فصل: باب بَيَانِ مَا كَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاَثٍ فِي أَوَّلِ الإِسْلاَمِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ وَإِبَاحَتِهِ إِلَى مَتَى شَاءَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب سِنِّ الأُضْحِيَةِ:

3631- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّة إِلَّا أَنْ يَعْسُر عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَة مِنْ الضَّأْن» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُسِنَّة هِيَ الثَّنِيَّة مِنْ كُلّ شَيْء مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم فَمَا فَوْقهَا، وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ لَا يَجُوز الْجَذَع مِنْ غَيْر الضَّأْن فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيّ وَغَيْره مِنْ أَصْحَابنَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِي الْجَذَع مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْمَعْز وَالضَّأْن، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاء.
وَأَمَّا الْجَذَع مِنْ الضَّأْن فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة يُجْزِي سَوَاء وَجَدَ غَيْره أَمْ لَا، وَحَكَوْا عَنْ اِبْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُجْزِي، وَقَدْ يُحْتَجّ لَهُمَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث.
قَالَ الْجُمْهُور: هَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالْأَفْضَل، وَتَقْدِيره يُسْتَحَبّ لَكُمْ أَلَّا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّة فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَة ضَأْن، وَلَيْسَ فيه تَصْرِيح بِمَنْعِ جَذَعَة الضَّأْن، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِي بِحَالٍ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِره؛ لِأَنَّ الْجُمْهُور يُجَوِّزُونَ الْجَذَع مِنْ الضَّأْن مَعَ وُجُود غَيْره وَعَدَمه، وَابْن عُمَر وَالزُّهْرِيّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُود غَيْره وَعَدَمه، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْحَدِيث عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحْبَاب. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَأَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا تُجْزِي الضَّحِيَّة بِغَيْرِ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم، إِلَّا مَا حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ الْحَسَن بْن صَالِح أَنَّهُ قَالَ: تَجُوز التَّضْحِيَة بِبَقَرَةِ الْوَحْش عَنْ سَبْعَة، وَبِالظَّبْيِ عَنْ وَاحِد، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ فِي بَقَرَة الْوَحْش. وَاللَّه أَعْلَم.
وَالْجَذَع مِنْ الضَّأْن: مَا لَهُ سَنَة تَامَّة، هَذَا هُوَ الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا، وَهُوَ الْأَشْهَر عِنْد أَهْل اللُّغَة وَغَيْرهمْ.
وَقِيلَ: مَا لَهُ سِتَّة أَشْهُر، وَقِيلَ: سَبْعَة، وَقِيلَ: ثَمَانِيَة، وَقِيلَ: اِبْن عَشْرَة، حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ غَرِيب، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ بَيْن شَابِّينَ فَسِتَّة أَشْهُر، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَرِمَيْنِ فَثَمَانِيَة أَشْهُر، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور: أَنَّ أَفْضَل الْأَنْوَاع الْبَدَنَة، ثُمَّ الْبَقَرَة، ثُمَّ الضَّأْن، ثُمَّ الْمَعْز.
وَقَالَ مَالِك: الْغَنَم أَفْضَل؛ لِأَنَّهَا أَطْيَب لَحْمًا. حُجَّة الْجُمْهُور أَنَّ الْبَدَنَة تُجْزِي عَنْ سَبْعَة، وَكَذَا الْبَقَرَة، وَأَمَّا الشَّاة فَلَا تُجْزِي إِلَّا عَنْ وَاحِد بِالِاتِّفَاقِ. فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيل الْبَدَنَة وَالْبَقَرَة. وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك فِيمَا بَعْد الْغَنَم، فَقِيلَ: الْإِبِل أَفْضَل مِنْ الْبَقَرَة، وَقِيلَ: الْبَقَرَة أَفْضَل مِنْ الْإِبِل، وَهُوَ الْأَشْهَر عِنْدهمْ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب سَمِينهَا وَطَيِّبهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِينِهَا، فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور اِسْتِحْبَابه، وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ كُنَّا نُسَمِّن الْأُضْحِيَّة، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْض أَصْحَاب مَالِك كَرَاهَة ذَلِكَ، لِئَلَّا يَتَشَبَّه بِالْيَهُودِ، وَهَذَا قَوْل بَاطِل.
3632- قَوْله: «فَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَذَا مِمَّا يَحْتَجّ بِهِ مَالِك فِي أَنَّهُ لَا يُجْزِي الذَّبْح إِلَّا بَعْد ذَبْح الْإِمَام، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَة اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ، وَالْجُمْهُور يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد زَجْرهمْ عَنْ التَّعْجِيل الَّذِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فِعْلهَا قَبْل الْوَقْت، وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَاقِي الْأَحَادِيث التَّقْيِيد بِالصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَنْ ضَحَّى بَعْدهَا أَجْزَأَهُ، وَمَنْ لَا فَلَا.
3633- قَوْله فِي حَدِيث عُقْبَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمهَا عَلَى أَصْحَابه ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُود، فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْعَتُود) مِنْ أَوْلَاد الْمَعْز خَاصَّة، وَهُوَ مَا رَعَى وَقَوِيَ، قَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره: هُوَ مَا بَلَغَ سَنَة، وَجَمْعه: (أَعْتِدَة وَعِدَّان) بِإِدْغَامِ التَّاء فِي الدَّال، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَسَائِر أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: كَانَتْ هَذِهِ رُخْصَة لِعُقْبَة بْن عَامِر، كَمَا كَانَ مِثْلهَا رُخْصَة لِأَبِي بُرْدَة بْن نِيَار الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب السَّابِق، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ مِنْ رِوَايَة اللَّيْث بْن سَعْد ثُمَّ رَوَى ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر، قَالَ: أَعْطَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا أَقْسِمهَا ضَحَايَا بَيْن أَصْحَابِي، فَبَقِيَ عَتُود مِنْهَا، فَقَالَ: ضَحِّ بِهَا أَنْتَ، وَلَا رُخْصَة لِأَحَدٍ فيها بَعْدك، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَل أَيْضًا مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ زَيْد بْن خَالِد، قَالَ: قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابه غَنَمًا فَأَعْطَانِي عَتُودًا جَذَعًا، فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ، فَقُلْت: إِنَّهُ جَذَع مِنْ الْمَعْز أُضَحِّي بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ ضَحِّ بِهِ فَضَحَّيْت، هَذَا كَلَام الْبَيْهَقِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّد حَسَن، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ مِنْ الْمَعْز، وَلَكِنَّهُ مَعْلُوم مِنْ قَوْله: (عَتُود)، وَهَذَا التَّأْوِيل الَّذِي قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْره مُتَعَيَّن. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ بَعْجَة) هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة مَفْتُوحَة.

.باب اسْتِحْبَابِ الضَّحِيَّةِ وَذَبْحِهَا مُبَاشَرَةً بِلاَ تَوْكِيلٍ وَالتَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ:

3635- قَوْله: «ضَحَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْله عَلَى صِفَاحهمَا» قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره: الْأَمْلَح هُوَ الْأَبْيَض الْخَالِص الْبَيَاض، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: هُوَ الْأَبْيَض وَيَشُوبهُ شَيْء مِنْ السَّوَاد، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ الَّذِي يُخَالِط بَيَاضه حُمْرَة، وَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ الْأَسْوَد يَعْلُوهُ حُمْرَة، وَقَالَ الْكِسَائِيّ: هُوَ الَّذِي فيه بَيَاض وَسَوَاد وَالْبَيَاض أَكْثَر، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الْأَبْيَض الَّذِي فِي خَلَل صُوفه طَبَقَات سُود، وَقَالَ الدُّؤَادِيّ: هُوَ الْمُتَغَيِّر الشَّعْر بِسَوَادٍ وَبَيَاض.
وَقَوْله: (أَقْرَنَيْنِ) أَيْ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا قَرْنَانِ حَسَنَانِ، قَالَ الْعُلَمَاء: فَيُسْتَحَبّ الْأَقْرَن. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز تَضْحِيَة الْإِنْسَان بِعَدَدٍ مِنْ الْحَيَوَان، وَاسْتِحْبَاب الْأَقْرَن، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز التَّضْحِيَة بِالْأَجْمِ الَّذِي لَمْ يُخْلَق لَهُ قَرْنَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَكْسُور الْقَرْن فَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْجُمْهُور، سَوَاء كَانَ يُدْمِي أَمْ لَا، وَكَرِهَهُ مَالِك إِذَا كَانَ يُدْمِي، وَجَعَلَهُ عَيْبًا.
وَأَجْمَعُوا عَلَى اِسْتِحْبَاب اِسْتِحْسَانهَا وَاخْتِيَار أَكْمَلهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعُيُوب الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث الْبَرَاء، وَهُوَ: الْمَرَض، وَالْعَجَف وَالْعَوْرَة وَالْعَرَج الْبَيِّن، لَا تُجْزِي التَّضْحِيَة بِهَا، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، أَوْ أَقْبَح كَالْعَمَى، وَقَطْع الرَّجُل، وَشَبَهه. وَحَدِيث الْبَرَاء هَذَا لَمْ يُخَرِّجهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرهمْ مِنْ أَصْحَاب السُّنَن بِأَسَانِيد صَحِيحَة وَحَسَنَة، قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: مَا أَحْسَنه مِنْ حَدِيث، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (أَمْلَحَيْنِ) فَفيه: اِسْتِحْبَاب اِسْتِحْسَان لَوْن الْأُضْحِيَّة، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، قَالَ أَصْحَابنَا: أَفْضَلهَا الْبَيْضَاء ثُمَّ الصَّفْرَاء ثُمَّ الْغَبْرَاء، وَهِيَ الَّتِي لَا يَصْفُو بَيَاضهَا، ثُمَّ الْبَلْقَاء وَهِيَ الَّتِي بَعْضهَا أَبْيَض وَبَعْضهَا أَسْوَد، ثُمَّ السَّوْدَاء.
قَوْله: (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ) فيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَان ذَبْح أُضْحِيَّته بِنَفْسِهِ، وَلَا يُوَكِّل فِي ذَبْحهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبّ أَنْ يَشْهَد ذَبْحهَا، وَإِنْ اِسْتَنَابَ فيها مُسْلِمًا جَازَ بِلَا خِلَاف، وَإِنْ اِسْتَنَابَ كِتَابِيًّا كُرِهَ كَرَاهِيَة تَنْزِيه وَأَجْزَأَهُ وَوَقَعَتْ التَّضْحِيَة عَنْ الْمُوَكِّل، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَالِكًا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزهَا، وَيَجُوز أَنْ يَسْتَنِيب صَبِيًّا أَوْ اِمْرَأَة حَائِضًا، لَكِنْ يُكْرَه تَوْكِيل الصَّبِيّ، وَفِي كَرَاهَة تَوْكِيل الْحَائِض وَجْهَانِ قَالَ أَصْحَابنَا: الْحَائِض أَوْلَى بِالِاسْتِنَابَةِ مِنْ الصَّبِيّ، وَالصَّبِيّ أَوْلَى مِنْ الْكِتَابِيّ، قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْأَفْضَل لِمَنْ وَكَّلَ أَنْ يُوَكِّل مُسْلِمًا فَقِيهًا بِبَابِ الذَّبَائِح وَالضَّحَايَا؛ لِأَنَّهُ أَعْرَف بِشُرُوطِهَا وَسُنَنهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (وَسَمَّى) فيه إِثْبَات التَّسْمِيَة عَلَى الضَّحِيَّة وَسَائِر الذَّبَائِح، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ لَكِنْ هَلْ هُوَ شَرْط أَمْ مُسْتَحَبّ؟ فيه خِلَاف سَبَقَ إِيضَاحه فِي كِتَاب الصَّيْد. قَوْله: (وَكَبَّرَ) فيه اِسْتِحْبَاب التَّكْبِير مَعَ التَّسْمِيَة فَيَقُول بِسْمِ اللَّه وَاللَّهُ أَكْبَر.
قَوْله: (وَوَضَعَ رِجْله عَلَى صِفَاحهمَا) أَيْ صَفْحَة الْعُنُق وَهِيَ جَانِبه، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِيَكُونَ أَثْبَت لَهُ وَأَمْكَنَ لِئَلَّا تَضْطَرِب الذَّبِيحَة بِرَأْسِهَا فَتَمْنَعهُ مِنْ إِكْمَال الذَّبْح أَوْ تُؤْذِيه، وَهَذَا أَصَحّ مِنْ الْحَدِيث الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْ هَذَا.
3637- قَوْله: «يَطَأ فِي سَوَاد وَيَبْرُك فِي سَوَاد وَيَنْظُر فِي سَوَاد»، فَمَعْنَاهُ أَنَّ قَوَائِمه وَبَطْنه وَمَا حَوْل عَيْنَيْهِ أَسْوَد. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمِّي الْمُدْيَة» أَيْ هَاتِيهَا، وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا وَهِيَ السِّكِّين.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ» هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَالْحَاء الْمُهْمَلَة الْمَفْتُوحَة وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَيْ حَدِّدِيهَا، وَهَذَا مُوَافِق لِلْحَدِيثِ السَّابِق فِي الْأَمْر بِإِحْسَانِ الْقِتْلَة وَالذَّبْح وَإِحْدَاد الشَّفْرَة.
قَوْله: «وَأَخَذَ الْكَبْش فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّه اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَمِنْ أُمَّة مُحَمَّد ثُمَّ ضَحَّى بِهِ» هَذَا الْكَلَام فيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير: فَأَضْجَعَهُ، وَأَخَذَ فِي ذَبْحه قَائِلًا: بِاسْمِ اللَّه اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَأُمَّته، مُضَحِّيًا بِهِ، وَلَفْظَة (ثُمَّ) هُنَا مُتَأَوَّلَة عَلَى مَا ذَكَرْته بِلَا شَكّ، وَفيه: اِسْتِحْبَاب إِضْجَاع الْغَنَم فِي الذَّبْح، وَأَنَّهَا لَا تُذْبَح قَائِمَة وَلَا بَارِكَة بَلْ مُضْجَعَة؛ لِأَنَّهُ أَرْفَق بِهَا، وَبِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء وَعَمَل الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ إِضْجَاعهَا يَكُون عَلَى جَانِبهَا الْأَيْسَر؛ لِأَنَّهُ أَسْهَل عَلَى الذَّابِح فِي أَخْذ السِّكِّين بِالْيَمِينِ، وَإِمْسَاك رَأْسهَا بِالْيَسَارِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَمِنْ أُمَّة مُحَمَّد» فيه: دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ قَوْل الْمُضَحِّي حَالَ الذَّبْح مَعَ التَّسْمِيَة وَالتَّكْبِير: (اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي) قَالَ أَصْحَابنَا: وَيُسْتَحَبّ مَعَهُ: (اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك تَقَبَّلْ مِنِّي) فَهَذَا مُسْتَحَبّ عِنْدنَا وَعِنْد الْحَسَن وَجَمَاعَة، وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَة، وَكَرِهَ مَالِك (اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك) وَقَالَ: هِيَ بِدْعَة، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ جَوَّزَ تَضْحِيَة الرَّجُل عَنْهُ وَعَنْ أَهْل بَيْته، وَاشْتِرَاكهمْ مَعَهُ فِي الثَّوَاب، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه، وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ أَوْ مَخْصُوص، وَغَلَّطَهُ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّسْخ وَالتَّخْصِيص لَا يَثْبُتَانِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.

.باب جَوَازِ الذَّبْحِ بِكُلِّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إِلاَّ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَائِرَ الْعِظَامِ:

3638- قَوْله: «قُلْت: يَا رَسُول اللَّه إِنَّا لَاقُو الْعَدُوّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى قَالَ: أَعْجِلْ أَوْ أَرِنْ» أَمَّا (أَعْجِلْ) فَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيم وَأَمَّا (أَرِنْ) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء وَإِسْكَان النُّون، وَرُوِيَ بِإِسْكَانِ الرَّاء وَكَسْر النُّون وَرُوِيَ (أَرْنِي) بِإِسْكَانِ الرَّاء وَزِيَادَة يَاء، وَكَذَا وَقَعَ هُنَا فِي أَكْثَر النُّسَخ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَوَابه (أَأْرِنْ) عَلَى وَزْن أَعْجِلْ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ مِنْ النَّشَاط وَالْخِفَّة، أَيْ أَعْجِلْ ذَبْحهَا؛ لِئَلَّا تَمُوت خَنْقًا، قَالَ: وَقَدْ يَكُون (أَرْنِ) عَلَى وَزْن: «أَطْلِعْ» أَيْ أَهْلِكْهَا ذَبْحًا مِنْ أَرَانَ الْقَوْم إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهمْ، قَالَ: وَيَكُون (أَرْنِ) عَلَى وَزْن (أَعْطِ) بِمَعْنَى أَدِمْ الْحَزّ وَلَا تَفْتُر، مِنْ قَوْلهمْ: رَنَوْت إِذَا أَدَمْت النَّظَر. وَفِي الصَّحِيح (أَرْنُ) بِمَعْنَى أُعَجِّل، وَأَنَّ هَذَا شَكّ مِنْ الرَّاوِي، هَلْ قَالَ أَرْنُ، أَوْ قَالَ: أُعَجِّل؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَدْ رَدّ بَعْضهمْ عَلَى الْخَطَّابِيّ قَوْله إِنَّهُ مِنْ أَرَانَ الْقَوْم إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهمْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَعَدَّى، وَالْمَذْكُور فِي الْحَدِيث مُتَعَدٍّ عَلَى مَا فَسَّرَهُ، وَرُدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله إِنَّهُ (أَأْرَن) إِذْ لَا تَجْتَمِع هَمْزَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَاكِنَة فِي كَلِمَة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا يُقَال فِي هَذَا (إِيرِنْ) بِالْيَاءِ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْضهمْ: مَعْنَى (أَرْنِي) بِالْيَاءِ سَيَلَان الدَّم، وَقَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة: صَوَاب اللَّفْظَة بِالْهَمْزَةِ، وَالْمَشْهُور بِلَا هَمْز. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْهَر الدَّم وَذَكَرَ اِسْم اللَّه فَكُلْ لَيْسَ السِّنّ وَالظُّفْر» أَمَّا السِّنّ وَالظُّفْر فَمَنْصُوبَانِ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِلَيْسَ، وَأَمَّا أَنْهَرَهُ فَمَعْنَاهُ: أَسَالَهُ وَصَبَّهُ بِكَثْرَةٍ، وَهُوَ مُشَبَّه بِجَرْيِ الْمَاء فِي النَّهْر، يُقَال: نَهَر الدَّم وَأَنْهَرْته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَذَكَرَ اِسْم اللَّه» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ كُلّهَا، وَفيه مَحْذُوف أَيْ وَذَكَرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ أَوْ مَعَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره: «وَذَكَرَ اِسْم اللَّه عَلَيْهِ» قَالَ الْعُلَمَاء: فَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِأَنَّهُ يُشْتَرَط فِي الذَّكَاة مَا يَقْطَع وَيُجْرِي الدَّم، وَلَا يَكْفِي رَضّهَا وَدَمْغهَا بِمَا لَا يُجْرِي الدَّم، قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ الْخَشَبِيّ فِي شَرْح هَذَا الْحَدِيث مَا أَنْهَز بِالزَّايِ، وَالنَّهْز بِمَعْنَى الدَّفْع، قَالَ: وَهَذَا غَرِيب وَالْمَشْهُور بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَة، وَكَذَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْعُلَمَاء كَافَّة بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَة، قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي اِشْتِرَاط الذَّبْح وَإِنْهَار الدَّم تَمَيُّز حَلَال اللَّحْم وَالشَّحْم مِنْ حَرَامهمَا، وَتَنْبِيه عَلَى أَنَّ تَحْرِيم الْمَيْتَة لِبَقَاءِ دَمهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِجَوَازِ الذَّبْح بِكُلِّ مُحَدَّد يَقْطَع إِلَّا الظُّفْر وَالسِّنّ وَسَائِر الْعِظَام، فَيَدْخُل فِي ذَلِكَ السَّيْف وَالسِّكِّين وَالسِّنَان وَالْحَجَر وَالْخَشَب وَالزُّجَاج وَالْقَصَب، وَالْخَزَف وَالنُّحَاس وَسَائِر الْأَشْيَاء الْمُحَدَّدَة، فَكُلّهَا تَحْصُل بِهَا الذَّكَاة إِلَّا السِّنّ وَالظُّفْر وَالْعِظَام كُلّهَا، أَمَّا الظُّفْر فَيَدْخُل فيه ظُفْر الْآدَمِيّ وَغَيْره مِنْ كُلّ الْحَيَوَانَات، وَسَوَاء الْمُتَّصِل وَالْمُنْفَصِل، الطَّاهِر وَالنَّجَس. فَكُلّه لَا تَجُوز الذَّكَاة بِهِ لِلْحَدِيثِ.
وَأَمَّا السِّنّ فَيَدْخُل فيه سِنّ الْآدَمِيّ وَغَيْره الطَّاهِر وَالنَّجَس، وَالْمُتَّصِل وَالْمُنْفَصِل، وَيَلْحَق بِهِ سَائِر الْعِظَام مِنْ كُلّ الْحَيَوَان الْمُتَّصِل مِنْهَا وَالْمُنْفَصِل. الطَّاهِر وَالنَّجَس، فَكُلّه لَا تَجُوز الذَّكَاة بِشَيْءٍ مِنْهُ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَفَهِمْنَا الْعِظَام مِنْ بَيَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّة فِي قَوْله: «أَمَّا السِّنّ فَعَظْم» أَيْ: نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ لِكَوْنِهِ عَظْمًا، فَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ الْعِلَّة كَوْنه عَظْمًا، فَكُلّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اِسْم الْعَظْم لَا تَجُوز الذَّكَاة بِهِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه بِهَذَا الْحَدِيث فِي كُلّ مَا تَضَمَّنَهُ عَلَى مَا شَرَحْته، وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَن بْن صَالِح وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَفُقَهَاء الْحَدِيث وَجُمْهُور الْعُلَمَاء.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ: لَا يَجُوز بِالسِّنِّ وَالْعَظْم الْمُتَّصِلَيْنِ، وَيَجُوز بِالْمُنْفَصِلَيْنِ. وَعَنْ مَالِك رِوَايَات أَشْهَرهَا: جَوَازه بِالْعَظْمِ دُون السِّنّ كَيْف كَانَا، وَالثَّانِيَة: كَمَذْهَبِ الْجُمْهُور، وَالثَّالِثَة: كَأَبِي حَنِيفَة، وَالرَّابِعَة: حَكَاهَا عَنْهُ اِبْن الْمُنْذِر يَجُوز بِكُلِّ شَيْء حَتَّى بِالسِّنِّ وَالظُّفْر، وَعَنْ اِبْن جُرَيْجٍ جَوَاز الذَّكَاة بِعَظْمِ الْحِمَار دُون الْقِرْد، وَهَذَا مَعَ مَا قَبْله بَاطِلَانِ مُنَابِذَانِ لِلسُّنَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَمُوَافِقُوهُمْ: لَا تَحْصُل الذَّكَاة إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُوم وَالْمَرِيء بِكَمَالِهِمَا، وَيُسْتَحَبّ قَطْع الْوَدَجَيْنِ وَلَا يُشْتَرَط، وَهَذَا أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد، وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر: أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُوم وَالْمَرِيء وَالْوَدَجَيْنِ وَأَسَالَ الدَّم حَصَلَتْ الذَّكَاة، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْع بَعْض هَذَا فَقَالَ الشَّافِعِيّ: يُشْتَرَط قَطْع الْحُلْقُوم وَالْمَرِيء وَيُسْتَحَبّ الْوَدَجَانِ، وَقَالَ اللَّيْث وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر: يُشْتَرَط الْجَمِيع، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: إِذَا قَطَعَ ثَلَاثَة مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَة أَجْزَأَهُ، وَقَالَ مَالِك: يَجِب قَطْع الْحُلْقُوم وَالْوَدَجَيْنِ، وَلَا يُشْتَرَط الْمَرِيء، وَهَذِهِ رِوَايَة عَنْ اللَّيْث أَيْضًا، وَعَنْ مَالِك رِوَايَة أَنَّهُ يَكْفِي قَطْع الْوَدَجَيْنِ، وَعَنْهُ اِشْتِرَاط قَطْع الْأَرْبَعَة كَمَا قَالَ اللَّيْث وَأَبُو ثَوْر، وَعَنْ أَبِي يُوسُف ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهَا كَأَبِي حَنِيفَة: وَالثَّانِيَة: إِنْ قَطَعَ الْحُلْقُوم وَاثْنَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة حَلَّتْ وَإِلَّا فَلَا، وَالثَّالِثَة: يُشْتَرَط قَطْع الْحُلْقُوم وَالْمَرِيء وَأَحَد الْوَدَجَيْنِ، وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن: إِنْ قَطَعَ مِنْ كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَرْبَعَة أَكْثَره حَلَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَفِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّم فَكُلّ» دَلِيل عَلَى جَوَاز ذَبْح الْمَنْحُور وَنَحْر الْمَذْبُوح، وَقَدْ جَوَّزَهُ الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا دَاوُدَ فَمَنَعَهُمَا، وَكَرِهَهُ مَالِك كَرَاهَة تَنْزِيه، وَفِي رِوَايَة كَرَاهَة تَحْرِيم، وَفِي رِوَايَة عَنْهُ إِبَاحَة ذَبْح الْمَنْحُور دُون نَحْر الْمَذْبُوح. وَأَجْمَعُوا أَنَّ السُّنَّة فِي الْإِبِل النَّحْر، وَفِي الْغَنَم الذَّبْح، وَالْبَقَرُ كَالْغَنَمِ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَقِيلَ: يَتَخَيَّر بَيْن ذَبْحهَا وَنَحْرهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا السِّنّ فَعَظْم» مَعْنَاهُ فَلَا تَذْبَحُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَتَنَجَّس بِالدَّمِ، وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ الِاسْتِنْجَاء بِالْعِظَامِ؛ لِئَلَّا تُنَجَّس لِكَوْنِهَا زَادَ إِخْوَانكُمْ مِنْ الْجِنّ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الظُّفْر فَمُدَى الْحَبَشَة» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كُفَّار، وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ التَّشَبُّه بِالْكُفَّارِ وَهَذَا شِعَار لَهُمْ.
قَوْله: «فَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِل وَغَنَم، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِير فَرَمَاهُ رَجُل بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِل أَوَابِد كَأَوَابِد الْوَحْش، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْء فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» أَمَّا النَّهْب بِفَتْحِ النُّون فَهُوَ الْمَنْهُوب، وَكَانَ هَذَا النَّهْب غَنِيمَة.
وَقَوْله: «فَنَدَّ مِنْهَا بَعِير» أَيْ: شَرَدَ وَهَرَبَ نَافِرًا، وَالْأَوَابِد: النُّفُور وَالتَّوَحُّش، وَهُوَ جَمْع آبِدَة بِالْمَدِّ وَكَسْر الْبَاء الْمُخَفَّفَة، وَيُقَال مِنْهُ: أَبَدَتْ بِفَتْحِ الْبَاء تَأَبُد بِضَمِّهَا، وَتَأَبِد بِكَسْرِهَا، وَتَأْبَدَتْ، وَمَعْنَاهُ: نَفَرَتْ مِنْ الْإِنْس وَتَوَحَّشَتْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِإِبَاحَةِ عَقْر الْحَيَوَان الَّذِي يَنِدّ، وَيُعْجَز عَنْ ذَبْحه وَنَحْره، قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: الْحَيَوَان الْمَأْكُول الَّذِي لَا تَحِلّ مَيْتَته ضَرْبَانِ: مَقْدُور عَلَى ذَبْحه، وَمُتَوَحِّش، فَالْمَقْدُور عَلَيْهِ لَا يَحِلّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْق وَاللَّبَة كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، وَسَوَاء فِي هَذَا الْإِنْسِيّ وَالْوَحْشِيّ إِذَا قَدَرَ عَلَى ذَبْحه بِأَنْ أَمْسَكَ الصَّيْد أَوْ كَانَ مُتَأَنِّسًا فَلَا يَحِلّ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْق وَاللَّبَة، وَأَمَّا الْمُتَوَحِّش كَالصَّيْدِ فَجَمِيع أَجْزَائِهِ يُذْبَح مَا دَامَ مُتَوَحِّشًا، فَإِذَا رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ جَارِحَة فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْهُ وَمَاتَ بِهِ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا إِذَا تَوَحَّشَ إِنْسِيّ بِأَنَ نَدَّ بَعِير أَوْ بَقَرَة أَوْ فَرَس أَوْ شَرَدَتْ شَاة أَوْ غَيْرهَا فَهُوَ كَالصَّيْدِ، فَيَحِلّ بِالرَّمْيِ إِلَى غَيْر مَذْبَحه، وَبِإِرْسَالِ الْكَلْب وَغَيْره مِنْ الْجَوَارِح عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ تَرَدَّى بَعِير أَوْ غَيْره فِي بِئْر وَلَمْ يُمْكِن قَطْع حُلْقُومه وَمَرِيئُهُ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ النَّادّ فِي حِلّه بِالرَّمْيِ بِلَا خِلَاف عِنْدنَا، وَفِي حِلّه بِإِرْسَالِ الْكَلْب وَجْهَانِ أَصَحّهمَا: لَا يَحِلّ، قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالتَّوَحُّشِ مُجَرَّد الْإِفْلَات، بَلْ مَتَى تَيَسَّرَ لُحُوقه بَعْد وَلَوْ بِاسْتِعَانَةٍ بِمَنْ يُمْسِكهُ وَنَحْو ذَلِكَ فَلَيْسَ مُتَوَحِّشًا، وَلَا يَحِلّ حِينَئِذٍ إِلَّا بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَح، وَإِنْ تَحَقَّقَ الْعَجْز فِي الْحَال جَازَ رَمْيه، وَلَا يُكَلَّف الصَّبْر إِلَى الْقُدْرَة عَلَيْهِ، وَسَوَاء كَانَتْ الْجِرَاحَة فِي فَخِذه أَوْ خَاصِرَته أَوْ غَيْرهمَا مِنْ بَدَنه فَيَحِلّ. هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ عَقْر النَّادّ كَمَا ذَكَرْنَا عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَطَاوُسٌ وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْأَسْوَد بْن يَزِيد وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَالْمُزَنِيّ وَدَاوُد وَالْجُمْهُور، وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَمَالك: لَا يَحِلّ إِلَّا بِذَكَاةٍ فِي حَلْقه كَغَيْرِهِ. دَلِيل الْجُمْهُور حَدِيث رَافِع الْمَذْكُور. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَة مِنْ تِهَامَة» قَالَ الْعُلَمَاء: الْحُلَيْفَة هَذِهِ مَكَان مِنْ تِهَامَة بَيْن حَاذَّة وَذَات عِرْق، وَلَيْسَتْ بِذِي الْحُلَيْفَة الَّتِي هِيَ مِيقَات أَهْل الْمَدِينَة، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَازِمِيّ فِي كِتَابه الْمُؤْتَلَف فِي أَسْمَاء الْأَمَاكِن، لَكِنَّهُ قَالَ: (الْحُلَيْفَة) مِنْ غَيْر لَفْظ (ذِي)، وَالَّذِي فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم (بِذِي الْحُلَيْفَة)، فَكَأَنَّهُ يُقَال بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْله: «فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا فَعَجِلَ الْقَوْم فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُور، فَأَمَرَ بِهَا فَكُفِّئَتْ» مَعْنَى كُفِئَتْ أَيْ قُلِبَتْ وَأُرِيق مَا فيها، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ اِنْتَهَوْا إِلَى دَار الْإِسْلَام، وَالْمَحِلّ الَّذِي لَا يَجُوز فيه الْأَكْل مِنْ مَال الْغَنِيمَة الْمُشْتَرَكَة، فَإِنَّ الْأَكْل مِنْ الْغَنَائِم قَبْل الْقِسْمَة إِنَّمَا يُبَاح فِي دَار الْحَرْب، وَقَالَ الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة الْمَالِكِيّ: إِنَّمَا أُمِرُوا بِإِكْفَاءِ الْقُدُور عُقُوبَة لَهُمْ لِاسْتِعْجَالِهِمْ فِي السَّيْر وَتَرْكهمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَات الْقَوْم مُتَعَرِّضًا لِمَنْ يَقْصِدهُ مِنْ عَدُوّ وَنَحْوه، وَالْأَوَّل أَصَحّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُور بِهِ مِنْ إِرَاقَة الْقُدُور إِنَّمَا هُوَ إِتْلَاف لِنَفْسِ الْمَرَق عُقُوبَة لَهُمْ.
وَأَمَّا نَفْس اللَّحْم فَلَمْ يُتْلِفُوهُ، بَلْ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ جُمِعَ وَرُدَّ إِلَى الْمَغْنَم، وَلَا يُظَنّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِتْلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ مَال لِلْغَانِمِينَ، وَقَدْ نَهَى عَنْ إِضَاعَة الْمَال، مَعَ أَنَّ الْجِنَايَة بِطَبْخِهِ لَمْ تَقَع مِنْ جَمِيع مُسْتَحِقِّي الْغَنِيمَة إِذْ مِنْ جُمْلَتهمْ أَصْحَاب الْخَمْس، وَمِنْ الْغَانِمِينَ مَنْ لَمْ يَطْبُخ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُمْ حَمَلُوا اللَّحْم إِلَى الْمَغْنَم، قُلْنَا: وَلَمْ يُنْقَل أَيْضًا أَنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ وَأَتْلَفُوهُ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ فيه نَقْل صَرِيح وَجَبَ تَأْوِيله عَلَى وَفْق الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ إِكْفَاء قُدُور لَحْم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر، فَإِنَّهُ أَتْلَفَ مَا فيها مِنْ لَحْم وَمَرَق؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ نَجِسَة، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها: «إِنَّهَا رِجْس أَوْ نَجَس» كَمَا سَبَقَ فِي بَابه، وَأَمَّا هَذِهِ اللُّحُوم فَكَانَتْ طَاهِرَة مُنْتَفَعًا بِهَا بِلَا شَكّ فَلَا يُظَنّ إِتْلَافهَا وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ الْغَنَم بِجَزُورٍ» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ قِيمَة هَذِهِ الْغَنَم وَالْإِبِل فَكَانَتْ الْإِبِل نَفِيسَة دُون الْغَنَم بِحَيْثُ كَانَتْ قِيمَة الْبَعِير عَشْر شِيَاه، وَلَا يَكُون هَذَا مُخَالِفًا لِقَاعِدَةِ الشَّرْع فِي بَاب الْأُضْحِيَّة فِي إِقَامَة الْبَعِير مَقَام سَبْع شِيَاه؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْغَالِب فِي قِيمَة الشِّيَاه وَالْإِبِل الْمُعْتَدِلَة، وَأَمَّا هَذِهِ الْقِسْمَة فَكَانَتْ قَضِيَّة اِتَّفَقَ فيها مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَفَاسَة الْإِبِل دُون الْغَنَم، وَفيه أَنَّ قِسْمَة الْغَنِيمَة لَا يُشْتَرَط فيها قِسْمَة كُلّ نَوْع عَلَى حِدَة.
قَوْله: «فَنُذَكِّي بِاللِّيطِ» هُوَ بِلَامٍ مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ طَاء مُهْمَلَة، وَهِيَ قُشُور الْقَصَب، وَلِيط كُلّ شَيْء قُشُوره، وَالْوَاحِدَة: لِيطَة، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «أَفَنَذْبَح بِالْقَصَبِ» وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره: «أَفَنَذْبَح بِالْمَرْوَةِ» فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا وَهَذَا، فَأَجَابَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابٍ جَامِع لِمَا سَأَلُوهُ وَلِغَيْرِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَقَالَ: «كُلْ مَا أَنْهَرَ الدَّم وَذُكِرَ اِسْم اللَّه فَكُلْ لَيْسَ السِّنّ وَالظُّفْر».
قَوْله: «فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ حَتَّى وَهَصْنَاهُ» هُوَ بِهَاءٍ مَفْتُوحَة مُخَفَّفَة ثُمَّ صَاد مُهْمَلَة سَاكِنَة ثُمَّ نُون، وَمَعْنَاهُ: رَمَيْنَاهُ رَمْيًا شَدِيدًا، وَقِيلَ: أَسْقَطْنَاهُ إِلَى الْأَرْض، وَوَقَعَ فِي غَيْر مُسْلِم: «رَهَصْنَاهُ» بِالرَّاءِ، أَيْ: حَبَسْنَاهُ.

.باب بَيَانِ مَا كَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاَثٍ فِي أَوَّلِ الإِسْلاَمِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ وَإِبَاحَتِهِ إِلَى مَتَى شَاءَ:

3639- قَوْله: (حَدَّثَنِي عَبْد الْجَبَّار بْن الْعَلَاء حَدَّثَنَا سُفْيَان حَدَّثَنَا الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي عُبَيْد قَالَ: شَهِدْت الْعِيد مَعَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ... وَذَكَرَ الْحَدِيث) قَالَ الْقَاضِي: لِهَذَا الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة سُفْيَان عِنْد أَهْل الْحَدِيث عِلَّة فِي رَفْعه؛ لِأَنَّ الْحُفَّاظ مِنْ أَصْحَاب سُفْيَان لَمْ يَرْفَعُوهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة سُفْيَان، وَرَوَاهُ مِنْ غَيْر طَرِيقه، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا مِمَّا وَهَمَ فيه عَبْد الْجَبَّار بْن الْعَلَاء؛ لِأَنَّ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَالْقَعْنَبِيّ وَأَبَا خَيْثَمَةَ وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ رَوَوْهُ عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ مَوْقُوفًا قَالَ: وَرَفْع الْحَدِيث عَنْ الزُّهْرِيّ صَحِيح مِنْ غَيْر طَرِيق سُفْيَان، فَقَدْ رَفَعَهُ صَالِح وَيُونُس وَمَعْمَر وَالزُّبَيْدِيّ وَمَالك مِنْ رِوَايَة جُوَيْرِيَة كُلّهمْ رَوَوْهُ عَنْ الزُّهْرِيّ مَرْفُوعًا. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْمَتْن صَحِيح بِكُلِّ حَال. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3640- قَوْله فِي حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُوم نُسْككُمْ فَوْق ثَلَاث لَيَالٍ فَلَا تَأْكُلُوا» وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَأْكُل أَحَدكُمْ مِنْ أُضْحِيَّته فَوْق ثَلَاثَة أَيَّام» قَالَ سَالِم: وَكَانَ اِبْن عُمَر لَا يَأْكُل لُحُوم الْأَضَاحِيّ بَعْد ثَلَاث، وَذَكَرَ حَدِيث جَابِر مِثْله فِي النَّهْي، ثُمَّ قَالَ: كُلُوا بَعْد وَادَّخِرُوا وَتَزَوَّدُوا. وَحَدِيث عَائِشَة أَنَّهُ دَفَّ نَاس مِنْ أَهْل الْبَادِيَة حَضْرَة الْأَضْحَى، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِدَّخِرُوا ثَلَاثَة أَيَّام، ثُمَّ تَصَدَّقُوا ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيث: إِنَّمَا كُنْت نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْل الدَّافَّة الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا، وَذَكَرَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث جَابِر وَسَلَمَة بْن الْأَكْوَع وَأَبِي سَعِيد وَثَوْبَان وَبُرَيْدَةَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَخْذ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، فَقَالَ قَوْم: يَحْرُم إِمْسَاك لُحُوم الْأَضَاحِيّ وَالْأَكْل مِنْهَا بَعْد ثَلَاث، وَإِنَّ حُكْم التَّحْرِيم بَاقٍ كَمَا قَالَهُ عَلِيّ وَابْن عُمَر، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: يُبَاح الْأَكْل وَالْإِمْسَاك بَعْد الثَّلَاث، وَالنَّهْي مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُصَرِّحَة بِالنَّسْخِ لاسيما حَدِيث بُرَيْدَةَ، وَهَذَا مِنْ نَسْخ السُّنَّة بِالسُّنَّةِ، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَيْسَ هُوَ نَسْخًا، بَلْ كَانَ التَّحْرِيم لِعِلَّةٍ فَلَمَّا زَالَتْ زَالَ؛ لِحَدِيثِ سَلَمَة وَعَائِشَة، وَقِيلَ: كَانَ النَّهْي الْأَوَّل لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالْكَرَاهَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم، وَلَكِنْ لَا يَحْرُم، قَالُوا: وَلَوْ وَقَعَ مِثْل تِلْكَ الْعِلَّة الْيَوْم فَدَفَّتْ دَافَّة وَاسَاهُمْ النَّاس، وَحَمَلُوا عَلَى هَذَا مَذْهَب عَلِيّ وَابْن عُمَر، وَالصَّحِيح نَسْخ النَّهْي مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ تَحْرِيم وَلَا كَرَاهَة، فَيُبَاح الْيَوْم الِادِّخَار فَوْق ثَلَاث، وَالْأَكْل إِلَى مَتَى شَاءَ لِصَرِيحِ حَدِيث بُرَيْدَةَ وَغَيْره وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَعْد ثَلَاث» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِبْتِدَاء الثَّلَاث مِنْ يَوْم ذَبْحهَا، وَيَحْتَمِل مِنْ يَوْم النَّحْر، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَبْحهَا إِلَى أَيَّام التَّشْرِيق، قَالَ: وَهَذَا أَظْهَر.
3641- سبق شرحه بالباب.
3643- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْل الدَّافَّة الَّتِي دَفَّتْ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الدَّافَّة) بِتَشْدِيدِ الْفَاء: قَوْم يَسِيرُونَ جَمِيعًا سَيْرًا خَفِيفًا، وَدَفَّ يَدِفّ بِكَسْرِ الدَّال، وَدَافَّة الْأَعْرَاب مَنْ يَرِد مِنْهُمْ الْمِصْر، وَالْمُرَاد هُنَا مَنْ وَرَدَ مِنْ ضُعَفَاء الْأَعْرَاب لِلْمُوَاسَاةِ.
قَوْله: «دَفَّ أَبْيَات مِنْ أَهْل الْبَادِيَة حَضْرَة الْأَضْحَى» هِيَ بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا، وَالضَّاد سَاكِنَة فيها كُلّهَا، وَحُكِيَ فَتْحهَا وَهُوَ ضَعِيف، وَإِنَّمَا تُفْتَح إِذَا حُذِفَتْ الْهَاء فَيُقَال: بِحَضَرِ فُلَان.
قَوْله: «إِنَّ النَّاس يَتَّخِذُونَ الْأَسْقِيَة مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَك»، قَوْله: (يَجْمُلُونَ) بِفَتْحِ الْيَاء مَعَ كَسْر الْمِيم وَضَمّهَا، وَيُقَال: بِضَمِّ الْيَاء مَعَ كَسْر الْمِيم، يُقَال: جَمَلْت الدُّهْن أُجْمِلهُ بِكَسْرِ الْمِيم وَأَجْمُلهُ بِضَمِّهَا جَمْلًا، وَأَجْمَلْته إِجْمَالًا أَيْ أَذَبْته وَهُوَ بِالْجِيمِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْل الدَّافَّة الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا» هَذَا تَصْرِيح بِزَوَالِ النَّهْي عَنْ اِدِّخَارهَا فَوْق ثَلَاث، وَفيه الْأَمْر بِالصَّدَقَةِ مِنْهَا، وَالْأَمْر بِالْأَكْلِ، فَأَمَّا الصَّدَقَة مِنْهَا إِذَا كَانَتْ أُضْحِيَّة تَطَوُّع فَوَاجِبَة عَلَى الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا بِمَا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم مِنْهَا، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَكُون بِمُعْظَمِهَا. قَالُوا: وَأَدْنَى الْكَمَال أَنْ يَأْكُل الثُّلُث وَيَتَصَدَّق بِالثُّلُثِ وَيُهْدِي الثُّلُث، وَفيه قَوْل أَنَّهُ يَأْكُل النِّصْف، وَيَتَصَدَّق بِالنِّصْفِ، وَهَذَا الْخِلَاف فِي قَدْر أَدْنَى الْكَمَال فِي الِاسْتِحْبَاب، فَأَمَّا الْإِجْزَاء فَيُجْزِيه الصَّدَقَة بِمَا يَقَع عَلَيْهِ الِاسْم كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَنَا وَجْه أَنَّهُ لَا تَجِب الصَّدَقَة بِشَيْءٍ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْأَكْل مِنْهَا فَيُسْتَحَبّ وَلَا يَجِب، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ أَوْجَبَ الْأَكْل مِنْهَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي الطَّيِّب اِبْن سَلَمَة مِنْ أَصْحَابنَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْمَاوَرْدِيّ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث فِي الْأَمْر بِالْأَكْلِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} وَحَمَلَ الْجُمْهُور هَذَا الْأَمْر عَلَى النَّدْب أَوْ الْإِبَاحَة لاسيما وَقَدْ وَرَدَ بَعْد الْحَظْر كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْأَمْر الْوَارِد بَعْد الْحَظْر، فَالْجُمْهُور مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ عَلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ كَمَا لَوْ وَرَدَ اِبْتِدَاء، قَالَ جِمَاعه مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ.
3645- قَوْله فِي حَدِيث أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ عَلِيّ بْن مُسْهِر: (قُلْت لِعَطَاءٍ: قَالَ جَابِر حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَة قَالَ: نَعَمْ) وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ (لَا) بَدَل قَوْله هُنَا (نَعَمْ) فَيَحْتَمِل أَنَّهُ نَسِيَ فِي وَقْت فَقَالَ: (لَا) وَذَكَرَ فِي وَقْت فَقَالَ: (نَعَمْ).
3647- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ قَتَادَة عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ) هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخ بِلَادنَا (سَعِيد عَنْ قَتَادَة عَنْ أَبِي نَضْرَة) وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَالْقَاضِي عَنْ نُسْخَة الْجُلُودِيّ وَالْكِسَائِيّ قَالَا: وَفِي نُسْخَة اِبْن مَاهَان (سَعِيد عَنْ أَبِي نَضْرَة) مِنْ غَيْر (قَتَادَة)، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ فِي الْأَطْرَاف، وَخَلَف الْوَاسِطِيُّ، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب عِنْدِي. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله فِي طَرِيق اِبْن أَبِي شَيْبَة وَابْن الْمُثَنَّى: (عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد) هَذَا خِلَاف عَادَة مُسْلِم فِي الِاقْتِصَار، وَكَانَ مُقْتَضَى عَادَته حَذْف أَبِي سَعِيد فِي الطَّرِيق الْأَوَّل، وَيَقْتَصِر عَلَى أَبِي نَضْرَة، ثُمَّ يَقُول: (ح) وَيَتَحَوَّل فَإِنَّ مَدَار الطَّرِيقَيْنِ عَلَى أَبِي نَضْرَة وَالْعِبَارَة فيهمَا عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ بِلَفْظٍ وَاحِد، وَكَانَ يَنْبَغِي تَرْكه فِي الْأُولَى.
قَوْله: «إِنَّ لَهُمْ عِيَالًا وَحَشَمًا وَخَدَمًا» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْحَشَم- بِفَتْحِ الْحَاء وَالشِّين هُمْ- اللَّائِذُونَ بِالْإِنْسَانِ يَخْدُمُونَهُ، وَيَقُومُونَ بِأُمُورِهِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: هُمْ خَدَم الرَّجُل وَمَنْ يَغْضَب لَهُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَغْضَبُونَ لَهُ، وَالْحِشْمَة: الْغَضَب، وَيُطْلَق عَلَى الِاسْتِحْيَاء أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: فُلَان لَا يَحْتَشِم، أَيْ: لَا يَسْتَحِي، وَيُقَال: حَشَمْته وَأَحْشَمْته إِذَا أَغْضَبْته، وَإِذَا أَخْجَلْته فَاسْتَحْيَا الْخَجِلَة، وَكَأَنَّ الْحَشَم أَعَمّ مِنْ الْخَدَم، فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنهمَا فِي هَذَا الْحَدِيث، وَهُوَ مِنْ بَاب ذِكْر الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3648- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ كَانَ النَّاس فيه بِجَهْدٍ فَأَرَدْت أَنْ يَفْشُو فيهمْ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم (يَفْشُو) بِالْفَاءِ وَالشِّين أَيْ يَشِيع لَحْم الْأَضَاحِي فِي النَّاس، وَيَنْتَفِع بِهِ الْمُحْتَاجُونَ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ (يُعِينُوا) بِالْعَيْنِ مِنْ الْإِعَانَة.
قَالَ الْقَاضِي فِي شَرْح مُسْلِم: الَّذِي فِي مُسْلِم أَشْبَه، وَقَالَ فِي الْمَشَارِق: كِلَاهُمَا صَحِيح، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيّ أَوْجَه. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَالْجَهْد- هُنَا- بِفَتْحِ الْجِيم: وَهُوَ الْمَشَقَّة وَالْفَاقَة.
3649- قَوْله: «عَنْ ثَوْبَان قَالَ: ذَبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِيَّته ثُمَّ قَالَ: يَا ثَوْبَان أَصْلِحْ هَذِهِ فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَة» هَذَا فيه تَصْرِيح بِجَوَازِ اِدِّخَار لَحْم الْأُضْحِيَّة فَوْق ثَلَاث، وَجَوَاز التَّزَوُّد مِنْهُ، وَفيه: أَنَّ الِادِّخَار وَالتَّزَوُّد فِي الْأَسْفَار لَا يَقْدَح فِي التَّوَكُّل وَلَا يُخْرِج صَاحِبه عَنْ التَّوَكُّل، وَفيه: أَنَّ الضَّحِيَّة مَشْرُوعَة لِلْمُسَافِرِ كَمَا هِيَ مَشْرُوعه لِلْمُقِيمِ، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة: لَا ضَحِيَّة عَلَى الْمُسَافِر، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ مَالِك وَجَمَاعَة: لَا تُشْرَع لِلْمُسَافِرِ بِمِنًى وَمَكَّة.
3651- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُوم الْأَضَاحِيّ فَوْق ثَلَاث فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذ إِلَّا فِي سِقَاء فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَة كُلّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» هَذَا الْحَدِيث مِمَّا صُرِّحَ فيه بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخ جَمِيعًا، قَالَ الْعُلَمَاء: يُعْرَف نَسْخ الْحَدِيث تَارَة بِنَصٍّ كَهَذَا، وَتَارَة بِإِخْبَارِ الصَّحَابِيّ كَكَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْك الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْ النَّار، وَتَارَة بِالتَّارِيخِ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْع، وَتَارَة بِالْإِجْمَاعِ كَتَرْكِ قَتْل شَارِب الْخَمْر فِي الْمَرَّة الرَّابِعَة، وَالْإِجْمَاع لَا يَنْسَخ، لَكِنْ يَدُلّ عَلَى وُجُود نَاسِخ، أَمَّا زِيَارَة الْقُبُور فَسَبَقَ بَيَانهَا فِي كِتَاب الْجَنَائِز، وَأَمَّا الِانْتِبَاذ فِي الْأَسْقِيَة فَسَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان، وَسَنُعِيدُهُ قَرِيبًا فِي كِتَاب الْأَشْرِبَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَنَذْكُر هُنَاكَ اِخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الْحَدِيث، وَتَأْوِيل الْمُؤَوَّل مِنْهَا، وَأَمَّا لُحُوم الْأَضَاحِيّ فَذَكَرْنَا حُكْمهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.