فصل: باب الْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالأَعْمَالِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب غِلَظِ تَحْرِيمِ قَتْلِ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَإِنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ:

158- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسه بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَده يَتَوَجَّأ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَار جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فيها أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسه فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فيها أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فيها أَبَدًا».
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسه بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْءٍ لَا يَمْلِكُهُ».
وَفِي رِوَايَة: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَام كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ».
وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَمَنْ اِدَّعَى دَعْوَى كَاذِبَة لِيَتَكَثَّر بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّه تَعَالَى إِلَّا قِلَّةً، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ» وَفِي الْبَاب الْأَحَادِيث الْبَاقِيَة، وَسَتَمُرُّ عَلَى أَلْفَاظهَا وَمَعَانِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
أَمَّا الْأَسْمَاء وَمَا يَتَعَلَّق بِعِلْمِ الْإِسْنَاد فَفيه أَشْيَاء كَثِيرَة تَقَدَّمَتْ مِنْ الْكُنَى وَالدَّقَائِق كَقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي اِبْن الْحَارِثِ فَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان فَائِدَة قَوْله هُوَ اِبْن الْحَارِثِ، وَكَقَوْلِهِ: عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح، وَالْأَعْمَش مُدَلِّسٌ وَالْمُدَلِّسُ إِذَا قَالَ: (عَنْ) لَا يُحْتَجُّ بِهِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ السَّمَاع مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَدَّمْنَا أَنَّ مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُدَلِّسِ بِعَنْ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ السَّمَاع مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ جَاءَ هُنَا مُبَيَّنًا فِي الطَّرِيق الْآخَر مِنْ رِوَايَة شُعْبَة.
وَقَوْله فِي أَوَّل الْبَاب: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة، وَأَبُو سَعِيد الْأَشَجّ إِلَخْ إِسْنَاده كُلّه كُوفِيُّونَ إِلَّا أَبَا هُرَيْرَة فَإِنَّهُ مَدَنِيٌّ. وَاسْم الْأَشَجّ عَبْد اللَّه بْن سَعِيد بْن حَصِينٍ. تُوُفِّيَ سَنَة سَبْع وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ قَبْل مُسْلِمٍ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَقَوْله: كُلُّهُمْ بِهَذَا الْإِسْنَاد مِثْله وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَنْ سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعْت ذَكْوَان يَعْنِي بِقَوْلِهِ هَذَا الْإِسْنَاد أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة الْمَذْكُورِينَ وَهُمْ: جَرِير وَعَبْثَر، وَشُعْبَة، رَوَوْهُ عَنْ الْأَعْمَش كَمَا رَوَاهُ وَكِيعٌ فِي الطَّرِيق الْأُولَى، إِلَّا أَنَّ شُعْبَة زَادَ هُنَا فَائِدَةً حَسَنَةً فَقَالَ عَنْ سُلَيْمَان وَهُوَ الْأَعْمَش قَالَ: سَمِعْت ذَكْوَان وَهُوَ أَبُو صَالِح فَصَرَّحَ بِالسَّمَاعِ. وَفِي الرِّوَايَات الْبَاقِيَة يَقُول: (عَنْ)، وَالْأَعْمَش مُدَلِّسٌ لَا يُحْتَجُّ بِعَنْعَنَتِهِ إِلَّا إِذَا صَحَّ سَمَاعه الَّذِي عَنْعَنَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَبَيَّنَ مُسْلِمٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَة شُعْبَة. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فيها أَبَدًا» فَقِيلَ فيه أَقْوَال أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا مَعَ عِلْمه بِالتَّحْرِيمِ فَهَذَا كَافِرٌ، وَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَاد بِالْخُلُودِ طُول الْمُدَّة وَالْإِقَامَة الْمُتَطَاوِلَة لَا حَقِيقَة الدَّوَام كَمَا يُقَال: خَلَّدَ اللَّهُ مُلْك السُّلْطَان.
وَالثَّالِث: أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ وَلَكِنْ تَكَرَّمَ سُبْحَانه وَتَعَالَى فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُخَلِّد فِي النَّار مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسه بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَده يَتَوَجَّأ بِهَا فِي بَطْنِهِ» فيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِصَاص مِنْ الْقَاتِل يَكُون بِمَا قَتَلَ بِهِ مُحَدَّدًا كَانَ أَوْ غَيْره اِقْتِدَاء بِعِقَابِ اللَّه تَعَالَى لِقَاتِلِ نَفْسه. وَالِاسْتِدْلَال بِهَذَا لِهَذَا ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا لُغَات الْبَاب وَشِبْههَا فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَحَدِيدَتُهُ فِي يَده يَتَوَجَّأ بِهَا فِي بَطْنِهِ» هُوَ بِالْجِيمِ وَهَمْز آخِرُهُ، وَيَجُوز تَسْهِيله بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا وَمَعْنَاهُ يَطْعَن.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَرَدَّى» يَنْزِلُ.
وَأَمَّا (جَهَنَّمُ) فَهُوَ اِسْم لِنَارِ الْآخِرَة عَافَانَا اللَّه مِنْهَا وَمِنْ كُلّ بَلَاءٍ.
قَالَ يُونُس وَأَكْثَر النَّحْوِيِّينَ: هِيَ عَجَمِيَّةٌ لَا تَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيف.
وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَرَبِيَّة لَمْ تُصْرَف لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّة، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرهَا.
قَالَ رُؤْبَة: يُقَال: بِئْرٌ جِهْنَامٌ: أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجُهُومَة وَهِيَ الْغِلَظ؛ يُقَال: جَهْمُ الْوَجْهِ أَيْ غَلِيظُهُ، فَسُمِّيَتْ جَهَنَّم لِغِلَظِ أَمْرهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَرِبَ سَمًّا فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ» هُوَ بِضَمِّ السِّين وَفَتْحِهَا وَكَسْرهَا، ثَلَاث لُغَات الْفَتْح أَفْصَحهنَّ الثَّالِثَة فِي الْمَطَالِع وَجَمْعه سِمَام وَمَعْنَى (يَتَحَسَّاهُ) يَشْرَبهُ فِي تَمَهُّل وَيَتَجَرَّعُهُ.
159- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَام كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا) فَفيه بَيَان لِغِلَظِ تَحْرِيم هَذَا الْحَلِف.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاذِبًا لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ التَّقْيِيدُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ الْحَلِف بِهَا صَادِقًا لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ الْحَالِفُ بِهَا عَنْ كَوْنِهِ كَاذِبًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لابد أَنْ يَكُون مُعَظِّمًا لِمَا حَلَفَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا عَظَمَته بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْر مُعْتَقِدٍ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الصُّورَة لِكَوْنِهِ عَظَّمَهُ بِالْحَلِفِ بِهِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكّ عَنْ كَوْنه كَاذِبًا حُمِلَ التَّقْيِيدُ بِكَاذِبًا عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِصُورَةٍ الْحَالِفَ، وَيَكُون التَّقْيِيدُ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فَلَا يَكُون لَهُ مَفْهُومٌ وَيَكُون مِنْ بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وَقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ} وَقَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَالِف بِهِ مُعَظِّمًا لِمَا حَلَفَ بِهِ مُجِلًّا لَهُ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَظِّمًا بَلْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي حَلِفه بِمَا لَا يَحْلِف بِهِ، وَمُعَامَلَته إِيَّاهُ مُعَامَلَة مَا يَحْلِف بِهِ، وَلَا يَكُون كَافِرًا خَارِجًا عَنْ مِلَّة الْإِسْلَام، وَيَجُوز أَنْ يُطْلَق عَلَيْهِ اِسْم الْكُفْر، وَيُرَاد بِهِ كُفْر الْإِحْسَان، وَكُفْر نِعْمَة اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْلِف هَذَا الْحَلِف الْقَبِيح.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد الرَّحْمَن عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ مِثْل هَذَا مِمَّا ظَاهِرُهُ تَكْفِيرُ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَة التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى مَلِيحٌ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُضَمّ إِلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ كَافِر النِّعَم.
160- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعْن الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَصْل التَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْل أَغْلَظَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيُّ، وَقِيلَ: غَيْر هَذَا مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِدَّعَى دَعْوَى كَاذِبَة لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّه إِلَّا قِلَّةً» فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ دَعْوَى يَتَشَبَّع بِهَا الْمَرْءُ بِمَا لَمْ يُعْطَ مِنْ مَالٍ يَخْتَال فِي التَّجَمُّل بِهِ مِنْ غَيْره، أَوْ نَسَب يَنْتَمِي إِلَيْهِ، أَوْ عِلْم يَتَحَلَّى بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حَمَلَتِهِ، أَوْ دِينٌ يُظْهِرهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْله، فَقَدْ أَعْلَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَيْر مُبَارَك لَهُ فِي دَعْوَاهُ، وَلَا زَاكٍ مَا اِكْتَسَبَهُ بِهَا. وَمِثْله الْحَدِيث الْآخَر: «الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ مَنْفَقَة لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ».
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ اِدَّعَى دَعْوَى كَاذِبَة» هَذِهِ هِيَ اللُّغَة الْفَصِيحَة يُقَال: دَعْوَى بَاطِل وَبَاطِلَة، وَكَاذِب وَكَاذِبَة حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْمُحْكَم وَالتَّأْنِيث أَفْصَح.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَتَكَثَّرَ بِهَا» فَضَبَطْنَاهُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة بَعْد الْكَاف، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول، وَهُوَ الظَّاهِر. وَضَبَطَهُ بَعْض الْأَئِمَّة الْمُعْتَمَدِينَ فِي نُسْخَته بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَلَهُ وَجْهٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ يَصِيرُ مَاله كَبِيرًا عَظِيمًا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين صَبْرٍ فَاجِرَة» كَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول هَذَا الْقَدْر فَحَسْب، وَفيه مَحْذُوف، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: لَمْ يَأْتِ فِي الْحَدِيث هُنَا الْخَبَر عَنْ هَذَا الْحَالِف إِلَّا أَنْ يَعْطِفهُ عَلَى قَوْله قَبْله: وَمَنْ اِدَّعَى دَعْوَى كَاذِبَة لِيَتَكَثَّر بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّه بِهَا إِلَّا قِلَّة، أَيْ وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ فَهُوَ مِثْله.
قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث تَامًّا مُبَيَّنًا فِي حَدِيثٍ آخَر: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئِ مُسْلِمٍ هُوَ فيها فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان» وَيَمِين الصَّبْر هِيَ الَّتِي أَلْزَم بِهَا الْحَالِف عِنْد الْحَاكِم وَنَحْوه. وَأَصْل الصَّبْرِ الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاك.
161- وَقَوْله: (عَنْ شُعْبَة عَنْ أَيُّوب عَنْ أَبِي قِلَابَة عَنْ ثَابِت بْن الضِّحَاك الْأَنْصَارِيِّ) ثُمَّ تَحَوَّلَ الْإِسْنَادُ فَقَالَ: (عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاء عَنْ أَبِي قِلَابَة عَنْ ثَابِت بْن الضِّحَاك) قَدْ يُقَال: هَذَا تَطْوِيلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَاف عَادَة مُسْلِمٍ وَغَيْره، وَكَانَ حَقّه وَمُقْتَضَى عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَصِرَ أَوَّلًا عَلَى أَبِي قِلَابَة، ثُمَّ يَسُوق الطَّرِيقَ الْآخَر إِلَيْهِ، فَأَمَّا ذِكْر ثَابِت فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ أَوَّلًا، وَجَوَابه: أَنَّ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى رِوَايَة شُعْبَة عَنْ أَيُّوب نَسَب ثَابِت بْن الضِّحَاك فَقَالَ (الْأَنْصَارِيُّ)، وَفِي رِوَايَة الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِد وَلَمْ يَنْسُبهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدّ مِنْ فِعْلِ مَا فَعَلَ لِيَصِحَّ ذِكْرُ نَسَبِهِ.
وَقَوْله: (أَبُو قِلَابَة) هُوَ بِكَسْرِ الْقَاف وَاسْمُهُ عَبْد اللَّه بْن زَيْد.
وَقَوْله: عَنْ (خَالِد الْحَذَّاء) قَالُوا إِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْحَذَّاء لِأَنَّهُ كَانَ يَجْلِس فِي الْحَذَّائِينَ، وَلَمْ يَحْذُ نَعْلًا قَطُّ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَرَوَيْنَا عَنْ فَهْد بْن حَيَّانَ بِالْمُثَنَّاةِ قَالَ: لَمْ يَحْذُ خَالِد قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُول: اُحْذُوَا عَلَى هَذَا النَّحْو فَلُقِّبَ الْحَذَّاء، وَهُوَ خَالِد بْن مِهْرَانَ أَبُو الْمُنَازِل بِضَمِّ الْمِيم وَبِالزَّايِ وَاللَّامِ.
162- وَقَوْله فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: «شَهِدْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا» كَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: صَوَابه (خَيْبَر) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه الرَّجُل الَّذِي قُلْت لَهُ آنِفًا إِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّار» أَيْ قُلْت فِي شَأْنه وَفِي سَبَبه.
قَالَ الْفَرَّاء وَابْن الشَّجَرِيِّ وَغَيْرهمَا مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة: اللَّام قَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى (فِي) وَمِنْهُ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَيْ فيه. وَقَوْله: «آنِفًا» أَيْ قَرِيبًا، وَفيه لُغَتَانِ الْمَدُّ، وَهُوَ أَفْصَحُ، وَالْقَصْر.
وَقَوْله: (فَكَادَ بَعْض الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَاب) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (أَنْ يَرْتَاب) فَأَثْبَت أَنْ مَعَ كَادَ وَهُوَ جَائِزٌ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ، وَكَادَ لِمُقَارَبَةِ الْفِعْل وَلَمْ يَفْعَل إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ، فَإِنْ تَقَدَّمَهَا كَقَوْلِك: مَا كَادَ يَقُوم كَانَتْ دَالَّة عَلَى الْقِيَام لَكِنْ بَعْد بُطْءٍ. كَذَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْعَرَب وَاللُّغَةِ.
وَقَوْله: «ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاس إِنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا نَفْس مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّه يُؤَيِّد هَذَا الدِّين بِالرَّجُلِ الْفَاجِر» يَجُوز فِي إِنَّهُ وَإِنَّ كَسْر الْهَمْزَةِ، وَفَتْحهَا.
وَقَدْ قُرِئَ فِي السَّبْع قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرِهَا.
163- قَوْله: (يَعْقُوبُ الْقَارِيُّ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاء تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
و: (أَبُو حَازِمٍ) الرَّاوِي عَنْ سَهْل بْن سَعْد السَّاعِدِيِّ اِسْمه سَلَمَة بْن دِينَار. وَالرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَة اِسْمه سَلْمَانُ مَوْلَى عَزَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: (لَا يَدَع لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اِتَّبَعَهَا) الشَّاذُّ وَالشَّاذَّةُ الْخَارِج وَالْخَارِجَة عَنْ الْجَمَاعَة.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّثَ الْكَلِمَةَ عَلَى مَعْنَى النَّسَمَة أَوْ تَشْبِيه الْخَارِج بِشَاذَّةِ الْغَنَم. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدَع أَحَدًا عَلَى طَرِيق الْمُبَالَغَة.
قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيِّ: يُقَال فُلَان لَا يَدَع شَاذَّة وَلَا فَاذَّة إِذَا كَانَ شُجَاعًا لَا يَلْقَاهُ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ. وَهَذَا الرَّجُل الَّذِي كَانَ لَا يَدَع شَاذَّة وَلَا فَاذَّة اِسْمه (قُزْمَان) قَالَهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَوْله: (مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْم أَحَد مَا أَجْزَأَ فُلَان) مَهْمُوزٌ مَعْنَاهُ مَا أَغْنَى وَكَفَى أَحَد غِنَاءَهُ وَكِفَايَته.
قَوْله: (فَقَالَ رَجُل مِنْ الْقَوْم: أَنَا صَاحِبه) كَذَا فِي الْأُصُول. وَمَعْنَاهُ أَنَا أَصْحَبهُ فِي خُفْيَة وَأُلَازِمهُ لِأَنْظُر السَّبَب الَّذِي بِهِ يَصِير مِنْ أَهْل النَّارِ؛ فَإِنَّ فِعْله فِي الظَّاهِر جَمِيل وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْل النَّار، فلابد لَهُ مِنْ سَبَبٍ عَجِيبٍ.
قَوْله: (وَوَضَعَ ذُبَاب السَّيْف بَيْن ثَدْيَيْهِ) هُوَ بِضَمِّ الذَّال وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحَّدَة الْمُكَرَّرَة، وَهُوَ طَرَفه الْأَسْفَل.
وَأَمَّا طَرَفه الْأَعْلَى فَمِقْبَضُهُ.
وَقَوْله: (بَيْن ثَدْيَيْهِ) هُوَ تَثْنِيَة ثَدْيٍ بِفَتْحِ الثَّاء وَهُوَ يُذَكَّر عَلَى اللُّغَة الْفَصِيحَةِ الَّتِي اِقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْفَرَّاء وَثَعْلَبُ وَغَيْرهمَا. وَحَكَى اِبْن فَارِس وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرهمَا فيه التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث.
قَالَ اِبْن فَارِس: الثَّدْي لِلْمَرْأَةِ، وَيُقَال لِذَلِكَ الْمَوْضِع مِنْ الرَّجُل: ثَنْدُوَة وَثُنْدُؤَة بِالْفَتْحِ بِلَا هَمْزَة وَبِالضَّمِّ مَعَ الْهَمْزَة.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالثَّدْي لِلْمَرْأَةِ وَلِلرَّجُلِ. فَعَلَى قَوْل اِبْن فَارِس يَكُونُ فِي هَذَا الْحَدِيث قَدْ اِسْتَعَارَ الثَّدْي لِلرَّجُلِ، وَجَمْع الثَّدْي أَثْدٍ وَثُدِيٌّ وَثِدِيٌّ بِضَمِّ الثَّاء وَكَسْرهَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُل لِيَعْمَل عَمَل أَهْل الْجَنَّة فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْل النَّار، وَإِنَّ الرَّجُل لِيَعْمَل عَمَل أَهْل النَّار وَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة» فَفيه التَّحْذِير مِنْ الِاغْتِرَار بِالْأَعْمَالِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لَا يَتَّكِل عَلَيْهَا، وَلَا يَرْكَن إِلَيْهَا مَخَافَةً مِنْ اِنْقِلَاب الْحَال لِلْقَدَرِ السَّابِق. وَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاصِي أَنْ لَا يَقْنَط وَلِغَيْرِهِ أَنْ لَا يُقَنِّطهُ مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى. وَمَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُل لِيَعْمَل عَمَل أَهْل الْجَنَّة وَإِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّار وَكَذَا عَكْسه أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع.
164- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجَتْ بِرَجُلٍ قَرْحَة فَآذَتْهُ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَته فَنَكَأَهَا، فَلَمْ يَرْقَأ الدَّم حَتَّى مَاتَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (خَرَجَ بِهِ خُرَّاج) الْقَرْحَة بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء وَهِيَ وَاحِدَة الْقُرُوح وَهِيَ حَبَّاتٌ تَخْرُجُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَالْكِنَانَةُ بِكَسْرِ الْكَاف وَهِيَ جَعْبَة النُّشَّاب مَفْتُوحَة الْجِيم سُمِّيَتْ كِنَانَة لِأَنَّهَا تَكِنُّ السِّهَام أَيْ تَسْتُرهَا. وَمَعْنَى (نَكَأَهَا) قَشَرَهَا وَخَرَقَهَا وَفَتَحَهَا وَهُوَ مَهْمُوز. وَمَعْنَى (لَمْ يَرْقَأ الدَّم) أَيْ لَمْ يَنْقَطِع وَهُوَ مَهْمُوز. يُقَال رَقَأَ الدَّم وَالدَّمْع يَرْقَأ رُقُوءًا مِثْل رَكَعَ يَرْكَع رُكُوعًا إِذَا سَكَنَ وَانْقَطَعَ. (وَالْخُرَاج) بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَهُوَ الْقَرْحَة.
قَوْله: (فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُون كَذَبَ) هُوَ نَوْع مِنْ تَأْكِيد الْكَلَام وَتَقْوِيَته فِي النَّفْس أَوْ الْإِعْلَام بِتَحْقِيقِهِ وَنَفْي تَطَرُّق الْخَلَل إِلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
أَمَّا أَحْكَام: الْحَدِيث وَمَعَانِيهَا فَفيها بَيَان غِلَظ تَحْرِيم قَتْل النَّفْس، وَالْيَمِين الْفَاجِرَة الَّتِي يَقْتَطِع بِهَا مَال غَيْره، وَالْحَلِف بِمِلَّةٍ غَيْر الْإِسْلَام كَقَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِنْ كَانَ كَذَا أَوْ وَاَللَّاتِي وَالْعُزَّى وَشِبْه ذَلِكَ. وَفيها أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا يَلْزَم بِهَذَا النَّذْر شَيْء. وَفيها تَغْلِيظ تَحْرِيم لَعَنْ الْمُسْلِم وَهَذَا لَا خِلَاف فيه.
قَالَ الْإِمَام أَبُو حَامِد الْغَزَالِيِّ وَغَيْره: لَا يَجُوز لَعْن أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الدَّوَابِّ، وَلَا فَرْق بَيْن الْفَاسِق وَغَيْره، وَلَا يَجُوزُ لَعْن أَعْيَان الْكُفَّار حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا إِلَّا مَنْ عَلِمْنَا بِالنَّصِّ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا كَأَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْل وَشِبْههمَا، وَيَجُوز لَعْن طَائِفَتِهِمْ كَقَوْلِك: لَعَنَ اللَّهُ الْكُفَّار، وَلَعَنَ اللَّه الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَة فَلَمَّا آذَتْهُ اِنْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَته فَنَكَأَهَا فَلَمْ يَرْقَأ الدَّم حَتَّى مَاتَ قَالَ رَبُّكُمْ قَدْ حَرَّمْت عَلَيْهِ الْجَنَّة» فَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه فيه: يُحْتَمَل أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِلًّا، أَوْ يُحْرَمهَا حِين يَدْخُلهَا السَّابِقُونَ وَالْأَبْرَار، أَوْ يُطِيل حِسَابه، أَوْ يُحْبَس فِي الْأَعْرَاف. هَذَا كَلَام الْقَاضِي قُلْت: وَيُحْتَمَل أَنَّ شَرْع أَهْل ذَلِكَ الْعَصْر تَكْفِير أَصْحَاب الْكَبَائِر ثُمَّ إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ نَكَأَهَا اِسْتِعْجَالًا لِلْمَوْتِ أَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَرِيق الْمُدَاوَاة الَّتِي يَغْلِب عَلَى الظَّنِّ نَفْعُهَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب غِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ:

165- فيه عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْم خَيْبَر أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فُلَان شَهِيد، فُلَان شَهِيد، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُل فَقَالُوا: فُلَان شَهِيد، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا إِنِّي رَأَيْته فِي النَّار فِي بُرْدَة غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَة. ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا اِبْن الْخَطَّاب: اِذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاس أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ: فَخَرَجْت فَنَادَيْت أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ». وَفيه حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مِنْ نَحْو مَعْنَاهُ.
فِي الْإِسْنَاد (أَبُو زُمَيْل) بِضَمِّ الزَّاي وَتَخْفِيف الْمِيم الْمَفْتُوحَة وَتَقَدَّمَ.
وَقَوْله: (لَمَّا كَانَ يَوْم خَيْبَر) هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَآخِره رَاءٍ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم وَهُوَ الصَّوَاب. وَذَكَر الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ أَكْثَر رُوَاة الْمُوَطَّأ رَوَوْهُ هَكَذَا وَأَنَّهُ الصَّوَاب.
قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (حُنَيْن) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا» زَجْر، وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ فِي هَذَا الرَّجُل إِنَّهُ شَهِيد مَحْكُوم لَهُ بِالْجَنَّةِ أَوَّلَ وَهْلَة، بَلْ هُوَ فِي النَّار بِسَبَبِ غُلُوله.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي رَأَيْته فِي النَّار فِي بُرْدَة غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَة» أَمَّا الْبُرْدَة بِضَمِّ الْبَاء فَكِسَاء مُخَطَّط وَهِيَ الشَّمْلَة وَالنَّمِرَة.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد هُوَ كِسَاء أَسْوَد فيه صُوَر وَجَمْعهَا بُرَدٌ بِفَتْحِ الرَّاء وَأَمَّا الْعَبَاءَة فَمَعْرُوفَة وَهِيَ مَمْدُودَة وَيُقَال فيها أَيْضًا (عَبَايَة) بِالْيَاءِ، قَالَهُ اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي بُرْدَةٍ» أَيْ مِنْ أَجْلهَا وَبِسَبَبِهَا.
وَأَمَّا (الْغُلُول) فَقَالَ أَبُو عُبَيْد: هُوَ الْخِيَانَة فِي الْغَنِيمَة خَاصَّة، وَقَالَ غَيْره: هِيَ الْخِيَانَة فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيُقَال مِنْهُ غَلَّ يَغُلّ بِضَمِّ الْغَيْن.
166- وَقَوْله: (ثَوْر بْن زَيْد الدِّيْلِيُّ) هُوَ هُنَا بِكَسْرِ الدَّال وَإِسْكَان الْيَاء هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول الْمَوْجُودَة بِبِلَادِنَا، وَفِي بَعْضهَا (الدُّؤَلِيّ) بِضَمِّ الدَّال وَبِالْهَمْزَةِ بَعْدهَا الَّتِي تُكْتَب صُورَتهَا وَاوًا. وَذَكَر الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ ضَبَطَهُ هُنَا عَنْ أَبِي بَحْر (دُوْلِيّ) بِضَمِّ الدَّال وَبِوَاوِ سَاكِنَة.
قَالَ: وَضَبَطْنَاهُ عَنْ غَيْره بِكَسْرِ الدَّال وَإِسْكَانِ الْيَاء.
قَالَ: وَكَذَا ذَكَره مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ، وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخ، وَغَيْرهمَا. قُلْت: وَقَدْ ذَكَر أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيُّ أَنَّ ثَوْرًا هَذَا مِنْ رَهْط أَبِي الْأَسْوَد فَعَلَى هَذَا يَكُون فيه الْخِلَاف الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا فِي أَبِي الْأَسْوَد.
وَقَوْله: (عَنْ سَالِم أَبِي الْغَيْث مَوْلَى اِبْن مُطِيع) هَذَا صَحِيح وَفيه التَّصْرِيح بِأَنَّ أَبَا الْغَيْث هَذَا يُسَمَّى سَالِمًا.
وَأَمَّا قَوْل أَبِي عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي أَوَّل كِتَابه التَّمْهِيد لَا يُوقَف عَلَى اِسْمه صَحِيحًا فَلَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِهَذَا الْإِثْبَات الصَّحِيح. وَاسْم اِبْن مُطِيع عَبْد اللَّه بْن مُطِيع بْن الْأَسْوَد الْقُرَشِيِّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: (رَجُل مِنْ بَنِي الضُّبَيْب) هُوَ بِضَمِّ الضَّاد الْمُعْجَمَة وَبَعْدهَا بَاءَ مُوَحَّدَة مَفْتُوحَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ بَاءَ مُوَحَّدَة.
قَوْله: (يَحُلّ رَحْله) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَهُوَ مَرْكَب الرَّجُل عَلَى الْبَعِير.
وَقَوْله: (فَكَانَ فيه حَتْفه) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة فَوْق أَيْ مَوْته، وَجَمْعه حُتُوف. وَمَاتَ حَتْف أَنْفه أَيْ مِنْ غَيْر قَتْل وَلَا ضَرْب.
وَقَوْله: (فَجَاءَ رَجُل بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَصَبْت يَوْم خَيْبَر) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَهُوَ صَحِيح وَفيه حَذْف الْمَفْعُول أَيْ أَصَبْت هَذَا. وَالشِّرَاك بِكَسْرِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَهُوَ السَّيْر الْمَعْرُوف الَّذِي يَكُون فِي النَّعْل عَلَى ظَهْر الْقَدَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: قَوْله النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْلَة لَتَلْتَهِب عَلَيْهِ نَارًا» وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاك أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَار» تَنْبِيه عَلَى الْمُعَاقَبَة عَلَيْهِمَا، وَقَدْ تَكُون الْمُعَاقَبَة بِهِمَا أَنْفُسهمَا فَيُعَذَّب بِهِمَا وَهُمَا مِنْ نَار، وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا سَبَب لِعَذَابِ النَّار. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (وَمَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد لَهُ) فَاسْمه (مِدْعَم) بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الدَّال وَفَتْح الْعَيْن الْمُهْمَلَتَيْنِ كَذَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْمُوَطَّأ فِي هَذَا الْحَدِيث بِعَيْنِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَقِيلَ: إِنَّهُ غَيْر (مِدْعَم)، قَالَ: وَوَرَدَ فِي حَدِيث مِثْل هَذَا اِسْمه كَرْكِرَة ذَكَره الْبُخَارِيُّ هَذَا كَلَام الْقَاضِي. و(كَرْكِرَة) بِفَتْحِ الْكَاف الْأُولَى وَكَسْرهَا وَأَمَّا الثَّانِيَة فَمَكْسُورَة فيهمَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا أَحْكَام الْحَدِيثِينَ فَمِنْهَا غِلَظ تَحْرِيم الْغُلُول، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن قَلِيله وَكَثِيره حَتَّى الشِّرَاك، وَمِنْهَا أَنَّ الْغُلُول يَمْنَع مِنْ إِطْلَاق اِسْم الشَّهَادَة عَلَى مَنْ غَلَّ إِذَا قُتِلَ، وَسَيَأْتِي بَسْط هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة أَحَد مِمَّنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا جَوَاز الْحَلِف بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْر ضَرُورَة لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَة يَجِب عَلَيْهِ رَدّه، وَأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ يُقْبَل مِنْهُ، وَلَا يُحْرَق مَتَاعه سَوَاء رَدَّهُ أَوْ لَمْ يَرُدّهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّق مَتَاع صَاحِب الشَّمْلَة وَصَاحِب الشِّرَاك، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَنُقِلَ.
وَأَمَّا الْحَدِيث: «مَنْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعه وَاضْرِبُوهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَاضْرِبُوا عُنُقه» فَضَعِيفٌ بَيَّنَ اِبْنُ عَبْد الْبَرّ، وَغَيْره ضَعْفه.
قَالَ الطَّحَاوِيّ رَحِمَهُ اللَّه: وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا. وَيَكُون هَذَا حِين كَانَتْ الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ لاَ يَكْفُرُ:

167- فيه حَدِيث جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ الطُّفَيْل بْن عَمْرو الدَّوْسِيّ هَاجَرَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُل مِنْ قَوْمه فَاجْتَوُوا الْمَدِينَة فَمَرِضَ فَجَزَع فَأَخَذَ مَشَاقِص فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْل فِي مَنَامه وَهَيْئَته حَسَنَة وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِك رَبُّك؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي أَرَاك مُغَطِّيًا يَدَيْك؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِح مِنْك مَا أَفْسَدْت. فَقَصَّهَا الطُّفَيْل عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ».
قَوْله: (فَاجْتَوُوا الْمَدِينَة) هُوَ بِضَمِّ الْوَاو الثَّانِيَة ضَمِير جَمْع وَهُوَ ضَمِير يَعُود عَلَى الطُّفَيْل وَالرَّجُل الْمَذْكُور وَمَنْ يَتَعَلَّق بِهِمَا، وَمَعْنَاهُ: كَرِهُوا الْمَقَام بِهَا لِضَجَرٍ، وَنَوْع مِنْ سَقَم.
قَالَ أَبُو عُبَيْد وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرهمَا: اِجْتَوَيْت الْبَلَد إِذَا كَرِهْت الْمَقَام بِهِ، وَإِنْ كُنْت فِي نِعْمَة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَصْله مِنْ الْجَوَى وَهُوَ دَاء يُصِيب الْجَوْف.
قَوْله: (فَأَخَذَ مَشَاقِص) هِيَ بِفَتْحِ الْمِيم وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَبِالْقَافِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَة وَهِيَ جَمْع مِشْقَص بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْقَاف.
قَالَ الْخَلِيل، وَابْن فَارِس، وَغَيْرهمَا: هُوَ سَهْم فيه نَصْل عَرِيض.
وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْم طَوِيل لَيْسَ بِالْعَرِيضِ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِشْقَص مَا طَالَ وَعَرُضَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر هُنَا لِقَوْلِهِ قَطَعَ بِهَا بَرَاجِمه، وَلَا يَحْصُل ذَلِكَ إِلَّا بِالْعَرِيضِ.
وَأَمَّا (الْبَرَاجِم) بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَبِالْجِيمِ فَهِيَ مَفَاصِل الْأَصَابِع وَاحِدَتهَا (بُرْجُمَة).
قَوْله: (فَشَخَبَتْ يَدَاهُ) هُوَ بِفَتْحِ الشِّين وَالْخَاء الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ سَالَ دَمُهُمَا، وَقِيلَ: سَالَ بِقُوَّةٍ.
وَقَوْله: (هَلْ لَك فِي حِصْن حَصِين وَمَنَعَة) هِيَ بِفَتْحِ الْمِيم وَبِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَانهَا لُغَتَانِ ذَكَرهمَا اِبْن السِّكِّيت وَالْجَوْهَرِيُّ، وَغَيْرهمَا. الْفَتْح أَفْصَح، وَهِيَ الْعِزّ وَالِامْتِنَاع مِمَّنْ يُرِيدهُ، وَقِيلَ الْمَنَعَة جَمْع مَانِع كَظَالِمِ وَظَلَمَة أَيْ جَمَاعَة يَمْنَعُونَك مِمَّنْ يَقْصِدك بِمَكْرُوهٍ.
أَمَّا أَحْكَام الْحَدِيث فَفيه حُجَّة لِقَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسه أَوْ اِرْتَكَبَ مَعْصِيَة غَيْرهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْر تَوْبَةٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْطَع لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْم الْمَشِيئَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان الْقَاعِدَة وَتَقْرِيرهَا. وَهَذَا الْحَدِيث شَرْح لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْله الْمُوهِم ظَاهِرهَا تَخْلِيد قَاتِل النَّفْس وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر فِي النَّار، وَفيه إِثْبَات عُقُوبَة بَعْض أَصْحَاب الْمَعَاصِي فَإِنَّ هَذَا عُوقِبَ فِي يَدَيْهِ فَفيه رَدّ عَلَى الْمُرْجِئَة الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَاصِي لَا تَضُرّ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فِي الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ تَقْبِضُ مَنْ فِي قَلْبِهِ شيء مِنَ الإِيمَانِ:

168- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَث رِيحًا مِنْ الْيَمَن أَلْيَن مِنْ الْحَرِير فَلَا تَدَع أَحَدًا فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة مِنْ إِيمَان إِلَّا قَبَضَتْهُ» أَمَّا إِسْنَاده فَفيه (أَحْمَد بْن عَبْدَة) بِإِسْكَانِ الْبَاء، (وَأَبُو عَلْقَمَة الْفَرْوِيّ) بِفَتْحِ الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي فَرْوَة الْمَدَنِيّ مَوْلَى آلِ عُثْمَان بْن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا النَّوْع أَحَادِيث مِنْهَا: «لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الْأَرْض: اللَّه اللَّه» وَمِنْهَا: «لَا تَقُوم عَلَى أَحَد يَقُول اللَّه اللَّه» وَمِنْهَا: «لَا تَقُوم إِلَّا عَلَى شِرَار الْخَلْق» وَهَذِهِ كُلّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى ظَاهِرهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر: «لَا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة»، فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيث لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقّ حَتَّى تَقْبِضهُمْ هَذِهِ الرِّيح اللَّيِّنَة قُرْب الْقِيَامَة وَعِنْد تَظَاهُر أَشْرَاطهَا فَأَطْلَقَ فِي هَذَا الْحَدِيث بَقَاءَهُمْ إِلَى قِيَام السَّاعَة عَلَى أَشْرَاطهَا وَدُنُوّهَا الْمُتَنَاهِي فِي الْقُرْب. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِثْقَال حَبَّة أَوْ مِثْقَال ذَرَّة مِنْ إِيمَان» فَفيه بَيَان لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح أَنَّ الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِيحًا أَلْيَن مِنْ الْحَرِير» فَفيه وَاَللَّه أَعْلَم إِشَارَة إِلَى الرِّفْق بِهِمْ، وَالْإِكْرَام لَهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَجَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «يَبْعَث اللَّه تَعَالَى رِيحًا مِنْ الْيَمَن» وَفِي حَدِيث آخَر ذَكَره مُسْلِم فِي آخِر الْكِتَاب عَقِب أَحَادِيث الدَّجَّال (رِيحًا مِنْ قَبْل الشَّام) وَيُجَاب عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: يُحْتَمَل أَنَّهُمَا رِيحَانِ شَامِيَّة وَيَمَانِيَة، وَيَحْتَمِل أَنَّ مَبْدَأَهَا مِنْ أَحَد الْإِقْلِيمَيْنِ ثُمَّ تَصِل الْآخَرَ وَتَنْتَشِرُ عِنْده. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالأَعْمَالِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ:

169- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْل الْمُظْلِم يُصْبِح الرَّجُل مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِح كَافِرًا يَبِيع دِينه بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا» مَعْنَى الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الْمُبَادَرَة إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة قَبْل تَعَذُّرهَا وَالِاشْتِغَال عَنْهَا بِمَا يَحْدُث مِنْ الْفِتَن الشَّاغِلَة الْمُتَكَاثِرَة الْمُتَرَاكِمَة كَتَرَاكُمِ ظَلَام اللَّيْل الْمُظْلِم لَا الْمُقْمِر. وَوَصَفَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعًا مِنْ شَدَائِد تِلْك الْفِتَن، وَهُوَ أَنَّهُ يُمْسِي مُؤْمِنًا ثُمَّ يُصْبِح كَافِرًا أَوْ عَكْسه. شَكَّ الرَّاوِي وَهَذَا لِعِظَمِ الْفِتَن يَنْقَلِب الْإِنْسَان فِي الْيَوْم الْوَاحِد هَذَا الِانْقِلَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.