فصل: باب بَيَانِ الزَّمَنِ الَّذِي لاَ يُقْبَلُ فيه الإِيمَانُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِتَظَاهُرِ الأَدِلَّةِ:

216- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْف تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم عَلَى أَقْوَال كَثِيرَة أَحْسَنهَا وَأَصَحّهَا مَا قَالَهُ الْإِمَام أَبُو إِبْرَاهِيم الْمُزَنِيُّ صَاحِب الشَّافِعِيّ وَجَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّكّ مُسْتَحِيل فِي حَقّ إِبْرَاهِيم فَإِنَّ الشَّكّ فِي إِحْيَاء الْمَوْتَى لَوْ كَانَ مُتَطَرِّقًا إِلَى الْأَنْبِيَاء لَكُنْت أَنَا أَحَقّ بِهِ مِنْ إِبْرَاهِيم وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَشُكّ فَاعْلَمُوا أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَشُكّ، وَإِنَّمَا خُصَّ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِ الْآيَة قَدْ يَسْبِق إِلَى بَعْض الْأَذْهَان الْفَاسِدَة مِنْهَا اِحْتِمَال الشَّكِّ وَإِنَّمَا رَجَعَ إِبْرَاهِيم عَلَى نَفْسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاضُعًا وَأَدَبًا أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَيْر وَلَد آدَم.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: لَمَّا نَزَلَ قَوْل اللَّه تَعَالَى: {أَوَ لَمْ تُؤْمِن} قَالَتْ طَائِفَة: شَكَّ إِبْرَاهِيم وَلَمْ يَشُكّ نَبِيّنَا. فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْهُ» فَذَكَرَ نَحْو مَا قَدَّمْته ثُمَّ قَالَ: وَيَقَع لِي فيه مَعْنَيَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَج الْعَادَة فِي الْخِطَاب فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ الْمُدَافَعَة عَنْ إِنْسَان قَالَ لِلْمُتَكَلِّمِ فيه: مَا كُنْت قَائِلًا لِفُلَانٍ أَوْ فَاعِلًا مَعَهُ مِنْ مَكْرُوه فَقُلْهُ لِي وَافْعَلْهُ مَعِي. وَمَقْصُوده لَا تَقُلْ ذَلِكَ فيه.
وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَظُنُّونَهُ شَكًّا أَنَا أَوْلَى بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَكٍّ وَإِنَّمَا هُوَ طَلَب لِمَزِيدِ الْيَقِين. وَقِيلَ غَيْر هَذَا مِنْ الْأَقْوَال فَنَقْتَصِر عَلَى هَذِهِ لِكَوْنِهَا أَصَحّهَا وَأَوْضَحهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا سُؤَال إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْعُلَمَاء فِي سَبَبه أَوْجُهًا أَظْهَرهَا أَنَّهُ أَرَادَ الطُّمَأْنِينَة بِعِلْمِ كَيْفِيَّة الْإِحْيَاء مُشَاهَدَة بَعْدَ الْعِلْم بِهَا اِسْتِدْلَالًا فَإِنَّ عِلْم الِاسْتِدْلَال قَدْ تَتَطَرَّق إِلَيْهِ الشُّكُوك فِي الْجُمْلَة بِخِلَافِ عِلْم الْمُعَايَنَة فَإِنَّهُ ضَرُورِيّ وَهَذَا مَذْهَب الْإِمَام أَبِي مَنْصُور الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره.
وَالثَّانِي أَرَادَ اِخْتِبَار مَنْزِلَته عِنْد رَبّه فِي إِجَابَة دُعَائِهِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} أَيْ تُصَدِّق بِعِظَمِ مَنْزِلَتك عِنْدِي وَاصْطِفَائِك وَخُلَّتك.
وَالثَّالِث سَأَلَ زِيَادَة يَقِين وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّل شَكًّا فَسَأَلَ التَّرَقِّي مِنْ عِلْم الْيَقِين إِلَى عَيْن الْيَقِين؛ فَإِنَّ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ تَفَاوُتًا قَالَ سَهْل بْن عَبْد اللَّه التُّسْتُرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: سَأَلَ كَشْف غِطَاء الْعِيَان لِيَزْدَادَ بِنُورِ الْيَقِين تَمَكُّنًا.
وَالرَّابِع أَنَّهُ لَمَّا اِحْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يُحْيِي وَيُمِيت طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى لِيُظْهِرَ دَلِيله عِيَانًا. وَقِيلَ أَقْوَال أُخَر كَثِيرَة لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ.
قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْوَاحِدِيّ رَحِمَهُ اللَّه: اِخْتَلَفُوا فِي سَبَب سُؤَاله فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ رَأَى جِيفَة بِسَاحِلِ الْبَحْر يَتَنَاوَلهَا السِّبَاع وَالطَّيْر وَدَوَابّ الْبَحْر فَتَفَكَّرَ كَيْف يَجْتَمِع مَا تَفَرَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِيفَة؟ وَتَطَلَّعَتْ نَفْسه إِلَى مُشَاهَدَة مَيِّت يُحْيِيه رَبّه وَلَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي إِحْيَاء الْمَوْتَى، وَلَكِنْ أَحَبَّ رُؤْيَة ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ أَنْ يَرَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَنَّة، وَيُحِبُّونَ رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى مَعَ الْإِيمَان بِكُلِّ ذَلِكَ وَزَوَال الشُّكُوك عَنْهُ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْهَمْزَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} هَمْزَة إِثْبَات كَقَوْلِ جَرِير: أَلَسْتُمْ خَيْر مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَرْحَم اللَّه لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْن شَدِيد» فَالْمُرَاد بِالرُّكْنِ الشَّدِيد هُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ أَشَدّ الْأَرْكَان وَأَقْوَاهَا وَأَمْنَعهَا وَمَعْنَى الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم: أَنَّ لُوطًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَافَ عَلَى أَضْيَافه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَشِيرَة تَمْنَعهُمْ مِنْ الظَّالِمِينَ ضَاقَ ذَرْعه وَاشْتَدَّ حُزْنه عَلَيْهِمْ، فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْحَال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكَمْ قُوَّة} فِي الدَّفْع بِنَفْسِي {أَوْ آوِي} إِلَى عَشِيرَة تَمْنَع لَمَنَعْتُكُم وَقَصْد لُوط صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِظْهَار الْعُذْر عِنْد أَضْيَافه، وَأَنَّهُ لَوْ اِسْتَطَاعَ دَفْع الْمَكْرُوه عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ مَا لَفَعَلَهُ وَأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعه فِي إِكْرَامهمْ وَالْمُدَافَعَة عَنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِعْرَاضًا مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاعْتِمَاد عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَطْيِيب قُلُوب الْأَضْيَاف وَيَجُوز أَنْ يَكُون نَسِيَ الِالْتِجَاء إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي حِمَايَتهمْ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِلْتَجَأَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى وَأَظْهَرَ لِلْأَضْيَافِ التَّأَلُّم وَضِيق الصَّدْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْن طُول لُبْث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي» فَهُوَ ثَنَاء عَلَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَبَيَان لِصَبْرِهِ وَتَأَنِّيه وَالْمُرَاد بِالدَّاعِي رَسُول الْمَلِك الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: {اِئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ اِرْجِعْ إِلَى رَبّك فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فَلَمْ يَخْرُج يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَادِرًا إِلَى الرَّاحَة وَمُفَارَقَة السَّجْن الطَّوِيل بَلْ تَثَبَّتَ وَتَوَقَّرَ وَرَاسَلَ الْمَلِك فِي كَشْف أَمْره الَّذِي سُجِنَ بِسَبَبِهِ وَلِتَظْهَرَ بَرَاءَته عِنْدَ الْمَلِك وَغَيْره وَيَلْقَاهُ مَعَ اِعْتِقَاده بَرَاءَته مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ وَلَا خَجَل مِنْ يُوسُف وَلَا غَيْره فَبَيَّنَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَة يُوسُف فِي هَذَا وَقُوَّة نَفْسه فِي الْخَيْر وَكَمَال صَبْره وَحُسْن نَظَره وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسه مَا قَالَهُ تَوَاضُعًا وَإِيثَارًا لِلْإِبْلَاغِ فِي بَيَان كَمَال فَضِيلَة يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِأَسَانِيد الْبَاب فَفيه مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانه (الْمُسَيَّب) وَالِد سَعِيد وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء عَلَى الْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُور وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرهَا وَهُوَ قَوْل أَهْل الْمَدِينَة.
وَفيه (أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف) وَاسْمه عَبْد اللَّه عَلَى الْمَشْهُور وَقِيلَ: اِسْمه إِسْمَاعِيل، وَقِيلَ: لَا يُعْرَف اِسْمه.
وَفيه قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (وَحَدَّثَنِي بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عَبْد اللَّه بْن أَسْمَاء) هَذَا مِمَّا قَدْ يُنْكِرهُ عَلَى مُسْلِم مَنْ لَا عِلْم عِنْده وَلَا خِبْرَة لَدَيْهِ لِكَوْنِ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فَيَقُول كَيْف يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ يَشُكّ فيه وَهَذَا خَيَال بَاطِل مِنْ قَائِله فَإِنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه لَمْ يَحْتَجّ بِهَذَا الْإِسْنَاد وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَة وَاسْتِشْهَادًا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ يَحْتَمِلُونَ فِي الْمُتَابَعَات وَالشَّوَاهِد مَا لَا يَحْتَمِلُونَ فِي الْأُصُول وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَفيه (أَبُو عُبَيْد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة) وَاسْم أَبِي عُبَيْد هَذَا سَعْد بْن عُبَيْد الْمَدَنِيّ مَوْلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن أَزْهَر، وَيُقَال: مَوْلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف.
وَفيه (أَبُو أُوَيْس) وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن أُوَيْس بْن مَالِك بْن أَبِي عَامِر الْأَصْبَحِيّ الْمَدَنِيّ.
وَمِنْ أَلْفَاظ الْبَاب قَوْله: «قَرَأَ الْآيَة حَتَّى جَازَهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنْجَزَهَا» مَعْنَى جَازَهَا فَرَغَ مِنْهَا وَمَعْنَى أَنْجَزَهَا أَتَمَّهَا.
وَفيه (يُوسُف) وَفيه سِتّ لُغَات ضَمّ السِّين وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا مَعَ الْهَمْز فيهنَّ وَتَرْكه. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب وُجُوبِ الإِيمَانِ بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ:

217- فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَات مَا مِثْله آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَر وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيَتْهُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّه إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا يَوْم الْقِيَامَة».
أَمَّا أَلْفَاظ الْبَاب:
فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِثْله آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَر» (آمَنَ) بِالْمَدِّ وَفَتْح الْمِيم، و(مِثْله) مَرْفُوع.
أَمَّا مَعَانِي الْحَدِيث فَاخْتُلِفَ فيه عَلَى أَقْوَال أَحَدهَا- أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مِنْ الْمُعْجِزَات مَا كَانَ مِثْله لِمَنْ كَانَ قَبْله مِنْ الْأَنْبِيَاء فَآمَنَ بِهِ الْبَشَر.
وَأَمَّا مُعْجِزَتِي الْعَظِيمَة الظَّاهِرَة فَهِيَ الْقُرْآن الَّذِي لَمْ يُعْطَ أَحَد مِثْله، فَلِهَذَا قَالَ: أَنَا أَكْثَرهمْ تَابِعًا.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي أُوتِيته لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ تَخْيِيل بِسِحْرٍ وَشُبْهَة بِخِلَافِ مُعْجِزَة غَيْرِي فَإِنَّهُ قَدْ يُخَيِّل السَّاحِر بِشَيْءٍ مِمَّا يُقَارِب صُورَتهَا كَمَا خَيَّلَتْ السَّحَرَة فِي صُورَة عَصَا مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخَيَال قَدْ يَرُوج عَلَى بَعْض الْعَوَامّ، وَالْفَرْق بَيْن الْمُعْجِزَة وَالسِّحْر وَالتَّخْيِيل يَحْتَاج إِلَى فِكْر وَنَظَر، وَقَدْ يُخْطِئ النَّاظِر فَيَعْتَقِدهُمَا سَوَاء. وَالثَّالِث مَعْنَاهُ أَنَّ مُعْجِزَات الْأَنْبِيَاء اِنْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارهمْ وَلَمْ يُشَاهِدهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا بِحَضْرَتِهِمْ، وَمُعْجِزَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآن الْمُسْتَمِرّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة مَعَ خَرْق الْعَادَة فِي أُسْلُوبه وَبَلَاغَته وَإِخْبَاره بِالْمُغَيَّبَاتِ وَعَجْز الْجِنّ وَالْإِنْس عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فِي جَمِيع الْأَعْصَار، وَمَعَ اِعْتِنَائِهِمْ بِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَقْدِرُوا وَهُمْ أَفْصَح الْقُرُون مَعَ غَيْر ذَلِكَ مِنْ وُجُوه إِعْجَازه الْمَعْرُوفَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا» عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذَا فِي زَمَن قِلَّة الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ مَنَّ اللَّه تَعَالَى وَفَتَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْبِلَاد وَبَارَكَ فيهمْ حَتَّى اِنْتَهَى الْأَمْر وَاتَّسَعَ الْإِسْلَام فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَة الْمَعْرُوفَة وَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى هَذِهِ النِّعْمَة وَسَائِر نِعَمه الَّتِي لَا تُحْصَى وَاَللَّه أَعْلَم.
218- فيه: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» وَفيه قَوْلُ مُسْلِمٍ: (حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ أَبَا يُونُسَ حَدَّثَهُ) فَقَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو) وَهُوَ بِالْوَاوِ فِي أَوَّلِ وَأَخْبَرَنِي وَهِيَ وَاوٌ حَسَنَةٌ فيها دَقِيقَةٌ نَفِيسَةٌ وَفَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ يُونُسَ سَمِعَ مِنْ ابْنِ وَهْبٍ أَحَادِيثَ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْحَدِيثَ وَلَيْسَ هُوَ أَوَّلَهَا فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ فِي رِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو بِكَذَا ثُمَّ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو بِكَذَا، وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو بِكَذَا، إِلَى آخِرِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فَإِذَا رَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ غَيْرَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو فَيَأْتِي بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ هَكَذَا، وَلَوْ حَذَفَهَا لَجَازَ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى الْإِتْيَانُ بِهَا لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ. وَاللَّهُأَعْلَمُ.
وَأَمَّا (أَبُو يُونُسَ) فَاسْمُهُ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفيه نَسْخُ الْمِلَلِ كُلِّهَا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي مَفْهُومِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكُلُّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
219- فيه حَدِيث: «ثَلَاثَة يُؤْتَوْنَ أَجْرهمْ مَرَّتَيْنِ» وَفيه (هُشَيْمٌ عَنْ صَالِح بْن صَالِح الْهَمْدَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَهْل خُرَاسَان سَأَلَ الشَّعْبِيّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرو) أَمَّا (هُشَيْمٌ) فَبِضَمِّ الْهَاء وَهُوَ مُدَلِّس، وَقَدْ قَالَ عَنْ صَالِح، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْل هَذَا إِذَا كَانَ فِي الصَّحِيح مَحْمُول عَلَى أَنَّ هُشَيْمًا ثَبَتَ سَمَاعه لِهَذَا الْحَدِيث مِنْ صَالِح.
وَأَمَّا (صَالِح) فَهُوَ صَالِح بْن صَالِح بْن مُسْلِم بْن حَيَّان وَلَقَبُ حَيَّان حَيّ قَالَهُ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَغَيْره.
وَأَمَّا (الْهَمْدَانِيُّ) فَبِإِسْكَانِ الْمِيم وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة.
وَأَمَّا (الشَّعْبِيّ) بِفَتْحِ الشِّين فَاسْمه عَامِر وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد لَطِيفَة يَتَكَرَّر مِثْلهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانهَا وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ صَالِح عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا سَأَلَ الشَّعْبِيّ وَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ مُنْتَظِمًا فِي الظَّاهِر وَلَكِنَّ تَقْدِيره حَدَّثَنَا صَالِح عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا سَأَلَ الشَّعْبِيّ بِحَدِيثٍ وَقِصَّة طَوِيلَة قَالَ فيها صَالِح رَأَيْت رَجُلًا سَأَلَ الشَّعْبِيّ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفيه (أَبُو بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى) اِسْم أَبِي بُرْدَة عَامِر، وَقِيلَ: الْحَارِث، وَاسْم أَبِي مُوسَى عَبْد اللَّه بْن قَيْس.
وَفيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَغَذَاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا» أَمَّا الْأَوَّل فَبِتَخْفِيفِ الذَّال وَأَمَّا الثَّانِي فَبِالْمَدِّ.
وَأَمَّا الْحَدِيث فَفيه فَضِيلَة مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ لِإِيمَانِهِ بِنَبِيِّهِ قَبْل النَّسْخ، وَالثَّانِي لِإِيمَانِهِ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفيه فَضِيلَة الْعَبْد الْمَمْلُوك الْقَائِم بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى وَحُقُوق سَيِّده وَفَضِيلَة مَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكَته وَتَزَوَّجَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الرُّجُوع فِي الصَّدَقَة فِي شَيْء بَلْ هُوَ إِحْسَان إِلَيْهَا بَعْدَ إِحْسَان.
وَقَوْل الشَّعْبِيّ: (خُذْ هَذَا الْحَدِيث بِغَيْرِ شَيْء فَقَدْ كَانَ الرَّجُل يَرْحَل فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَة) فَفيه جَوَاز قَوْل الْعَالِم مِثْل هَذَا تَحْرِيضًا لِلسَّامِعِ عَلَى حِفْظ مَا قَالَهُ.
وَفيه بَيَان مَا كَانَ السَّلَف رَحِمَهُمْ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الرِّحْلَة إِلَى الْبُلْدَان الْبَعِيدَة فِي حَدِيث وَاحِد أَوْ مَسْأَلَة وَاحِدَة. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

220- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِل فِيكُمْ عِيسَى بْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِر الصَّلِيب، وَيَقْتُل الْخِنْزِير، وَيَضَع الْجِزْيَة، وَيَفِيض الْمَال حَتَّى لَا يَقْبَلهُ أَحَد» أَمَّا (لَيُوشِكَنَّ) فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الشِّين وَمَعْنَاهُ لَيَقْرَبَنَّ.
وَقَوْله: (فِيكُمْ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأُمَّة وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَعْضِهَا مِمَّنْ لَا يُدْرِك نُزُوله.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَكَمًا» أَيْ يَنْزِل حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَة لَا يَنْزِل بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّة، وَشَرِيعَة نَاسِخَة، بَلْ هُوَ حَاكِم مِنْ حُكَّام هَذِهِ الْأُمَّة.
وَالْمُقْسِط الْعَادِل، يُقَال: أَقْسَطَ يُقْسِط إِقْسَاطًا فَهُوَ مُقْسِط إِذَا عَدَلَ، وَالْقِسْط بِكَسْرِ الْقَاف الْعَدْل، وَقَسَطَ يَقْسِط قَسْطًا بِفَتْحِ الْقَاف فَهُوَ قَاسِط إِذَا جَارَ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَكْسِر الصَّلِيب» مَعْنَاهُ يَكْسِرهُ حَقِيقَة وَيُبْطِل مَا يَزْعُمهُ النَّصَارَى مِنْ تَعْظِيمه.
وَفيه دَلِيل عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَرَات وَآلَات الْبَاطِل، وَقَتْل الْخِنْزِير مِنْ هَذَا الْقَبِيل.
وَفيه دَلِيل لِلْمُخْتَارِ مِنْ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا الْخِنْزِير فِي دَار الْكُفْر أَوْ غَيْرهَا وَتَمَكَّنَّا مِنْ قَتْله قَتَلْنَاهُ، وَإِبْطَال لِقَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ فَقَالَ: يُتْرَك إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه ضَرَاوَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَضَع الْجِزْيَة» فَالصَّوَاب فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلهَا وَلَا يَقْبَل مِنْ الْكُفَّار إِلَّا الْإِسْلَام وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَة لَمْ يَكُفّ عَنْهُ بِهَا بَلْ لَا يَقْبَل إِلَّا الْإِسْلَام أَوْ الْقَتْل. هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء مَعْنَى هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَكُون فَيْض الْمَال هُنَا مِنْ وَضْع الْجِزْيَة وَهُوَ ضَرْبهَا عَلَى جَمِيع الْكَفَرَة فَإِنَّهُ لَا يُقَاتِلهُ أَحَد فَتَضَع الْحَرْب أَوْزَارَهَا. وَانْقِيَاد جَمِيع النَّاس لَهُ إِمَّا بِالْإِسْلَامِ وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ يَد فَيَضَع عَلَيْهِ الْجِزْيَة وَيَضْرِبهَا. وَهَذَا كَلَام الْقَاضِي وَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْبَل مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَام فَعَلَى هَذَا قَدْ يُقَال هَذَا خِلَاف حُكْم الشَّرْع الْيَوْم فَإِنَّ الْكِتَابِيّ إِذَا بَذَلَ الْجِزْيَة وَجَبَ قَبُولهَا وَلَمْ يَجُزْ قَتْله وَلَا إِكْرَاهه عَلَى الْإِسْلَام، وَجَوَابه أَنَّ هَذَا الْحُكْم لَيْسَ بِمُسْتَمِرٍّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة بَلْ هُوَ مُقَيَّد بِمَا قَبْل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِنَسْخِهِ وَلَيْسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ النَّاسِخ بَلْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّن لِلنَّسْخِ. فَإِنَّ عِيسَى يَحْكُم بِشَرْعِنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاع مِنْ قَبُول الْجِزْيَة فِي ذَلِكَ الْوَقْت هُوَ شَرْع نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَفِيض الْمَال» فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَمَعْنَاهُ يَكْثُر وَتَنْزِل الْبَرَكَات وَتَكْثُر الْخَيْرَات بِسَبَبِ الْعَدْل وَعَدَم التَّظَالُم وَتَقِيء الْأَرْض أَفْلَاذ كَبِدهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر وَتَقِلّ أَيْضًا الرَّغَبَات لِقِصَرِ الْآمَال وَعِلْمهمْ بِقُرْبِ السَّاعَة فَإِنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْلَام السَّاعَة وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «حَتَّى تَكُون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فيها» فَمَعْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّ النَّاس تَكْثُر رَغْبَتهمْ فِي الصَّلَاة وَسَائِر الطَّاعَات لِقِصَرِ آمَالهمْ بِقُرْبِ الْقِيَامَة، وَقِلَّة رَغْبَتهمْ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ الْحَاجَة إِلَيْهَا. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرهَا خَيْر لِمُصَلِّيهَا مِنْ صَدَقَته بِالدُّنْيَا وَمَا فيها لِفَيْضِ الْمَال حِينَئِذٍ وَقِلَّة الشُّحّ، وَقِلَّة الْحَاجَة إِلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ قِي الْجِهَاد.
قَالَ: وَالسَّجْدَة هِيَ السَّجْدَة بِعَيْنِهَا أَوْ تَكُون عِبَارَة عَنْ الصَّلَاة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِن مِّنْ أَهْل الْكِتَاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْل مَوْته}) فَفيه دَلَالَة ظَاهِرَة عَلَى أَنَّ مَذْهَب أَبِي هُرَيْرَة فِي الْآيَة أَنَّ الضَّمِير فِي مَوْته يَعُود عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَمَعْنَاهَا وَمَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب يَكُون فِي زَمَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ عَبْد اللَّه وَابْن أَمَته وَهَذَا مَذْهَب جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. وَذَهَبَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الضَّمِير يَعُود عَلَى الْكِتَابِيّ وَمَعْنَاهَا وَمَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب أَحَد يَحْضُرهُ الْمَوْت إِلَّا آمَنَ عِنْد الْمَوْت قَبْل خُرُوج رُوحه بِعِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ عَبْد اللَّه وَابْن أَمَته، وَلَكِنْ لَا يَنْفَعهُ هَذَا الْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي حَضْرَة الْمَوْت وَحَالَة النَّزْع، وَتِلْكَ الْحَالَة لَا حُكْم لِمَا يُفْعَل أَوْ يُقَال فيها فَلَا يَصِحّ فيها إِسْلَام وَلَا كُفْر وَلَا وَصِيَّة وَلَا بَيْع وَلَا عِتْق وَلَا غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَال لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدهمْ الْمَوْت قَالَ إِنِّي تُبْت الْآن} وَهَذَا الْمَذْهَب أَظْهَر فَإِنَّ الْأَوَّل يَخُصّ الْكِتَابِيّ وَظَاهِر الْقُرْآن عُمُومه لِكُلِّ كِتَابِيّ فِي زَمَن عِيسَى وَقَبْل نُزُوله. وَتُؤَيِّد هَذَا قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ: {قَبْل مَوْتهمْ} وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاء فِي (بِهِ) يَعُود عَلَى نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهَاء فِي (مَوْته) تَعُود عَلَى الْكِتَابِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
221- قَوْله فِي الْإِسْنَاد: (عَنْ عَطَاء بْن مِينَاء) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم بَعْدهَا يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْتُ سَاكِنَة ثُمَّ نُون ثُمَّ أَلِف مَمْدُودَة هَذَا هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَالَ صَاحِب الْمَطَالِع يُمَدّ وَيُقْصَر. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَيُتْرَكَنَّ الْقِلَاص فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا» فَالْقِلَاص بِكَسْرِ الْقَاف جَمْع قَلُوص بِفَتْحِهَا وَهِيَ مِنْ الْإِبِل كَالْفَتَاةِ مِنْ النِّسَاء وَالْحَدَث مِنْ الرِّجَال. وَمَعْنَاهُ أَنْ يُزْهَد فيها وَلَا يُرْغَب فِي اِقْتِنَائِهَا لِكَثْرَةِ الْأَمْوَال، وَقِلَّة الْآمَال، وَعَدَم الْحَاجَة، وَالْعِلْم بِقُرْبِ الْقِيَامَة. وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْقِلَاص لِكَوْنِهَا أَشْرَف الْإِبِل الَّتِي هِيَ أَنْفَس الْأَمْوَال عِنْد الْعَرَب. وَهُوَ شَبِيه بِمَعْنَى قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا الْعِشَار عُطِّلَتْ} وَمَعْنَى: «لَا يُسْعَى عَلَيْهَا»: لَا يُعْتَنَى بِهَا أَيْ يَتَسَاهَل أَهْلهَا فيها، وَلَا يَعْتَنُونَ بِهَا. هَذَا هُوَ الظَّاهِر.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَصَاحِب الْمَطَالِع رَحِمَهُمَا اللَّه: مَعْنَى لَا يُسْعَى عَلَيْهَا أَيْ لَا تُطْلَب زَكَاتهَا إِذْ لَا يُوجَد مَنْ يَقْبَلهَا. وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل مِنْ وُجُوه كَثِيرَة تُفْهَم مِنْ هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره بَلْ الصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاء» فَالْمُرَاد بِهِ الْعَدَاوَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَال فَلَا يَقْبَلهُ أَحَد» هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن وَفَتْح الْوَاو وَتَشْدِيد النُّون وَإِنَّمَا لَا يَقْبَلهُ أَحَد لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَثْرَة الْأَمْوَال، وَقِصَر الْآمَال، وَعَدَم الْحَاجَة، وَقِلَّة الرَّغْبَة لِلْعِلْمِ بِقُرْبِ السَّاعَة.
225- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» فَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانه وَالْجَمْع بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيث: «لَا تَقُوم السَّاعَة عَلَى أَحَد يَقُول اللَّه اللَّه».
وَقَوْله (تَكْرِمَة اللَّه هَذِهِ الْأُمَّة) هُوَ بِنَصْبِ (تَكْرِمَة) عَلَى الْمَصْدَر أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول لَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب بَيَانِ الزَّمَنِ الَّذِي لاَ يُقْبَلُ فيه الإِيمَانُ:

226- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبهَا آمَنَ النَّاس كُلّهمْ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْحَدِيث عَلَى ظَاهِره عِنْد أَهْل الْحَدِيث وَالْفِقْه وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْل السُّنَّة خِلَافًا لِمَا تَأَوَّلَتْهُ الْبَاطِنِيَّة.
227- قَوْله: «ثَلَاث إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا: طُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَالدَّجَّال، وَدَابَّة الْأَرْض» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْحَدِيث عَلَى ظَاهِره عِنْد أَهْل الْحَدِيث وَالْفِقْه وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْل السُّنَّة خِلَافًا لِمَا تَأَوَّلَتْهُ الْبَاطِنِيَّة.
228- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّمْس: «مُسْتَقَرّهَا تَحْت الْعَرْش فَتَخِرّ سَاجِدَة» فَهَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فيه. فَقَالَ جَمَاعَة بِظَاهِرِ الْحَدِيث.
قَالَ الْوَاحِدِيّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْل إِذَا غَرَبَتْ كُلّ يَوْم اِسْتَقَرَّتْ تَحْت الْعَرْش إِلَى أَنْ تَطْلُع مِنْ مَغْرِبهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِل مَعْنَاهُ تَجْرِي إِلَى وَقْتٍ لَهَا وَأَجَل لَا تَتَعَدَّاهُ.
قَالَ الْوَاحِدِيّ وَعَلَى هَذَا مُسْتَقَرّهَا اِنْتِهَاء سَيْرهَا عِنْد اِنْقِضَاء الدُّنْيَا. وَهَذَا اِخْتِيَار الزَّجَّاج وَقَالَ الْكَلْبِيّ: تَسِير فِي مَنَازِلهَا حَتَّى إِلَى أَوَّل مَنَازِلهَا وَاخْتَارَ اِبْن قُتَيْبَة هَذَا الْقَوْل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا سُجُود الشَّمْس فَهُوَ بِتَمْيِيزٍ وَإِدْرَاك يَخَلُقه اللَّه تَعَالَى فيها. وَفِي الْإِسْنَاد (عَبْد الْحَمِيد بْن بَيَان الْوَاسِطِيُّ) هُوَ بِبَاءٍ مُوَحَّدَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْتُ وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَقَايَا تَأْتِي فِي آخِر الْكِتَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

231- قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَاد (أَبُو الطَّاهِر بْن السَّرْح) هُوَ بِالسِّينِ وَالْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالسِّين مَفْتُوحَة.
وَقَوْله: أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ أَوَّل مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَة» هَذَا الْحَدِيث مِنْ مَرَاسِيل الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فَإِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَمْ تُدْرِك هَذِهِ الْقَضِيَّة فَتَكُون قَدْ سَمِعَتْهَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ الصَّحَابِيّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول أَنَّ مُرْسَل الصَّحَابِيّ حُجَّة عِنْد جَمِيع الْعُلَمَاء إِلَّا مَا اِنْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الْإِسْفِرَايِنِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْلهَا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «الرُّؤْيَا الصَّادِقَة» وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّه: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَة» وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِد وَفِي مِنْ هُنَا قَوْلَانِ أَحَدهمَا لِبَيَانِ الْجِنْس وَالثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ وَذَكَرَهُمَا الْقَاضِي.
وَقَوْلهَا: «فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْل فَلَق الصُّبْح» قَالَ أَهْل اللُّغَة فَلَق الصُّبْح وَفَرَق الصُّبْح بِفَتْحِ الْفَاء وَاللَّام وَالرَّاء هُوَ ضِيَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا فِي الشَّيْء الْوَاضِح الْبَيِّن.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا اُبْتُدِئَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأهُ الْمَلَك وَيَأْتِيه صَرِيح النُّبُوَّة بَغْتَة فَلَا يَحْتَمِلهَا قُوَى الْبَشَرِيَّة فَبُدِئَ بِأَوَّلِ خِصَال النُّبُوَّة وَتَبَاشِير الْكَرَامَة مِنْ صِدْق الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر مِنْ رُؤْيَة الضَّوْء وَسَمَاع الصَّوْت وَسَلَام الْحَجَر وَالشَّجَر عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ.
قَوْلهَا: (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاء يَتَحَنَّث فيه وَهُوَ التَّعَبُّد اللَّيَالِي أُولَات الْعَدَد قَبْلَ أَنْ يَرْجِع إِلَى أَهْله وَيَتَزَوَّد ثُمَّ يَرْجِع إِلَى خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَيَتَزَوَّد لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقّ) أَمَّا (الْخَلَاء) فَمَمْدُود وَهُوَ الْخَلْوَة وَهِيَ شَأْن الصَّالِحِينَ، وَعِبَاد اللَّه الْعَارِفِينَ.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: حُبِّبَتْ الْعُزْلَة إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغ الْقَلْب، وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّر، وَبِهَا يَنْقَطِع عَنْ مَأْلُوفَات الْبَشَر، وَيَتَخَشَّع قَلْبه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (الْغَار) فَهُوَ الْكَهْف وَالنَّقْب فِي الْجَبَل وَجَمْعه (غِيرَان) وَالْمَغَار وَالْمَغَارَة بِمَعْنَى الْغَار وَتَصْغِير الْغَار (غُوَيْر).
وَأَمَّا (حِرَاء) فَبِكَسْرِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوف وَمُذَكَّر هَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَقَالَ الْقَاضِي: فيه لُغَتَانِ التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث وَالتَّذْكِير أَكْثَر. فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ، وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفهُ أَرَادَ الْبُقْعَة أَوْ الْجِهَة الَّتِي فيها الْجَبَل قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْضهمْ فيه (حَرَى) بِفَتْحِ الْحَاء وَالْقَصْر. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ أَبُو عُمَر الزَّاهِد صَاحِب ثَعْلَب، وَأَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ، وَغَيْرهمَا: أَصْحَاب الْحَدِيث وَالْعَوَامّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاء فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع يَفْتَحُونَ الْحَاء وَهِيَ مَكْسُورَة، وَيَكْسِرُونَ الرَّاء وَهِيَ مَفْتُوحَة، وَيَقْصُرُونَ الْأَلِف وَهِيَ مَمْدُودَة. وَحِرَاء جَبَل بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّة نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال عَنْ يَسَار الذَّاهِب مِنْ مَكَّة إِلَى مِنًى. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (التَّحَنُّث) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون وَالثَّاء الْمُثَلَّثَة فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّعَبُّدِ وَهُوَ تَفْسِير صَحِيحٌ وَأَصْل الْحِنْث الْإِثْم فَمَعْنَى يَتَحَنَّث يَتَجَنَّب الْحِنْث، فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَع نَفْسه مِنْ الْحِنْث وَمِثْل يَتَحَنَّث يَتَحَرَّج وَيَتَأَثَّم أَيْ يَتَجَنَّب الْحَرَج وَالْإِثْم.
وَأَمَّا قَوْلهَا (اللَّيَالِي أُولَات الْعَدَد) فَمُتَعَلِّق بِالتَّحَنُّثِ لَا بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّث اللَّيَالِي وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى فَإِنَّ التَّحَنُّث لَا يُشْتَرَط فيه اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَق عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير وَهَذَا التَّفْسِير اِعْتَرَضَ بَيْن كَلَام عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَأَمَّا كَلَامهَا فَيَتَحَنَّث فيه اللَّيَالِي أُولَات الْعَدَد. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْلهَا (فَجِئَهُ الْحَقّ) أَيْ جَاءَهُ الْوَحْي بَغْتَة فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ. وَيُقَال فَجِئَهُ بِكَسْرِ الْجِيم وَبَعْدهَا هَمْزَة مَفْتُوحَة، وَيُقَال: (فَجَأَهُ) بِفَتْحِ الْجِيم وَالْهَمْزَة لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنَ الْقِرَاءَة فَمَا نَافِيَة هَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فيها خِلَافًا بَيْن الْعُلَمَاء مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَة وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اِسْتِفْهَامِيَّة وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاء فِي الْخَبَر قَالَ الْقَاضِي: وَيُصَحِّح قَوْل مَنْ قَالَ اِسْتِفْهَامِيَّة رِوَايَة مَنْ رَوَى (مَا أَقْرَأ)؟ وَيَصِحّ أَنْ تَكُون (مَا) فِي هَذِهِ الرِّوَايَة أَيْضًا نَافِيَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد ثُمَّ أَرْسَلَنِي» أَمَّا (غَطَّنِي) فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالطَّاء الْمُهْمَلَة وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَال: غَطَّهُ، وَغَتَّهُ، وَضَغَطَهُ، وَعَسَرَهُ، وَخَنَقَهُ، وَغَمَزَهُ كُلّه بِمَعْنًى وَاحِد.
وَأَمَّا (الْجَهْد) فَيَجُوز فَتْح الْجِيم وَضَمّهَا لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة. وَيَجُوز نَصْب الدَّال وَرَفْعهَا فَعَلَى النَّصْب بَلَغَ جِبْرِيل مِنِّي الْجَهْد وَعَلَى الرَّفْع بَلَغَ الْجَهْد مِنِّي مَبْلَغه وَغَايَته وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْب الدَّال وَرَفْعهَا صَاحِب التَّحْرِير وَغَيْره.
وَأَمَّا (أَرْسَلَنِي) فَمَعْنَاهُ أَطْلَقَنِي.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي الْغَطّ شَغْله مِنْ الِالْتِفَات وَالْمُبَالَغَة فِي أَمْره بِإِحْضَارِ قَلْبه لِمَا يَقُولهُ لَهُ وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَة فِي التَّنَبُّه فَفيه أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاط فِي تَنْبِيه الْمُتَعَلِّم وَأَمْره بِإِحْضَارِ قَلْبه وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ» هَذَا دَلِيل صَرِيح فِي أَنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن: {اِقْرَأْ} وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِير مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف. وَقِيلَ أَوَّله: يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْد هَذَا فِي مَوْضِعه مِنْ هَذَا الْبَاب إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث بَعْض مَنْ يَقُول: إِنَّ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآن فِي أَوَائِل السُّوَر لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَر هُنَا. وَجَوَاب الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِل أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتْ الْبَسْمَلَة فِي وَقْت آخَر كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَة فِي وَقْت آخَر.
قَوْلهَا: (تَرْجُف بَوَادِره) بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة. وَمَعْنَى (تَرْجُف) تَرْعُد وَتَضْطَرِب وَأَصْله شِدَّة الْحَرَكَة.
قَالَ أَبُو عُبَيْد وَسَائِر أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب وَهِيَ اللَّحْمَة الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِب وَالْعُنُق تَضْطَرِب عِنْد فَزَع الْإِنْسَان.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات مُكَرَّر مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَى (زَمِّلُونِي) غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وَقَوْله: (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْع) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَهُوَ الْفَزَع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكّ فِيمَا أَتَاهُ مِنْ اللَّه تَعَالَى لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَة هَذَا الْأَمْر، وَلَا يَقْدِر عَلَى حَمْل أَعْبَاء الْوَحْي، فَتَزْهَق نَفْسه، أَوْ يَكُون هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِير فِي النَّوْم وَالْيَقَظَة وَسَمِعَ الصَّوْت قَبْل لِقَاء الْمَلَك وَتَحَقُّقه رِسَالَة رَبّه فَيَكُون خَافَ أَنْ يَكُون مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم، فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَك بِرِسَالَةِ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فَلَا يَجُوز عَلَيْهِ الشَّكّ فيه، وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّط الشَّيْطَان عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيق يُحْمَل جَمِيع مَا وَرَدَ مِنْ مِثْل هَذَا فِي حَدِيث الْبَعْث. هَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه فِي شَرْح صَحِيح مُسْلِم. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي كِتَابه الشِّفَاء هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي كَلَام مَبْسُوط وَهَذَا الِاحْتِمَال الثَّانِي ضَعِيف لِأَنَّهُ خِلَاف تَصْرِيح الْحَدِيث لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْد غَطِّ الْمَلَك وَإِتْيَانه بِـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ} وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «قَالَتْ لَهُ خَدِيجَة كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّه أَبَدًا وَاَللَّه إِنَّك لَتَصِل الرَّحِم وَتَصْدُق الْحَدِيث وَتَحْمِل الْكَلَّ وَتَكْسِب الْمَعْدُوم وَتَقْرِي الضَّيْف وَتُعِين عَلَى نَوَائِب الْحَقّ» أَمَّا قَوْلهَا: «كَلَّا» فَهِيَ هُنَا كَلِمَة نَفْي وَإِبْعَاد وَهَذَا أَحَد مَعَانِيهَا قَدْ تَأْتِي: «كَلَّا» بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ يُسْتَفْتَح بِهَا الْكَلَام، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآن الْعَزِيز عَلَى أَقْسَام، وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَام أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِيّ أَقْسَامهَا وَمَوَاضِعهَا فِي بَاب مِنْ كِتَابه الْوَقْف وَالِابْتِدَاء.
وَأَمَّا قَوْلهَا: «لَا يُخْزِيك» فَهُوَ بِضَمِّ الْيَاء وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة يُونُس وَعُقَيْل، وَقَالَ مَعْمَر فِي رِوَايَته: «يُحْزِيك» بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون وَيَجُوز فَتْح الْيَاء فِي أَوَّله وَضَمّهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيح. وَالْخِزْي الْفَضِيحَة وَالْهَوَان.
وَأَمَّا (صِلَة الرَّحِم) فَهِيَ الْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب عَلَى حَسَب حَال الْوَاصِل وَالْمَوْصُول فَتَارَة تَكُون بِالْمَالِ، وَتَارَة بِالْخِدْمَةِ، وَتَارَة بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَام وَغَيْر ذَلِكَ.
وَأَمَّا: «الْكَلّ» فَهُوَ بِفَتْحِ الْكَاف وَأَصْله الثِّقْل، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ كَلّ عَلَى مَوْلَاهُ} وَيَدْخُل فِي حَمْل الْكَلّ الْإِنْفَاق عَلَى الضَّعِيف وَالْيَتِيم وَالْعِيَال وَغَيْر ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ الْكَلَال وَهُوَ الْإِعْيَاء.
وَأَمَّا قَوْلهَا: «وَتَكْسِب الْمَعْدُوم» فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاء هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِضَمِّهَا.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب وَأَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَات مِنْ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: كَسَبْت الرَّجُل مَالًا وَأَكْسَبْته مَالًا لُغَتَانِ أَفْصَحهمَا بِاتِّفَاقِهِمْ (كَسَبْته) بِحَذْفِ الْأَلْف.
وَأَمَّا مَعْنَى: «تَكْسِب الْمَعْدُوم» فَمَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ تُكْسِب غَيْرك الْمَال الْمَعْدُوم أَيْ تُعْطِيه إِيَّاهُ تَبَرُّعًا فَحَذَفَ أَحَد الْمَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تُعْطِي النَّاس مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْد غَيْرك مِنْ نَفَائِس الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق.
وَأَمَّا رِوَايَة الْفَتْح فَقِيلَ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى الضَّمّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا تَكْسِب الْمَال الْمَعْدُوم وَتُصِيب مِنْهُ مَا يَعْجِز غَيْرك عَنْ تَحْصِيله وَكَانَتْ الْعَرَب تَتَمَادَح بِكَسْبِ الْمَال الْمَعْدُوم لاسيما قُرَيْش وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْظُوظًا فِي تِجَارَته وَهَذَا الْقَوْل حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ثَابِت صَاحِب الدَّلَائِل وَهُوَ ضَعِيف أَوْ غَلَط وَأَيّ مَعْنًى لِهَذَا الْقَوْل فِي هَذَا الْمَوْطِن إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِن تَصْحِيحه بِأَنْ يُضَمّ إِلَيْهِ زِيَادَة فَيَكُون مَعْنَاهُ تَكْسِب الْمَال الْعَظِيم الَّذِي يَعْجِز عَنْهُ غَيْرك ثُمَّ تَجُود بِهِ فِي وُجُوه الْخَيْر وَأَبْوَاب الْمَكَارِم كَمَا ذَكَرْت مِنْ حَمْل الْكُلّ وَصِلَة الرَّحِم وَقِرَى الضَّيْف وَالْإِعَانَة عَلَى نَوَائِب الْحَقّ فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي هَذَا الْحَرْف.
وَأَمَّا صَاحِب التَّحْرِير فَجَعَلَ الْمَعْدُوم عِبَارَة عَنْ الرَّجُل الْمُحْتَاج الْمُعْدِم الْعَاجِز عَنْ الْكَسْب وَسَمَّاهُ مَعْدُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّت حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّف فِي الْمَعِيشَة كَتَصَرُّفِ غَيْره.
قَالَ: وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ صَوَابه (الْمُعْدِم) بِحَذْفِ الْوَاو قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَلْ مَا رَوَاهُ الرُّوَاة صَوَاب قَالَ: وَقِيلَ: مَعْنَى: «تَكْسِب الْمَعْدُوم» أَيْ تَسْعَى فِي طَلَب عَاجِز تُنْعِشهُ وَالْكَسْب هُوَ الِاسْتِفَادَة. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِب التَّحْرِير وَإِنْ كَانَ لَهُ بَعْض الِاتِّجَاه كَمَا حَرَّرْت لَفْظه فَالصَّحِيح الْمُخْتَار مَا قَدَّمْته. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْلهَا: «وَتَقْرِي الضَّيْف» فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاء قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: قَرَيْت الضَّيْف أَقْرِيه قِرًى بِكَسْرِ الْقَاف مَقْصُور وَقَرَاء بِفَتْحِ الْقَاف وَالْمَدّ. وَيُقَال لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيِّفهُ بِهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَاف مَقْصُور وَيُقَال لِفَاعِلِهِ: قَارٍ مِثْل قَضَى فَهُوَ قَاضٍ.
وَأَمَّا قَوْلهَا: «وَتُعِين عَلَى نَوَائِب الْحَقّ» فَالنَّوَائِب جَمْع نَائِبَة وَهِيَ الْحَادِثَة إِنَّمَا قَالَتْ نَوَائِب الْحَقّ لِأَنَّ النَّائِبَة قَدْ تَكُون فِي الْخَيْر وَقَدْ تَكُون فِي الشَّرّ قَالَ لَبِيد: نَوَائِب مِنْ خَيْر وَشَرّ كِلَاهُمَا فَلَا الْخَيْر مَمْدُود وَلَا الشَّرّ لَازِب قَالَ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: مَعْنَى كَلَام خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا إِنَّكَ لَا يُصِيبك مَكْرُوه لِمَا جَعَلَ اللَّه فِيك مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق وَكَرَم الشَّمَائِل. وَذَكَرَتْ ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّ مَكَارِم الْأَخْلَاق وَخِصَال الْخَيْر سَبَب السَّلَامَة مِنْ مَصَارِع السُّوء.
وَفيه مَدْح الْإِنْسَان فِي وَجْهه فِي بَعْض الْأَحْوَال لِمَصْلَحَةٍ نَظَرًا.
وَفيه تَأْنِيس مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَة مِنْ أَمْر وَتَبْشِيره وَذِكْر أَسْبَاب السَّلَامَة لَهُ.
وَفيه أَعْظَم دَلِيل وَأَبْلَغ حُجَّة عَلَى كَمَال خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَجَزَالَة رَأْيهَا، وَقُوَّة نَفْسهَا، وَثَبَات قَلْبهَا، وَعِظَم فِقْههَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «وَكَانَ اِمْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّة» مَعْنَاهُ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَالْجَاهِلِيَّة مَا قَبْل رِسَالَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِش الْجَهَالَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «وَكَانَ يَكْتُب الْكِتَاب الْعَرَبِيّ وَيَكْتُب مِنْ الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَكْتُب» هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِم الْكِتَاب الْعَرَبِيّ وَيَكْتُب بِالْعَرَبِيَّةِ. وَوَقَعَ فِي أَوَّل صَحِيح الْبُخَارِيّ: «يَكْتُب الْكِتَاب الْعِبْرَانِيّ فَيَكْتُب مِنْ الْإِنْجِيل بِالْعِبْرَانِيَّةِ» وَكِلَاهُمَا صَحِيح. وَحَاصِلهمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَة دِين النَّصَارَى بِحَيْثُ إِنَّهُ صَارَ يَتَصَرَّف فِي الْإِنْجِيل فَيَكْتُب أَيّ مَوْضِع شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ شَاءَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَيْ عَمّ اِسْمَعْ مِنْ اِبْن أَخِيك» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَالَتْ خَدِيجَة أَيْ اِبْن عَمّ» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول فِي الْأَوَّل (عَمّ)، وَفِي الثَّانِي (اِبْن عَمّ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح. أَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ اِبْن عَمّهَا حَقِيقَة كَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي الْحَدِيث فَإِنَّهُ وَرَقَة بْن نَوْفَل بْن أَسَد وَهِيَ خَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِدِ بْن أَسَد. وَمَا الْأَوَّل فَسَمَّتْهُ (عَمًّا) مَجَازًا لِلِاحْتِرَامِ. هَذِهِ عَادَة الْعَرَب فِي آدَاب خِطَابهمْ يُخَاطِب الصَّغِير الْكَبِير بِيَا عَمّ اِحْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُل هَذَا الْغَرَض بِقَوْلِهَا يَا اِبْن عَمّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «هَذَا النَّامُوس الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» «النَّامُوس» بِالنُّونِ وَالسِّين الْمُهْمَلَة وَهُوَ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَهْل اللُّغَة وَغَرِيب الْحَدِيث: النَّامُوس فِي اللُّغَة صَاحِب سِرّ الْخَيْر، وَالْجَاسُوس صَاحِب سِرّ الشَّرّ. وَيُقَال نَمَسْت السِّرّ بِفَتْحِ النُّون وَالْمِيم أَنْمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيم نَمْسًا أَيْ كَتَمْته، وَنَمَسْت الرَّجُل وَنَامَسْتُهُ سَارَرْته، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يُسَمَّى النَّامُوس، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَاد هُنَا.
قَالَ الْهَرَوِيُّ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْي.
وَأَمَّا قَوْله: «الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا وَهُوَ الْمَشْهُور وَرَوَيْنَاهُ فِي غَيْر الصَّحِيح: «نَزَلَ عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله: «يَا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا» الضَّمِير: «فيها» يَعُود إِلَى أَيَّام النُّبُوَّة وَمُدَّتهَا وَقَوْله: «جَذَعًا» يُعْنَى شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغ فِي نُصْرَتك. وَالْأَصْل فِي الْجَذَع لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اِسْتِعَارَة.
وَأَمَّا قَوْله: «جَذَعًا» فَهَكَذَا هُوَ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا بِالنَّصْبِ قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ: «جَذَع» بِالرَّفْعِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيّ وَهَذِهِ الرِّوَايَة ظَاهِرَة.
وَأَمَّا النَّصْب فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وَجْهه فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيّ وَغَيْرهمَا: نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَر كَانَ الْمَحْذُوفَة. تَقْدِيره لَيْتَنِي أَكُون فيها جَذَعًا وَهَذَا يَجِيء عَلَى مَذْهَب النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي الظَّاهِر عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوب عَلَى الْحَال، وَخَبَر لَيْتَ قَوْله: «فيها» وَهَذَا الَّذِي اِخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيح الَّذِي اِخْتَارَهُ أَهْل التَّحْقِيق وَالْمَعْرِفَة مِنْ شُيُوخنَا وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يُعْتَمَد عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَتَشْدِيد الْيَاء هَكَذَا الرِّوَايَة وَيَجُوز تَخْفِيف الْيَاء عَلَى وَجْه الصَّحِيح الْمَشْهُور تَشْدِيدهَا وَهُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {بِمُصْرِخِيَّ} وَهُوَ جَمْع مُخْرَج فَالْيَاء الْأُولَى يَاء الْجَمْع وَالثَّانِيَة ضَمِير الْمُتَكَلِّم وَفُتِحَتْ لِلتَّخْفِيفِ لِئَلَّا يَجْتَمِع الْكِسْرَة وَالْيَاءَانِ بَعْد كَسْرَتَيْنِ.
قَوْله: (وَإِنْ يُدْرِكنِي يَوْمك) أَيْ وَقْت خُرُوجك.
قَوْله: (أَنْصُرك نَصْرًا مُؤَزَّرًا) هُوَ بِفَتْحِ الزَّاي وَبِهَمْزَةٍ قَبْلهَا أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أَخْبَرَنَا مَعْمَر قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَة) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (وَأَخْبَرَنِي عُرْوَة) بِالْوَاوِ وَهُوَ الصَّحِيح وَالْقَائِل وَأَخْبَرَنِي هُوَ الزُّهْرِيّ وَفِي هَذِهِ الْوَاو فَائِدَة لَطِيفَة قَدَّمْنَاهَا فِي مَوَاضِع وَهِيَ أَنَّ مَعْمَرًا سَمِعَ مِنْ الزُّهْرِيّ أَحَادِيث قَالَ الزُّهْرِيّ فيها أَخْبَرَنِي عُرْوَة بِكَذَا وَأَخْبَرَنِي عُرْوَة بِكَذَا إِلَى آخِرهَا فَإِذَا أَرَادَ مَعْمَر رِوَايَة غَيْر الْأَوَّل قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَة فَأَتَى بِالْوَاوِ لِيَكُونَ رَاوِيًا كَمَا سَمِعَ وَهَذَا مِنْ الِاحْتِيَاط وَالتَّحْقِيق وَالْمُحَافَظَة عَلَى الْأَلْفَاظ وَالتَّحَرِّي فيها. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة أَعْنِي رِوَايَة مَعْمَر: (فَوَاَللَّهِ لَا يُحْزِنك اللَّه) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانه.
قَوْله فِي رِوَايَة (عُقَيْل) وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْن: (يَرْجُف فُؤَاده) قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيث: «أَهْل الْيَمَن أَرَقّ قُلُوبًا» بَيَان الِاخْتِلَاف فِي الْقَلْب وَالْفُؤَاد.
وَأَمَّا عِلْم خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِرَجَفَانِ فُؤَادِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالظَّاهِر أَنَّهَا رَأَتْهُ حَقِيقَة، وَيَجُوز أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِقَرَائِنِ وَصُورَة الْحَال. وَاَللَّه أَعْلَم.
232- قَوْله: (أَنَّ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا نَوْع مِمَّا يَتَكَرَّر فِي الْحَدِيث يَنْبَغِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ جَابِر: وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُوم أَنَّ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ مَشْهُورِي الصَّحَابَة أَشَدّ شُهْرَة بَلْ هُوَ أَحَد السِّتَّة الَّذِينَ هُمْ أَكْثَر الصَّحَابَة رِوَايَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَوَابه أَنَّ بَعْض الرُّوَاة خَاطَبَ بِهِ مَنْ يَتَوَهَّم أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ كَوْنه صَحَابِيًّا فَبَيَّنَهُ إِزَالَةً لِلْوَهْمِ وَاسْتَمَرَّتْ الرِّوَايَة بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَؤُلَاءِ الرُّوَاة فِي هَذَا الْإِسْنَاد أَئِمَّة جِلَّة فَكَيْف يُتَوَهَّم خَفَاء صُحْبَة جَابِر فِي حَقّهمْ فَالْجَوَاب أَنَّ بَيَان هَذَا لِبَعْضِهِمْ كَانَ فِي حَالَة صِغَره قَبْل تَمَكُّنه وَمَعْرِفَته، ثُمَّ رَوَاهُ عِنْد كَمَاله كَمَا سَمِعَهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته فِي جَابِر يَتَكَرَّر مِثْله فِي كَثِيرِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَجَوَابه كُلّه مَا ذَكَرْته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (يُحَدِّث عَنْ فَتْرَة الْوَحْي) يَعْنِي اِحْتِبَاسه، وَعَدَم تَتَابُعه وَتَوَالِيهِ فِي النُّزُول.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا الْمَلَك الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسًا» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (جَالِسًا) مَنْصُوب عَلَى الْحَال.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَجُئِثْتُ مِنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة يُونُس وَعُقَيْل وَمَعْمَر ثُمَّ كُلّهمْ عَنْ اِبْن شِهَاب وَقَالَ فِي رِوَايَة يُونُس (فَجُئِثْت) بِجِيمٍ مَضْمُومَة، ثُمَّ هَمْزَة مَكْسُورَة، ثُمَّ ثَاء مُثَلَّثَة سَاكِنَة، ثُمَّ تَاء الضَّمِير.
وَقَالَ فِي رِوَايَة عُقَيْل وَمَعْمَر: (فَجُثِثْت) بَعْد الْجِيم ثَاءَانِ مُثَلَّثَتَانِ هَكَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي ضَبْط رِوَايَة الثَّلَاثَة. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ ضُبِطَ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه: مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَ بِالْهَمْزَةِ فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِالثَّاءِ فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة.
قَالَ الْقَاضِي: وَأَكْثَر الرُّوَاة لِلْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ بِالْهَمْزِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَة يُونُس وَعُقَيْل وَبِالثَّاءِ فِي الْمَوْضِع الثَّالِث وَهِيَ رِوَايَة مَعْمَر. وَهَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي نَقَلَهَا الْقَاضِي كُلّهَا خَطَأ ظَاهِر فَإِنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه قَالَ فِي رِوَايَة عُقَيْل: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيث يُونُس غَيْر أَنَّهُ قَالَ فَجُثِثْت مِنْهُ فَرَقًا) ثُمَّ قَالَ مُسْلِم فِي رِوَايَة مَعْمَر أَنَّهَا نَحْو حَدِيث يُونُس إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: (فَجُثِثْت مِنْهُ). كَمَا قَالَ عُقَيْل. فَهَذَا تَصْرِيح مِنْ مُسْلِم بِأَنَّ رِوَايَة مَعْمَر وَعُقَيْل مُتَّفِقَتَانِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَة، وَأَنَّهُمَا مُخَالِفَتَانِ لِرِوَايَةِ يُونُس فيها. فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْل مَنْ قَالَ: الثَّلَاثَة بِالثَّاءِ أَوْ بِالْهَمْزَةِ، وَبَطَلَ أَيْضًا قَوْل مَنْ قَالَ: إِنَّ رِوَايَة يُونُس وَعُقَيْل مُتَّفِقَة، وَرِوَايَة مَعْمَر مُخَالِفَة لِرِوَايَةِ عُقَيْل وَهَذَا ظَاهِر لَا خَفَاء بِهِ وَلَا شَكّ فيه وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِب الْمَطَالِع أَيْضًا رِوَايَات أُخَر بَاطِلَة مُصَحَّفَة تَرَكْت حِكَايَتهَا لِظُهُورِ بُطْلَانهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَة فَالرِّوَايَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد أَعْنِي رِوَايَة الْهَمْز وَرِوَايَة الثَّاء وَمَعْنَاهَا: فَزِعْت وَرُعِبْت.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: (فَرُعِبْت).
قَالَ أَهْل اللُّغَة: جُئِثَ الرَّجُل إِذَا فَزِعَ فَهُوَ مَجْئُوث قَالَ الْخَلِيل وَالْكِسَائِيّ: جُئِثَ وَجُثَّ فَهُوَ مَجْؤُوث وَمَجْثُوث أَيْ مَذْعُور فَزِع وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَوَيْت إِلَى الْأَرْض» هَكَذَا فِي الرِّوَايَة (هَوَيْت) وَهُوَ صَحِيح يُقَال هَوَى إِلَى الْأَرْض، وَأَهْوَى إِلَيْهَا لُغَتَانِ أَيْ سَقَطَ.
وَقَدْ غَلِطَ وَجَهِلَ مَنْ أَنْكَرَ (هَوَى) وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَال إِلَّا أَهْوَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْي وَتَتَابَعَ) هُمَا بِمَعْنًى. فَأُكِّدَ أَحَدهمَا بِالْآخَرِ. وَمَعْنَى (حَمِيَ) كَثُرَ نُزُوله وَازْدَادَ مِنْ قَوْلهمْ حَمِيَتْ النَّار وَالشَّمْس أَيْ قَوِيَتْ حَرَارَتهَا.
233- قَوْله: إِنَّ أَوَّل مَا أُنْزِلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر} ضَعِيف بَلْ بَاطِل وَالصَّوَاب أَنَّ أَوَّل مَا أَنْزَلَ عَلَى الْإِطْلَاق: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك} كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا.
وَأَمَّا {يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر} فَكَانَ نُزُولهَا بَعْد فَتْرَة الْوَحْي كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ جَابِر. وَالدَّلَالَة صَرِيحَة فيه فِي مَوَاضِع مِنْهَا قَوْله: وَهُوَ يُحَدِّث عَنْ فَتْرَة الْوَحْي إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر} وَمِنْهَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا الْمَلَك الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ». ثُمَّ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر} وَمِنْهَا قَوْله: «ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْي» يَعْنِي بَعْد فَتْرَته. فَالصَّوَاب أَنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ: {اِقْرَأْ} وَأَنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ بَعْد فَتْرَة الْوَحْي: {يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر} وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: أَوَّل مَا نَزَلَ الْفَاتِحَة فَبُطْلَانه أَظْهَر مِنْ أَنْ يُذْكَر وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاسْتَبْطَنْت الْوَادِي» أَيْ صِرْت فِي بَاطِنه.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: «فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْش فِي الْهَوَاء» الْمُرَاد بِالْعَرْشِ الْكُرْسِيّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَلَى كُرْسِيّ بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْعَرْش هُوَ السَّرِير، وَقِيلَ: سَرِير الْمَلِك.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَهَا عَرْش عَظِيم} وَالْهَوَاء هُنَا مَمْدُود يُكْتَب بِالْأَلِفِ وَهُوَ الْجَوُّ بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَالْهَوَاء الْخَالِي قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَفْئِدَتهمْ هَوَاء}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة شَدِيدَة» هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات الْمَشْهُورَة (رَجْفَة) بِالرَّاءِ: قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ السَّمَرْقَنْدِيّ (وَجْفَة) بِالْوَاوِ وَهُمَا صَحِيحَانِ مُتَقَارِبَانِ وَمَعْنَاهُمَا الِاضْطِرَاب.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلُوب يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُف الرَّاجِفَة} {وَيَوْم تَرْجُف الْأَرْض وَالْجِبَال}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاء» فيه أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَبّ عَلَى الْفَزِع الْمَاء لِيَسْكُنَ فَزَعه وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر} فَقَالَ الْعُلَمَاء الْمُدَّثِّر وَالْمُزَّمِّل وَالْمُتَلَفِّف وَالْمُشْتَمِل بِمَعْنًى وَاحِد. ثُمَّ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُدَّثِّر بِثِيَابِهِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ قَوْلًا عَنْ عِكْرِمَة أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُدَّثِّر بِالنُّبُوَّةِ وَأَعْبَائِهَا وَقَوْله تَعَالَى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} مَعْنَاهُ حَذِّرْ الْعَذَاب مَنْ لَمْ يُؤْمِن {وَرَبّك فَكَبِّرْ} أَيْ عَظِّمْهُ وَنَزِّهْهُ عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ {وَثِيَابك فَطَهِّرْ} قِيلَ: مَعْنَاهُ طَهِّرْهَا مِنْ النَّجَاسَة، وَقِيلَ: قَصِّرْهَا.
وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالثِّيَابِ النَّفْس أَيْ طَهِّرْهَا مِنْ الذَّنْب وَسَائِر النَّقَائِص {وَالرِّجْز} بِكَسْرِ الرَّاء فِي قِرَاءَة الْأَكْثَرِينَ، وَقَرَأَ حَفْص بِضَمِّهَا وَفَسَّرَهُ فِي الْكِتَاب بِالْأَوْثَانِ (رِجْزًا) لِأَنَّهُ سَبَب الْعَذَاب.
وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالرِّجْزِ فِي الْآيَة الشِّرْك.
وَقِيلَ: الذَّنْب، وَقِيلَ: الظُّلْم. وَاَللَّه أَعْلَم.