فصل: باب الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فَضِيلَةِ الْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَأَنَّ طَعَامَ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلاَثَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ:

3835- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَام الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَة، وَطَعَام الثَّلَاثَة كَافِي الْأَرْبَعَة» هَذَا فيه الْحَثّ عَلَى الْمُوَاسَاة فِي الطَّعَام، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا حَصَلَتْ مِنْهُ الْكِفَايَة الْمَقْصُودَة، وَوَقَعَتْ فيه بَرَكَهُ تَعُمّ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهِ. وَاللَّه أَعْلَم.
3836- قَوْله: «طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَام الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَة، وَطَعَام الْأَرْبَعَة يَكْفِي الثَّمَانِيَة» هَذَا فيه الْحَثّ عَلَى الْمُوَاسَاة فِي الطَّعَام، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا حَصَلَتْ مِنْهُ الْكِفَايَة الْمَقْصُودَة، وَوَقَعَتْ فيه بَرَكَهُ تَعُمّ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهِ. وَاللَّه أَعْلَم.
3837- سبق شرحه بالباب.
3838- سبق شرحه بالباب.

.باب الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ:

3839- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أَمْعَاء، وَالْمُؤْمِن يَأْكُل فِي مِعًى وَاحِد» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلَام بَعْد أَنْ أَضَافَ كَافِرًا، فَشَرِبَ حِلَاب سَبْع شِيَاه، ثُمَّ أَسْلَمَ مِنْ الْغَد، فَشَرِبَ حِلَاب شَاة، وَلَمْ يَسْتَتِمّ حِلَاب الثَّانِيَة.
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: إِنَّ هَذَا فِي رَجُل بِعَيْنِهِ، فَقِيلَ لَهُ عَلَى جِهَة التَّمْثِيل، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَاد أَنَّ الْمُؤْمِن يَقْتَصِد فِي أَكْله، وَقِيلَ: الْمُرَاد الْمُؤْمِن يُسَمِّي اللَّه تَعَالَى عِنْد طَعَامه، فَلَا يُشْرِكهُ فيه الشَّيْطَان، وَالْكَافِر لَا يُسَمِّي فَيُشَارِكهُ الشَّيْطَان فيه. وَفِي صَحِيح مُسْلِم: «إِنَّ الشَّيْطَان يَسْتَحِلّ الطَّعَام أَلَّا يُذْكَر اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ».
قَالَ أَهْل الطِّبّ: لِكُلِّ إِنْسَان سَبْعَة أَمْعَاء: الْمَعِدَة، ثُمَّ ثَلَاثَة مُتَّصِلَة بِهَا رِفَاق، ثُمَّ ثَلَاثَة غِلَاظ. فَالْكَافِر لِشَرَهِهِ وَعَدَم تَسْمِيَته لَا يَكْفيه إِلَّا مِلْؤُهَا، وَالْمُؤْمِن لِاقْتِصَادِهِ وَتَسْمِيَته يُشْبِعهُ مِلْء أَحَدهَا، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا فِي بَعْض الْمُؤْمِنِينَ وَبَعْض الْكُفَّار، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالسَّبْعَةِ سَبْع صِفَات: الْحِرْص وَالشَّرَه، وَطُول الْأَمَل، وَالطَّمَع، وَسُوء الطَّبْع، وَالْحَسَد، وَالسِّمَن.
وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْمُؤْمِنِ هُنَا تَامّ الْإِيمَان الْمُعْرِض عَنْ الشَّهَوَات الْمُقْتَصِر عَلَى سَدّ خُلَّته، وَالْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ بَعْض الْمُؤْمِنِينَ يَأْكُل فِي مِعًى وَاحِد، وَأَنَّ أَكْثَر الْكُفَّار يَأْكُلُونَ فِي سَبْعَة أَمْعَاء، وَلَا يَلْزَم أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ السَّبْعَة مِثْل مِعَى الْمُؤْمِن. وَاللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَمَقْصُود الْحَدِيث التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا، وَالْحَثّ عَلَى الزُّهْد فيها، وَالْقَنَاعَة. مَعَ أَنَّ قِلَّة الْأَكْل مِنْ مَحَاسِن أَخْلَاق الرَّجُل، وَكَثْرَة الْأَكْل بِضِدِّهِ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن عُمَر فِي الْمِسْكِين الَّذِي أَكَلَ عِنْده كَثِيرًا: لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيَّ. فَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْكُفَّار، وَمَنْ أَشْبَهَ الْكُفَّار كُرِهَتْ مُخَالَطَته لِغَيْرِ حَاجَة أَوْ ضَرُورَة، وَلِأَنَّ الْقَدْر الَّذِي يَأْكُلهُ هَذَا يُمْكِن أَنْ يَسُدّ بِهِ خُلَّة جَمَاعَة.
وَأَمَّا الرَّجُل الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب الَّذِي شَرِبَ حِلَاب سَبْع شِيَاه فَقِيلَ: هُوَ ثُمَامَة بْن أُثَال، وَقِيلَ: جَهْجَاه الْغِفَارِيُّ، وَقِيلَ: نَضْرَة بْن أَبَى نَضْرَة الْغِفَارِيُّ. وَاللَّه أَعْلَم.
3840- سبق شرحه بالباب.
3841- سبق شرحه بالباب.
3842- سبق شرحه بالباب.
3843- سبق شرحه بالباب.

.باب لاَ يَعِيبُ الطَّعَامَ:

3844- قَوْله: «مَا عَابَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ، كَانَ إِذَا اِشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ» هَذَا مِنْ آدَاب الطَّعَام الْمُتَأَكَّدَة. وَعَيْب الطَّعَام كَقَوْلِهِ: مَالِح، قَلِيل الْمِلْح، حَامِض، رَقِيق، غَلِيظ، غَيْر نَاضِج، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيث تَرْك أَكْل الضَّبّ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ عَيْب الطَّعَام إِنَّمَا هُوَ إِخْبَار بِأَنَّ هَذَا الطَّعَام الْخَاصّ لَا أَشْتَهِيه. وَذَكَرَ مُسْلِم فِي الْبَاب اِخْتِلَاف طُرُق هَذَا الْحَدِيث، فَرَوَاهُ أَوَّلًا مِنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى آلِ جَعْدَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْإِسْنَاد الثَّانِي، وَقَالَ: هُوَ مُعَلَّل.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْإِسْنَاد مِنْ الْأَحَادِيث الْمُعَلَّلَة فِي كِتَاب مُسْلِم الَّتِي بَيَّنَ مُسْلِم عِلَّتهَا كَمَا وَعَدَ فِي خُطْبَته، وَذَكَرَ الِاخْتِلَاف فيه، وَلِهَذِهِ الْعِلَّة لَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيّ حَدِيث أَبِي مُعَاوِيَة، وَلَا خَرَّجَهُ مِنْ طَرِيقه، بَلْ خَرَّجَهُ مِنْ طَرِيق آخَر، وَعَلَى كُلّ حَال فَالْمَتْن صَحِيح لَا مَطْعَن فيه. وَاللَّه أَعْلَم.
3845- سبق شرحه بالباب.

.كتاب اللباس والزينة:

.باب تَحْرِيمِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ:

3846- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَشْرَب فِي آنِيَة الْفِضَّة إِنَّمَا يُجَرْجِر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم» وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ الَّذِي يَأْكُل أَوْ يَشْرَب فِي آنِيَة الْفِضَّة وَالذَّهَب» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاء مِنْ ذَهَب أَوْ فِضَّة فَإِنَّمَا يُجَرْجِر فِي بَطْنه نَارًا مِنْ جَهَنَّم» اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَاللُّغَة وَالْغَرِيب وَغَيْرهمْ عَلَى كَسْر الْجِيم الثَّانِيَة مِنْ (يُجَرْجِر)، وَاخْتَلَفُوا فِي رَاء (النَّار) فِي الرِّوَايَة الْأُولَى، فَنَقَلُوا فيها النَّصْب وَالرَّفْع، وَهُمَا مَشْهُورَانِ فِي الرِّوَايَة، وَفِي كُتُب الشَّارِحِينَ، وَأَهْل الْغَرِيب وَاللُّغَة. وَالنَّصْب هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْأَزْهَرِيّ وَآخَرُونَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاج وَالْخَطَّابِيّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الثَّالِثَة: «يُجَرْجِر فِي جَوْفه نَارًا مِنْ جَهَنَّم» وَرَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَد أَبِي عَوَانَة الْإِسْفَرَايِنِيّ وَفِي الْجَعْدِيَّات مِنْ رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «إِنَّمَا يُجَرْجِر فِي جَوْفه نَارًا» كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: (نَارًا)، مِنْ غَيْر ذِكْر جَهَنَّم.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ، فَعَلَى رِوَايَة النَّصْب الْفَاعِل هُوَ الشَّارِب مُضْمَر فِي يُجَرْجِر، أَيْ يُلْقِيهَا فِي بَطْنه بِجَرْعٍ مُتَتَابَع يُسْمَع لَهُ جَرْجَرَة، وَهُوَ الصَّوْت لِتَرَدُّدِهِ فِي حَلْقه، وَعَلَى رِوَايَة الرَّفْع تَكُون النَّار فَاعِله، وَمَعْنَاهُ تَصْوِيت النَّار فِي بَطْنه، وَالْجَرْجَرَة هِيَ التَّصْوِيت، وَسُمِّيَ الْمَشْرُوب نَارًا لِأَنَّهُ يَئُول إِلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونهمْ نَارًا} وَأَمَّا جَهَنَّم عَافَانَا اللَّه مِنْهَا وَمِنْ كُلّ بَلَاء فَقَالَ الْوَاحِدِيّ: قَالَ يُونُس وَأَكْثَر النَّحْوِيِّينَ: هِيَ عَجَمِيَّة لَا تَنْصَرِف لِلتَّعْرِيفِ وَالْعَجَمِيَّة، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرهَا، يُقَال: بِئْر جِهْنَام إِذَا كَانَتْ عَمِيقَة الْقَعْر.
وَقَالَ بَعْض اللُّغَوِيِّينَ: مُشْتَقَّة مِنْ الْجُهُومَة، وَهِيَ الْغِلَظ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِغِلَظِ أَمْرهَا فِي الْعَذَاب. وَاللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ، فَقِيلَ: هُوَ إِخْبَار عَنْ الْكُفَّار مِنْ مُلُوك الْعَجَم وَغَيْرهمْ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ فِعْل ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَة» أَيْ هُمْ الْمُسْتَعْمِلُونَ لَهَا فِي الدُّنْيَا، وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْب الْحَرِير: «إِنَّمَا يَلْبَس هَذَا مَنْ لَا خَلَاق لَهُ فِي الْآخِرَة» أَيْ لَا نَصِيب.
قَالَ: وَقِيلَ: الْمُرَاد نَهْي الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ اِرْتَكَبَ هَذَا النَّهْي اِسْتَوْجَبَ هَذَا الْوَعِيد، وَقَدْ يَعْفُو اللَّه عَنْهُ. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالصَّوَاب أَنَّ النَّهْي يَتَنَاوَل جَمِيع مَنْ يَسْتَعْمِل إِنَاء الذَّهَب أَوْ الْفِضَّة مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّار؛ لِأَنَّ الصَّحِيح أَنَّ الْكُفَّار مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْع، وَاللَّه أَعْلَم.
وَأَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم الْأَكْل وَالشُّرْب فِي إِنَاء الذَّهَب، وَإِنَاء الْفِضَّة عَلَى الرَّجُل وَعَلَى الْمَرْأَة، وَلَمْ يُخَالِف فِي ذَلِكَ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء إِلَّا مَا حَكَاهُ أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهُ يُكْرَه، وَلَا يَحْرُم. وَحَكَوْا عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيّ تَحْرِيم الشُّرْب. وَجَوَاز الْأَكْل، وَسَائِر وُجُوه الِاسْتِعْمَال، وَهَذَانِ النَّقْلَانِ بَاطِلَانِ. أَمَّا قَوْل دَاوُدَ فَبَاطِل لِمُنَابَذَةِ صَرِيح هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي النَّهْي عَنْ الْأَكْل وَالشُّرْب جَمِيعًا وَلِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاع قَبْله قَالَ أَصْحَابنَا اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى تَحْرِيم الْأَكْل وَالشُّرْب وَسَائِر الِاسْتِعْمَال فِي إِنَاء ذَهَب أَوْ فِضَّة إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ وَقَوْل الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم فَهُمَا مَرْدُودَانِ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاع، وَهَذَا إِنَّمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ عَلَى قَوْل مَنْ يَعْتَدّ بِقَوْلِ دَاوُدَ فِي الْإِجْمَاع وَالْخِلَاف، وَإِلَّا فَالْمُحَقِّقُونَ يَقُولُونَ: لَا يُعْتَدّ بِهِ لِإِخْلَالِهِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَحَد شُرُوط الْمُجْتَهِد الَّذِي يُعْتَدّ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْل الشَّافِعِيّ الْقَدِيم فَقَالَ صَاحِب التَّقْرِيب: إِنَّ سِيَاق كَلَام الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ نَفْس الذَّهَب وَالْفِضَّة الَّذِي اُتُّخِذَ مِنْهُ الْإِنَاء لَيْسَتْ حَرَامًا، وَلِهَذَا لَمْ يَحْرُم الْحُلِيّ عَلَى الْمَرْأَة. هَذَا كَلَام صَاحِب التَّقْرِيب، وَهُوَ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابنَا، وَهُوَ أَتْقَنُهُمْ لِنَقْلِ نُصُوص الشَّافِعِيّ. وَلِأَنَّ الشَّافِعِيّ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَدِيم. وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُجْتَهِد إِذَا قَالَ قَوْلًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَا يَبْقَى قَوْلًا لَهُ، وَلَا يُنْسَب إِلَيْهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا يُذْكَر الْقَدِيم، وَيُنْسَب إِلَى الشَّافِعِيّ مَجَازًا، وَبِاسْمِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ قَوْل لَهُ الْآن. فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى تَحْرِيم اِسْتِعْمَال إِنَاء الذَّهَب وَإِنَاء الْفِضَّة فِي الْأَكْل وَالشُّرْب وَالطَّهَارَة، وَالْأَكْل بِمِلْعَقَةٍ مِنْ أَحَدهمَا، وَالتَّجَمُّر بِمِجْمَرَةٍ مِنْهُمَا، وَالْبَوْل فِي الْإِنَاء مِنْهُمَا، وَجَمِيع وُجُوه الِاسْتِعْمَال، وَمِنْهَا الْمُكْحُلَة، وَالْمِيل، وَظَرْف الْغَالِيَة، وَغَيْر ذَلِكَ، سَوَاء الْإِنَاء الصَّغِير وَالْكَبِير، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيم الرَّجُل وَالْمَرْأَة بِلَا خِلَاف، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْن الرَّجُل وَالْمَرْأَة فِي التَّحَلِّي لِمَا يُقْصَد مِنْهَا مِنْ التَّزْيِين لِلزَّوْجِ وَالسَّيِّد.
قَالَ أَصْحَابنَا وَيَحْرُم اِسْتِعْمَال مَاء الْوَرْد وَالْأَدْهَان مِنْ قَارُورَة الذَّهَب وَالْفِضَّة. قَالُوا: فَإِنْ اُبْتُلِيَ بِطَعَامٍ فِي إِنَاء ذَهَب أَوْ فِضَّة فَلْيُخْرِجْ الطَّعَام إِلَى إِنَاء آخَر مِنْ غَيْرهمَا، وَيَأْكُل مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنَاء آخَر فَلْيَجْعَلْهُ عَلَى رَغِيف إِنْ أَمْكَنَ. وَإِنْ اُبْتُلِيَ بِالدُّهْنِ فِي قَارُورَة فِضَّة فَلْيَصُبَّهُ فِي يَده الْيُسْرَى، ثُمَّ يَصُبّهُ مِنْ الْيُسْرَى فِي الْيُمْنَى، وَيَسْتَعْمِلهُ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَيَحْرُم تَزْيِين الْحَوَانِيت وَالْبُيُوت وَالْمَجَالِس بِأَوَانِي الْفِضَّة وَالذَّهَب- هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَجَوَّزَهُ بَعْض أَصْحَابنَا. قَالُوا: وَهُوَ غَلَط.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب: لَوْ تَوَضَّأَ أَوْ اِغْتَسَلَ مِنْ إِنَاء ذَهَب أَوْ فِضَّة عَصَى بِالْفِعْلِ، وَصَحَّ وُضُوءُهُ وَغُسْله. هَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا دَاوُدَ فَقَالَ: لَا يَصِحّ، وَالصَّوَاب الصِّحَّة. وَكَذَا لَوْ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ شَرِبَ عَصَى بِالْفِعْلِ، وَلَا يَكُون الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب حَرَامًا. هَذَا كُلّه فِي حَال الِاخْتِيَار.
وَأَمَّا إِذَا اِضْطَرَّ إِلَى اِسْتِعْمَال إِنَاء فَلَمْ يَجِد إِلَّا ذَهَبًا أَوْ فِضَّة فَلَهُ اِسْتِعْمَاله فِي حَال الضَّرُورَة بِلَا خِلَاف. صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابنَا. قَالُوا: كَمَا تُبَاح الْمَيْتَة فِي حَال الضَّرُورَة.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَوْ بَاعَ هَذَا الْإِنَاء صَحَّ بَيْعه؛ لِأَنَّهُ عَيْن طَاهِرَة يُمْكِن الِانْتِفَاع بِهَا بِأَنْ تُسْبَك.
وَأَمَّا اِتِّخَاذ هَذِهِ الْأَوَانِي مِنْ غَيْر اِسْتِعْمَال فَلِلشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَاب فيه خِلَاف، وَالْأَصَحّ تَحْرِيمه. وَالثَّانِي كَرَاهَته، فَإِنْ كَرِهْنَاهُ اِسْتَحَقَّ صَانِعه الْأُجْرَة، وَوَجَبَ عَلَى كَاسِره أَرْشُ النَّقْص، وَإِلَّا فَلَا.
وَأَمَّا إِنَاء الزُّجَاج النَّفِيس فَلَا يَحْرُم بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا إِنَاء الْيَاقُوت وَالزُّمُرُّد وَالْفَيْرُوزَج وَنَحْوهَا فَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا جَوَاز اِسْتِعْمَالهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
3847- سبق شرحه بالباب.

.باب تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرَّجُلِ وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ وَإِبَاحَةِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ لِلرَّجُلِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ:

3848- قَوْله: «أَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْع، أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجِنَازَة، وَتَشْمِيت الْعَاطِس، وَإِبْرَار الْقَسَم أَوْ الْمُقْسِم، وَنَصْر الْمَظْلُوم، وَإِجَابَة الدَّاعِي، وَإِفْشَاء السَّلَام. وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيم أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ شُرْب بِالْفِضَّةِ، وَعَنْ الْمَيَاثِر، وَعَنْ الْقَسِّيّ، وَعَنْ لُبْس الْحَرِير، وَالْإِسْتَبْرَق، وَالدِّيبَاج» وَفِي رِوَايَة: «وَإِنْشَاد الضَّالَّة» بَدَل: «إِبْرَار الْقَسَم أَوْ الْمُقْسِم»، وَفِي رِوَايَة: «وَرَدّ السَّلَام» بَدَل: «إِفْشَاء السَّلَام».
أَمَّا عِيَادَة الْمَرِيض فَسُنَّة بِالْإِجْمَاعِ، وَسَوَاء فيه مَنْ يَعْرِفهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفهُ، وَالْقَرِيب وَالْأَجْنَبِيّ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَوْكَد وَالْأَفْضَل مِنْهَا.
وَأَمَّا اِتِّبَاع الْجَنَائِز فَسُنَّة بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَسَوَاء فيه مَنْ يَعْرِفهُ وَقَرِيبه وَغَيْرهمَا، وَسَبَقَ إِيضَاحه فِي الْجَنَائِز.
وَأَمَّا تَشْمِيت الْعَاطِس فَهُوَ أَنْ يَقُول لَهُ: يَرْحَمك اللَّه، وَيُقَال بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَالْمُعْجَمَة، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَالَ الْأَزْهَرِيّ: قَالَ اللَّيْث: التَّشْمِيت ذِكْر اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلّ شَيْء، وَمِنْهُ قَوْله لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمك اللَّه.
وَقَالَ ثَعْلَب: يُقَال: سَمَّتَ الْعَاطِس وَشَمَّتَهُ إِذَا دَعَوْت لَهُ بِالْهُدَى، وَقَصَدَ السَّمْت الْمُسْتَقِيم.
قَالَ: وَالْأَصْل فيه السِّين الْمُهْمَلَة، فَقُلِبَتْ شِينًا مُعْجَمَة.
وَقَالَ صَاحِب الْمُحْكَم: تَسْمِيت الْعَاطِس مَعْنَاهُ هَدَاك اللَّه إِلَى السَّمْت.
قَالَ: وَذَلِكَ لِمَا فِي الْعَاطِس مِنْ الِانْزِعَاج وَالْقَلِق.
قَالَ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره: الشِّين الْمُعْجَمَة عَلَى اللُّغَتَيْنِ.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: يُقَال مِنْهُ شَمَّتَهُ، وَسَمَّتَ عَلَيْهِ إِذَا دَعَوْت لَهُ بِخَيْرِ، وَكُلّ دَاعٍ بِالْخَيْرِ فَهُوَ مُشَمِّت، وَمُسَمِّت. وَتَسْمِيت الْعَاطِس سُنَّة، وَهُوَ سُنَّة عَلَى الْكِفَايَة إِذَا فَعَلَ بَعْض الْحَاضِرِينَ سَقَطَ الْأَمْر عَنْ الْبَاقِينَ، وَشَرْطه أَنْ يَسْمَع قَوْل الْعَاطِس: الْحَمْد لِلَّهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ مَعَ فُرُوع تَتَعَلَّق بِهِ فِي بَابه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا إِبْرَار الْقَسَم فَهُوَ سُنَّة أَيْضًا مُسْتَحَبَّة مُتَأَكِّدَة وَإِنَّمَا يُنْدَب إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه مَفْسَدَة أَوْ خَوْف ضَرَر أَوْ نَحْو ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ شَيْء مِنْ هَذَا لَمْ يَبَرَّ قَسَمه كَمَا ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا عَبَرَ الرُّؤْيَا بِحَضْرَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا» فَقَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُول اللَّه لَتُخْبِرنِي فَقَالَ: «لَا تُقْسِم» وَلَمْ يُخْبِرهُ.
وَأَمَّا نَصْر الْمَظْلُوم فَمِنْ فُرُوض الْكِفَايَة، وَهُوَ مِنْ جُمْلَة الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّه الْأَمْر بِهِ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخَفْ ضَرَرًا.
وَأَمَّا إِجَابَة الدَّاعِي فَالْمُرَاد بِهِ الدَّاعِي إِلَى وَلِيمَة وَنَحْوهَا مِنْ الطَّعَام، وَسَبَقَ إِيضَاح ذَلِكَ بِفُرُوعِهِ فِي بَاب الْوَلِيمَة مِنْ كِتَاب النِّكَاح.
وَأَمَّا إِفْشَاء السَّلَام فَهُوَ إِشَاعَته وَإِكْثَاره، وَأَنْ يَبْذُلهُ لِكُلِّ مُسْلِم كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «وَتَقْرَأ السَّلَام عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف» وَسَبَقَ بَيَان هَذَا فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث: «أَفْشُوا السَّلَام» وَسَنُوَضِّحُ فُرُوعه فِي بَابه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا رَدّ السَّلَام فَهُوَ فَرْض بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ كَانَ السَّلَام عَلَى وَاحِد كَانَ الرَّدّ فَرْض عَيْن عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى جَمَاعَة كَانَ فَرْض كِفَايَة فِي حَقّهمْ، إِذَا رَدّ أَحَدهمْ سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ، وَسَنُوَضِّحُهُ بِفُرُوعِهِ فِي بَابه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا إِنْشَاد الضَّالَّة فَهُوَ تَعْرِيفهَا، وَهُوَ مَأْمُور بِهِ، وَسَبَقَ تَفْصِيله فِي كِتَاب اللُّقَطَة.
وَأَمَّا خَاتَم الذَّهَب فَهُوَ حَرَام عَلَى الرَّجُل بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَعْضه ذَهَبًا وَبَعْضه فِضَّة حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا: لَوْ كَانَتْ سِنّ الْخَاتَم ذَهَبًا، أَوْ كَانَ مُمَوَّهًا بِذَهَب يَسِير، فَهُوَ حَرَام لِعُمُومِ الْحَدِيث الْآخَر فِي الْحَرِير وَالذَّهَب: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَام عَلَى ذُكُور أُمَّتِي حِلّ لِإِنَاثِهَا».
وَأَمَّا لُبْس الْحَرِير وَالْإِسْتَبْرَق وَالدِّيبَاج وَالْقَسِّيّ، وَهُوَ نَوْع مِنْ الْحَرِير، فَكُلّه حَرَام عَلَى الرِّجَال، سَوَاء لَبِسَهُ لِلْخُيَلَاءِ أَوْ غَيْرهَا، إِلَّا أَنْ يَلْبَسهُ لِلْحَكَّةِ فَيَجُوز فِي السَّفَر وَالْحَضَر، وَأَمَّا النِّسَاء فَيُبَاح لَهُنَّ لُبْس الْحَرِير وَجَمِيع أَنْوَاعه، وَخَوَاتِيم الذَّهَب، وَسَائِر الْحُلِيّ مِنْهُ، وَمِنْ الْفِضَّة، سَوَاء الْمُزَوَّجَة، وَغَيْرهَا، وَالشَّابَّة وَالْعَجُوز وَالْغَنِيَّة وَالْفَقِيرَة هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيم الْحَرِير عَلَى الرِّجَال وَإِبَاحَته لِلنِّسَاءِ هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ قَوْم إِبَاحَته لِلرَّجُلِ وَالنِّسَاء، وَعَنْ اِبْن الزُّبَيْر تَحْرِيمه عَلَيْهِمَا، ثُمَّ اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى إِبَاحَته لِلنِّسَاءِ، وَتَحْرِيمه عَلَى الرِّجَال، وَيَدُلّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الْمُصَرِّحَة بِالتَّحْرِيمِ، مَعَ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي تَشْقِيق عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْحَرِير بَيْن نِسَائِهِ وَبَيْن الْفَوَاطِم خَمْرًا لَهُنَّ، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث. وَاللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا الصِّبْيَان فَقَالَ أَصْحَابنَا: يَجُوز إِلْبَاسهمْ الْحُلِيّ وَالْحَرِير فِي يَوْم الْعِيد لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيف عَلَيْهِمْ. وَفِي جَوَاز إِلْبَاسهمْ ذَلِكَ فِي بَاقِي السَّنَة ثَلَاثَة أَوْجُه: أَصَحّهَا جَوَازه، وَالثَّانِي تَحْرِيمه، وَالثَّالِث يَحْرُم بَعْد سِنّ التَّمْيِيز.
وَأَمَّا قَوْله: «وَعَنْ شُرْب بِالْفِضَّةِ» فَقَدْ سَبَقَ إِيضَاحه فِي الْبَاب قَبْله.
وَأَمَّا قَوْله: «وَعَنْ الْمَيَاثِر» فَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة قَبْل الرَّاء.
قَالَ الْعُلَمَاء: هُوَ جَمْع مِئْثَرَة بِكَسْرِ الْمِيم، وَهِيَ وِطَاء كَانَتْ النِّسَاء يَضَعْنَهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَى السُّرُوج، وَكَانَ مِنْ مَرَاكِب الْعَجَم، وَيَكُون مِنْ الْحَرِير، وَيَكُون مِنْ الصُّوف وَغَيْره.
وَقِيلَ: أَغْشِيَة لِلسُّرُوجِ، تُتَّخَذ مِنْ الْحَرِير.
وَقِيلَ: هِيَ سُرُوج مِنْ الدِّيبَاج.
وَقِيلَ: هِيَ شَيْء كَالْفِرَاشِ الصَّغِير تُتَّخَذ مِنْ حَرِير تُحْشَى بِقُطْنٍ أَوْ صُوف، يَجْعَلهَا الرَّاكِب عَلَى الْبَعِير تَحْته فَوْق الرَّحْل. وَالْمِئْثَرَة مَهْمُوزَة، وَهِيَ مِفْعَلةٌ بِكَسْرِ الْمِيم مِنْ الْوَثَارَة، يُقَال: وَثُرَ بِضَمِّ الثَّاء وَثَارَة بِفَتْحِ الْوَاو فَهُوَ وَثِير أَيْ وَطِيءٌ لَيِّنٌ، وَأَصْلهَا (مِوْثَرَة) فَقُلِبَتْ الْوَاو يَاء لِكَسْرِ مَا قَبْلهَا، كَمَا فِي (مِيزَان وَمِيقَات وَمِيعَاد)، مِنْ الْوَزْن وَالْوَقْت وَالْوَعْد، وَأَصْله مِوْزَان وَمِوْقَات وَمِوْعَاد.
قَالَ الْعُلَمَاء: فَالْمِئْثَرَة إِنْ كَانَتْ مِنْ الْحَرِير كَمَا هُوَ الْغَالِب فِيمَا كَانَ مِنْ عَادَتهمْ فَهِيَ حَرَام، لِأَنَّهُ جُلُوس عَلَى الْحَرِير، وَاسْتِعْمَال لَهُ، وَهُوَ حَرَام عَلَى الرِّجَال، سَوَاء كَانَ عَلَى رَحْل أَوْ سَرْج أَوْ غَيْرهمَا. وَإِنْ كَانَتْ مِئْثَرَة مِنْ غَيْر الْحَرِير فَلَيْسَتْ بِحِرَامٍ، وَمَذْهَبنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَكْرُوهَة أَيْضًا، فَإِنَّ الثَّوْب الْأَحْمَر لَا كَرَاهَة فيه، سَوَاء كَانَتْ حَمْرَاء أَمْ لَا.
وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ حُلَّة حَمْرَاء. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء كَرَاهَتهَا لِئَلَّا يَظُنّهَا الرَّائِي مِنْ بَعِيد حَرِيرًا. وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ يَزِيد بْن رُومَان الْمُرَاد بِالْمِئْثَرَةِ جُلُود السِّبَاع. وَهَذَا قَوْل بَاطِل مُخَالِف لِلْمَشْهُورِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْل اللُّغَة وَالْحَدِيث وَسَائِر الْعُلَمَاء: وَاللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا الْقَسِّيّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَكَسْر السِّين الْمُهْمَلَة الْمُشَدَّدَة، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَتْح الْقَاف، هُوَ الصَّحِيح الْمَشُور، وَبَعْض أَهْل الْحَدِيث يَكْسِرهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: أَهْل الْحَدِيث يَكْسِرُونَهَا، وَأَهْل مِصْر يَفْتَحُونَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيره، فَالصَّوَاب مَا ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا بِنَحْوِ كَرَّاسَة فِي حَدِيث النَّهْي عَنْ التَّخَتُّم فِي الْوُسْطَى، وَالَّتِي تَلِيهَا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ عَنْ لُبْس الْقَسِّيّ، وَعَنْ جُلُوس عَلَى الْمَيَاثِر.
قَالَ: فَأَمَّا الْقَسِّيّ فَثِيَاب مُضَلَّعَة يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْر وَالشَّام فيها شُبَه. كَذَا هُوَ لَفْظ رِوَايَة مُسْلِم. وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «فيها حَرِير أَمْثَال الْأُتْرُجّ»، قَالَ أَهْل اللُّغَة وَغَرِيب الْحَدِيث: هِيَ ثِيَاب مُضَلَّعَة بِالْحَرِيرِ، تُعْمَل بِالْقَسِّ بِفَتْحِ الْقَاف، وَهُوَ مَوْضِع مِنْ بِلَاد مِصْر، وَهُوَ قَرْيَة عَلَى سَاحِل الْبَحْر قَرِيبَة مِنْ تِنِّيس.
وَقِيلَ: هِيَ ثِيَاب كَتَّان مَخْلُوط بِحَرِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ ثِيَاب مِنْ الْقَزّ، وَأَصْله الْقَزِّيّ بِالزَّايِ مَنْسُوب إِلَى الْقَزّ، وَهُوَ رَدِيء الْحَرِير، فَأُبْدِل مِنْ الزَّاي سِين. وَهَذَا الْقَسِّيّ إِنْ كَانَ حَرِيره أَكْثَر مِنْ كَتَّانه فَالنَّهْي عَنْهُ لِلتَّحْرِيمِ، إِلَّا فَالْكَرَاهَة لِلتَّنْزِيهِ.
وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَق فَغَلِيظ الدِّيبَاج، وَأَمَّا الدِّيبَاج فَبِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرهَا جَمْعه دَبَابِيج، وَهُوَ عَجَمِيّ مُعَرَّب الديبا. وَالدِّيبَاج وَالْإِسْتَبْرَق حَرَام لِأَنَّهُمَا مِنْ الْحَرِير وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله فِي حَدِيث أَبِي بَكْر وَعُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة (وَزَادَ فِي الْحَدِيث: «وَعَنْ الشُّرْب») فَالضَّمِير فِي (وَزَادَ) يَعُود إِلَى الشَّيْبَانِيِّ الرَّاوِي عَنْ أَشْعَث بْن أَبِي الشَّعْثَاء.
3849- قَوْله: «فَجَاءَ دِهْقَان» هُوَ بِكَسْرِ الدَّال عَلَى الْمَشْهُور، وَحُكِيَ ضَمّهَا، مِمَّنْ حَكَاهُ صَاحِب الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع، وَحَكَاهُمَا الْقَاضِي فِي الشَّرْح عَنْ حِكَايَة أَبِي عُبَيْدَة. وَوَقَعَ فِي نُسَخ صِحَاح الْجَوْهَرِيّ أَوْ بَعْضهَا مَفْتُوحًا، وَهَذَا غَرِيب، وَهُوَ زَعِيم فَلَّاحِي الْعَجَم، وَقِيلَ: زَعِيم الْقَرْيَة وَرَئِيسهَا، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّل، وَهُوَ عَجَمِيّ مُعَرَّب، قِيلَ: النُّون فيه أَصْلِيَّة مَأْخُوذ مِنْ الدَّهْقَنَة وَهِيَ الرِّيَاسَة، وَقِيلَ: زَائِدَة مِنْ الدَّهْق وَهُوَ الِامْتِلَاء، وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيّ فِي (دَهْقَنَ) لَكِنَّهُ قَالَ: إِنْ جَعَلْت نُونه أَصْلِيَّة مِنْ قَوْلهمْ: تَدَهْقَنَ الرَّجُل صَرَفْته، لِأَنَّهُ فِعْلَان، وَإِنْ جَعَلْته مِنْ الدَّهْق لَمْ تَصْرِفهُ، لِأَنَّهُ فِعْلَان.
قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَل أَنَّهُ سُمِّيَ بِهِ مِنْ جَمْع الْمَال وَمَلَأ الْأَوْعِيَة مِنْهُ. يُقَال: دَهَقْت الْمَاء، وَأَدْهَقْتُهُ إِذَا أَفْرَغْته، وَدُهِقَ لِي دَهْقَة مِنْ مَاله أَيْ أَعْطَانِيهَا، وَأَدْهَقْت الْإِنَاءَ أَيْ مَلَأْته. قَالُوا: يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مِنْ الدَّهْقَنَة وَالدُّهْمَة، وَهِيَ لِين الطَّعَام، لِأَنَّهُمْ يُلِينُونَ طَعَامهمْ وَعَيْشهمْ لِسَعَةِ أَيْدِيهمْ وَأَحْوَالهمْ.
وَقِيلَ: لِحِذْقِهِ وَدَهَائِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «إِنَّ حُذَيْفَة رَمَاهُ بِإِنَاءِ الْفِضَّة حِين جَاءَهُ بِالشُّرْبِ فيه، وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا رَمَاهُ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ نَهَاهُ قَبْل ذَلِكَ عَنْهُ» فيه تَحْرِيم الشُّرْب فيه، وَتَعْزِير مَنْ اِرْتَكَبَ مَعْصِيَة لاسيما إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيه عَنْهَا كَقَضِيَّةِ الدِّهْقَان مَعَ حُذَيْفَة. وَفيه أَنَّهُ لَا بَأْس أَنْ يُعَزِّر الْأَمِير بِنَفْسِهِ بَعْض مُسْتَحِقِّي التَّعْزِير. وَفيه أَنَّ الْأَمِير وَالْكَبِير إِذَا فَعَلَ شَيْئًا صَحِيحًا فِي نَفْس الْأَمْر، وَلَا يَكُون وَجْهه ظَاهِرًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَبِّه عَلَى دَلِيله وَسَبَب فِعْله ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَكُمْ فِي الْآخِرَة» أَيْ إِنَّ الْكُفَّار إِنَّمَا يَحْصُل لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَة فَمَا لَهُمْ فيها مِنْ نَصِيب.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَهُمْ فِي الْجَنَّة الْحَرِير وَالذَّهَب، وَمَا لَا عَيْن رَأَتْ وَلَا أُذُن سَمِعَتْ، وَلَا خَطَر عَلَى قَلْب بَشَر. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث حُجَّة لِمَنْ يَقُول: الْكُفَّار غَيْر مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح فيه بِإِبَاحَتِهِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْوَاقِع فِي الْعَادَة أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ حَرَام عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهُوَ لَكُمْ فِي الْآخِرَة يَوْم الْقِيَامَة» إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنهمَا لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ مَوْته صَارَ فِي حُكْم الْآخِرَة فِي هَذَا الْإِكْرَام، فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ فِي يَوْم الْقِيَامَة وَبَعْده فِي الْجَنَّة أَبَدًا. وَيُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَة مِنْ حِين الْمَوْت، وَيَسْتَمِرّ فِي الْجَنَّة أَبَدًا.
3850- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافهَا» جَمْع صَحْفَة وَهِيَ دُون الْقَصْعَة.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ: قَالَ الْكِسَائِيّ: أَعْظَم الْقِصَاع الْجَفْنَة، ثُمَّ الْقَصْعَة تَلِيهَا تُشْبِع الْعَشَرَة، ثُمَّ الصَّحْفَة تُشْبِع الْخَمْسَة، ثُمَّ الْمَكِيلَة تُشْبِع الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَة، ثُمَّ الصَّحْفَة تُشْبِع الرَّجُل.
3851- قَوْله: «رَأَى حُلَّة سِيَرَاء» هِيَ بِسِينٍ مُهْمَلَة مَكْسُورَة، ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت مَفْتُوحَة، ثُمَّ رَاءٍ، ثُمَّ أَلِف مَمْدُودَة. وَضَبَطُوا الْحُلَّة هُنَا بِالتَّنْوِينِ، عَلَى أَنَّ سِيَرَاء صِفَة، وَبِغَيْرِ تَنْوِين عَلَى الْإِضَافَة، وَهُمَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَالْمُحَقِّقُونَ وَمُتْقِنُو الْعَرَبِيَّة يَخْتَارُونَ الْإِضَافَة.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ تَأْتِ فِعَلَاء صِفَة، وَأَكْثَر الْمُحَدِّثِينَ يُنَوِّنُونَ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حُلَّة سِيَرَاء كَمَا قَالُوا: نَاقَة عُشَرَاء قَالُوا: هِيَ بُرُود يُخَالِطهَا حَرِير، وَهِيَ مُضَلَّعَة بِالْحَرِيرِ، وَكَذَا فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيث فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا قَالَهُ الْخَلِيل وَالْأَصْمَعِيّ وَآخَرُونَ. قَالُوا: كَأَنَّهَا شُبِّهَتْ خُطُوطهَا بِالسُّطُورِ، وَقَالَ اِبْن شِهَاب: هِيَ ثِيَاب مُضَلَّعَة بِالْقَزِّ، وَقِيلَ: هِيَ مُخْتَلِفَة الْأَلْوَان، وَقَالَ: هِيَ وَشْي مِنْ حَرِير، وَقِيلَ: إِنَّهَا حَرِير مَحْض.
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «حُلَّة مِنْ اِسْتَبْرَقٍ»، وَفِي الْأُخْرَى: «مِنْ دِيبَاج أَوْ حَرِير»، وَفِي رِوَايَة: «حُلَّة سُنْدُس»، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ تُبَيِّن أَنَّ هَذِهِ الْحُلَّة كَانَتْ حَرِيرًا مَحْضًا، وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي يَتَعَيَّن الْقَوْل بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيث جَمْعًا بَيْن الرِّوَايَات، وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَرَّمَة. أَمَّا الْمُخْتَلِط مِنْ حَرِير وَغَيْره فَلَا يَحْرُم إِلَّا أَنْ يَكُون الْحَرِير أَكْثَر وَزْنًا. وَاللَّه أَعْلَم.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْحُلَّة لَا تَكُون إِلَّا ثَوْبَيْنِ، وَتَكُون غَالِبًا إِزَارًا وَرِدَاء. وَفِي حَدِيث عُمَر فِي هَذِهِ الْحُلَّة دَلِيلٌ لِتَحْرِيمِ الْحَرِير عَلَى الرِّجَال وَإِبَاحَته لِلنِّسَاءِ، إِبَاحَة هَدِيَّته، وَإِبَاحَة ثَمَنه، وَجَوَاز إِهْدَاء الْمُسْلِم إِلَى الْمُشْرِك ثَوْبًا وَغَيْره، وَاسْتِحْبَاب لِبَاس أَنْفَس ثِيَابه يَوْم الْجُمُعَة وَالْعِيد، وَعِنْد لِقَاء الْوُفُود وَنَحْوهمْ. وَعَرْض الْمَفْضُول عَلَى الْفَاضِل، وَالتَّابِع عَلَى الْمَتْبُوع مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ مَصَالِحه الَّتِي قَدْ لَا يَذْكُرهَا. وَفيه صِلَة الْأَقَارِب وَالْمَعَارِف وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا، وَجَوَاز الْبَيْع وَالشِّرَاء عِنْد بَاب الْمَسْجِد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَلْبَس هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاق لَهُ فِي الْآخِرَة» قِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ لَا نَصِيب لَهُ فِي الْآخِرَة، وَقِيلَ: مَنْ لَا حُرْمَة لَهُ، وَقِيلَ مَنْ لَا دِين لَهُ. فَعَلَى الْأَوَّل يَكُون مَحْمُولًا عَلَى الْكُفَّار، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَتَنَاوَل الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ. وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَكَسَاهَا عُمَر أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّة» هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب قَالَ: أَرْسَلَ بِهَا عُمَر إِلَى أَخ لَهُ مِنْ أَهْل مَكَّة قَبْل أَنْ يُسْلِم، فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَة فِي مُسْنَد أَبِي عَوَانَة الْإِسْفَرَايِنِيّ: فَكَسَاهَا عُمَر أَخًا لَهُ مِنْ أُمّه مِنْ أَهْل مَكَّة مُشْرِكًا. وَفِي هَذَا دَلِيل لِجَوَازِ صِلَة الْأَقَارِب الْكُفَّار وَالْإِحْسَان إِلَيْهِمْ، وَجَوَاز الْهَدِيَّة إِلَى الْكُفَّار، وَفيه جَوَاز إِهْدَاء ثِيَاب الْحَرِير إِلَى الرِّجَال لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّن لِلُبْسِهِمْ، وَقَدْ يُتَوَهَّم مُتَوَهِّم أَنَّ فيه دَلِيلًا عَلَى أَنَّ رِجَال الْكُفَّار يَجُوز لَهُمْ لُبْس الْحَرِير، وَهَذَا وَهْم بَاطِل، لِأَنَّ الْحَدِيث إِنَّمَا فيه الْهَدِيَّة إِلَى كَافِر، وَلَيْسَ فيه الْإِذْن لَهُ فِي لُبْسهَا، وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى عُمَر وَعَلِيّ وَأُسَامَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ إِبَاحَة لُبْسهَا لَهُمْ، بَلْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِيَنْتَفِع بِهَا بِغَيْرِ اللُّبْس، وَالْمَذْهَب الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْكُفَّار مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْع، فَيَحْرُم عَلَيْهِمْ الْحَرِير كَمَا يَحْرُم عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3852- قَوْله: «رَأَى عُمَر عُطَارِد التَّمِيمِيَّ يُقِيم بِالسُّوقِ حُلَّة» أَيْ يَعْرِضهَا لِلْبَيْعِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَقِّقْهَا خُمُرًا بَيْن نِسَائِك» هُوَ بِضَمِّ الْمِيم، وَيَجُوز إِسْكَانهَا، جَمْع خِمَار، وَهُوَ مَا يُوضَع عَلَى رَأْس الْمَرْأَة، وَفيه دَلِيل لِجَوَازِ لُبْس النِّسَاء الْحَرِير، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ الْيَوْم، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ فيه خِلَاف لِبَعْضِ السَّلَف وَزَالَ.
3854- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بَعَثْت بِهَا إِلَيْك لِتَنْتَفِع بِهَا» أَيْ تَبِيعهَا فَتَنْتَفِع بِثَمَنِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْلهَا، وَفِي حَدِيث اِبْن مُثَنَّى بَعْدهَا.
قَوْله: (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن أَبِي إِسْحَاق قَالَ: قَالَ لِي سَالِم بْن عَبْد اللَّه فِي الْإِسْتَبْرَق: قُلْت: مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاج، وَخَشُنَ مِنْهُ، قَالَ: سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن عُمَر يَقُول: وَذَكَرَ الْحَدِيث) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم، وَفِي كِتَابَيْ الْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيِّ: (قَالَ لِي سَالِم: مَا الْإِسْتَبْرَق؟ قُلْت: مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاج) وَهَذَا مَعْنَى رِوَايَة مُسْلِم، لَكِنَّهَا مُخْتَصَرَة، وَمَعْنَاهَا قَالَ لِي سَالِم فِي الْإِسْتَبْرَق: مَا هُوَ؟ فَقُلْت: هُوَ مَا غَلُظَ، فَرِوَايَة مُسْلِم صَحِيحَة لَا قَدْح فيها، وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إِلَى تَغْلِيطهَا، وَأَنَّ الصَّوَاب رِوَايَة الْبُخَارِيّ، وَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ بَلْ صَحِيحَة كَمَا أَوْضَحْنَاهُ.
3855- قَوْله: (إِنَّ أَسْمَاء أَرْسَلَتْ إِلَى اِبْن عُمَر بَلَغَنِي أَنَّك تُحَرِّم أَشْيَاء ثَلَاثَة: الْعَلَم فِي الثَّوْب، وَمِئْثَرَة الْأُرْجُوَان، وَصَوْم رَجَب كُلّه، فَقَالَ اِبْن عُمَر: أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ رَجَب فَكَيْف بِمَنْ يَصُوم الْأَبَد، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ الْعَلَم فِي الثَّوْب، فَإِنِّي سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب يَقُول: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «إِنَّمَا يَلْبَس الْحَرِير مَنْ لَا خَلَاق لَهُ» فَخِفْت أَنْ يَكُون الْعَلَم مِنْهُ. وَأَمَّا مِئْثَرَة الْأُرْجُوَان فَهَذِهِ مِئْثَرَة عَبْد اللَّه أُرْجُوَان، فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّة طَيَالِسَة كِسْرَوَانِيَّة لَهَا لِبْنَة دِيبَاج، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْد عَائِشَة حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسهَا فَنَحْنُ نَغْسِلهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا).
قَوْله: (وَمِيثَرَة الْأُرْجُوَان) تَقَدَّمَ تَفْسِير (الْمِيثَرَة) وَضَبْطهَا، وَأَمَّا (الْأُرْجُوَان) فَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَالْجِيم، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف فِي رِوَايَات الْحَدِيث، فِي كُتُبِ الْغَرِيب، وَفِي كُتُب اللُّغَة وَغَيْرهَا، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاصِّي فِي الْمَشَارِق، وَفِي شَرْح الْقَاضِي عِيَاض فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَضَمّ الْجِيم، وَهَذَا غَلَط ظَاهِر مِنْ النُّسَّاخ لَا مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَشَارِق بِضَمِّ الْهَمْزَة.
قَالَ أَهْل اللُّغَة وَغَيْرهمْ. هُوَ صِبْغ أَحْمَر شَدِيد الْحُمْرَة، هَكَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْد وَالْجُمْهُور، وَقَالَ الْفِرَاء: هُوَ الْحُمْرَة، وَقَالَ اِبْن فَارِس: هُوَ كُلّ لَوْن أَحْمَر، وَقِيلَ: هُوَ الصُّوف الْأَحْمَر، وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: هُوَ شَجَر لَهُ نَوْر أَحْمَر أَحْسَن مَا يَكُون، قَالَ: وَهُوَ مُعْرَّب.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَرَبِيّ. قَالُوا: وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى فيه سَوَاء، يُقَال: هَذَا ثَوْب أُرْجُوَان وَهَذِهِ قَطِيفَة أُرْجُوَان، وَقَدْ يَقُولُونَهُ عَلَى الصِّفَة، وَلَكِنَّ الْأَكْثَر فِي اِسْتِعْمَاله إِضَافَة الْأُرْجُوَان، إِلَى مَا بَعْده. ثُمَّ إِنَّ أَهْل اللُّغَة ذَكَرُوهُ فِي بَاب الرَّاء وَالْجِيم وَالْوَاو، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَلَا يُغْتَرّ بِذِكْرِ الْقَاضِي لَهُ فِي الْمَشَارِق فِي بَاب الْهَمْزَة وَالرَّاء وَالْجِيم، وَلَا بِذِكْرِ اِبْن الْأَثِير لَهُ فِي الرَّاء وَالْجِيم وَالنُّون، وَاللَّه أَعْلَم.
أَمَّا جَوَاب اِبْن عُمَر فِي صَوْم رَجَب فَإِنْكَارٌ مِنْهُ لِمَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِنْ تَحْرِيمه، وَإِخْبَار بِأَنَّهُ يَصُوم رَجَبًا كُلّه، وَأَنَّهُ يَصُوم الْأَبَد. وَالْمُرَاد بِالْأَبَدِ مَا سِوَى أَيَّام الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق، وَهَذَا مَذْهَبه وَمَذْهَب أَبِيهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَائِشَة وَأَبِي طَلْحَة وَغَيْرهمْ مِنْ سَلَف الْأُمَّة وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يُكْرَه صَوْم الدَّهْر، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصِّيَام مَعَ شَرْح الْأَحَادِيث الْوَارِدَة مِنْ الطَّرَفَيْنِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْت عَنْهُ مِنْ كَرَاهَة الْعِلْم فَلَمْ يَعْتَرِف بِأَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمهُ، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ دُخُوله فِي عُمُوم النَّهْي عَنْ الْحَرِير.
وَأَمَّا الْمِيثَرَة فَأَنْكَرَ مَا بَلَغَهَا عَنْهُ فيها، وَقَالَ: هَذِهِ مِئْثَرَتِي، وَهِيَ أُرْجُوَان، وَالْمُرَاد أَنَّهَا حَمْرَاء، وَلَيْسَتْ مِنْ حَرِير، بَلْ مِنْ صُوف أَوْ غَيْره، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا قَدْ تَكُون مِنْ حَرِير، وَقَدْ تَكُون مِنْ صُوف، وَأَنَّ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَنْهَا مَخْصُوصَة بِاَلَّتِي هِيَ مِنْ الْحَرِير.
وَأَمَّا إِخْرَاج أَسْمَاء جُبَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَكْفُوفَة بِالْحَرِيرِ، فَقَصَدْت بِهَا بَيَان أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُحَرَّمًا، وَهَكَذَا الْحُكْم عِنْد الشَّافِعِيّ وَغَيْره أَنَّ الثَّوْب وَالْجُبَّة وَالْعِمَامَة وَنَحْوهَا إِذَا كَانَ مَكْفُوف الطَّرَف بِالْحَرِيرِ جَازَ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَع أَصَابِع، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ حَرَام لِحَدِيثِ عُمَر رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ الْمَذْكُور بَعْد هَذَا.
وَأَمَّا قَوْله: (جُبَّة طَيَالِسَةٍ) فَهُوَ بِإِضَافَةِ جُبَّة إِلَى طَيَالِسَة، وَالطَّيَالِسَة جَمْع طَيْلَسَان بِفَتْحِ اللَّام عَلَى الْمَشْهُور.
قَالَ جَمَاهِير أَهْل اللُّغَة: لَا يَجُوز فيه غَيْر فَتْح اللَّام، وَعَدُّوا كَسْرهَا فِي تَصْحِيف الْعَوَامّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق فِي حَرْف السِّين وَالْيَاء فِي تَفْسِير السَّاج أَنَّ الطَّيْلَسَان يُقَال بِفَتْحِ اللَّام وَضَمّهَا وَكَسْرهَا، وَهَذَا غَرِيب ضَعِيف.
وَأَمَّا قَوْله: (كِسْرَاوَنِيَّة) فَهُوَ بِكَسْرِ الْكَاف وَفَتْحهَا، وَالسِّين سَاكِنَة، وَالرَّاء مَفْتُوحَة. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ جُمْهُور الرُّوَاة رَوَوْهُ بِكَسْرِ الْكَاف، وَهُوَ نِسْبَة إِلَى كِسْرَى صَاحِب الْعِرَاق مَلِك الْفُرْس، وَفيه كَسْر الْكَاف وَفَتْحهَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ الْهَرَوِيُّ فِي مُسْلِم فَقَالَ: خِسْرَوَانِيَّة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَثِيَابهمْ، وَفيه أَنَّ النَّهْي عَنْ الْحَرِير الْمُرَاد بِهِ الثَّوْب الْمُتَمَحِّضُ مِنْ الْحَرِير، أَوْ مَا أَكْثَره حَرِير، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد تَحْرِيم كُلّ جُزْء مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَمْر وَالذَّهَب، فَإِنَّهُ يَحْرُم كُلّ جُزْء مِنْهُمَا.
وَأَمَّا قَوْله فِي الْجُبَّة: (إِنَّ لَهَا لِبْنَة) فَهُوَ بِكَسْرِ اللَّام وَإِسْكَان الْبَاء، هَكَذَا ضَبَطَهَا الْقَاضِي وَسَائِر الشُّرَّاح، وَكَذَا هِيَ فِي كُتُب اللُّغَة وَالْغَرِيب. قَالُوا: وَهِيَ رُقْعَة فِي جَيْب الْقَمِيص، هَذِهِ عِبَارَتهمْ كُلّهمْ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْلهَا: (وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ) فَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع النُّسَخ، (وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ) وَهُمَا مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مَحْذُوف، أَيْ وَرَأَيْت فَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ، وَمَعْنَى الْمَكْفُوف أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا كُفَّة بِضَمِّ الْكَاف، وَهُوَ مَا يُكَفّ بِهِ جَوَانِبهَا وَيُعْطَف عَلَيْهَا، وَيَكُون ذَلِكَ فِي الذَّيْل، وَفِي الْفَرْجَيْنِ، وَفِي الْكُمَّيْنِ. وَفِي هَذَا جَوَاز لِبَاس الْجُبَّة، وَلِبَاس مَا لَهُ فَرْجَانِ، وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَة فيه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3856- قَوْله: (عَنْ أَبِي ذُبْيَانَ) هُوَ بِضَمِّ الذَّال وَكَسْرهَا.
قَوْله: «أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر خَطَبَ فَقَالَ لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِير، فَإِنِّي سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِير» هَذَا مَذْهَب اِبْن الزُّبَيْر، وَأَجْمَعُوا بَعْده عَلَى إِبَاحَة الْحَرِير لِلنِّسَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا الْحَدِيث الَّذِي اِحْتَجَّ بِهِ إِنَّمَا وَرَدَ فِي لُبْس الرِّجَال لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا أَنَّهُ خِطَاب لِلذُّكُورِ، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ النِّسَاء لَا يَدْخُلْنَ فِي خِطَاب الرِّجَال عِنْد الْإِطْلَاق، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم قَبْل هَذَا وَبَعْده صَرِيحَة فِي إِبَاحَته لِلنِّسَاءِ، وَأَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَأُسَامَة بِأَنْ يَكْسُوَاهُ نِسَاءَهُمَا مَعَ الْحَدِيث الْمَشْهُور أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَرِير وَالذَّهَب: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَام عَلَى ذُكُور أُمَّتِي، حِلّ لِإِنَاثِهَا». وَاللَّه أَعْلَم.
3857- قَوْله: (عَنْ أَبِي عُثْمَان قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَان: يَا عُتْبَة بْن فَرْقَد) إِلَى آخِره هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيث لَمْ يَسْمَعهُ أَبُو عُثْمَان مِنْ عُمَر، بَلْ أَخْبَرَ عَنْ كِتَاب عُمَر، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاك بَاطِل، فَإِنَّ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْمُحَدِّثِينَ وَمُحَقِّقُو الْفُقَهَاء وَالْأُصُولِيِّينَ جَوَاز الْعَمَل بِالْكِتَابِ، وَرِوَايَته عَنْ الْكَاتِب، سَوَاء قَالَ فِي الْكِتَاب: أَذِنْت لَك فِي رِوَايَة هَذَا عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُك رِوَايَته عَنِّي، أَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا، وَقَدْ أَكْثَر الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَسَائِر الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُصَنَّفِينَ فِي تَصَانِيفهمْ مِنْ الِاحْتِجَاج بِالْمُكَاتَبَةِ، فَيَقُول الرَّاوِي مِنْهُمْ وَمِمَّنْ قَبْلهمْ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَان كَذَا، أَوْ كَتَبَ إِلَيَّ فُلَان قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَان، أَوْ أَخْبَرَنِي مُكَاتَبَة، وَالْمُرَاد بِهِ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فيه، وَذَلِكَ مَعْمُول بِهِ عِنْدهمْ، مَعْدُود فِي الْمُتَّصِل لِإِشْعَارِهِ بِمَعْنَى الْإِجَازَة. وَزَادَ السَّمْعَانِيّ فَقَالَ: هِيَ أَقْوَى مِنْ الْإِجَازَة، وَدَلِيلهمْ فِي الْمَسْأَلَة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُب إِلَى عُمَّاله وَنُوَّابه وَأُمَرَائِهِ، وَيَفْعَلُونَ مَا فيها، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاء، وَمِنْ ذَلِكَ كِتَاب عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذَا، فَإِنَّهُ كَتَبَهُ إِلَى جَيْشه، وَفيه خَلَائِق مِنْ الصَّحَابَة، فَدَلَّ عَلَى حُصُول الِاتِّفَاق مِنْهُ، وَمِمَّنْ عِنْده فِي الْمَدِينَة، وَمَنْ فِي الْجَيْش عَلَى الْعَمَل بِالْكِتَابِ. وَاللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل أَبِي عُثْمَان: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَر، فَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلرَّاوِي بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَقُول: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَان قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَان، أَوْ أَخْبَرَنَا فُلَان مُكَاتَبَة، أَوْ فِي كِتَابه، أَوْ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ، وَنَحْو هَذَا. وَلَا يَجُوز أَنْ يُطْلَق قَوْله حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَجَوَّزَهُ طَائِفَة مِنْ مُتَقَدِّمِي أَهْل الْحَدِيث وَكِبَارهمْ مَعَهُمْ مَنْصُور وَاللَّيْث وَغَيْرهمَا. وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَان) هِيَ إِقْلِيم مَعْرُوف وَرَاء الْعِرَاق، وَفِي ضَبْطهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَشْهَرهمَا وَأَفْصَحهمَا وَقَوْل الْأَكْثَرِينَ أَذْرَبِيجَان بِفَتْحِ الْهَمْزَة بِغَيْرِ مُدَّة وَإِسْكَان الذَّال وَفَتْح الرَّاء وَكَسْر الْبَاء.
قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع وَآخَرُونَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَالثَّانِي مَدّ الْهَمْزَة وَفَتْح الذَّال وَفَتْح الرَّاء وَكَسْر الْبَاء. وَحَكَى صَاحِب الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع أَنَّ جَمَاعَة فَتَحُوا الْبَاء عَلَى هَذَا الثَّانِي، وَالْمَشْهُور كَسْرهَا.
قَوْله: (كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَر: يَا عُتْبَة بْن فَرْقَد إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدّك، وَلَا كَدّ أَبِيك، فَأَشْبِعْ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالهمْ مِمَّا تَشْبَع مِنْهُ فِي رَحْلك، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّم وَزِيّ أَهْل الشِّرْك، وَلَبُوس الْحَرِير) أَمَّا قَوْله: (كَتَبَ إِلَيْنَا) فَمَعْنَاهُ كَتَبَ إِلَى أَمِير الْجَيْش، وَهُوَ عُتْبَةُ بْن فَرْقَد لِيَقْرَأهُ عَلَى الْجَيْش، فَقَرَأَهُ عَلَيْنَا.
وَأَمَّا قَوْله: (لَيْسَ مِنْ كَدّك) فَالْكَدّ التَّعَب وَالْمَشَقَّة، وَالْمُرَاد هُنَا أَنَّ هَذَا الْمَال الَّذِي عِنْدك لَيْسَ هُوَ مِنْ كَسْبك، وَمِمَّا تَعِبْت فيه، وَلَحِقَتْك الشِّدَّة وَالْمَشَقَّة فِي كَدّه وَتَحْصِيله، وَلَا هُوَ مِنْ كَدّ أَبِيك وَأُمّك، فَوَرِثْته مِنْهُمَا بَلْ هُوَ مَال الْمُسْلِمِينَ، فَشَارِكْهُمْ فيه، وَلَا تَخْتَصّ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ، بَلْ أَشْبِعْهُمْ مِنْهُ وَهُمْ فِي رِحَالهمْ أَيْ مَنَازِلهمْ كَمَا تَشْبَع مِنْهُ فِي الْجِنْس وَالْقَدْر وَالصِّفَة، وَلَا تُؤَخِّر أَرْزَاقهمْ عَنْهُمْ، وَلَا تَحُوجهُمْ يَطْلُبُونَهَا مِنْك، بَلْ أَوْصِلْهَا إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي مَنَازِلهمْ بِلَا طَلَب.
وَأَمَّا قَوْله: (وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّم وَزِيّ الْعَجَم) فَهُوَ بِكَسْرِ الزَّاي. وَلَبُوس الْحَرِير هُوَ بِفَتْحِ اللَّام وَضَمّ الْبَاء مَا يَلْبَس مِنْهُ وَمَقْصُود عُمَر رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ حَثُّهُمْ عَلَى خُشُونَة الْعَيْش، وَصَلَابَتهمْ فِي ذَلِكَ، وَمُحَافَظَتهمْ عَلَى طَرِيقَة الْعَرَب فِي ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيث زِيَادَة فِي مُسْنَد أَبِي عَوَانَة الْإِسْفَرَايِنِيّ وَغَيْره بِإِسْنَادِ صَحِيح قَالَ: أَمَّا بَعْد فَاتَّزِرُوا وَارْتَدُوا، وَأَلْقُوا الْخِفَاف وَالسَّرَاوِيلَات، وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيل، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّم وَزِيّ الْأَعَاجِم، وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّام الْعَرَب، وَتَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا، وَاقْطَعُوا الرَّكْب، وَابْرُزُوا، وَارْمُوا الْأَغْرَاض. وَاللَّه أَعْلَم.
3858- قَوْله: (فَرُئِيتهمَا أَزْرَار الطَّيَالِسَة حَتَّى رَأَيْت الطَّيَالِسَة)، فَقَوْله: (فَرُئِيتهمَا) هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْر الْهَمْزَة، وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِفَتْحِ الرَّاء.
3859- قَوْله (فَمَا عَتَّمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الْأَعْلَام) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (عَتَّمْنَا) بِعَيْنٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ تَاء مُثَنَّاة فَوْق مُشَدَّدَة مَفْتُوحَة ثُمَّ مِيم سَاكِنَة ثُمَّ نُون، وَمَعْنَاهُ مَا أَبْطَأَنَا فِي مَعْرِفَة أَنَّهُ أَرَادَ الْأَعْلَام. يُقَال: عَتَّمَ الشَّيْء إِذَا أَبْطَأَ وَتَأَخَّرَ، وَعَتَّمْته إِذَا أَخَّرْته، وَمِنْهُ حَدِيث سَلْمَان الْفَارِسِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ غَرَسَ كَذَا وَكَذَا أَوْدِيَة، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلهُ، وَهُوَ يَغْرِس، فَمَا عَتَّمْت مِنْهَا وَاحِدَة، أَيْ مَا أَبْطَأْت أَنْ عَلَّقْت، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَبْط اللَّفْظَة وَشَرْحهَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف الَّذِي صَرَّحَ بِهِ جُمْهُور الشَّارِحِينَ وَأَهْل غَرِيب الْحَدِيث. وَذَكَرَ الْقَاضِي فيه عَنْ بَعْضهمْ تَغْيِيرًا وَاعْتِرَاضًا لَا حَاجَة إِلَى ذِكْره لِفَسَادِهِ.
3860- قَوْله: عَنْ قَتَادَة عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ سُوَيْد بْن غَفْلَة: «أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: نَهَى نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْس الْحَرِير إِلَّا مَوْضِع أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاث أَوْ أَرْبَع» هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعهُ عَنْ الشَّعْبِيّ إِلَّا قَتَادَة، وَهُوَ مُدَلِّس، وَرَوَاهُ شُعْبَة عَنْ أَبِي السَّفَر عَنْ الشَّعْبِيّ مِنْ قَوْل عُمَر مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ بَيَان وَدَاوُدُ بْن أَبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ سُوَيْد عَنْ عُمَر مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَ شُعْبَة عَنْ الْحَكَم عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدٍ، وَقَالَ اِبْن عَبْد الْأَعْلَى عَنْ سُوَيْدٍ، وَأَبُو حُصَيْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ سُوَيْد. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهَذِهِ الزِّيَادَة فِي هَذِهِ الرِّوَايَة اِنْفَرَدَ بِهَا مُسْلِم لَمْ يَذْكُرهَا الْبُخَارِيّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الثِّقَة إِذَا اِنْفَرَدَ بِرَفْعِ مَا وَقَفَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ الْحُكْم لِرِوَايَتِهِ، وَحُكِمَ بِأَنَّهُ مَرْفُوع عَلَى الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَالْأُصُولِيُّونَ وَمُحَقِّقُو الْمُحَدِّثِينَ، وَهَذَا مِنْ ذَاكَ وَاللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة إِبَاحَة الْعَلَم مِنْ الْحَرِير فِي الثَّوْب إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَع أَصَابِع، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور. وَعَنْ مَالِك رِوَايَة بِمَنْعِهِ، وَعَنْ بَعْض أَصْحَابه رِوَايَة بِإِبَاحَةِ الْعَلَم بِلَا تَقْدِير بِأَرْبَعِ أَصَابِع، بَلْ قَالَ: يَجُوز، إِنْ عَظُمَ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَرْدُودَانِ بِهَذَا الْحَدِيث الصَّرِيح. وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الرُّزِّيُّ) هُوَ بِرَاءٍ مَضْمُومَة ثُمَّ زَاي مُشَدَّدَة.
3862- قَوْله: «فَأَطَرْتهَا بَيْن نِسَائِي» أَيْ قَسَمْتهَا.
3863- قَوْله: «أَنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَة» هِيَ بِضَمِّ الدَّال وَفَتْحهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَزَعَمَ اِبْن دُرَيْدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا الضَّمّ، وَأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَفْتَحُونَهَا، وَأَنَّهُمْ غَالِطُونِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ: أَهْل الْحَدِيث يَقُولُونَهَا بِالضَّمِّ، وَأَهْل اللُّغَة يَفْتَحُونَهَا. وَيُقَال لَهَا أَيْضًا (دَوْمًا)، وَهِيَ مَدِينَة لَهَا حِصْن عَادِيّ، وَهِيَ فِي بَرِّيَّة فِي أَرْض نَخْل وَزَرْع، يَسْقُونَ بِالنَّوَاضِحِ، وَحَوْلهَا عُيُون قَلِيلَة، وَغَالِب زَرْعهمْ الشَّعِير، وَهِيَ عَنْ الْمَدِينَة عَلَى نَحْو ثَلَاث عَشَرَة مَرْحَلَة، وَعَنْ دِمَشْق عَلَى نَحْو عَشَر مَرَاحِل، وَعَنْ الْكُوفَة عَلَى قَدْر عَشَر مَرَاحِل أَيْضًا. وَاللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (أُكَيْدِرُ) فَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَفَتْح الْكَاف، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْن عَبْد الْمَلَك الْكِنْدِيّ.
قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه الْمُبْهَمَات: كَانَ نَصْرَانِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ.
قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ نَصْرَانِيًّا.
وَقَالَ اِبْن مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْم الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابَيْهِمَا فِي مَعْرِفَة الصَّحَابَة: إِنَّ أُكَيْدِرًا هَذَا أَسْلَمَ، وَأَهْدَى إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّة سِيَرَاء.
قَالَ اِبْن الْأَثِير فِي كِتَابه مَعْرِفَة الصَّحَابَة. أَمَّا الْهَدِيَّة وَالْمُصَالَحَة فَصَحِيحَانِ، وَأَمَّا الْإِسْلَام فَغَلَط.
قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِم بِلَا خِلَاف بَيْن أَهْل السِّيَر، وَمَنْ قَالَ أَسْلَمَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأ فَاحِشًا.
قَالَ: وَكَانَ أُكَيْدِرُ نَصْرَانِيًّا، فَلَمَّا صَالَحَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ إِلَى حِصْنه، وَبَقِيَ فيه، ثُمَّ حَاصَرَهُ خَالِد بْن الْوَلِيد فِي زَمَان أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَتَلَهُ مُشْرِكًا نَصْرَانِيًّا، يَعْنِي لِنَقْضِهِ الْعَهْد قَالَ: وَذَكَرَ الْبَلَاذُرِيّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَادَ إِلَى (دَوْمَة)، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِرْتَدَّ أُكَيْدِرُ، فَلَمَّا سَارَ خَالِد مِنْ الْعِرَاق إِلَى الشَّام قَتَلَهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَيْضًا عَدّه فِي الصَّحَابَة. هَذَا كَلَام اِبْن الْأَثِير.
قَوْله: «إِنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَة أَهْدَى إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ ثَوْب حَرِير، فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ: شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْن الْفَوَاطِم» أَمَّا الْخُمُر فَسَبَقَ أَنَّهُ بِضَمِّ الْمِيم جَمْع خِمَار، وَأَمَّا الْفَوَاطِم، فَقَالَ الْهَرَوِيُّ وَالْأَزْهَرِيّ وَالْجُمْهُور: إِنَّهُنَّ ثَلَاث: فَاطِمَة بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاطِمَة بِنْت أَسَد، وَهِيَ أُمّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، وَهِيَ أَوَّل هَاشِمِيَّة وَلَدَتْ لِهَاشِمِيِّ، وَفَاطِمَة بِنْت حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلَب. وَذَكَرَ الْحَافِظَانِ عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد، وَابْن عَبْد الْبَرّ بِإِسْنَادِهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَسَمَهُ بَيْن الْفَوَاطِم الْأَرْبَع، فَذَكَر هَؤُلَاءِ الثَّلَاث.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: يُشْبِه أَنْ تَكُون الرَّابِعَة فَاطِمَة بِنْت شَيْبَة بْن رَبِيعَة اِمْرَأَة عُقَيْل بْن أَبِي طَالِب لِاخْتِصَاصِهَا بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَقَرَّبَهَا إِلَيْهِ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَهِيَ مِنْ الْمُبَايِعَات، شَهِدَتْ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، وَلَهَا قِصَّة مَشْهُورَة فِي الْغَنَائِم تَدُلّ عَلَى وَرَعهَا. وَاللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْمَذْكُورَات فَاطِمَة بِنْت أَسَد أُمّ عَلِيّ كَانَتْ مِنْهُنَّ، وَهُوَ مُصَحِّح لِهِجْرَتِهَا كَمَا قَالَهُ غَيْر وَاحِد، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ قَبْل الْهِجْرَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز قَبُول هَدِيَّة الْكَافِر، وَقَدْ سَبَقَ الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث الْمُخْتَلِفَة فِي هَذَا وَفيه جَوَاز هَدِيَّة الْحَرِير إِلَى الرِّجَال وَقَبُولهمْ إِيَّاهُ، وَجَوَاز لِبَاس النِّسَاء لَهُ.
3868- قَوْله: «أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوج حَرِير، فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فيه، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» الْفَرُّوج بِفَتْحِ الْفَاء وَضَمّ الرَّاء الْمُشَدَّدَة، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور فِي ضَبْطه، وَلَمْ يَذْكُر الْجُمْهُور غَيْره، وَحُكِيَ ضَمّ الْفَاء، وَحَكَى الْقَاضِي: فِي الشَّرْح وَفِي الْمَشَارِق تَخْفِيف الرَّاء وَتَشْدِيدهَا، وَالتَّخْفِيف غَرِيب ضَعِيف. قَالُوا: وَهُوَ قَبَاء لَهُ شِقّ مِنْ خَلْفه. وَهَذَا اللُّبْس الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث كَانَ قَبْل تَحْرِيم الْحَرِير عَلَى الرِّجَال، وَلَعَلَّ أَوَّل النَّهْي وَالتَّحْرِيم كَانَ حِين نَزَعَهُ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث جَابِر الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم قَبْل هَذَا بِأَسْطُرِ حِين صَلَّى فِي قَبَاء دِيبَاج ثُمَّ نَزَعَهُ، وَقَالَ: «نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيل» فَيَكُون هَذَا أَوَّل التَّحْرِيم. وَاللَّه أَعْلَم.