فصل: باب الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ:

قَوْله فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَسُورَتَيْنِ وَيُسْمِعنَا الْآيَة أَحْيَانًا، وَيَقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب) وَفِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «كَانَ يَقْرَأ فِي كُلّ رَكْعَة مِنْ الْأُولَيَيْنِ قَدْر ثَلَاثِينَ آيَة، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْر خَمْس عَشْرَة آيَة، أَوْ قَالَ: نِصْف ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلّ رَكْعَة قَدْر قِرَاءَة خَمْس عَشْرَة، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْر نِصْف ذَلِكَ» وَفِي حَدِيث سَعْد: «أَرْكُد فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِف فِي الْأُخْرَيَيْنِ» وَفِي حَدِيث سَعِيد الْآخَر قَالَ: «لَقَدْ كَانَتْ صَلَاة الظُّهْر تُقَام فَيَذْهَب الذَّاهِب إِلَى الْبَقِيع فَيَقْضِي حَاجَته ثُمَّ يَتَوَضَّأ ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَة الْأُولَى مِمَّا يُطَوِّلهَا» وَفِي أَحَادِيث أُخَر فِي غَيْر الْبَاب وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَفَّ النَّاس صَلَاة فِي تَمَام، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَدْخُل فِي الصَّلَاة أُرِيد إِطَالَتهَا فَأَسْمَع بُكَاء الصَّبِيّ فَأَتَجَوَّز فِي صَلَاتِي مَخَافَة أَنْ تَفْتَتِن أُمُّهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: كَانَتْ صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْتَلِف فِي الْإِطَالَة وَالتَّخْفِيف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال، فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُونَ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيل، وَلَا شُغْل هُنَاكَ لَهُ وَلَا لَهُمْ طُول، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خَفَّفَ، وَقَدْ يُرِيد الْإِطَالَة ثُمَّ يَعْرِض مَا يَقْتَضِي التَّخْفِيف كَبُكَاءِ الصَّبِيّ وَنَحْوه، وَيَنْضَمّ إِلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ يَدْخُل فِي الصَّلَاة فِي أَثْنَاء الْوَقْت فَيُخَفِّف، وَقِيلَ: إِنَّمَا طَوَّلَ فِي بَعْض الْأَوْقَات وَهُوَ الْأَقَلّ، وَخَفَّفَ فِي مُعْظَمهَا فَالْإِطَالَة لِبَيَانِ جَوَازهَا وَالتَّخْفِيف لِأَنَّهُ الْأَفْضَل، وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ وَقَالَ: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيّكُمْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فيهمْ السَّقِيم وَالضَّعِيف وَذَا الْحَاجَة» وَقِيلَ: طَوِّلْ فِي وَقْت، وَخَفِّفْ فِي وَقْت لِيُبَيِّن أَنَّ الْقِرَاءَة فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَة لَا تَقْدِير فيها مِنْ حَيْثُ الِاشْتِرَاط، بَلْ يَجُوز قَلِيلهَا وَكَثِيرهَا، وَإِنَّمَا الْمُشْتَرَط الْفَاتِحَة وَلِهَذَا اِتَّفَقَتْ الرِّوَايَات عَلَيْهَا، وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ. وَعَلَى الْجُمْلَة السُّنَّة التَّخْفِيف كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي بَيْنهَا، وَإِنَّمَا طَوَّلَ فِي بَعْض الْأَوْقَات لِتَحَقُّقِهِ اِنْتِفَاء الْعِلَّة فَإِنْ تَحَقَّقَ أَحَدٌ اِنْتِفَاءَ الْعِلَّة طَوَّلَ.
685- قَوْله: (وَكَانَ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَسُورَتَيْنِ) فيه دَلِيل لِمَا قَالَهُ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ أَنَّ قِرَاءَة سُورَة قَصِيرَة بِكَمَالِهَا أَفْضَل مِنْ قِرَاءَة قَدْرهَا مِنْ طَوِيلَة، لِأَنَّ الْمُسْتَحَبّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَبْتَدِئ مِنْ أَوَّل الْكَلَام الْمُرْتَبِط وَيَقِف عِنْد اِنْتِهَاء الْمُرْتَبِط، وَقَدْ يَخْفَى الِارْتِبَاط عَلَى أَكْثَر النَّاس أَوْ كَثِير فَنُدِبَ مِنْهُمْ إِلَى إِكْمَال السُّورَة لِيُحْتَرَز عَنْ الْوُقُوف دُون الِارْتِبَاط.
وَأَمَّا اِخْتِلَاف الرِّوَايَة فِي السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَلَعَلَّ سَبَبه مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اِخْتِلَاف إِطَالَة الصَّلَاة وَتَخْفِيفهَا بِحَسَبِ الْأَحْوَال، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي اِسْتِحْبَاب قِرَاءَة السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّة وَالثَّالِثَة مِنْ الْمَغْرِب فَقِيلَ بِالِاسْتِحْبَابِ وَبِعَدَمِهِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الشَّافِعِيّ: وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوق الْأُخْرَيَيْنِ أَتَى بِالسُّورَةِ فِي الْبَاقِيَتَيْنِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَخْلُو صَلَاته مِنْ سُورَة.
وَأَمَّا اِخْتِلَاف قَدْر الْقِرَاءَة فِي الصَّلَوَات فَهُوَ عِنْد الْعُلَمَاء عَلَى ظَاهِره. قَالُوا: فَالسُّنَّة أَنْ يَقْرَأ فِي الصُّبْح وَالظُّهْر بِطِوَالِ الْمُفَصَّل، وَتَكُون الصُّبْح أَطْوَل، وَفِي الْعِشَاء وَالْعَصْر بِأَوْسَاطِهِ، وَفِي الْمَغْرِب بِقِصَارِهِ. قَالُوا: وَالْحِكْمَة فِي إِطَالَة الصُّبْح وَالظُّهْر أَنَّهُمَا فِي وَقْت غَفْلَة بِالنَّوْمِ آخِر اللَّيْل، وَفِي الْقَائِلَة فَيُطَوِّلهُمَا لِيُدْرِكهُمَا الْمُتَأَخِّر بِغَفْلَةٍ وَنَحْوهَا، وَالْعَصْر لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ تَفْعَل فِي وَقْت تَعِبَ أَهْل الْأَعْمَال فَخُفِّفَتْ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَغْرِب ضَيِّقَة الْوَقْت فَاحْتِيجَ إِلَى زِيَادَة تَخْفِيفهَا لِذَلِكَ وَلِحَاجَةِ النَّاس إِلَى عِشَاء صَائِمهمْ وَضَيْفهمْ، وَالْعِشَاء فِي وَقْت غَلَبَة النَّوْم وَالنُّعَاس وَلَكِنَّ وَقْتهَا وَاسِع فَأَشْبَهَتْ الْعَصْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: (وَكَانَ يُطَوِّل الرَّكْعَة الْأُولَى وَيَقْصُر الثَّانِيَة) هَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْعَمَل بِظَاهِرِهِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَشْهَرهمَا عِنْدهمْ لَا يُطَوِّل، وَالْحَدِيث مُتَأَوِّل عَلَى أَنَّهُ طُول بِدُعَاءِ الِافْتِتَاح وَالتَّعَوُّذ، أَوْ لِسَمَاعِ دُخُول دَاخِل فِي الصَّلَاة وَنَحْوه لَا فِي الْقِرَاءَة، وَالثَّانِي أَنَّهُ يُسْتَحَبّ تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الْأُولَى قَصْدًا هَذَا وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الْمُوَافِق لِظَاهِرِ السُّنَّة، وَمَنْ قَالَ بِقِرَاءَةِ السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَخَفّ مِنْهَا فِي الْأُولَيَيْنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي تَطْوِيل الثَّالِثَة عَلَى الرَّابِعَة إِذَا قُلْنَا بِتَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَة، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث كُلّهَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لابد مِنْ قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي جَمِيع الرَّكَعَات، وَلَمْ يُوجِب أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ الْقِرَاءَة بَلْ خَيَّرَهُ بَيْن الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح وَالسُّكُوت، وَالْجُمْهُور عَلَى وُجُوب الْقِرَاءَة، وَهُوَ الصَّوَاب الْمُوَافِق لِلسُّنَنِ الصَّحِيحَة.
وَقَوْله: (وَكَانَ يُسْمِعنَا الْآيَة أَحْيَانًا) هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَيَان جَوَاز الْجَهْر فِي الْقِرَاءَة السِّرِّيَّةِ. وَأَنَّ الْإِسْرَار لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاة بَلْ هُوَ سُنَّة، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْجَهْر بِالْآيَةِ كَانَ يَحْصُل بِسَبْقِ اللِّسَان لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي التَّدَبُّر. وَاَللَّه أَعْلَم.
687- قَوْله: (أَخْبَرَنَا هُشَيْم عَنْ مَنْصُور عَنْ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ أَبِي الصِّدِّيق عَنْ أَبِي سَعِيد) أَمَّا مَنْصُور فَهُوَ اِبْن الْمُعْتَمِر، وَأَمَّا الْوَلِيد بْن مُسْلِم فَلَيْسَ هُوَ الْوَلِيد بْن مُسْلِم الدِّمَشْقِيّ أَبَا الْعَبَّاس الْأُمَوِيّ مَوْلَاهُمْ الْإِمَام الْجَلِيل الْمَشْهُور الْمُتَأَخِّر صَاحِب الْأَوْزَاعِيِّ، بَلْ هُوَ الْوَلِيد بْن مُسْلِم الْعَنْبَرِيّ الْبَصْرِيّ أَبُو بِشْر التَّابِعِيّ، وَأَنَّ اِسْم أَبِي الصِّدِّيق بَكْر بْن عَمْرو وَقِيلَ اِبْن قَيْس النَّاجِيّ مَنْسُوب إِلَى نَاجِيَة قَبِيلَة.
قَوْله: (كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامه) هُوَ بِضَمِّ الزَّاي وَكَسْرهَا لُغَتَانِ.
قَوْله: (وَالْأُولَيَيْنِ وَالْأُخْرَيَيْنِ) هُوَ بِيَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ تَحْت.
قَوْله: (فَحَزَرْنَا قِيَامه قَدْر الم تَنْزِيل السَّجْدَة) يَجُوز جَرُّ السَّجْدَة عَلَى الْبَدَل وَنَصْبهَا بِأَعْنِي وَرَفْعهَا خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف. قَوْله: (عَلَى قَدْر قِيَامه مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ) كَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول (مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ)، وَفِي بَعْضهَا (فِي الْأُخْرَيَيْنِ)، وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَة (مِنْ).
689- قَوْله: (إِنَّ أَهْل الْكُوفَة شَكَوْا سَعْدًا) هُوَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالْكُوفَة هِيَ الْبَلْدَة الْمَعْرُوفَة وَدَار الْفَضْل وَمَحِلّ الْفُضَلَاء بَنَاهَا عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، أَعْنِي أَمَرَ نُوَّابه بِبِنَائِهَا هِيَ وَالْبَصْرَة، قِيلَ: سُمِّيَتْ كُوفَة لِاسْتِدَارَتِهَا تَقُول الْعَرَب: رَأَيْت كُوفًا وَكُوفَانًا لِلرَّمْلِ الْمُسْتَدِير، وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ النَّاس فيها تَقُول الْعَرَب: تَكَوَّفَ الرَّمْل إِذَا اِسْتَدَارَ وَرَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ تُرَابهَا خَالَطَهُ حَصًى، وَكُلّ مَا كَانَ كَذَلِكَ سُمِّيَ كُوفَة.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْحَازِمِيّ وَغَيْره: وَيُقَال لِلْكُوفَةِ أَيْضًا كُوفَان بِضَمِّ الْكَاف.
قَوْله: (فَذَكَرُوا مِنْ صَلَاته) أَيْ أَنَّهُ لَا يُحْسِن الصَّلَاة.
قَوْله: (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) فيه أَنَّ الْإِمَام إِذَا شَكَى إِلَيْهِ نَائِبه بَعَثَ إِلَيْهِ وَاسْتَفْسَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا خَافَ مَفْسَدَة بِاسْتِمْرَارِهِ فِي وِلَايَته وَوُقُوع فِتْنَة عَزْله، فَلِهَذَا عَزَلَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فيه خَلَل، وَلَمْ يَثْبُت مَا يَقْدَح فِي وِلَايَته وَأَهْلِيَّته، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي حَدِيث مَقْتَل عُمَر وَالشُّورَى أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: إِنْ أَصَابَتْ الْإِمَارَة سَعْدًا فَذَاكَ وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيّكُمْ مَا أُمِرَ فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلهُ مِنْ عَجْز وَلَا خِيَانَة.
قَوْله: (لَا أَخْرِم عَنْهَا) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء أَيْ لَا أَنْقُص.
قَوْله: (إِنِّي لَأَرْكُد بِهِمْ فِي الْأُولَيَيْنِ) يَعْنِي أُطَوِّلهُمَا وَأُدِيمهُمَا وَأُمِدّهُمَا كَمَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى مِنْ قَوْلهمْ: رَكَدَتْ السُّفُن وَالرِّيح وَالْمَاء إِذَا سَكَنَ وَمَكَثَ.
وَقَوْله: (وَأَحْذِف فِي الْأُخْرَيَيْنِ) يَعْنِي أُقْصِرهُمَا عَنْ الْأُولَيَيْنِ لَا أَنَّهُ يُخِلّهُ بِالْقِرَاءَةِ وَيَحْذِفهَا كُلّهَا.
قَوْله: (ذَاكَ الظَّنّ بِك أَبَا إِسْحَاق) فيه مَدْح الرَّجُل الْجَلِيل فِي وَجْهه إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَة بِإِعْجَابٍ وَنَحْوه، وَالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْفِتْنَة، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الصَّحِيح بِالْأَمْرَيْنِ، وَجَمَعَ الْعُلَمَاء بَيْنهمَا بِمَا ذَكَرْته وَقَدْ أَوْضَحْتهُمَا فِي كِتَاب الْأَذْكَار، وَفيه خِطَاب الرَّجُل الْجَلِيل بِكُنْيَتِهِ دُون اِسْمه.
690- قَوْله: (وَمَا آلُو مَا اِقْتَدَيْت بِهِ مِنْ صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (آلُو) بِالْمَدِّ فِي أَوَّله وَضَمِّ اللَّام أَيْ لَا أُقْصِر فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أَيْ لَا يُقْصِرُونَ فِي إِفْسَادكُمْ.
691- قَوْله: (حَدَّثَنَا الْوَلِيد) يَعْنِي اِبْن مُسْلِم هُوَ صَاحِب الْأَوْزَاعِيِّ.
قَوْله: (عَنْ قَزَعَة) هُوَ بِفَتْحِ الزَّاي وَإِسْكَانهَا.
692- قَوْله: (وَهُوَ مَكْثُور عَلَيْهِ) أَيْ عِنْده نَاس كَثِيرُونَ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ.
قَوْله: (أَسْأَلك عَنْ صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لَك فِي ذَلِكَ مِنْ خَيْر) مَعْنَاهُ إِنَّك لَا تَسْتَطِيع الْإِتْيَان بِمِثْلِهَا لِطُولِهَا وَكَمَال خُشُوعهَا وَإِنْ تَكَلَّفْت ذَلِكَ شُقَّ عَلَيْك وَلَمْ تُحَصِّلهُ فَتَكُون قَدْ عَلِمْت السُّنَّة وَتَرَكْتهَا.

.باب الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ:

693- قَوْله: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة بْن سُفْيَان وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَعَبْد اللَّه بْن الْمُسَيِّب الْعَابِدِيّ) قَالَ الْحُفَّاظ: قَوْله: اِبْن الْعَاصِ غَلَط، وَالصَّوَاب حَذْفه، وَلَيْسَ هَذَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ الصَّحَابِيّ، بَلْ هُوَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو الْحِجَازِيّ كَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَابْن أَبِي حَاتِم وَخَلَائِق مِنْ الْحُفَّاظ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
وَأَمَّا أَبُو سَلَمَة هَذَا فَهُوَ أَبُو سَلَمَة بْن سُفْيَان بْن عَبْد الْأَشْهَل الْمَخْزُومِيّ ذَكَرَهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد فِيمَنْ لَا يُعْرَف اِسْمه.
وَأَمَّا (الْعَابِدِيّ) فَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة.
قَوْله: (أَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَة) هِيَ بِفَتْحِ السِّين، وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز قَطْع الْقِرَاءَة، وَالْقِرَاءَة بِبَعْضِ السُّورَة، وَهَذَا جَائِز بِلَا خِلَاف وَلَا كَرَاهَة فيه إِنْ كَانَ الْقَطْع لِعُذْرٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر فَلَا كَرَاهَة فيه أَيْضًا وَلَكِنَّهُ خِلَاف الْأَوْلَى، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَبِهِ قَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي رِوَايَة عَنْهُ، وَالْمَشْهُور عَنْهُ كَرَاهَته.
694- قَوْله: (حَدَّثَنِي الْوَلِيد بْن سَرِيع) هُوَ بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر الرَّاء.
قَوْله: «سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ فِي الْفَجْر: {وَاللَّيْل إِذَا عَسْعَسَ}» أَيْ يَقْرَأ بِالسُّورَةِ الَّتِي فيها: {وَاللَّيْل إِذَا عَسْعَسَ} قَالَ جُمْهُور أَهْل اللُّغَة: مَعْنَى عَسْعَسَ اللَّيْل أَدْبَرَ، كَذَا نَقَلَهُ صَاحِب الْمُحْكَم عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَنَقَلَ الْفَرَّاء إِجْمَاع الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ، قَالَ: قَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَقْبَلَ: وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مِنْ الْأَضْدَاد يُقَال: إِذَا أَقْبَلَ، وَإِذَا أَدْبَرَ.
695- قَوْله (زِيَاد بْن عِلَاقَة) هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن، و(قُطْبَة بْن مَالِك) بِضَمِّ الْقَاف وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَهُوَ عَمّ زِيَاد.
وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالنَّخْل بَاسِقَات} أَيْ طَوِيلَات قَوْله تَعَالَى: {لَهَا طَلْع نَضِيد} قَالَ أَهْل اللُّغَة وَالْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ مَنْضُود مُتَرَاكِب بَعْضه فَوْق بَعْض، قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: هَذَا قَبْل أَنْ يَنْشَقّ فَإِذَا اِنْشَقَّ كِمَامه وَتَفَرَّقَ فَلَيْسَ هُوَ بَعْد ذَلِكَ بِنَضِيدٍ.
702- قَوْله: (عَنْ أَبِي الْمِنْهَال عَنْ أَبِي بَرْزَة) اِسْم أَبِي الْمِنْهَال سَيَّار بْن سَلَامَة الرِّيَاحِيّ، وَأَبُو بَرْزَة نَضْلَة عَنْ عُبَيْدَة الْأَسْلَمِيّ.

.باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ:

709- فيه حَدِيث جَابِر: «إِنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمّ قَوْمه، فَصَلَّى لَيْلَة مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاء، ثُمَّ أَتَى قَوْمه فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَة، فَانْحَرَفَ رَجُل فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْده وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا أَنَافَقْت؟» إِلَى آخِره فِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز صَلَاة الْمُفْتَرِض خَلْف الْمُتَنَفِّل لِأَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي الْفَرِيضَة مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْقُط فَرْضه، ثُمَّ يُصَلِّي مَرَّة ثَانِيَة بِقَوْمِهِ هِيَ لَهُ تَطَوُّع لَهُمْ فَرِيضَة، وَقَدْ جَاءَ هَكَذَا مُصَرَّحًا بِهِ فِي غَيْر مُسْلِم، وَهَذَا جَائِز عِنْد الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَآخَرِينَ، وَلَمْ يُجْزِهِ رَبِيعَة وَمَالِك، وَأَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيث مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفُّلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَدِيث مُعَاذ كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر ثُمَّ نُسِخَ، وَكُلّ هَذِهِ التَّأْوِيلَات دَعَاوَى لَا أَصْل لَهَا فَلَا يُتْرَك ظَاهِر الْحَدِيث بِهَا. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يَجُوز لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْطَع الْقُدْوَة وَيُتِمّ صَلَاته مُنْفَرِدًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُج مِنْهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهَا أَنَّهُ يَجُوز لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْر، وَالثَّانِي لَا يَجُوز مُطْلَقًا، وَالثَّالِث يَجُوز لِعُذْرٍ وَلَا يَجُوز لِغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْعُذْر هُوَ مَا يَسْقُط بِهِ عَنْهُ الْجَمَاعَة اِبْتِدَاء وَيُعْذَر فِي التَّخَلُّف عَنْهَا بِسَبَبِهِ، وَتَطْوِيل الْقِرَاءَة عُذْر عَلَى الْأَصَحّ لِقِصَّةِ مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ فَارَقَهُ وَبَنَى عَلَى صَلَاته، بَلْ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى أَنَّهُ سَلَّمَ وَقَطَعَ الصَّلَاة مِنْ أَصْلهَا، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَهَا، وَهَذَا لَا دَلِيل فيه لِلْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَة، وَإِنَّمَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز قَطْع الصَّلَاة وَإِبْطَالهَا لِعُذْرٍ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَة) فيه جَوَاز قَوْل سُورَة الْبَقَرَة وَسُورَة النِّسَاء وَسُورَة الْمَائِدَة وَنَحْوهَا وَمَنَعَهُ بَعْض السَّلَف وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَال إِلَّا السُّورَة الَّتِي يَذْكُر فيها الْبَقَرَة وَنَحْو هَذَا، وَهَذَا خَطَأ صَرِيح، وَالصَّوَاب جَوَازه، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيح فِي أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْ كَلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَام الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرهمْ، وَيُقَال: سُورَة بِلَا هَمْزَة وَبِالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ ذَكَرَهُمَا اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره، وَتَرْك الْهَمْزَة هُنَا هُوَ الْمَشْهُور الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآن الْعَزِيز، وَيُقَال: قَرَأْت السُّورَة، وَقَرَأْت بِالسُّورَةِ، وَافْتَتَحْتهَا، وَافْتَتَحْت بِهَا.
قَوْله: (إِنَّا أَصْحَاب نَوَاضِح) هِيَ الْإِبِل الَّتِي يَسْتَقِي عَلَيْهَا جَمْع نَاضِح، وَأَرَادَ إِنَّا أَصْحَاب عَمَل وَتَعَب، فَلَا نَسْتَطِيع تَطْوِيل الصَّلَاة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَتَّان أَنْتَ يَا مُعَاذ» أَيْ مُنَفِّر عَنْ الدِّين وَصَادّ عَنْهُ. فَفيه الْإِنْكَار عَلَى مَنْ اِرْتَكَبَ مَا يُنْهَى عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا غَيْر مُحَرَّم. وَفيه جَوَاز الِاكْتِفَاء فِي التَّعْزِير بِالْكَلَامِ. وَفيه الْأَمْر بِتَخْفِيفِ الصَّلَاة وَالتَّعْزِير عَلَى إِطَالَتهَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْمَأْمُومُونَ.
711- قَوْله: عَنْ جَابِر: «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاء الْآخِرَة» فيه جَوَاز قَوْل عِشَاء الْآخِرَة وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا بَيَانه وَقَوْل الْأَصْمَعِيّ بِإِنْكَارِهِ وَإِبْطَال قَوْله. وَاَللَّه أَعْلَم.
712- قَوْله: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَة بْن سَعِيد وَأَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيّ قَالَ أَبُو الرَّبِيع: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَيُّوب عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) قَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ: قُتَيْبَة يَقُول فِي حَدِيثه: عَنْ حَمَّاد عَنْ عَمْرو وَلَمْ يَذْكُر فيه أَيُّوب وَكَانَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُبَيِّنهُ وَكَأَنَّهُ أَهْمَلَهُ لِكَوْنِهِ جَعَلَ الرِّوَايَة مَسُوقَة عَنْ أَبِي الرَّبِيع وَحْده. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب أَمْرِ الأَئِمَّةِ بِتَخْفِيفِ الصَّلاَةِ فِي تَمَامٍ:

713- قَوْله: «إِنِّي لَأَتَأَخَّر عَنْ صَلَاة الصُّبْح مِنْ أَجْل فُلَان مِمَّا يُطِيل بِنَا» فيه جَوَاز التَّأَخُّر عَنْ صَلَاة الْجَمَاعَة إِذَا عُلِمَ مِنْ عَادَة الْإِمَام التَّطْوِيل الْكَثِير، وَفيه جَوَاز ذِكْر الْإِنْسَان بِهَذَا وَنَحْوه فِي مَعْرِض الشَّكْوَى وَالِاسْتِفْتَاء.
قَوْله: «فَمَا رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ فِي مَوْعِظَة قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمئِذٍ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النَّاس إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ» الْحَدِيث فيه الْغَضَب لِمَا يُنْكَر مِنْ أُمُور الدِّين وَالْغَضَب فِي الْمَوْعِظَة.
714- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَمَّ أَحَدكُمْ النَّاس فَلْيُخَفِّف فَإِنَّ فيهمْ الصَّغِير وَالْكَبِير وَالضَّعِيف وَالْمَرِيض وَإِذَا صَلَّى وَحْده فَلْيُصَلِّ كَيْف شَاءَ» وَفِي رِوَايَة (وَذَا الْحَاجَة).
مَعْنَى أَحَادِيث الْبَاب ظَاهِر، وَهُوَ الْأَمْر لِلْإِمَامِ بِتَخْفِيفِ الصَّلَاة بِحَيْثُ لَا يُخِلّ بِسُنَّتِهَا وَمَقَاصِدهَا، وَأَنَّهُ إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ طَوَّلَ مَا شَاءَ فِي الْأَرْكَان الَّتِي تَحْتَمِل التَّطْوِيل وَهِيَ الْقِيَام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَالتَّشَهُّد دُون الِاعْتِدَال وَالْجُلُوس بَيْن السَّجْدَتَيْنِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
717- قَوْله: عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أُمَّ قَوْمك قَالَ: قُلْت يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَجِد فِي نَفْسِي شَيْئًا فَقَالَ: اُدْنُهُ فَجَلَّسَنِي بَيْن يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفّه فِي صَدْرِي بَيْن ثَدْيَيَّ ثُمَّ قَالَ: تَحَوَّلْ فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْن كَتِفَيَّ ثُمَّ قَالَ: أُمَّ قَوْمك» قَوْله (ثَدْيَيَّ وَكَتِفَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاء عَلَى التَّثْنِيَة، وَفيه إِطْلَاق اِسْم الثَّدْي عَلَى حَلَمَة الرَّجُل، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان، وَقَوْله: (جَلَّسَنِي) هُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّام، وَقَوْله: (أَجِد فِي نَفْسِي شَيْئًا) قِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ الْخَوْف مِنْ حُصُول شَيْء مِنْ الْكِبْر وَالْإِعْجَاب لَهُ بِتَقَدُّمِهِ عَلَى النَّاس فَأَذْهَبَهُ اللَّه تَعَالَى بِبَرَكَةِ كَفِّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ الْوَسْوَسَة فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ كَانَ مُوَسْوِسًا وَلَا يَصْلُح لِلْإِمَامَةِ الْمُوَسْوِس، فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي الصَّحِيح بَعْد هَذَا عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ هَذَا قَالَ: قُلْت: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ الشَّيْطَان قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْن صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يُلَبِّسهَا عَلَيَّ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ شَيْطَان يُقَال لَهُ: خِنْزَب فَإِذَا أَحْسَسْته فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارك ثَلَاثًا» فَفَعَلْت ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّه تَعَالَى عَنِّي.
723- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مِنْهَال حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَدْخُل فِي الصَّلَاة أُرِيد إِطَالَتهَا فَأَسْمَع بُكَاء الصَّبِيّ فَأُخَفِّف مِنْ شِدَّة وَجْد أُمّه بِهِ» الْوَجْد يُطْلَق عَلَى الْحُزْن وَعَلَى الْحُبّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا سَائِغ هُنَا، وَالْحُزْن أَظْهَر أَيْ مِنْ حُزْنهَا وَاشْتِغَال قَلْبهَا بِهِ، وَفيه دَلِيل عَلَى الرِّفْق بِالْمَأْمُومِينَ وَسَائِر الْأَتْبَاع وَمُرَاعَاة مَصْلَحَتهمْ، وَأَلَّا يَدْخُل عَلَيْهِمْ مَا يَشُقّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا مِنْ غَيْر ضَرُورَة. وَفيه جَوَاز صَلَاة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال فِي الْمَسْجِد، وَأَنَّ الصَّبِيّ يَجُوز إِدْخَاله الْمَسْجِد وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَنْزِيه الْمَسْجِد عَمَّنْ لَا يُؤْمَن مِنْهُ حَدَث.

.باب اعْتِدَالِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ وَتَخْفِيفِهَا فِي تَمَامٍ:

724- قَوْله: (حَدَّثَنَا حَامِد بْن عُمَر الْبَكْرَاوِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء مَنْسُوب إِلَى جَدّه الْأَعْلَى أَبِي بَكْرَة الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مِرَارًا.
قَوْله: «رَمَقْت الصَّلَاة مَعَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت قِيَامه فَرَكْعَته فَاعْتِدَاله بَعْد رُكُوعه فَسَجْدَته فَجَلْسَته بَيْن السَّجْدَتَيْنِ فَجَلْسَته مَا بَيْن التَّسْلِيم وَالِانْصِرَاف قَرِيبًا مِنْ السَّوَاء» فيه دَلِيل عَلَى تَخْفِيف الْقِرَاءَة وَالتَّشَهُّد وَإِطَالَة الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَفِي الِاعْتِدَال عَنْ الرُّكُوع وَعَنْ السُّجُود، وَنَحْو هَذَا قَوْل أَنَس فِي الْحَدِيث الثَّانِي بَعْده: مَا صَلَّيْت خَلْف أَحَد أَوْجَزَ صَلَاة مِنْ صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَام وَقَوْله: قَرِيبًا مِنْ السَّوَاء يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَعْضهَا كَانَ فيه طُول يَسِير عَلَى بَعْض، وَذَلِكَ فِي الْقِيَام، وَلَعَلَّهُ أَيْضًا فِي التَّشَهُّد، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى بَعْض الْأَحْوَال وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث السَّابِقَة بِتَطْوِيلِ الْقِيَام وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ فِي الصُّبْح بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَة، وَفِي الظُّهْر بِـ: {الم تَنْزِيل} السَّجْدَة، وَأَنَّهُ كَانَ تُقَام الصَّلَاة فَيَذْهَب الذَّاهِب إِلَى الْبَقِيع فَيَقْضِي حَاجَته ثُمَّ يَرْجِع فَيَتَوَضَّأ ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِد فَيُدْرِك الرَّكْعَة الْأُولَى، وَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَة الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى بَلَغَ ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِب بِالطُّورِ وَبِالْمُرْسَلَاتِ، وَفِي الْبُخَارِيّ بِالْأَعْرَافِ وَأَشْبَاه هَذَا، وَكُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ فِي إِطَالَة الْقِيَام أَحْوَال بِحَسَبِ الْأَوْقَات وَهَذَا الْحَدِيث الَّذِي نَحْنُ فيه جَرَى فِي بَعْض الْأَوْقَات، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَلَمْ يَذْكُر فيه الْقِيَام، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ مَا خَلَا الْقِيَام وَالْقُعُود، وَهَذَا تَفْسِير الرِّوَايَة الْأُخْرَى. وَقَوْله: (فَجَلْسَته مَا بَيْن التَّسْلِيم وَالِانْصِرَاف) دَلِيل عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِس بَعْد التَّسْلِيم شَيْئًا يَسِيرًا فِي مُصَلَّاهُ.
725- قَوْله: (غَلَبَ عَلَى الْكُوفَة رَجُل فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَة أَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) وَهَذَا الرَّجُل هُوَ مَطَر بْن نَاجِيَة كَمَا سَمَّاهُ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَأَبُو عُبَيْدَة هُوَ اِبْن عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.

.باب مُتَابَعَةِ الإِمَامِ وَالْعَمَلِ بَعْدَهُ:

728- قَوْله: عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاء وَهُوَ غَيْر كَذُوب، «أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسه مِنْ الرُّكُوع لَمْ أَرَ أَحَدًا يَحْنِي ظَهْره حَتَّى يَضَع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَبْهَته عَلَى الْأَرْض ثُمَّ يَخِرّ مَنْ وَرَاءَهُ سُجَّدًا» قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: الْقَائِل: (وَهُوَ غَيْر كَذُوب) هُوَ أَبُو إِسْحَاق قَالَ: وَمُرَاده أَنَّ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد، غَيْر كَذُوب وَلَيْسَ الْمُرَاد الْبَرَاء غَيْر كَذُوب، لِأَنَّ الْبَرَاء صَحَابِيّ لَا يَحْتَاج إِلَى تَزْكِيَة، وَلَا يَحْسُن فيه هَذَا الْقَوْل. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن مَعِين خَطَأ عِنْد الْعُلَمَاء، بَلْ الصَّوَاب أَنَّ الْقَائِل (وَهُوَ غَيْر كَذُوب) هُوَ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد، وَمُرَاده أَنَّ الْبَرَاء غَيْر كَذُوب، وَمَعْنَاهُ تَقْوِيَة الْحَدِيث وَتَفْخِيمه وَالْمُبَالَغَة فِي تَمْكِينه مِنْ النَّفْس لَا التَّزْكِيَة الَّتِي تَكُون فِي مَشْكُوك فيه، وَنَظِيره قَوْل اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِق الْمَصْدُوق، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْله، وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيِّ حَدَّثَنِي الْحَبِيب الْأَمِين عَوْف بْن مَالِك الْأَشْجَعِيّ، وَنَظَائِره كَثِيرَة، فَمَعْنَى الْكَلَام حَدَّثَنِي الْبَرَاء وَهُوَ غَيْر مُتَّهَم كَمَا عَلِمْتُمْ فَثِقُوا بِمَا أُخْبِركُمْ عَنْهُ. قَالُوا: وَقَوْل اِبْن مَعِين أَنَّ الْبَرَاء صَحَابِيّ فَيُنَزَّه عَنْ هَذَا الْكَلَام لَا وَجْه لَهُ لِأَنَّ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد صَحَابِيّ أَيْضًا مَعْدُود فِي الصَّحَابَة، وَفِي هَذَا الْحَدِيث هَذَا الْأَدَب مِنْ آدَاب الصَّلَاة وَهُوَ أَنَّ السُّنَّة أَلَّا يَنْحَنِي الْمَأْمُوم لِلسُّجُودِ حَتَّى يَضَع الْإِمَام جَبْهَته عَلَى الْأَرْض إِلَّا أَنْ يَعْلَم مَنْ حَاله أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ إِلَى هَذَا الْحَدّ لَرَفَعَ الْإِمَام مِنْ السُّجُود قَبْل سُجُوده.
قَالَ أَصْحَابنَا رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى: فِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْر مَا يَقْتَضِي مَجْمُوعه أَنَّ السُّنَّة لِلْمَأْمُومِ التَّأَخُّر عَنْ الْإِمَام قَلِيلًا بِحَيْثُ يَشْرَع فِي الرُّكْن بَعْد شُرُوعه وَقَبْل فَرَاغه مِنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
731- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبَان وَغَيْره عَنْ الْحَكَم عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى عَنْ الْبَرَاء) هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ فيه الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: الْحَدِيث مَحْفُوظ لِعَبْدِ اللَّه بْن يَزِيد عَنْ الْبَرَاء، وَلَمْ يَقُلْ أَحَد عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى غَيْر أَبَان بْن تَغْلِب عَنْ الْحَكَم وَقَدْ خَالَفَهُ اِبْن عَرْعَرَةَ فَقَالَ: عَنْ الْحَكَم عَنْ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد عَنْ الْبَرَاء وَغَيْر أَبَان أَحْفَظ مِنْهُ. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ وَهَذَا الِاعْتِرَاض لَا يُقْبَل، بَلْ أَبَان ثِقَة نَقَلَ شَيْئًا فَوَجَبَ قَبُوله وَلَمْ يَتَحَقَّق كَذِبه وَغَلَطه، وَلَا اِمْتِنَاع فِي أَنْ يَكُون مَرْوِيًّا عَنْ اِبْن يَزِيد وَابْن أَبِي لَيْلَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «لَا يَحْنُوا أَحَد مِنَّا ظَهْره حَتَّى يَرَاهُ قَدْ سَجَدَ» هَكَذَا هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْأَخِيرَة مِنْ رِوَايَات الْبَرَاء (يَحْنُو) بِالْوَاوِ وَبَاقِي رِوَايَاته وَرِوَايَة عَمْرو بْن حُرَيْث بَعْدهَا كُلّهَا بِالْيَاءِ وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فَهُمَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره (حَنَيْت وَحَنَوْت) لَكِنْ الْيَاء أَكْثَر، وَمَعْنَاهُ عَطَفْته، وَمِثْله حَنَيْت الْعُود وَحَنَوْته عَطَفْته.
732- قَوْله: (عَنْ الْوَلِيد بْن سَرِيع) هُوَ بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَكَسْر الرَّاء. قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِم بِالْخُنَّسِ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْل اللُّغَة: هِيَ النُّجُوم الْخَمْسَة: وَهِيَ الْمُشْتَرَى وَعُطَارِد وَالزُّهْرَة وَالْمِرِّيخ وَزُحَل هَكَذَا قَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَفِي رِوَايَة عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَعَنْ الْحَسَن هِيَ كُلّ النُّجُوم، وَقِيلَ: غَيْر ذَلِكَ. وَالْخُنَّس الَّتِي تَخْنِس أَيْ تَرْجِع فِي مَجْرَاهَا، وَالْكُنَّس الَّتِي تَكْنِس أَيْ تَدْخُل كُنَاسهَا أَيْ تَغِيب فِي الْمَوَاضِع الَّتِي تَغِيب فيها، وَالْكُنَّس جَمْع كَانِس. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب مَا يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ:

733- قَوْله: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة وَوَكِيع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن عَنْ اِبْن أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ ظَهْره مِنْ الرُّكُوع قَالَ: سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبّنَا لَك الْحَمْد مِلْء السَّمَاوَات وَمِلْء الْأَرْض وَمِلْء مَا شِئْت مِنْ شَيْء بَعْد» هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ، و(مِلْء) هُوَ بِنَصْبِ الْهَمْزَة وَرَفْعهَا وَالنَّصْب أَشْهَر، وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ اِبْن خَالَوَيْهِ وَرَجَّحَهُ وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَال لَهُ، وَجَوَاز الرَّفْع عَلَى أَنَّهُ مَرْجُوح وَحُكِيَ عَنْ الزَّجَّاج أَنْ يَتَعَيَّن الرَّفْع وَلَا يَجُوز غَيْره، وَبَالَغَ فِي إِنْكَار النَّصْب، وَقَدْ ذَكَرْت كُلّ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ مُخْتَصَرًا فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ حَمْدًا لَوْ كَانَ أَجْسَامًا لَمَلَأَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا اِسْتِحْبَاب هَذَا الذِّكْر، وَمِنْهَا وُجُوب الِاعْتِدَال وُجُوب الطُّمَأْنِينَة فيه، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِكُلِّ مُصَلٍّ مِنْ إِمَام وَمَأْمُوم وَمُنْفَرِد أَنْ يَقُول: سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا لَك الْحَمْد، وَيَجْمَع بَيْنهمَا فَيَكُون قَوْله سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ فِي حَال اِرْتِفَاعه، وَقَوْله رَبّنَا لَك الْحَمْد فِي اِعْتِدَاله لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا لَك الْحَمْد» قَالَ الْعُلَمَاء مَعْنَى (سَمِعَ) هُنَا أَجَابَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّه تَعَالَى مُتَعَرِّضًا لِثَوَابِهِ اِسْتِحْبَاب اللَّه تَعَالَى وَأَعْطَاهُ مَا تَعَرَّضَ لَهُ فَإِنَّا نَقُول رَبّنَا لَك الْحَمْد لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ.
735- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ مَجْزَأَة بْن زَاهِر) هُوَ بِمِيمٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ جِيم سَاكِنَة ثُمَّ زَاي ثُمَّ هَمْزَة تُكْتَب أَلِفًا ثُمَّ هَاء، وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع فيه كَسْر الْمِيم أَيْضًا وَرَجَّحَ الْفَتْح، وَحُكِيَ أَيْضًا تَرْك الْهَمْز فيه قَالَ: وَقَالَهُ الْحَيَّانِيّ بِالْهَمْزِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَد وَمَاء الْبَارِد» اِسْتِعَارَة لِلْمُبَالَغَةِ فِي الطَّهَارَة مِنْ الذُّنُوب وَغَيْرهَا، وَقَوْله: «مَاء الْبَارِد» هُوَ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته كَقَوْله تَعَالَى: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ}، وَقَوْلهمْ مَسْجِد الْجَامِع، وَفيه الْمَذْهَبَانِ السَّابِقَانِ مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ جَائِز عَلَى ظَاهِره، وَمَذْهَب الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ تَقْدِيره مَاء الطَّهُور الْبَارِد، وَجَانِب الْمَكَان الْغَرْبِيّ، وَمَسْجِد الْمَوْضِع الْجَامِع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا» يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْجَمْع بَيْنهمَا كَمَا قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِب خَطِيئَة أَوْ إِثْمًا} قَالَ: الْخَطِيئَة الْمَعْصِيَة بَيْن الْعَبْد وَبَيْن اللَّه تَعَالَى، وَالْإِثْم بَيْنه وَبَيْن الْآدَمِيّ.
قَوْله: «كَمَا يُنَقَّى الثَّوْب الْأَبْيَض مِنْ الْوَسَخ» وَفِي رِوَايَة مِنْ الدَّرَن وَفِي رِوَايَة مِنْ الدَّنَس كُلّه بِمَعْنًى وَاحِد، وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي طَهَارَة كَامِلَة مُعْتَنًى بِهَا كَمَا يُعْتَنَى بِتَنْقِيَةِ الثَّوْب الْأَبْيَض مِنْ الْوَسَخ.
736- قَوْله: «أَهْلَ الثَّنَاء وَالْمَجْد أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد، وَكُلّنَا لَك عَبْد، لَا مَانِع لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَع ذَا الْجَدّ مِنْك الْجَدّ» أَمَّا قَوْله: (أَهْل) فَمَنْصُوب عَلَى النِّدَاء هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَجَوَّزَ بَعْضهمْ رَفْعه عَلَى تَقْدِير أَنْتَ أَهْل الثَّنَاء، وَالْمُخْتَار النَّصْب، وَالثَّنَاء وَالْوَصْف الْجَمِيل وَالْمَدْح، وَالْمَجْد الْعَظَمَة وَنِهَايَة الشَّرَف، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة فِي مُسْلِم وَغَيْره، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان: «أَهْل الثَّنَاء وَالْحَمْد» وَلَهُ وَجْه، وَلَكِنَّ الصَّحِيح الْمَشْهُور الْأَوَّل.
وَقَوْله: «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد وَكُلّنَا لَك عَبْد» هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِم وَغَيْره (أَحَقُّ) بِالْأَلِفِ، (وَكُلّنَا) بِالْوَاوِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كُتُب الْفِقْه حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد كُلّنَا بِحَذْفِ الْأَلِف وَالْوَاو فَغَيْر مَعْرُوف مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَة وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا، وَعَلَى الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة تَقْدِيره أَحَقُّ قَوْل الْعَبْد لَا مَانِع لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت... إِلَى آخِره وَاعْتَرَضَ بَيْنهمَا (وَكُلّنَا لَك عَبْد) وَمِثْل هَذَا الِاعْتِرَاض فِي الْقُرْآن قَوْل اللَّه تَعَالَى: {فَسُبْحَان اللَّه حِين تُمْسُونَ وَحِين تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْد فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَعَشِيًّا وَحِين تُظْهِرُونَ} اِعْتَرَضَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ الْحَمْد فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض}، وَمِثْله قَوْله تَعَالَى: {قَالَتْ رَبّ إِنِّي وَضَعْتهَا أُنْثَى وَاَللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ} عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ وَضَعَتْ بِفَتْحِ الْعَيْن وَإِسْكَان التَّاء وَنَظَائِره كَثِيرَة وَمِنْهُ قَوْله الشَّاعِر: أَلَمْ يَأْتِيك وَالْأَنْبَاء تَنْمِي بِمَا لَاقَتْ لَبُون بَنِي زِيَاد وَقَوْل الْآخَر: أَلَا هَلْ أَتَاهَا وَالْحَوَادِث جَمَّة بِأَنَّ اِمْرَأَ الْقَيْس بْن تَمْلِك يُبْقَرَا وَنَظَائِره كَثِيرَة وَإِنَّمَا يُعْتَرَض مَا يُعْتَرَض مِنْ هَذَا الْبَاب لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَارْتِبَاطه بِالْكَلَامِ السَّابِق وَتَقْدِيره هُنَا أَحَقُّ قَوْل الْعَبْد لَا مَانِع لِمَا أَعْطَيْت وَكُلّنَا لَك عَبْد فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقُولهُ.
وَقَدْ أَوْضَحْت هَذِهِ الْمَسْأَلَة بِشَوَاهِدِهَا فِي آخِر صِفَة الْوُضُوء مِنْ شَرْح الْمُهَذَّب.
وَفِي هَذَا الْكَلَام دَلِيل ظَاهِر عَلَى فَضِيلَة هَذَا اللَّفْظ فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى أَنَّ هَذَا أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْد فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظ عَلَيْهِ لِأَنَّ كُلّنَا عَبْد وَلَا نُهْمِلهُ وَإِنَّمَا كَانَ أَحَقَّ مَا قَالَهُ الْعَبْد لِمَا فيه مِنْ التَّفْوِيض إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَالْإِذْعَان لَهُ وَالِاعْتِرَاف بِوَحْدَانِيِّتِهِ، وَالتَّصْرِيح بِأَنَّهُ لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ الْخَيْر وَالشَّرّ مِنْهُ، وَالْحَثّ عَلَى الزَّهَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْإِقْبَال عَلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَقَوْله: (ذَا الْجَدّ) الْمَشْهُور فيه فَتْح الْجِيم هَكَذَا ضَبَطَهُ الْعُلَمَاء الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ: هُوَ بِالْفَتْحِ، قَالَ: وَقَالَهُ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَهَذَا خِلَاف مَا عَرَفَهُ أَهْل النَّقْل، قَالَ: وَلَا يَعْلَم مَنْ قَالَ غَيْره وَضَعَّفَ الطَّبَرِيّ وَمَنْ بَعْده الْكَسْر، قَالُوا: وَمَعْنَاهُ عَلَى ضَعْفه الِاجْتِهَاد أَيْ لَا يَنْفَع ذَا الِاجْتِهَاد مِنْك اِجْتِهَاده، إِنَّمَا يَنْفَعهُ وَيُنْجِيه رَحْمَتك، وَقِيلَ الْمُرَاد ذَا الْجَدّ وَالسَّعْي التَّامّ فِي الْحِرْص عَلَى الدُّنْيَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِسْرَاع فِي الْهَرَب أَيْ لَا يَنْفَع ذَا الْإِسْرَاع فِي الْهَرَب مِنْك هَرَبَهُ فَإِنَّهُ فِي قَبْضَتك وَسُلْطَانك، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور الْجَدّ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَظّ وَالْغِنَى وَالْعَظَمَة وَالسُّلْطَان، أَيْ لَا يَنْفَع ذَا الْحَظّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ وَالْوَلَد وَالْعَظَمَة وَالسُّلْطَان مِنْك حَظّه أَيْ لَا يُنْجِيه حَظّه مِنْك وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ وَيُنْجِيه الْعَمَل الصَّالِح، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَال وَالْبَنُونَ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات خَيْر عِنْد رَبّك} وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.