فصل: باب الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب لاَ يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ الْفَتْحِ:

3334- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْتَل قُرَشِيّ صَبْرًا بَعْد هَذَا الْيَوْم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ الْإِعْلَام بِأَنَّ قُرَيْشًا يُسْلِمُونَ كُلّهمْ، وَلَا يَرْتَدّ أَحَد مِنْهُمْ كَمَا اِرْتَدَّ غَيْرهمْ بَعْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ حُورِبَ وَقُتِلَ صَبْرًا، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ظُلْمًا صَبْرًا، فَقَدْ جَرَى عَلَى قُرَيْش بَعْد ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْلُوم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ مِنْ عُصَاة قُرَيْش غَيْر مُطِيع كَانَ اِسْمه الْعَاصِي، فَسَمَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطِيعًا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: عُصَاة هُنَا جَمْع الْعَاصِ مِنْ أَسْمَاء الْأَعْلَام لَا مِنْ الصِّفَات، أَيْ: مَا أَسْلَمَ مِمَّنْ كَانَ اِسْمه الْعَاص مِثْل الْعَاصِ بْن وَائِل السَّهْمِيّ، وَالْعَاص بْن هِشَام أَبُو الْبُخْتُرِيِّ، وَالْعَاص بْن سَعِيد بْن الْعَاصِ بْن أُمَيَّة، وَالْعَاص بْن هِشَام بْن الْمُغِيرَة الْمَخْزُومِيّ، وَالْعَاص بْن مُنَبِّه بْن الْحَجَّاج وَغَيْرهمْ سِوَى الْعَاصِ بْن الْأَسْوَد الْعُذْرِيّ، فَغَيَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْمه فَسَمَّاهُ مُطِيعًا، وَإِلَّا فَقَدْ أَسْلَمَتْ عُصَاة قُرَيْش وَعُتَاتهمْ كُلّهمْ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنْ تَرَكَ أَبَا جَنْدَل بْن سُهَيْل بْن عَمْرو وَهُوَ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَاسْمه أَيْضًا الْعَاصِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَيَحْتَمِل أَنَّ هَذَا لَمَّا غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَته وَجُهِلَ اِسْمه لَمْ يُعَرِّفهُ الْمُخْبِر بِاسْمِهِ، فَلَمْ يَسْتَثْنِهِ كَمَا اِسْتَثْنَى مُطِيع بْن الْأَسْوَد. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ:

فِي الْحُدَيْبِيَة وَالْجِعِرَّانَة لُغَتَانِ: التَّخْفِيف وَهُوَ الْأَفْصَح، وَالتَّشْدِيد، وَسَبَقَ بَيَانهمَا فِي كِتَاب الْحَجّ.
3335- قَوْله: «هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول اللَّه» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّد» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى قَاضَى هُنَا فَاصَلَ وَأَمْضَى أَمْره عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَضَى الْقَاضِي، أَيْ: فَصَلَ الْحُكْم وَأَمْضَاهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ تِلْكَ السَّنَة عَام الْمُقَاضَاة، وَعُمْرَة الْقَضِيَّة، وَعُمْرَة الْقَضَاء، كُلّه مِنْ هَذَا، وَغَلَّطُوا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَة الْقَضَاء لِقَضَاءِ الْعُمْرَة الَّتِي صُدَّ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِب قَضَاء الْمَصْدُود عَنْهَا إِذَا تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه فِي ذَلِكَ الْعَام.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكْتُب فِي أَوَّل الْوَثَائِق وَكُتُب الْإِمْلَاك وَالصَّدَاق وَالْعِتْق وَالْوَقْف وَالْوَصِيَّة وَنَحْوهَا (هَذَا مَا اِشْتَرَى فُلَان، أَوْ هَذَا مَا أَصْدَقَ، أَوْ وَقَفَ، أَوْ أَعْتَقَ، وَنَحْوه)، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء وَعَلَيْهِ عَمَل الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيع الْأَزْمَان وَجَمِيع الْبُلْدَان مِنْ غَيْر إِنْكَار، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالِاسْمِ الْمَشْهُور مِنْ غَيْر زِيَادَة خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لابد مِنْ أَرْبَعَة: الْمَذْكُور وَأَبِيهِ وَجَدّه وَنَسَبه.
وَفيه أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِد الصُّلْح عَلَى مَا رَآهُ مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَر ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاس فِي بَادِئ الرَّأْي.
وَفيه: اِحْتِمَال الْمَفْسَدَة الْيَسِيرَة لِدَفْعِ أَعْظَم مِنْهَا أَوْ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَة أَعْظَم مِنْهَا إِذَا لَمْ يُمْكِن ذَلِكَ إِلَّا بِذَلِكَ.
قَوْله: «فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: اُمْحُهُ فَقَالَ: مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَمْحَاهُ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (بِاَلَّذِي أَمْحَاهُ) وَهِيَ لُغَة فِي (أَمْحُوهُ) وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ بَاب الْأَدَب الْمُسْتَحَبّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَم مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتِيم مَحْو عَلِيّ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِر وَلَوْ حَتَّمَ مَحْوه بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَلِيٍّ تَرْكه، وَلَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَة.
قَوْله: «وَلَا يَدْخُلهَا بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّان السِّلَاح» قَالَ أَبُو إِسْحَاق السَّبِيعِيُّ: (جُلُبَّان السِّلَاح) هُوَ الْقِرَاب وَمَا فيه، و(الْجُلُبَّان) بِضَمِّ الْجِيم، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: ضَبَطْنَاهُ (جُلُبَّان) بِضَمِّ الْجِيم وَاللَّام وَتَشْدِيد الْبَاء الْمُوَحَّدَة، قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ، وَصَوَّبَهُ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِإِسْكَانِ اللَّام، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ، وَصَوَّبَهُ هُوَ وَثَابِت، وَلَمْ يَذْكُر ثَابِت سِوَاهُ، وَهُوَ أَلْطَف مِنْ الْجِرَاب يَكُون مِنْ الْأُدُم، يُوضَع فيه السَّيْف مُغْمَدًا، وَيَطْرَح فيه الرَّاكِب سَوْطه وَأَدَاته، وَيُعَلِّقهُ فِي الرَّحْل، قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا شَرَطُوا هَذَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: أَلَّا يَظْهَر مِنْهُ دُخُول الْغَالِبِينَ الْقَاهِرِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ عَرَضَ فِتْنَة أَوْ نَحْوهَا يَكُون فِي الِاسْتِعْدَاد بِالسِّلَاحِ صُعُوبَة.
قَوْله: «اِشْتَرَطُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّة فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلَاثًا» قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب هَذَا التَّقْدِير: أَنَّ الْمُهَاجِر مِنْ مَكَّة لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يُقِيم بِهَا أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام، وَهَذَا أَصْل فِي أَنَّ الثَّلَاثَة لَيْسَ لَهَا حُكْم الْإِقَامَة، وَأَمَّا مَا فَوْقهَا فَلَهُ حُكْم الْإِقَامَة، قَدْ رَتَّبَ الْفُقَهَاء عَلَى هَذَا قَصْر الصَّلَاة فِيمَنْ نَوَى إِقَامَة فِي بَلَد فِي طَرِيقه، وَقَاسُوا عَلَى هَذَا الْأَصْل مَسَائِل كَثِيرَة.
3336- قَوْله: «لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد الْبَيْت» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: «أُحْصِرَ عِنْد الْبَيْت» وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة جَمِيع الرُّوَاة سِوَى اِبْن الْحَذَّاء، فَإِنَّ فِي رِوَايَته عَنْ الْبَيْت وَهُوَ الْوَجْه، وَأَمَّا الْحَصْر وَحُصِرَ فَسَبَقَ بَيَانهمَا فِي كِتَاب الْحَجّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِنِي مَكَانهَا فَأَرَاهُ مَكَانهَا فَمَحَاهَا وَكَتَبَ اِبْن عَبْد اللَّه» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: اِحْتَجَّ بِهَذَا اللَّفْظ بَعْض النَّاس عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ ذَلِكَ بِيَدِهِ عَلَى ظَاهِر هَذَا اللَّفْظ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ نَحْوه مِنْ رِوَايَة إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق، وَقَالَ فيه: أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَاب فَكَتَبَ، وَزَادَ عَنْهُ فِي طَرِيق آخَر، وَلَا يَحْسُن أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ، قَالَ أَصْحَاب هَذَا الْمَذْهَب: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَده إِمَّا بِأَنْ كَتَبَ ذَلِكَ الْقَلَم بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْر عَالِم بِمَا يَكْتُب، أَوْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلَّمَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ حَتَّى كَتَبَ، وَجَعَلَ هَذَا زِيَادَة فِي مُعْجِزَته، فَإِنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا فَكَمَا عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَم مِنْ الْعِلْم، وَجَعَلَهُ يَقْرَأ مَا لَمْ يَقْرَأ، وَيَتْلُو مَا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو، كَذَلِكَ عَلَّمَهُ أَنْ يَكْتُب مَا لَمْ يَكُنْ يَكْتُب، وَخَطَّ مَا لَمْ يَكُنْ يَخُطّ بَعْد النُّبُوَّة، أَوْ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَده، قَالُوا: وَهَذَا لَا يَقْدَح فِي وَصْفه بِالْأُمِّيَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِآثَارٍ جَاءَتْ فِي هَذَا عَنْ الشَّعْبِيّ وَبَعْض السَّلَف، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَتَبَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَإِلَى جَوَاز هَذَا ذَهَبَ الْبَاجِيُّ، وَحَكَاهُ عَنْ السِّمَنَانِيّ وَأَبِي ذَرّ وَغَيْره، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى مَنْع هَذَا كُلّه، قَالُوا: وَهَذَا الَّذِي زَعَمَهُ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْل الْأَوَّل يُبْطِلهُ وَصْف اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك} وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أُمَّة أُمِّيَّة لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسِب»، قَالُوا: وَقَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث: «كَتَبَ» مَعْنَاهُ: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، كَمَا يُقَال: رَجَمَ مَاعِزًا، وَقَطَعَ السَّارِق، وَجَلَدَ الشَّارِب، أَيْ: أَمَرَ بِذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «فَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ اُكْتُبْ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه» قَالَ الْقَاضِي: وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ قَوْله تَعَالَى إِنَّهُ لَمْ يَتْلُ وَلَمْ يَخُطّ، أَيْ مِنْ قَبْل تَعْلِيمه كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مِنْ قَبْله} فَكَمَا جَازَ أَنْ يَتْلُو جَازَ أَنْ يَكْتُب، وَلَا يَقْدَح هَذَا فِي كَوْنه أُمِّيًّا إِذْ لَيْسَتْ الْمُعْجِزَة مُجَرَّد كَوْنه أُمِّيًّا، فَإِنَّ الْمُعْجِزَة حَاصِلَة بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَبِعُلُومٍ لَا يَعْلَمهَا الْأُمِّيُّونَ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ظَاهِر، قَالَ: وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: «وَلَا يَحْسُن أَنْ يَكْتُب فَكَتَبَ» كَالنَّصِّ أَنَّهُ كَتَبَ بِنَفْسِهِ، قَالَ: وَالْعُدُول إِلَى غَيْره مَجَاز، وَلَا ضَرُورَة إِلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ طَالَ كَلَام كُلّ فِرْقَة فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة، وَشَنَّعَتْ كُلّ فِرْقَة عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثَّالِث» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ كُلّهَا (يَوْم الثَّالِث) بِإِضَافَةِ يَوْم إِلَى الثَّالِث، وَهُوَ مِنْ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصِّفَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات، وَمَذْهَب الْكُوفِيِّينَ: جَوَازه عَلَى ظَاهِره، وَمَذْهَب الْبَصْرِيِّينَ: تَقْدِير مَحْذُوف مِنْهُ، أَيْ يَوْم الزَّمَان الثَّالِث.
قَوْله: «فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَة أَيَّام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثَّالِث، قَالُوا لِعَلِيٍّ: هَذَا آخِر يَوْم مِنْ شَرْط صَاحِبك فَأْمُرْهُ أَنْ يَخْرُج فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ: فَخَرَجَ» هَذَا الْحَدِيث فيه حَذْف وَاخْتِصَار، وَالْمَقْصُود أَنَّ هَذَا الْكَلَام لَمْ يَقَع فِي عَام صُلْح الْحُدَيْبِيَة، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي السَّنَة الثَّانِيَة، وَهِيَ عُمْرَة الْقَضَاء، وَكَانُوا شَارَطُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَام الْحُدَيْبِيَة أَنْ يَجِيء بِالْعَامِ الْمُقْبِل فَيَعْتَمِر وَلَا يُقِيم أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام، فَجَاءَ فِي الْعَام الْمُقْبِل، فَأَقَامَ إِلَى أَوَاخِر الْيَوْم الثَّالِث، فَقَالُوا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ هَذَا الْكَلَام، فَاخْتَصَرَ هَذَا الْحَدِيث، وَلَمْ يَذْكُر أَنَّ الْإِقَامَة وَهَذَا الْكَلَام كَانَ فِي الْعَام الْمُقْبِل، وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْره بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَات أُخَر، مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُل مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْف أَحْوَجُوهُمْ إِلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُمْ الْخُرُوج وَيَقُومُوا بِالشَّرْطِ؟ فَالْجَوَاب: أَنَّ هَذَا الطَّلَب كَانَ قَبْل اِنْقِضَاء الْأَيَّام الثَّلَاثَة بِيَسِيرٍ، وَكَانَ عَزْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه عَلَى الِارْتِحَال عِنْد اِنْقِضَاء الثَّلَاثَة، فَاحْتَاطَ الْكُفَّار لِأَنْفُسِهِمْ وَطَلَبُوا الِارْتِحَال قَبْل اِنْقِضَاء الثَّلَاثَة بِيَسِيرٍ، فَخَرَجُوا عِنْد اِنْقِضَائِهَا وَفَاء بِالشَّرْطِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ لَوْ لَمْ يُطْلَب اِرْتِحَالهمْ.
3337- قَوْله: «فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ سُهَيْل: أَمَّا بِاسْمِ اللَّه فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَلَكِنْ اُكْتُبْ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ» قَالَ الْعُلَمَاء: وَافَقَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْك كِتَابَة بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَأَنَّهُ كَتَبَ بِاسْمِك اللَّهُمَّ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، وَتَرَكَ كِتَابَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ فِي رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا دُونَ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا وَافَقَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُور لِلْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّة الْحَاصِلَة بِالصُّلْحِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَة فِي هَذِهِ الْأُمُور، أَمَّا الْبَسْمَلَة وَبِاسْمِك اللَّهُمَّ فَمَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَكَذَا قَوْله: مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه هُوَ أَيْضًا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي تَرْك وَصْف اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِع بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم مَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَلَا فِي تَرْك وَصْفه أَيْضًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِالرِّسَالَةِ مَا يَنْفيها، فَلَا مَفْسَدَة فِيمَا طَلَبُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمَفْسَدَة تَكُون لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكْتُب مَا لَا يَحِلّ مِنْ تَعْظِيم آلِهَتهمْ وَنَحْو ذَلِكَ، وَأَمَّا شَرْط رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ، وَمَنْع مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَة فيهمْ فِي هَذَا الْحَدِيث بِقَوْلِهِ: «مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّه وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّه لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» ثُمَّ كَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ اللَّه لِلَّذِينَ جَاءُونَا مِنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِلَّهِ الْحَمْد، وَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَات، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْمَصْلَحَة الْمُتَرَتِّبَة عَلَى إِتْمَام هَذَا الصُّلْح مَا ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَاته الْبَاهِرَة، وَفَوَائِده الْمُتَظَاهِرَة، الَّتِي كَانَتْ عَاقِبَتهَا فَتْح مَكَّة، وَإِسْلَام أَهْلهَا كُلّهَا، وَدُخُول النَّاس فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْل الصُّلْح لَمْ يَكُونُوا يَخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَظَاهَر عِنْدهمْ أُمُور النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هِيَ، وَلَا يَحِلُّونَ بِمَنْ يُعْلِمهُمْ بِهَا مُفَصَّلَة، فَلَمَّا حَصَلَ صُلْح الْحُدَيْبِيَة اِخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَجَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَذَهَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّة، وَحَلُّوا بِأَهْلِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَسْتَنْصِحُونَهُ، وَسَمِعُوا مِنْهُمْ أَحْوَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّله بِجُزْئِيَّاتِهَا، وَمُعْجِزَاته الظَّاهِرَة، وَأَعْلَام نُبُوَّته الْمُتَظَاهِرَة، وَحُسْن سِيرَته، وَجَمِيل طَرِيقَته، وَعَايَنُوا بِأَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَلَّتْ نُفُوسهمْ إِلَى الْإِيمَان حَتَّى بَادَرَ خَلْق مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَام قَبْل فَتْح مَكَّة فَأَسْلَمُوا بَيْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة وَفَتْح مَكَّة، وَازْدَادَ الْآخَرُونَ مَيْلًا إِلَى الْإِسْلَام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح أَسْلَمُوا كُلّهمْ لِمَا كَانَ قَدْ تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنْ الْمَيْل، وَكَانَتْ الْعَرَب مِنْ غَيْر قُرَيْش فِي الْبَوَادِي يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ إِسْلَام قُرَيْش، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ قُرَيْش أَسْلَمَتْ الْعَرَب فِي الْبَوَادِي.
قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّه وَالْفَتْح وَرَأَيْت النَّاس يَدْخُلُونَ فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا}.
3338- قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن سِيَاهٍ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَة مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت مُخَفَّفَة ثُمَّ أَلِف، ثُمَّ هَاء فِي الْوَقْف وَالدَّرْج عَلَى وَزْنَيْ مِيَاه وَشِيَاه.
قَوْله: (قَامَ سَهْل بْن حُنَيْفٍ يَوْم صِفِّينَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النَّاس اِتَّهِمُوا أَنْفُسكُمْ... إِلَى آخِره) أَرَادَ بِهَذَا تَصْبِير النَّاس عَلَى الصُّلْح، وَإِعْلَامهمْ بِمَا يُرْجَى بَعْده مِنْ الْخَيْر، فَإِنَّهُ يُرْجَى مَصِيره إِلَى خَيْر، وَإِنْ كَانَ ظَاهِره فِي الِابْتِدَاء مِمَّا تَكْرَههُ النُّفُوس، كَمَا كَانَ شَأْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة، وَإِنَّمَا قَالَ سَهْل هَذَا الْقَوْل حِين ظَهَرَ مِنْ أَصْحَاب عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَرَاهَة التَّحْكِيم، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا جَرَى يَوْم الْحُدَيْبِيَة مِنْ كَرَاهَة أَكْثَر النَّاس الصُّلْح، وَأَقْوَالهمْ فِي كَرَاهَته، وَمَعَ هَذَا فَأَعْقَبَ خَيْرًا عَظِيمًا، فَقَرَّرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصُّلْح مَعَ أَنَّ إِرَادَتهمْ كَانَتْ مُنَاجَزَة كُفَّار مَكَّة بِالْقِتَالِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّة فِي دِيننَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّة فِي دِيننَا) هِيَ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء، أَيْ: النَّقِيصَة، وَالْحَالَة النَّاقِصَة، قَالَ الْعُلَمَاء: لَمْ يَكُنْ سُؤَال عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَلَامه الْمَذْكُور شَكًّا؛ بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَال الْكُفَّار وَظُهُور الْإِسْلَام كَمَا عُرِفَ مِنْ خُلُقه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقُوَّته فِي نُصْرَة الدِّين وَإِذْلَال الْمُبْطِلِينَ.
وَأَمَّا جَوَاب أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِعُمَرَ بِمِثْلِ جَوَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ الدَّلَائِل الظَّاهِرَة عَلَى عَظِيم فَضْله، وَبَارِع عِلْمه، وَزِيَادَة عِرْفَانه وَرُسُوخه فِي كُلّ ذَلِكَ، وَزِيَادَته فيه كُلّه عَلَى غَيْره رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله: «فَنَزَلَ الْقُرْآن عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَر فَأَقْرَأهُ إِيَّاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَوَ فَتْح هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَطَابَتْ نَفْسه وَرَجَعَ» الْمُرَاد أَنَّهُ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا} وَكَانَ الْفَتْح هُوَ صُلْح يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فَقَالَ عُمَر: أَوَ فَتْح هُوَ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. لِمَا فيه مِنْ الْفَوَائِد الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرهَا.
وَفيه إِعْلَام الْإِمَام وَالْعَالِم كِبَار أَصْحَابه مَا يَقَع لَهُ مِنْ الْأُمُور الْمُهِمَّة، وَالْبَعْث إِلَيْهِمْ لِإِعْلَامِهِمْ بِذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
3339- قَوْله: (يَوْم أَبِي جَنْدَل) هُوَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَاسْم أَبِي جَنْدَل: الْعَاص بْن سُهَيْل بْن عَمْرو.
قَوْله: «إِلَى أَمْركُمْ» هَذَا يَعْنِي الْقِتَال الْوَاقِع بَيْنهمْ وَبَيْن أَهْل الشَّام.
وَقَوْله: «أَمْر يَفْظَعنَا» أَيْ: يَشُقّ عَلَيْنَا وَنَخَافُهُ.
3340- قَوْله: (عَنْ أَبِي حَصِين) بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْر الصَّاد.
قَوْله: (عَنْ سَهْل بْن حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ: اِتَّهِمُوا رَأْيكُمْ عَلَى دِينكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْم أَبِي جَنْدَل، وَلَوْ أَسْتَطِيع أَنْ أَرُدّ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْم إِلَّا اِنْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْم) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث فِي نُسَخ صَحِيح مُسْلِم كُلّهَا، وَفيه مَحْذُوف، وَهُوَ جَوَاب (لَوْ) تَقْدِيره: وَلَوْ أَسْتَطِيع أَنْ أَرُدّ أَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْته، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ}، وَ{لَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} وَ{لَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} وَنَظَائِره، فَكُلّه مَحْذُوف جَوَاب (لَوْ) لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْله: (مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا) فَالضَّمِير فِي (مِنْهُ) عَائِد إِلَى قَوْله: اِتَّهِمُوا رَأْيكُمْ، وَمَعْنَاهُ مَا أَصْلَحْنَا مِنْ رَأْيكُمْ وَأَمْركُمْ هَذَا نَاحِيَة إِلَّا اِنْفَتَحَتْ أُخْرَى وَلَا يَصِحّ إِعَادَة الضَّمِير إِلَى غَيْر مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْله: (مَا فَتَحْنَا مِنْهُ خُصْمًا) فَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِم، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ غَلَط أَوْ تَغْيِير، وَصَوَابه: مَا سَدَدْنَا مِنْهُ خُصْمًا، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ (مَا سَدَدْنَا)، وَبِهِ يَسْتَقِيم الْكَلَام، وَيَتَقَابَل سَدَدْنَا بِقَوْلِهِ: إِلَّا اِنْفَجَرَ، وَأَمَّا (الْخُصْم) فَبِضَمِّ الْخَاء، وَخُصْم كُلّ شَيْء: طَرَفه وَنَاحِيَته، وَشَبَّهَهُ بِخُصْمِ الرَّاوِيَة وَانْفِجَار الْمَاء مِنْ طَرَفهَا أَوْ بِخُصْمِ الْغِرَارَة وَالْخُرْج وَانْصِبَاب مَا فيه بِانْفِجَارِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلِيل لِجَوَازِ مُصَالَحَة الْكُفَّار إِذَا كَانَ فيها مَصْلَحَة، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ عِنْد الْحَاجَة، وَمَذْهَبنَا أَنَّ مُدَّتهَا لَا تَزِيد عَلَى عَشْر سِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَام مُسْتَظْهِرًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَظْهِرًا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعَة أَشْهُر، وَفِي قَوْل يَجُوز دُون سَنَة، وَقَالَ مَالِك: لَا حَدّ لِذَلِكَ، بَلْ يَجُوز ذَلِكَ قَلَّ أَمْ كَثُرَ بِحَسَبِ رَأْي الْإِمَام. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ:

3342- قَوْله: (عَنْ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان: خَرَجْت أَنَا وَأَبِي حُسَيْل) إِلَى آخِره و(حُسَيْل) بِحَاءٍ مَضْمُومَة ثُمَّ سِين مَفْتُوحَة مُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ يَاء ثُمَّ لَام، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: (حِسْل) بِكَسْرِ الْحَاء وَإِسْكَان السِّين، وَهُوَ: وَالِد حُذَيْفَة، وَالْيَمَان لَقَب لَهُ، وَالْمَشْهُور فِي اِسْتِعْمَال الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ الْيَمَان بِالنُّونِ مِنْ غَيْر يَاء بَعْدهَا، وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة، وَالصَّحِيح: الْيَمَانِي بِالْيَاءِ، وَكَذَا عَمْرو بْن الْعَاصِي، وَعَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي الْمَوَالِي، وَشَدَّاد بْن الْهَادِي، وَالْمَشْهُور لِلْمُحَدِّثِينَ حَذْف الْيَاء، وَالصَّحِيح إِثْبَاتهَا.
قَوْله: «فَأَخَذَنَا كُفَّار قُرَيْش فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، قُلْنَا: مَا نُرِيدهُ، مَا نُرِيد إِلَّا الْمَدِينَة فَأَخَذُوا عَلَيْنَا عَهْد اللَّه وَمِيثَاقه لَنُصْرَفَنَّ إِلَى الْمَدِينَة وَلَا نُقَاتِل مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُول اللَّه فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَر فَقَالَ: اِنْصَرِفَا نَفْي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِين اللَّه عَلَيْهِمْ» فِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الْكَذِب فِي الْحَرْب، وَإِذَا أَمْكَنَ التَّعْرِيض فِي الْحَرْب فَهُوَ أَوْلَى، وَمَعَ هَذَا يَجُوز الْكَذِب فِي الْحَرْب وَفِي الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس، وَكَذِب الزَّوْج لِامْرَأَتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيث الصَّحِيح.
وَفيه: الْوَفَاء بِالْعَهْدِ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَسِير يُعَاهِد الْكُفَّار أَلَّا يَهْرَب مِنْهُمْ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَلْزَمهُ ذَلِكَ، بَلْ مَتَى أَمْكَنَهُ الْهَرَب هَرَبَ، وَقَالَ مَالِك: يَلْزَمهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهُوهُ فَحَلَفَ لَا يَهْرَب لَا يَمِين عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَه.
وَأَمَّا قَضِيَّة حُذَيْفَة وَأَبِيهِ فَإِنَّ الْكُفَّار اِسْتَحْلَفُوهُمَا لَا يُقَاتِلَانِ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُزَاة بَدْر، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَفَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ لِلْإِيجَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِب الْوَفَاء بِتَرْكِ الْجِهَاد مَعَ الْإِمَام وَنَائِبه، وَلَكِنْ أَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَشِيع عَنْ أَصْحَابه نَقْض الْعَهْد، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشِيع عَلَيْهِمْ لَا يَذْكُر تَأْوِيلًا.

.باب غَزْوَةِ الأَحْزَابِ:

3343- قَوْله: (كُنَّا عِنْد حُذَيْفَة فَقَالَ رَجُل: لَوْ أَدْرَكْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْت مَعَهُ وَأَبْلَيْت، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَة مَا قَالَ) مَعْنَاهُ أَنَّ حُذَيْفَة فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَالَغَ فِي نُصْرَته، وَلَزَادَ عَلَى الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِهِ فِي لَيْلَة الْأَحْزَاب، وَقَصَدَ زَجْره عَنْ ظَنّه أَنَّهُ يَفْعَل أَكْثَر مِنْ فِعْل الصَّحَابَة.
قَوْله: (وَأَخَذَتْنَا رِيح شَدِيدَة وَقُرّ) هُوَ بِضَمِّ الْقَاف، وَهُوَ: الْبَرْد.
وَقَوْله: (قُرِرْت) هُوَ بِضَمِّ الْقَاف وَكَسْر الرَّاء، أَيْ: بَرَدْت.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْم وَلَا تَذْعَرهُمْ عَلَيَّ» هُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة مَعْنَاهُ: لَا تُفَزِّعهُمْ عَلَيَّ وَلَا تُحَرِّكهُمْ عَلَيَّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تُنَفِّرهُمْ وَهُوَ قَرِيب مِنْ الْمَعْنَى الْأَوَّل، وَالْمُرَاد: لَا تُحَرِّكهُمْ عَلَيْك فَإِنَّهُمْ إِنْ أَخَذُوك كَانَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيَّ لِأَنَّك رَسُولِي وَصَاحِبِي.
وَقَوْله: «فَلَمَّا وَلَّيْت مِنْ عِنْده جَعَلْت كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّام حَتَّى أَتَيْتهمْ» يَعْنِي: أَنَّهُ لَمْ يَجِد الْبَرْد الَّذِي يَجِدهُ النَّاس. وَلَا مِنْ تِلْكَ الرِّيح الشَّدِيدَة شَيْئًا؛ بَلْ عَافَاهُ اللَّه مِنْهُ بِبَرَكَةِ إِجَابَته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَابه فِيمَا وَجَّهَهُ لَهُ، وَدُعَائِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ اللُّطْف بِهِ وَمُعَافَاته مِنْ الْبَرْد حَتَّى عَادَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعَ وَوَصَلَ عَادَ إِلَيْهِ الْبَرْد الَّذِي يَجِدهُ النَّاس، وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَات رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَفْظَة الْحَمَّام عَرَبِيَّة، وَهُوَ مُذَكَّر مُشْتَقّ مِنْ الْحَمِيم، وَهُوَ: الْمَاء الْحَارّ.
قَوْله: (فَرَأَيْت أَبَا سُفْيَان يَصْلِي ظَهْره) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَإِسْكَان الصَّاد أَيْ: يُدْفِئهُ وَيُدْنِيه مِنْهَا، وَهُوَ الصَّلَا بِفَتْحِ الصَّاد وَالْقَصْر، وَالصِّلَاء بِكَسْرِهَا وَالْمَدّ.
قَوْله: (كَبِد الْقَوْس) هُوَ: مِقْبَضهَا، وَكَبِد كُلّ شَيْء وَسَطه.
قَوْله: (فَأَلْبَسَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْل عَبَاءَة كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فيها) الْعَبَاءَة بِالْمَدِّ، وَالْعَبَايَة بِزِيَادَةِ يَاء لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ.
وَفيه: جَوَاز الصَّلَاة فِي الصُّوف، وَهُوَ جَائِز بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ، وَسَوَاء الصَّلَاة عَلَيْهِ وَفيه. وَلَا كَرَاهِيَة فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْعَبْدَرِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: وَقَالَتْ الشِّيعَة: لَا تَجُوز الصَّلَاة عَلَى الصُّوف، وَتَجُوز فيه، وَقَالَ مَالِك: يُكْرَه كَرَاهَة تَنْزِيه.
قَوْله: «فَلَمْ أَزَل نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْت فَلَمَّا أَصْبَحْت قَالَ: قُمْ يَا نَوْمَان» هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَان الْوَاو وَهُوَ كَثِير النَّوْم، وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل فِي النِّدَاء كَمَا اِسْتَعْمَلَهُ هُنَا، وَقَوْله: «أَصْبَحْت» أَيْ: طَلَعَ الْفَجْر.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ وَأَمِير الْجَيْش بَعْث الْجَوَاسِيس وَالطَّلَائِع لِكَشْفِ خَبَر الْعَدُوّ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب غَزْوَةِ أُحُدٍ:

3344- قَوْله: «حَدَّثَنَا هَدَّاب بْن خَالِد الْأَزْدِيُّ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (الْأَزْدِيُّ) وَكَذَا قَالَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَابْن أَبِي حَاتِم فِي كِتَابه وَغَيْرهمَا، وَذَكَرَهُ اِبْن عَدِيّ وَالسَّمْعَانِيّ فَقَالَا: هُوَ قَيْسِيّ، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَخَاهُ أُمَيَّة بْن خَالِد فَنَسَبَهُ قَيْسِيًّا، وَذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ فَقَالَ: الْقَيْسِيّ الْأَزْدِيُّ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَانِ نِسْبَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، لِأَنَّ الْأَزْد مِنْ الْيَمَن، وَقَيْس مِنْ مَعَدّ، قَالَ: وَلَكِنْ قَيْس هُنَا لَيْسَ قَيْس غَيْلَان، بَلْ قَيْس بْن يُونَان مِنْ الْأَزْدِ فَتَصِحّ النِّسْبَتَانِ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ مِثْل هَذَا فِي صَحِيح مُسْلِم فِي زِيَاد اِبْن رَبَاح الْقَيْسِيّ، وَيُقَال: رِيَاح، كَذَا نَسَبَهُ مُسْلِم فِي غَيْر مَوْضِع الْقَيْسِيّ، وَقَالَ فِي النُّذُور: التَّيْمِيِّ، قِيلَ: لَعَلَّهُ مِنْ تَيْم بْن قَيْس بْن ثَعْلَبَة بْن بَكْر بْن وَائِل، فَيَجْتَمِع النِّسْبَتَانِ، وَإِلَّا فَتَيْم قُرَيْش لَا يَجْتَمِع هِيَ وَقَيْس، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان ضَبْط (هَدَّاب) هَذَا مَرَّات، وَأَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَاء وَتَشْدِيد الدَّال، وَأَنَّهُ يُقَال لَهُ (هُدْبَة) بِضَمِّ الْهَاء، قِيلَ: هُدْبَة اِسْم، وَهَدَّاب لَقَب، وَقِيلَ: عَكْسه.
قَوْله: (فَلَمَّا رَهِقُوهُ) هُوَ بِكَسْرِ الْهَاء، أَيْ: غَشُوهُ وَقَرُبُوا مِنْهُ، أَرْهَقَهُ، أَيْ غَشِيَهُ، قَالَ صَاحِب الْأَفْعَال: رَهِقْته وَأَرْهَقْته، أَيْ: أَدْرَكْته، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: قِيلَ: لَا يُسْتَعْمَل ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمَكْرُوه، قَالَ: وَقَالَ ثَابِت: كُلّ شَيْء دَنَوْت مِنْهُ فَقَدْ رَهِقْته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُ سَبْعَة رِجَال مِنْ الْأَنْصَار، وَرَجُلَانِ مِنْ قُرَيْش، فَقُتِلَتْ السَّبْعَة، فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابنَا» الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة فيه: «مَا أَنْصَفْنَا» بِإِسْكَانِ الْفَاء، و«أَصْحَابنَا» مَنْصُوب مَفْعُول بِهِ هَكَذَا ضَبَطَهُ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَمَعْنَاهُ: مَا أَنْصَفَتْ قُرَيْش الْأَنْصَار، لِكَوْنِ الْقُرَيْشِيِّينَ لَمْ يَخْرُجَا لِلْقِتَالِ، بَلْ خَرَجَتْ الْأَنْصَار وَاحِدًا بَعْد وَاحِد، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْره أَنَّ بَعْضهمْ رَوَاهُ: «مَا أَنْصَفَنَا» بِفَتْحِ الْفَاء، وَالْمُرَاد عَلَى هَذَا: الَّذِينَ فَرُّوا مِنْ الْقِتَال، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا لِفِرَارِهِمْ.
3345- قَوْله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى التَّمِيمِيّ حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي حَازِم عَنْ أَبِيهِ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَاب الْأَطْرَاف، وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ بَعْض رُوَاة كِتَاب مُسْلِم أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَبَا بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة بَدَل يَحْيَى بْن يَحْيَى، قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
قَوْله: «وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَته» هِيَ بِتَخْفِيفِ الْيَاء، وَهِيَ السِّنّ الَّتِي تَلِي الثَّنِيَّة مِنْ كُلّ جَانِب، وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَع رَبَاعِيَات، وَفِي هَذَا وُقُوع الِانْتِقَام وَالِابْتِلَاء بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ لِيَنَالُوا جَزِيل الْأَجْر، وَلِتَعْرِفَ أُمَمهمْ وَغَيْرهمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَيَتَأَسَّوْا بِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي: وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ مِنْ الْبَشَر تُصِيبهُمْ مِحَن الدُّنْيَا، وَيَطْرَأ عَلَى أَجْسَامهمْ مَا يَطْرَأ عَلَى أَجْسَام الْبَشَر، لِيَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، وَلَا يُفْتَتَن بِمَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهمْ مِنْ الْمُعْجِزَات، وَتَلْبِيس الشَّيْطَان مِنْ أَمْرهمْ مَا لَبَّسَهُ عَلَى النَّصَارَى وَغَيْرهمْ.
قَوْله: «وَهُشِمَتْ الْبَيْضَة عَلَى رَأْسه» فيه: اِسْتِحْبَاب لُبْس الْبَيْضَة وَالدُّرُوع وَغَيْرهَا مِنْ أَسْبَاب التَّحَصُّن فِي الْحَرْب، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي التَّوَكُّل.
قَوْله: «يَسْكُب عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ» أَيْ: يَصُبّ عَلَيْهَا بِالتُّرْسِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: إِثْبَات الْمُدَاوَاة، وَمُعَالَجَة الْجِرَاح، وَأَنَّهُ لَا يَقْدَح فِي التَّوَكُّل لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَتَوَكَّلَ عَلَى الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت} قَوْله: «دُووِيَ جُرْحه» هُوَ بِوَاوَيْنِ، وَيَقَع فِي بَعْض النُّسَخ بِوَاوٍ وَاحِدَة، وَتَكُون الْأُخْرَى مَحْذُوفَة كَمَا حُذِفَتْ مِنْ دَاوُدَ فِي الْخَطّ.
3347- قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَى نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ ضَرَبَهُ قَوْمه وَهُوَ يَمْسَح الدَّم عَنْ وَجْهه وَيَقُول: رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» فيه مَا كَانُوا عَلَيْهِ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ مِنْ الْحِلْم وَالتَّصَبُّر، وَالْعَفْو وَالشَّفَقَة عَلَى قَوْمهمْ، وَدُعَائِهِمْ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْغُفْرَان، وَعُذْرهمْ فِي جِنَايَتهمْ عَلَى أَنْفُسهمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا النَّبِيّ الْمُشَار إِلَيْهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ جَرَى لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل هَذَا يَوْم أُحُد.
قَوْله: «وَهُوَ يَنْضِح الدَّم عَنْ جَبِينه» هُوَ بِكَسْرِ الضَّاد، أَيْ: يَغْسِلهُ وَيُزِيلهُ.

.باب اشْتِدَادِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

3348- قَوْله: «اِشْتَدَّ غَضَب اللَّه تَعَالَى عَلَى رَجُل يَقْتُلهُ رَسُول اللَّه فِي سَبِيل اللَّه» فَقَوْله: «فِي سَبِيل اللَّه» اِحْتِرَاز مِمَّنْ يَقْتُلهُ فِي حَدّ أَوْ قِصَاص؛ لِأَنَّ مَنْ يَقْتُلهُ فِي سَبِيل اللَّه كَانَ قَاصِدًا قَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ:

3349- قَوْله: (أَيّكُمْ يَقُوم إِلَى سَلَا جَزُور بَنِي فُلَان... إِلَى آخِره) (السَّلَا) بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف اللَّام مَقْصُور، وَهُوَ: اللِّفَافَة الَّتِي يَكُون فيها الْوَلَد فِي بَطْن النَّاقَة وَسَائِر الْحَيَوَان، وَهِيَ مِنْ الْآدَمِيَّة: الْمَشِيمَة.
قَوْله: (فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْم) هُوَ: عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِشْكَال، فَإِنَّهُ يُقَال: كَيْف اِسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاة مَعَ وُجُود النَّجَاسَة عَلَى ظَهْره؟ وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاض: بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَجِسٍ.
قَالَ: لِأَنَّ الْفَرْث وَرُطُوبَة الْبَدَن طَاهِرَانِ، وَالسَّلَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا النَّجِس الدَّم، وَهَذَا الْجَوَاب يَجِيء عَلَى مَذْهَب مَالِك وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ رَوْث مَا يُؤْكَل لَحْمه طَاهِر، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَآخَرِينَ نَجَاسَته، وَهَذَا الْجَوَاب الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي ضَعِيف أَوْ بَاطِل؛ لِأَنَّ هَذَا السَّلَا يَتَضَمَّن النَّجَاسَة مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَنْفَكّ مِنْ الدَّم فِي الْعَادَة، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَة عُبَّاد الْأَوْثَان فَهُوَ نَجِس، وَكَذَلِكَ اللَّحْم، وَجَمِيع أَجْزَاء هَذَا الْجَزُور.
وَأَمَّا الْجَوَاب الْمُرْضِيّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَم مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْره، فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُوده اِسْتِصْحَابًا لِلطَّهَارَةِ، وَمَا نَدْرِي هَلْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاة فَرِيضَة فَتَجِب إِعَادَتهَا عَلَى الصَّحِيح عِنْدنَا أَمْ غَيْرهَا فَلَا تَجِب؟ فَإِنْ وَجَبَتْ الْإِعَادَة فَالْوَقْت مُوَسَّع لَهَا فَإِنْ قِيلَ يَبْعُد أَلَّا يُحِسّ بِمَا وَقَعَ عَلَى ظَهْره، قُلْنَا: وَإِنْ أَحَسَّ بِهِ فَمَا يَتَحَقَّق أَنَّهُ نَجَاسَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَة طَرَحْته) هِيَ بِفَتْحِ النُّون، وَحُكِيَ إِسْكَانهَا، وَهُوَ شَاذّ ضَعِيف، وَمَعْنَاهُ: لَوْ كَانَ لِي قُوَّة تَمْنَع أَذَاهُمْ، أَوْ كَانَ لِي عَشِيرَة بِمَكَّةَ تَمْنَعنِي، وَعَلَى هَذَا (مَنَعَة) جَمْع (مَانِع) كَكَاتِبِ وَكَتَبَة.
قَوْله: «وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا» فيه: اِسْتِحْبَاب تَكْرِير الدُّعَاء ثَلَاثًا. وَقَوْله: (وَإِذَا سَأَلَ) هُوَ الدُّعَاء، لَكِنْ عَطَفَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ تَوْكِيدًا.
قَوْله: «ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْك بِأَبِي جَهْل بْن هِشَام وَعُتْبَةَ بْن رَبِيعَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة وَالْوَلِيد بْن عُقْبَةَ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم (وَالْوَلِيد بْن عُقْبَةَ) بِالْقَافِ، اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ غَلَط، وَصَوَابه (وَالْوَلِيد بْن عُتْبَةَ) بِالتَّاءِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر اِبْن أَبِي شَيْبَة بَعْد هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَغَيْره مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث عَلَى الصَّوَاب، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان فِي آخِر الْحَدِيث فَقَالَ: الْوَلِيد بْن عُقْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث غَلَط، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْوَلِيد بْن عُقْبَةَ بِالْقَافِ هُوَ اِبْن أَبِي مُعَيْط، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْوَقْت مَوْجُودًا أَوْ كَانَ طِفْلًا صَغِيرًا جِدًّا، فَقَدْ أَتَى بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح وَهُوَ قَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَام لِيَمْسَحَ عَلَى رَأْسه.
قَوْله: «وَذَكَرَ السَّابِع وَلَمْ أَحْفَظهُ» وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ تَسْمِيَة السَّابِع أَنَّهُ عُمَارَة بْن الْوَلِيد.
قَوْله: «وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْت الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْم بَدْر ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيب قَلِيب بَدْر» هَذِهِ إِحْدَى دَعَوَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَابَة، (وَالْقَلِيب): هِيَ الْبِئْر الَّتِي لَمْ تُطْوَ، وَإِنَّمَا وُضِعُوا فِي الْقَلِيب تَحْقِيرًا لَهُمْ، وَلِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاس بِرَائِحَتِهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ دَفْنًا لِأَنَّ الْحَرْبِيّ لَا يَجِب دَفْنه، قَالَ أَصْحَابنَا: بَلْ يُتْرَك فِي الصَّحْرَاء، إِلَّا أَنْ يُتَأَذَّى بِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: اِعْتَرَضَ بَعْضهمْ عَلَى هَذَا الْحَدِيث فِي قَوْله: رَأَيْتهمْ صَرْعَى بِبَدْرٍ، وَمَعْلُوم أَنَّ أَهْل السِّيَر قَالُوا: إِنَّ عُمَارَة بْن الْوَلِيد وَهُوَ أَحَد السَّبْعَة، كَانَ عِنْد النَّجَاشِيّ، فَاتَّهَمَهُ فِي حَرَمه، وَكَانَ جَمِيلًا، فَنَفَخَ فِي إِحْلِيله سِحْرًا فَهَامَ مَعَ الْوُحُوش فِي بَعْض جَزَائِر الْحَبَشَة فَهَلَكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَجَوَابه أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ رَأَى أَكْثَرهمْ بِدَلِيلِ أَنَّ عُقْبَةَ بْن أَبِي مُعَيْط مِنْهُمْ وَلَمْ يُقْتَل بِبَدْرٍ، بَلْ حُمِلَ مِنْهَا أَسِيرًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا بَعْد اِنْصِرَافه مِنْ بَدْر بِعِرْقِ الظُّبْيَة، قُلْت: الظُّبْيَة: ظَاء مُعْجَمَة مَضْمُومَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة سَاكِنَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة تَحْت ثُمَّ هَاء، هَكَذَا ضَبَطَهُ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابه الْمُؤْتَلِف فِي الْأَمَاكِن، قَالَ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هُوَ مِنْ الرَّوْحَاء عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة.
3350- قَوْله: «تَقَطَّعَتْ أَوْصَاله فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْر» الْأَوْصَال: الْمَفَاصِل.
قَوْله: «فَلَمْ يُلْقَ» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ بِالْقَافِ فَقَطْ، وَفِي أَكْثَرهَا (فَلَمْ يُلْقَى) بِالْأَلِفِ وَهُوَ جَائِز عَلَى لُغَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات وَقَرِيبًا.
قَوْله فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة: «وَكَانَ يُسْتَحَبّ ثَلَاثًا» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا: (يُسْتَحَبّ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة فِي آخِره، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ بِهَاءٍ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَر، وَمَعْنَاهُ الْإِلْحَاح.
3352- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَمْ أَسْتَفِق إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِب» أَيْ: لَمْ أَفْطِن لِنَفْسِي وَأَتَنَبَّه لِحَالِي وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي أَنَا ذَاهِب إِلَيْهِ.
وَفيه، إِلَّا وَأَنَا عِنْد قَرْن الثَّعَالِب لِكَثْرَةِ هَمِّي الَّذِي كُنْت فيه، قَالَ الْقَاضِي: قَرْن الثَّعَالِب وَهُوَ قَرْن الْمَنَازِل، وَهُوَ مِيقَات أَهْل نَجْد، وَهُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّة، وَأَصْل الْقَرْن: كُلّ جَبَل صَغِير يَنْقَطِع مِنْ جَبَل كَبِير.
قَوْله: «إِنْ شِئْت أَطْبَقْت عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ» هُمَا بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِالْخَاءِ وَالشِّين الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُمَا جَبَلَا مَكَّة: أَبُو قُبَيْس، وَالْجَبَل الَّذِي يُقَابِلهُ.
3353- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَع دَمِيتِ وَفِي سَبِيل اللَّه مَا لَقِيت» لَفْظ (مَا) هُنَا بِمَعْنَى (الَّذِي) أَيْ: الَّذِي لَقِيته مَحْسُوب فِي سَبِيل اللَّه، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَاب غَزْوَة حُنَيْنٍ أَنَّ الرَّجَز هَلْ هُوَ شِعْر؟ وَأَنَّ مَنْ قَالَ: هُوَ شِعْر قَالَ: شَرَطَ أَنْ يَكُون مَقْصُودًا، وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُودًا، وَأَنَّ الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة: دَمِيتِ وَلَقِيت بِكَسْرِ التَّاء، وَأَنَّ بَعْضهمْ أَسْكَنَهَا.
قَوْله: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَار فَنُكِبَتْ أُصْبُعه» كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (فِي غَار) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْكِنَانِيّ: لَعَلَّهُ (غَازِيًا) فَتَصَحَّفَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فِي بَعْض الْمُشَاهَدَة»، وَكَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «بَيْنَمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَر»، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يُرَاد بِالْغَارِ هُنَا الْجَيْش وَالْجَمْع، لَا الْغَار الَّذِي هُوَ الْكَهْف، فَيُوَافِق رِوَايَة بَعْض الْمُشَاهَد، وَمِنْهُ قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «مَا ظَنّك بِامْرِئٍ بَيْن هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ» أَيْ: الْعَسْكَرَيْنِ وَالْجَمْعَيْنِ.
3355- قَوْله: «وَاشْتَكَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتْهُ اِمْرَأَة فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّد إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُون شَيْطَانك قَدْ تَرَكَك، لَمْ أَرَهُ قَرِبَك مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْل إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَك رَبّك وَمَا قَلَى}» قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: مَا وَدَّعَك، أَيْ: مَا قَطَعَك مُنْذُ أَرْسَلَك، وَمَا قَلَى: أَيْ: مَا أَبْغَضَك، وَسُمِّيَ الْوَدَاع وَدَاعًا لِأَنَّهُ فِرَاق وَمُتَارَكَة، وَقَوْله: (مَا قَرِبَك) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاء، وَالْمُضَارِع يَقْرَبك بِفَتْحِهَا، وَقَوْله: (مَا وَدَّعَك) هُوَ بِتَشْدِيدِ الدَّال عَلَى الْقِرَاءَات الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَقُرِئَ فِي الشَّاذّ بِتَخْفِيفِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُوَ مِنْ وَدَعَهُ يَدَعهُ، مَعْنَاهُ: مَا تَرَكَك، قَالَ الْقَاضِي: النَّحْوِيُّونَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَأْتِي مِنْهُ مَاضٍ أَوْ مَصْدَر، قَالُوا: وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَل وَالْأَمْر لَا غَيْر، وَكَذَلِكَ (يَذَر) قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَل مِنْهُمَا جَمِيعًا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَكَأَنَّ مَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَكْثَر نَفْعًا مِنْ الَّذِي وَدَعُوا وَقَالَ: مَا الَّذِي غَالَهُ فِي الْوَادّ حَتَّى يَدَعهُ غَالَهُ: بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة، أَيْ أَخَذَهُ.