْكُن الْبَادِيَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ» هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَإِسْكَان الزَّاي وَبَعْدهَا رَاء أَيْ: لَا تَقْطَعُوا، وَالْإِزْرَام: الْقَطْع.
وَأَمَّا (الدَّلْو) فَفيها لُغَتَانِ التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث، و(الذَّنُوب) فَتْح الذَّال وَضَمِّ النُّون وَهِيَ الدَّلْو الْمَمْلُوءَة مَاء.
أَمَّا أَحْكَام الْبَاب فَفيه إِثْبَات نَجَاسَة بَوْل الْآدَمِيّ وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَلَا فَرْق بَيْن الْكَبِير وَالصَّغِير بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ، لَكِنَّ بَوْل الصَّغِير يَكْفِي فيه النَّضْح كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي الْبَاب الْآتِي إِنْ شَاء اللَّه تَعَالَى. وَفيه: اِحْتِرَام الْمَسْجِد وَتَنْزِيهه عَنْ الْأَقْذَار، وَفيه: أَنَّ الْأَرْض تَطْهُر بِصَبِّ الْمَاء عَلَيْهَا وَلَا يُشْتَرَط حَفْرهَا. وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى لَا تَطْهُر إِلَّا بِحَفْرِهَا. وَفيه: أَنَّ غُسَالَة النَّجَاسَة طَاهِرَة، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة فيها خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء وَلِأَصْحَابِنَا فيها ثَلَاثَة أَوْجُه: أَحَدهَا: أَنَّهَا طَاهِرَة.
وَالثَّانِي: نَجِسَة، وَالثَّالِث: إِنْ اِنْفَصَلَتْ وَقَدْ طَهُرَ الْمَحَلّ فَهِيَ طَاهِرَة، وَإِنْ اِنْفَصَلَتْ وَلَمْ يَطْهُر الْمَحَلّ فَهِيَ نَجِسَة، وَهَذَا الثَّالِث هُوَ الصَّحِيح، وَهَذَا الْخِلَاف إِذَا اِنْفَصَلَتْ غَيْر مُتَغَيِّرَة، أَمَّا إِذَا اِنْفَصَلَتْ مُتَغَيِّرَة فَهِيَ نَجِسَة بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاء تَغَيَّر طَعْمهَا أَوْ لَوْنهَا أَوْ رِيحهَا، وَسَوَاء كَانَ التَّغَيُّر قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَفيه الرِّفْق بِالْجَاهِلِ وَتَعْلِيمه مَا يَلْزَمهُ مِنْ غَيْر تَعْنِيف وَلَا إِيذَاء إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمُخَالَفَةِ اِسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا. وَفيه: دَفْع أَعْظَم الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَخَفِّهِمَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ» قَالَ الْعَمَاء: كَانَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ» لِمَصْلَحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ بَوْله تَضَرَّرَ، وَأَصْل التَّنْجِيس قَدْ حَصَلَ فَكَانَ اِحْتِمَال زِيَادَته أَوْلَى مِنْ إِيقَاع الضَّرَر بِهِ. وَالثَّانِيَة: أَنَّ التَّنْجِيس قَدْ حَصَلَ فِي جُزْء يَسِير مِنْ الْمَسْجِد فَلَوْ أَقَامُوهُ فِي أَثْنَاء بَوْله لَتَنَجَّسَتْ ثِيَابه وَبَدَنه وَمَوَاضِع كَثِيرَة مِنْ الْمَسْجِد. وَاللَّهُ أَعْلَم.
427- سبق شرحه بالباب.
428- سبق شرحه بالباب.
429- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِد لَا تَصْلُح لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّه وَقِرَاءَة الْقُرْآن، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فيه: صِيَانَة الْمَسَاجِد وَتَنْزِيههَا عَنْ الْأَقْذَار وَالْقَذَى وَالْبُصَاق وَرَفْعِ الْأَصْوَات وَالْخُصُومَات وَالْبَيْع وَالشِّرَاء وَسَائِر الْعُقُود وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْفَضْل مَسَائِل يَنْبَغِي أَنْ أَذْكُر أَطْرَافًا مِنْهَا مُخْتَصَرَة.
أَحَدهَا: أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد لِلْمُحْدِثِ، فَإِنْ كَانَ جُلُوسه لِعِبَادَةٍ مِنْ اِعْتِكَاف أَوْ قِرَاءَة عِلْمٍ أَوْ سَمَاع مَوْعِظَة أَوْ اِنْتِظَار صَلَاة أَوْ نَحْو ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّهُ مَكْرُوه، وَهُوَ ضَعِيف.
الثَّانِيَة: يَجُوز النَّوْم عِنْدنَا فِي الْمَسْجِد نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْأُمّ، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر فِي الْإِشْرَاق: رَخَّصَ فِي النَّوْم فِي الْمَسْجِد اِبْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن وَعَطَاء وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَا تَتَّخِذُوهُ مَرْقَدًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كُنْت تَنَام فيه لِصَلَاةٍ فَلَا بَأْس، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُكْرَهُ النَّوْم فِي الْمَسْجِد.
وَقَالَ مَالِك: لَا بَأْس بِذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ وَلَا أَرَى ذَلِكَ لِلْحَاضِرِ، وَقَالَ أَحْمَد: إِنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ شَبَهه فَلَا بَأْس، وَإِنْ اِتَّخَذَهُ مَقِيلًا أَوْ مَبِيتًا فَلَا، وَهَذَا قَوْل إِسْحَاق، هَذَا مَا حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر، وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَهُ بِنَوْمِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْن عُمَر وَأَهْل الصُّفَّةِ وَالْمَرْأَة صَاحِبَة الْوِشَاح وَالْغَرِيبَيْنِ وَثُمَامَة بْن أُثَال وَصَفْوَان بْن أُمَيَّة وَغَيْرهمْ وَأَحَادِيثهمْ فِي الصَّحِيح مَشْهُورَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَيَجُوز أَنْ يُمَكَّن الْكَافِر مِنْ دُخُول الْمَسْجِد بِإِذْنِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْنَع مِنْ دُخُوله بِغَيْرِ إِذْن.
الثَّالِثَة: قَالَ اِبْن الْمُنْذِر أَبَاحَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ الْعِلْم الْوُضُوء فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأ فِي مَكَان يَبُلّهُ أَوْ يَتَأَذَّى النَّاس بِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوه، وَنَقَلَ الْإِمَام وَالْحَسَن بْن بَطَّال الْمَالِكِيّ هَذَا عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَطَاوُسٍ وَالْحَنَفِيّ وَابْن الْقَاسِم الْمَالِكِيّ وَأَكْثَر أَهْل الْعِلْم، وَعَنْ اِبْن سِيرِينَ وَمَالك وَسَحْنُون أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
الرَّابِعَة: قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا: يُكْرَهُ إِدْخَال: الْبَهَائِم وَالْمَجَانِين وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا يُمَيِّزُونَ الْمَسْجِد لِغَيْرِ حَاجَة مَقْصُودَة؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَن تَنْجِيسهمْ الْمَسْجِد، وَلَا يَحْرُم لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى الْبَعِير، وَلَا يَنْفِي هَذَا الْكَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ أَوْ لِيَظْهَر لِيَقْتَدِيَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
الْخَامِسَة: يَحْرُم إِدْخَال النَّجَاسَة إِلَى الْمَسْجِد، وَأَمَّا مَنْ عَلَى بَدَنه نَجَاسَة فَإِنْ خَافَ تَنْجِيس الْمَسْجِد لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُول، فَإِنْ أَمِنَ ذَلِكَ جَازَ، وَأَمَّا إِذَا اِفْتَصَدَ فِي الْمَسْجِد فَإِنْ كَانَ فِي غَيْر إِنَاء فَحَرَام وَإِنْ قَطَرَ دَمه فِي إِنَاء فَمَكْرُوه، وَإِنْ بَال فِي الْمَسْجِد فِي إِنَاء فَفيه وَجْهَانِ أَصَحّهمَا: أَنَّهُ حَرَام: وَالثَّانِي: مَكْرُوه.
السَّادِسَة: يَجُوز الِاسْتِلْقَاء فِي الْمَسْجِد وَهَزّ الرِّجْل وَتَشْبِيك الْأَصَابِع؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السَّابِعَة: يُسْتَحَبّ اِسْتِحْبَابًا مُتَأَكِّدًا كَنْسُ الْمَسْجِدِ وَتَنْظِيفه؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة فيه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَوْله: (فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ) هِيَ كَلِمَة زَجْرٍ وَيُقَال: (بَهْ بَهْ) بِالْبَاءِ أَيْضًا.
قَالَ الْعُلَمَاء: هُوَ اِسْم مَبْنِيّ عَلَى السُّكُون مَعْنَاهُ: اُسْكُتْ، قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: هِيَ كَلِمَة زَجْرٍ قِيلَ: أَصْلُهَا: مَا هَذَا؟ ثُمَّ حُذِفَ تَخْفِيفًا، قَالَ: وَتُقَال مُكَرَّرَة: (مَهْ مَهْ) وَتُقَال فَرْدَة: (مَهْ) وَمِثْله (بَهْ بَهْ)، وَقَالَ يَعْقُوب: هِيَ لِتَعْظِيمِ الْأَمْر كَـ: (بَخٍ بَخٍ) وَقَدْ تُنَوَّنُ مَعَ الْكَسْر وَيُنَوَّنُ الْأَوَّل وَيُكْسَر الثَّانِي بِغَيْرِ تَنْوِين. هَذَا كَلَام صَاحِب الْمَطَالِع. وَذَكَرَهُ أَيْضًا غَيْره. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: (فَجَاءَ بِدَلْوِ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ) يُرْوَى بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَبِالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول وَالرِّوَايَات بِالْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ صَبَّهُ. وَفَرَّقَ بَعْض الْعُلَمَاء بَيْنهمَا فَقَالَ: هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ الصَّبّ فِي سُهُولَة، وَبِالْمُعْجَمَةِ التَّفْرِيق فِي صَبِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.(بَاب حُكْم بَوْل الطِّفْل الرَّضِيع وَكَيْفِيَّة غَسْلِهِ):

فيه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّك عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكهُمْ فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَال عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ بَوْله وَلَمْ يَغْسِلهُ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يَرْضَع فَبَالَ فِي حِجْرِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة أُمّ قَيْس: «أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَأْكُل الطَّعَام فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهِ فَبَال فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَضَحَ بِالْمَاءِ» وَفِي رِوَايَة: «فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ» وَفِي رِوَايَة: «فَنَضَحَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَغْسِلهُ غَسْلًا» الصِّبْيَان بِكَسْرِ الصَّاد هَذِهِ اللُّغَة الْمَشْهُورَة وَحَكَى اِبْن دُرَيْد ضَمّهَا. قَوْله: (فَيُبَرِّك عَلَيْهِمْ) أَيْ: يَدْعُو لَهُمْ وَيَمْسَح عَلَيْهِمْ، وَأَصْل الْبَرَكَة: ثُبُوت الْخَيْر وَكَثْرَته. وَقَوْلهَا: (فَيُحَنِّكهُمْ) قَالَ أَهْل اللُّغَة: التَّحْنِيك أَنْ يَمْضُغَ التَّمْر أَوْ نَحْوه ثُمَّ يُدَلُّك بِهِ حَنَك الصَّغِير، وَفيه لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَنَّكْته وَحَنَكْته بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وَالرِّوَايَة هُنَا (فَيُحَنِّكهُمْ) بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ أَشْهَر اللُّغَتَيْنِ. وَقَوْلهَا: (فَبَالَ فِي حِجْره) يُقَال بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. وَقَوْلهَا: (بِصَبِيٍّ يَرْضَع) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء أَيْ رَضِيع وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُفْطَم.
أَمَّا أَحْكَام الْبَاب: فَفيه: اِسْتِحْبَاب تَحْنِيك الْمَوْلُود. وَفيه: التَّبَرُّك بِأَهْلِ الصَّلَاح وَالْفَضْل. وَفيه: اِسْتِحْبَاب حَمْل الْأَطْفَال إِلَى أَهْل الْفَضْل لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ، وَسَوَاء فِي هَذَا الِاسْتِحْبَاب الْمَوْلُود فِي حَال وِلَادَته وَبَعْدهَا. وَفيه: النَّدْب إِلَى حُسْن الْمُعَاشَرَة وَاللِّين وَالتَّوَاضُع وَالرِّفْق بِالصِّغَارِ وَغَيْرهمْ. وَفيه: مَقْصُود الْبَاب وَهُوَ: أَنَّ بَوْل الصَّبِيّ يَكْفِي فيه النَّضْح، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة طَهَارَة بَوْل الصَّبِيّ وَالْجَارِيَة عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب وَهِيَ ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمُخْتَار: أَنَّهُ يَكْفِي النَّضْح فِي بَوْل الصَّبِيّ، وَلَا يَكْفِي فِي بَوْل الْجَارِيَة، بَلْ لابد مِنْ غَسْلِهِ كَسَائِرِ النَّجَاسَات.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَكْفِي النَّضْح فيهمَا.
وَالثَّالِث: لَا يَكْفِي النَّضْح فيهمَا. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِب التَّتِمَّة مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْره، وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْفَرْقِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف وَأَصْحَاب الْحَدِيث وَابْن وَهْب مِنْ أَصْحَاب مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة، وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ غَسْلهمَا أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك فِي الْمَشْهُور عَنْهُمَا وَأَهْل الْكُوفَة.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخِلَاف إِنَّمَا هُوَ فِي كَيْفِيَّة تَطْهِير الشَّيْء الَّذِي بَال عَلَيْهِ الصَّبِيّ، وَلَا خِلَاف فِي نَجَاسَته، وَقَدْ نَقَلَ بَعْض أَصْحَابنَا إِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى نَجَاسَة بَوْل الصَّبِيّ، وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِف فيه إِلَّا دَاوُدُ الظَّاهِرِيّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: وَلَيْسَ تَجْوِيز مَنْ جَوَّزَ النَّضْح فِي الصَّبِيّ مِنْ أَجْل أَنَّ بَوْله لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَجْل التَّخْفِيف فِي إِزَالَته، فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال ثُمَّ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ الشَّافِعِيّ وَغَيْره أَنَّهُمْ قَالُوا: بَوْل الصَّبِيّ طَاهِر فَيُنْضَح، فَحِكَايَة بَاطِلَة قَطْعًا.
وَأَمَّا حَقِيقَة النَّضْح هُنَا فَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فيها، فَذَهَبَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَالْقَاضِي حُسَيْن وَالْبَغَوِيّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّيْء الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْل يُغْمَر بِالْمَاءِ كَسَائِرِ النَّجَاسَات بِحَيْثُ لَوْ عُصِرَ لَا يُعْصَر. قَالُوا: وَإِنَّمَا يُخَالِف هَذَا غَيْره فِي أَنَّ غَيْره يُشْتَرَط عَصْرُهُ عَلَى أَحَد الْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا لَا يُشْتَرَط بِالِاتِّفَاقِ، وَذَهَبَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ النَّضْح أَنْ يُغْمَرَ وَيُكَاثَر بِالْمَاءِ مُكَاثَرَة لَا يَبْلُغ جَرَيَان الْمَاء وَتَرَدُّدَه وَتَقَاطُره، بِخِلَافِ الْمُكَاثَرَة فِي غَيْره فَإِنَّهُ يُشْتَرَط فيها أَنْ يَكُون بِحَيْثُ يَجْرِي بَعْض الْمَاء وَيُقَاطَر مِنْ الْمَحَلّ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَط عَصْره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلهَا: «فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلهُ».
وَقَوْله: «فَرَشَّهُ» أَيْ نَضَحَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
ثُمَّ إِنَّ النَّضْح إِمَّا يَجْزِي مَا دَامَ الصَّبِيّ يَقْتَصِر بِهِ عَلَى الرَّضَاع أَمَّا إِذَا أَكَلَ الطَّعَام عَلَى جِهَة التَّغْذِيَة فَإِنَّهُ يَجِب الْغَسْل بِلَا خِلَاف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
430- سبق شرحه بالباب.
431- سبق شرحه بالباب.
432- سبق شرحه بالباب.
433- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب حُكْم الْمَنِيّ):

فيه: «أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِعَائِشَة فَأَصْبَحَ يَغْسِل ثَوْبه فَقَالَتْ عَائِشَة: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئك إِنْ رَأَيْته أَنْ تَغْسِل مَكَانه فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْت حَوْله. لَقَدْ رَأَيْتنِي أَفْرُكهُ مِنْ ثَوْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْكًا فَيُصَلِّي فيه» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «كُنْت أَفْرُكهُ مِنْ ثَوْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِل الْمَنِيّ ثُمَّ يَخْرُج إِلَى الصَّلَاة فِي ذَلِكَ الثَّوْب» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّ عَائِشَة قَالَتْ لِلَّذِي اِحْتَلَمَ فِي ثَوْبَيْهِ وَغَسَلَهُمَا: هَلْ رَأَيْت فيهمَا شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْت شَيْئًا غَسَلْته، لَقَدْ رَأَيْتنِي وَإِنِّي لَأَحُكّهُ مِنْ ثَوْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَابِسًا بِظُفْرِي» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي طَهَارَة مِنِّي الْآدَمِيّ، فَذَهَبَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة إِلَى نَجَاسَته، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَة قَالَ: يَكْفِي فِي تَطْهِيره فَرْكُهُ إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ أَحْمَد، وَقَالَ مَالِك: لابد مِنْ غَسْلِهِ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَقَالَ اللَّيْث: هُوَ نَجِسٌ وَلَا تُعَاد الصَّلَاة مِنْهُ، وَقَالَ الْحَسَن: لَا تُعَاد الصَّلَاة مِنْ الْمَنِيّ فِي الثَّوْب وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَتُعَاد مِنْهُ فِي الْجَسَد إِنْ قَلَّ، وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّ الْمَنِيّ طَاهِر، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْن عُمَر وَعَائِشَة وَدَاوُدُ وَأَحْمَد فِي أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الْحَدِيث، وَقَدْ غَلَط مَنْ أَوْهَمَ أَنَّ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مُنْفَرِد بِطَهَارَتِهِ. وَدَلِيل الْقَائِلِينَ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَة الْغَسْل. وَدَلِيل الْقَائِلِينَ بِالطَّهَارَةِ رِوَايَة الْفَرْك، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَكْفِ فَرْكه كَالدَّمِ وَغَيْره، قَالُوا: وَرِوَايَة الْغَسْل مَحْمُولَة عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالتَّنَزُّه وَاخْتِيَار النَّظَافَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
هَذَا حُكْم مَنِيّ الْآدَمِيّ، وَلَنَا قَوْل شَاذّ ضَعِيف: أَنَّ مَنِيّ الْمَرْأَة نَجِس دُون مَنِيّ الرَّجُل، وَقَوْل أَشَذّ مِنْهُ أَنَّ مَنِيّ الْمَرْأَة وَالرَّجُل نَجِس، وَالصَّوَاب أَنَّهُمَا طَاهِرَانِ، وَهَلْ يَحِلّ أَكْل الْمَنِيّ الطَّاهِر؟ فيه وَجْهَانِ أَظْهَرهُمَا: لَا يَحِلّ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَر، فَهُوَ دَاخِل فِي جُمْلَة الْخَبَائِث الْمُحَرَّمَة عَلَيْنَا، وَأَمَّا مَنِيّ بَاقِي الْحَيَوَانَات غَيْر الْآدَمَيْ فَمِنْهَا الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَالْمُتَوَلِّد مِنْ أَحَدهمَا وَحَيَوَان طَاهِر وَمَنِيّهَا نَجِس بِلَا خِلَاف، وَمَا عَدَاهَا مِنْ الْحَيَوَانَات فِي مَنِيّه ثَلَاثَة أَوْجُه: الْأَصَحّ: أَنَّهَا كُلّهَا طَاهِرَة مِنْ مَأْكُول اللَّحْم وَغَيْره، وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَجِسَة.
وَالثَّالِث: مَنِيّ مَأْكُول اللَّحْم طَاهِر، وَمَنِيّ غَيْره نَجِس. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا أَلْفَاظ الْبَاب:
فَفيه (خَالِد بْن عَبْد اللَّه عَنْ خَالِد عَنْ أَبِي مَعْشَر) وَاسْمه زِيَاد بْن كُلَيْب التَّمِيمِيّ الْحَنْظَلِيّ الْكُوفِيّ.
وَأَمَّا (خَالِد) الْأَوَّل فَهُوَ الْوَاسِطِيُّ الطَّحَّان.
وَأَمَّا (خَالِد) الثَّانِي فَهُوَ الْحَذَّاء وَهُوَ خَالِد بْن مِهْرَانَ أَبُو الْمُنَازِل بِضَمِّ الْمِيم الْبَصْرِيّ. وَفيه قَوْلهَا: (كَانَ يُجْزِئك) هُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَبِالْهَمْزِ. وَفيه (أَحْمَد بْن جَوّاس) هُوَ بِجِيمِ مَفْتُوحَة ثُمَّ وَاو مُشَدَّدَة ثُمَّ أَلِف ثُمَّ سِين مُهْمَلَة. وَفيه (شُبَيْب بْن غَرْقَدة) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الرَّاء وَفَتْح الْقَاف. وَفيه قَوْلهَا: (فَلَوْ رَأَيْت شَيْئًا غَسْلَته) هُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَة، تَقْدِيره: أَكُنْت غَاسِله مُعْتَقِدًا وَهُوَ غَسْله، وَكَيْف تَفْعَل هَذَا وَقَدْ كُنْت أَحُكّهُ مِنْ ثَوْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَابِسًا بِظُفْرِي وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَتْرُكهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكْتَفِ بِحَكِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى طَهَارَة رُطُوبَة فَرْج الْمَرْأَة، وَفيها خِلَاف مَشْهُور عِنْدنَا وَعِنْد غَيْرنَا وَالْأَظْهَر طَهَارَتهَا؛ وَتَعَلَّقَ الْمُحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيث بِأَنْ قَالُوا الِاحْتِلَام مُسْتَحِيل فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَلَاعُب الشَّيْطَان بِالنَّائِمِ، فَلَا يَكُون الْمَنِيّ الَّذِي عَلَى ثَوْبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ الْجِمَاع، وَيَلْزَم مِنْ ذَلِكَ مُرُور الْمَنِيّ عَلَى مَوْضِع أَصَابَ رُطُوبَة الْفَرْج، فَلَوْ كَانَتْ الرُّطُوبَة نَجِسَة لَتَنَجَّسَ بِهَا الْمَنِيّ وَلَمَا تَرَكَهُ فِي ثَوْبه وَلَمَا اِكْتَفَى بِالْفَرْكِ، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ رُطُوبَة فَرْج الْمَرْأَة بِجَوَابَيْنِ أَحَدَاهُمَا: جَوَاب بَعْضهمْ أَنَّهُ يَمْتَنِع اِسْتِحَالَة الِاحْتِلَام مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنهَا مِنْ تَلَاعُب الشَّيْطَان بَلْ الِاحْتِلَام مِنْهُ جَائِز صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَلَاعُب الشَّيْطَان، بَلْ هُوَ فَيْض زِيَادَة الْمَنِيّ يَخْرُج فِي وَقْت، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ الْمَنِيّ حَصَلَ بِمُقَدِّمَاتِ جِمَاع فَسَقَطَ مِنْهُ شَيْء عَلَى الثَّوْب، وَأَمَّا الْمُتَلَطِّخ بِالرُّطُوبَةِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى الثَّوْب. وَاللَّهُ أَعْلَم.
434- سبق شرحه بالباب.
435- سبق شرحه بالباب.
436- سبق شرحه بالباب.
437- سبق شرحه بالباب.

.باب نَجَاسَةِ الدَّمِ وَكَيْفِيَّةِ غَسْلِهِ:

438- أَسْمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيب ثَوْبهَا مِنْ دَم الْحَيْضَة كَيْف تَصْنَع بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرِضُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحهُ ثُمَّ تُصَلِّي فيه» (الْحَيْضَة) بِفَتْحِ الْحَاء أَيْ: الْحَيْض، وَمَعْنَى (تَحُتّهُ) تَقْشُرهُ وَتَحُكّهُ وَتَنْحِتهُ، وَمَعْنَى (تَقْرِضهُ) تُقَطِّعهُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِع مَعَ الْمَاء لِيَتَحَلَّل، وَرُوِيَ (تَقْرُضُهُ) بِفَتْحِ التَّاء وَإِسْكَان الْقَاف وَضَمَّ الرَّاء، وَرُوِيَ بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الْقَاف وَكَسْر الرَّاء الْمُشَدَّدَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: رَوَيْنَاهُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَمَعْنَى (تَنْضِحهُ) تَغْسِلهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الضَّاد، كَذَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: وُجُوب غَسْل النَّجَاسَة بِالْمَاءِ، وَيُؤْخَذ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ غَسَلَ بِالْخَلِّ أَوْ غَيْره مِنْ الْمَائِعَات لَمْ يُجْزِئهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَأْمُور بِهِ. وَفيه: أَنَّ الدَّم نَجِسٌ وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفيه أَنَّ إِزَالَة النَّجَاسَة لَا يُشْتَرَط فيها الْعَدَد بَلْ يَكْفِي فيها الْإِنْقَاء، وَفيه غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِد.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِب فِي إِزَالَة النَّجَاسَة الْإِنْقَاء فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَة، حُكْمِيَّة وَهِيَ الَّتِي لَا تُشَاهَد بِالْعَيْنِ كَالْبَوْلِ وَنَحْوه، وَجَبَ غَسْلهَا مَرَّة وَلَا تَجِب الزِّيَادَة، وَلَكِنْ يُسْتَحَبّ الْغَسْل ثَانِيَة وَثَالِثَة لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اِسْتَيْقَظَ أَحَدكُمْ مِنْ نَوْمه فَلَا يَغْمِس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يَغْسِلهَا ثَلَاثًا». وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ النَّجَاسَة عَيْنِيَّة كَالدَّمِ وَغَيْره فلابد مِنْ إِزَالَة عَيْنهَا وَيُسْتَحَبّ غَسْلهَا بَعْد زَوَال الْعَيْن ثَانِيَة وَثَالِثَة. وَهَلْ يُشْتَرَط عَصْر الثَّوْب إِذَا غَسَلَهُ؟ فيه وَجْهَانِ: الْأَصَحّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط، وَإِذَا غَسَلَ النَّجَاسَة الْعَيْنِيَّة فَبَقِيَ لَوْنهَا لَمْ يَضُرّهُ بَلْ قَدْ حَصَلَتْ الطَّهَارَة، وَإِنْ بَقِيَ طَعْمهَا فَالثَّوْب نَجِسٌ فلابد مِنْ إِزَالَة الطَّعْم، وَإِنْ بَقِيَتْ الرَّائِحَة فَفيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَفْصَحهمَا: يَطْهُر. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الدَّلِيلِ عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْلِ وَوُجُوبِ الاِسْتِبْرَاءِ مِنْهُ:

439- حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير أَمَّا أَحَدهمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَر فَكَانَ لَا يَسْتَتِر مِنْ بَوْله قَالَ: فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ ثُمَّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّف عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «كَانَ لَا يَسْتَنْزِه عَنْ الْبَوْل أَوْ مِنْ الْبَوْل» أَمَّا (الْعَسِيب) فَبِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ الْجَرِيد وَالْغُصْن مِنْ النَّخْل، وَيُقَال لَهُ: الْعُثْكَال، وَقَوْله: (بِاثْنَيْنِ) هَذِهِ الْبَاء زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ، وَاثْنَيْنِ مَنْصُوب عَلَى الْحَال، وَزِيَادَة الْبَاء فِي الْحَال صَحِيحَة مَعْرُوفَة، (وَيَيْبَسَا) مَفْتُوح الْبَاء الْمُوَحَّدَة قَبْل السِّين وَيَجُوز كَسْرهَا لُغَتَانِ.
وَأَمَّا النَّمِيمَة فَحَقِيقَتهَا نَقْلُ كَلَام النَّاس بَعْضهمْ إِلَى بَعْض عَلَى جِهَة الْإِفْسَاد، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَاب غِلَظ تَحْرِيم النَّمِيمَة مِنْ كِتَاب الْإِيمَان بَيَانهَا وَاضِحًا مُسْتَقْصًى.
وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَتِر مِنْ بَوْله» فَرُوِيَ ثَلَاث رِوَايَات (يَسْتَتِر) بِتَائَيْن مُثَنَّاتَيْن، (وَيَسْتَنْزِه) بِالزَّايِ وَالْهَاء، (وَيَسْتَبْرِئ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالْهَمْزَة وَهَذِهِ الثَّالِثَة فِي الْبُخَارِيّ وَغَيْره، وَكُلّهَا صَحِيحَة، وَمَعْنَاهَا: لَا يَتَجَنَّبهُ وَيَتَحَرَّز مِنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير» فَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير وَإِنَّهُ لَكَبِير كَانَ أَحَدهمَا لَا يَسْتَتِر مِنْ الْبَوْل...» الْحَدِيث. ذَكَرَهُ فِي كِتَاب الْأَدَب فِي بَاب النَّمِيمَة مِنْ الْكَبَائِر، وَفِي كِتَاب الْوُضُوء مِنْ الْبُخَارِيّ أَيْضًا: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير بَلْ إِنَّهُ كَبِير»، فَثَبَتَ بِهَاتَيْنِ الزِّيَادَتَيْنِ الصَّحِيحِيَّتَيْنِ أَنَّهُ كَبِير فَيَجِب تَأْوِيل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير».
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاء فيه تَأْوِيلَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي زَعْمِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرٍ تَرْكُهُ عَلَيْهِمَا، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى تَأْوِيلًا ثَالِثًا أَيْ لَيْسَ بِأَكْبَر الْكَبَائِر، قُلْت: فَعَلَى هَذَا يَكُون الْمُرَاد بِهَذَا الزَّجْر وَالتَّحْذِير لِغَيْرِهِمَا، أَيْ: لَا يُتَوَهَّم أَحَد أَنَّ التَّعْذِيب لَا يَكُون إِلَّا فِي أَكْبَر الْكَبَائِر الْمُوبِقَات فَإِنَّهُ يَكُون فِي غَيْرهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَسَبَب كَوْنهمَا كَبِيرَيْنِ: أَنَّ عَدَم التَّنَزُّه مِنْ الْبَوْل يَلْزَم مِنْهُ بُطْلَان الصَّلَاة فَتَرْكه كَبِيرَة بِلَا شَكّ، وَالْمَشْي بِالنَّمِيمَةِ وَالسَّعْي بِالْفَسَادِ مِنْ أَقْبَح الْقَبَائِح لاسيما مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَمْشِي» بِلَفْظِ (كَانَ) الَّتِي لِلْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّة غَالِبًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا وَضْعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْر؛ فَقَالَ الْعُلَمَاء: مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ الشَّفَاعَة لَهُمَا فَأُجِيبَتْ شَفَاعَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا إِلَى أَنْ يَيْبَسَا.
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي آخِر الْكِتَاب فِي الْحَدِيث الطَّوِيل حَدِيث جَابِر فِي صَاحِبَيْ الْقَبْرَيْنِ: «فَأُجِيبَتْ شَفَاعَتِي أَنْ يُرْفَع ذَلِكَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْقَضِيبَانِ رَطْبَيْنِ»، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو لَهُمَا تِلْكَ الْمُدَّة، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِمَا يُسَبِّحَانِ مَا دَامَا رَطْبَيْنِ، وَلَيْسَ لِلْيَابِسِ تَسْبِيح، وَهَذَا مَذْهَب كَثِيرِينَ أَوْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا يُسَبِّح بِحَمْدِهِ} قَالُوا: مَعْنَاهُ وَإِنْ مِنْ شَيْء حَيّ، ثُمَّ قَالُوا: حَيَاة كُلّ شَيْء بِحَسَبِهِ فَحَيَاة الْخَشَب مَا لَمْ يَيْبَس، وَالْحَجَر مَا لَمْ يُقْطَع. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرهمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى عُمُومه، ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يُسَبِّح حَقِيقَة أَمْ فيه دَلَالَة عَلَى الصَّانِع فَيَكُون مُسَبِّحًا مُنَزِّهًا بِصُورَةِ حَاله؟ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُسَبِّح حَقِيقَة؛ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وَإِذَا كَانَ الْعَقْل لَا يُحِيل جَعْلَ التَّمْيِيز فيها وَجَاءَ النَّصّ بِهِ وَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاء قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد الْقَبْر لِهَذَا الْحَدِيث؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُرْجَى التَّخْفِيف بِتَسْبِيحِ الْجَرِيد فَتِلَاوَة الْقُرْآن أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه أَنَّ بُرَيْدَةَ بْن الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيّ الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَل فِي قَبْره جَرِيدَتَانِ، فَفيه أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَبَرَّكَ بِفِعْلٍ مِثْل فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ مَا يَفْعَلهُ النَّاس عَلَى الْقُبُور مِنْ الْأَخْوَاص وَنَحْوهَا مُتَعَلِّقِينَ بِهَذَا الْحَدِيث وَقَالَ: لَا أَصْل لَهُ وَلَا وَجْه لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا فِقْه الْبَاب فَفيه: إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَفيه: نَجَاسَة الْأَبْوَال لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَة: «لَا يَسْتَنْزِه مِنْ الْبَوْل». وَفيه غِلَظ تَحْرِيم النَّمِيمَة، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.