فصل: باب تَخَوُّفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب إِبَاحَةِ الأَخْذِ لِمَنْ أُعْطِيَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافٍ:

1731- قَوْله: سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول: «قَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاء فَأَقُول: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْت: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْهُ وَمَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَال وَأَنْتَ غَيْر مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسك» هَذَا الْحَدِيث فيه مَنْقَبَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَبَيَان فَضْله وَزُهْده وَإِيثَاره. وَالْمُشْرِف إِلَى الشَّيْء هُوَ الْمُتَطَلِّع إِلَيْهِ، الْحَرِيص عَلَيْهِ: «وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» مَعْنَاهُ: مَا لَمْ يُوجَد فيه هَذَا الشَّرْط لَا تَعْلَق النَّفْس بِهِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ جَاءَهُ مَال هَلْ يَجِب قَبُوله أَمْ يُنْدَب؟ عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهُ يُسْتَحَبّ فِي غَيْر عَطِيَّة السُّلْطَان، وَأَمَّا عَطِيَّة السُّلْطَان فَحَرَّمَهَا قَوْم وَأَبَاحَهَا قَوْم وَكَرِهَهَا قَوْم، وَالصَّحِيح أَنَّهُ إِنْ غَلَبَ الْحَرَام فِيمَا فِي يَد السُّلْطَان حَرُمَتْ، وَكَذَا إِنْ أَعْطَى مَنْ لَا يَسْتَحِقّ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِب الْحَرَام فَمُبَاح إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَابِض مَانِع يَمْنَعهُ مَعَهُ اِسْتِحْقَاق الْأَخْذ، وَقَالَتْ طَائِفَة: الْأَخْذ وَاجِب مِنْ السُّلْطَان وَغَيْره، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَنْدُوب فِي عَطِيَّة السُّلْطَان دُون غَيْر. اللَّه أَعْلَم.
1732- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب قَالَ عَمْرو: وَحَدَّثَنِي اِبْن شِهَاب بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ السَّائِب بْن يَزِيد عَنْ عَبْد اللَّه بْن السَّعْدِيّ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث، وَقَوْله: (قَالَ عَمْرو) مَعْنَاهُ: قَالَ: قَالَ عَمْرو، فَحَذَفَ كِتَابَة (قَالَ) ولابد لِلْقَارِئِ مِنْ النُّطْق بِقَالَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا حَذَفُوا إِحْدَاهُمَا فِي الْكِتَاب اِخْتِصَارًا.
وَأَمَّا قَوْله: (قَالَ عَمْرو وَحَدَّثَنِي) فَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (وَحَدَّثَنِي) بِالْوَاوِ وَهُوَ صَحِيح مَلِيح، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ عَمْرًا حَدَّثَ عَنْ اِبْن شِهَاب بِأَحَادِيثَ عَطَفَ بَعْضهَا عَلَى بَعْض، فَسَمِعَهَا اِبْن وَهْب كَذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَادَ اِبْن وَهْب رِوَايَة غَيْر الْأَوَّل أَتَى بِالْوَاوِ الْعَاطِفَة؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ غَيْر الْأَوَّل مِنْ عَمْرو مَعْطُوف بِالْوَاوِ، فَأَتَى بِهِ كَمَا سَمِعَهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل الْكِتَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحَدِيث مِمَّا اُسْتُدْرِكَ عَلَى مُسْلِم، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ أَبُو عَلِيّ بْن السَّكَن: بَيْن السَّائِب بْن يَزِيد وَعَبْد اللَّه بْن السَّعْدِيّ رَجُلٌ، وَهُو: (حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى) قَالَ النَّسَائِيُّ: لَمْ يَسْمَعهُ السَّائِب مِنْ اِبْن السَّعْدِيّ، بَلْ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ حُوَيْطِب عَنْهُ، قَالَ غَيْره: هُوَ مَحْفُوظ مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن الْحَارِث رَوَاهُ أَصْحَاب شُعَيْب وَالزُّبَيْدِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِب بْن يَزِيد أَنَّ حُوَيْطِبًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْد اللَّه بْن السَّعْدِيّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرًا أَخْبَرَهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى عَنْ اِبْن وَهْب. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، قُلْت: وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه كَمَا ذَكَرَ عَنْ اِبْن عُيْيَنَةَ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ السَّائِب عَنْ حُوَيْطِب عَنْ اِبْن السَّعْدِيّ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَرُوِّينَاهُ عَنْ الْحَافِظ عَبْد الْقَادِر الرُّهَاوِيّ فِي كِتَابه الرَّبَاعِيَات، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ هَكَذَا عَنْ الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بْن الْوَلِيد وَالزُّبَيْدِيّ وَشُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة الْحِمْصِيَّانِ، وَعُقَيْل بْن خَالِد وَيُونُس بْن يَزِيد الْأَيْلِيَّانِ وَعَمْرو بْن الْحَارِث الْمِصْرِيّ، وَالْحَكَم بْن عَبْد اللَّه الْحِمْصِيُّ، ثُمَّ ذَكَرَ طُرُقهمْ بِأَسَانِيدِهَا مُطَوَّلَة مُطْرَقَة كُلّهمْ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ السَّائِب عَنْ حُوَيْطِب عَنْ اِبْن السَّعْدِيّ عَنْ عُمَر، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق شُعَيْب، قَالَ عَبْد الْقَادِر: وَرَوَاهُ النُّعْمَان بْن رَاشِد عَنْ الزُّهْرِيّ فَأَسْقَطَ حُوَيْطِبًا، وَرَوَاهُ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فيه؛ فَرَوَاهُ عَنْهُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ وَمُوسَى بْن أَعْيَنَ، كَمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَنْ الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ مَعْمَر فَأَسْقَطَ حُوَيْطِبًا، كَمَا رَوَاهُ النُّعْمَان بْن رَاشِد عَنْ الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر فَأَسْقَطَ حُوَيْطِبًا وَابْن السَّعْدِيّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظ عَبْد الْقَادِر طُرُقَهُمْ كَذَلِكَ، قَالَ: فَهَذَا مَا اِنْتَهَى مِنْ طُرُق هَذَا الْحَدِيث، قَالَ: وَالصَّحِيح مَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَة يَعْنِي عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ السَّائِب عَنْ حُوَيْطِب عَنْ اِبْن السَّعْدِيّ عَنْ عُمَر.
وَهَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة صَحَابِيُّونَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض وَهُمْ: عُمَر، وَابْن السَّعْدِيّ وَحُوَيْطِب، وَالسَّائِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَدْ جَاءَتْ جُمْلَة مِنْ الْأَحَادِيث فيها أَرْبَعَة صَحَابِيُّونَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَأَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض.
وَأَمَّا (اِبْن السَّعْدِيّ) فَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن وَقْدَان بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد وُدٍّ بْن نَضْر بْن مَالِك بْن حَنْبَل بْن عَامِر بْن لُؤَيّ بْن غَالِب قَالُوا: وَاسْم (وَقْدَان) عَمْرٌو وَيُقَال: عَمْرو بْن وَقْدَان، قَالَ مُصْعَب: هُوَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن وَقْدَان، وَيُقَال لَهُ: اِبْن السَّعْدِيّ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ اُسْتُرْضِعَ فِي بَنِي سَعْد بْن بَكْر بْن هَوَازِن، صَحِبَ اِبْن السَّعْدِيّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِيمًا وَقَالَ: وَفَدْت فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي سَعْد بْن بَكْر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَكَنَ الشَّام، رَوَى عَنْهُ السَّائِب بْن يَزِيد، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَات مِنْ كِبَار التَّابِعِينَ، وَأَمَّا (حُوَيْطِب) فَهُوَ بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو الْأُصْبُع حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى بْن أَبِي قَيْس بْن عَبْد وُدّ بْن نَضْر بْن مَالِك بْن حَنْبَل بْن عَامِر بْن لُؤَيّ الْقُرَشِيّ الْعَامِرِيّ، أَسْلَمَ يَوْم فَتْح مَكَّة، وَلَا تُحْفَظ لَهُ رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شَيْء ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْلِم بَعْد هَذَا مِنْ رِوَايَة قُتَيْبَة قَالَ: (عَنْ اِبْن السَّاعِدِيّ الْمَالِكِيّ) فَقَوْله: (الْمَالِكِيّ) صَحِيح مَنْسُوب إِلَى مَالِك بْن حَنْبَل بْن عَامِر، وَأَمَّا قَوْله: (السَّاعِدِيّ) فَأَنْكَرُوهُ قَالُوا: وَصَوَابه (السَّعْدِيّ) كَمَا رَوَاهُ الْجُمْهُور مَنْسُوب إِلَى بَنِي سَعْد بْن بَكْر كَمَا سَبَقَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
1733- قَوْله: «أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ» هِيَ بِضَمِّ الْعَيْن، وَهِيَ الْمَال الَّذِي يُعْطَاهُ الْعَامِل عَلَى عَمَله.
قَوْله: «عَمِلْت عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَنِي» هُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيم، أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَة عَمَلِي، وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز أَخْذ الْعِوَض عَلَى أَعْمَال الْمُسْلِمِينَ، سَوَاء كَانَتْ لِدَيْنٍ أَوْ لِدُنْيَا كَالْقَضَاءِ وَالْحِسْبَة وَغَيْرهمَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب كَرَاهَةِ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا:

1734- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَلْب الشَّيْخ شَابَ عَلَى حُبّ اِثْنَتَيْنِ: حُبِّ الْعَيْشِ وَالْمَالِ» هَذَا مَجَاز وَاسْتِعَارَة، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ قَلْب الشَّيْخ كَامِل الْحُبّ لِلْمَالِ مُحْتَكِم فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّة الشَّابّ فِي شَبَابِهِ، هَذَا صَوَابه، وَقِيلَ: تَفْسِيره غَيْر هَذَا مِمَّا لَا يُرْتَضَى.
1736- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَشِبُّ مِنْهُ اِثْنَتَانِ» بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْر الشِّين، وَهُوَ بِمَعْنَى قَلْب الشَّيْخ شَابَ عَلَى حُبّ اِثْنَتَيْنِ.

.باب لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ لاَبْتَغَى ثَالِثًا:

1737- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَم وَادِيَانِ مِنْ مَال لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأ جَوْف اِبْن آدَم إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ تَابَ» وَفِي رِوَايَة: «وَلَنْ يَمْلَأ فَاهُ إِلَّا التُّرَاب» وَفِي رِوَايَة: «وَلَا يَمْلَأ نَفْس اِبْن آدَم إِلَّا التُّرَاب».
فيه ذَمّ الْحِرْص عَلَى الدُّنْيَا وَحُبّ الْمُكَاثِرَة بِهَا وَالرَّغْبَة فيها، وَمَعْنَى: «لَا يَمْلَأ جَوْفه إِلَّا التُّرَاب» أَنَّهُ لَا يَزَال حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا َتَّى يَمُوت، وَيَمْتَلِئ جَوْفه مِنْ تُرَاب قَبْره.
وَهَذَا الْحَدِيث خَرَجَ عَلَى حُكْم غَالِب بَنِي آدَم فِي الْحِرْص عَلَى الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ تَابَ» وَهُوَ مُتَعَلِّق بِمَا قَبْله، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّه يَقْبَل التَّوْبَة مِنْ الْحِرْص الْمَذْمُوم وَغَيْره مِنْ الْمَذْمُومَات.

.باب لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ:

1741- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَة الْعَرَض وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس» الْعَرَض هُنَا بِفَتْحِ الْعَيْن وَالرَّاء جَمِيعًا، وَهُوَ مَتَاعُ الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى الْحَدِيث: الْغِنَى الْمَحْمُود غِنَى النَّفْس وَشِبَعُهَا وَقِلَّة حِرْصهَا، لَا كَثْرَة الْمَال مَعَ الْحِرْص عَلَى الزِّيَادَة؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلزِّيَادَةِ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا مَعَهُ فَلَيْسَ لَهُ غِنًى.

.باب تَخَوُّفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا:

1742- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا وَاَللَّه مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيّهَا النَّاس إِلَّا مَا يُخْرِج اللَّه لَكُمْ مِنْ زَهْرَة الدُّنْيَا» فيه التَّحْذِير مِنْ الِاغْتِرَار بِالدُّنْيَا وَالنَّظَر إِلَيْهَا، وَالْمُفَاخَرَة بِهَا، وَفيه: اِسْتِحْبَاب الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف إِذَا كَانَ فيه زِيَادَة فِي التَّوْكِيد وَالتَّفْخِيم لِيَكُونَ أَوْقَع فِي النُّفُوس.
قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه أَيَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْخَيْر لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ أَوْ خَيْر هُوَ، إِنَّ كُلّ مَا يُنْبِت الرَّبِيعُ يَقْتُل حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى اِمْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اِسْتَقْبَلَتْ الشَّمْس ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ ثُمَّ اِجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، فَمَنْ يَأْخُذ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَك فيه، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقّه فَمَثَله كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَخَيْر هُوَ» فَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاو و(الْحَبَط) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة التُّخَمَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ يُلِمّ» مَعْنَاهُ أَوْ يُقَارِب الْقَتْل.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا آكِلَة الْخَضِر» هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة مِنْ (إِلَّا) وَتَشْدِيد اللَّام عَلَى الِاسْتِثْنَاء، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُور مِنْ أَهْل الْحَدِيث وَاللُّغَة وَغَيْرهمْ، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (أَلَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَتَخْفِيف اللَّام عَلَى الِاسْتِفْتَاح و«آكِلَة الْخَضِر» بِهَمْزَةِ مَمْدُودَة، «وَالْخَضِر» بِفَتْحِ الْخَاء وَكَسْر الضَّاد، هَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُور، قَالَ الْقَاضِي: وَضَبْطه بَعْضهمْ: «الْخُضَر» بِضَمِّ الْخَاء وَفَتْح الضَّاد. وَقَوْله: «ثَلَطَتْ» هُوَ بِفَتْحِ الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَيْ أَلْقَتْ الثَّلْط، وَهُوَ الرَّجِيع الرَّقِيق، وَأَكْثَر مَا يُقَال لِلْإِبِلِ وَالْبَقَر وَالْفِيَلَة. قَوْله: «اِجْتَرَّتْ» أَيْ مَضَغَتْ جِرَّتَهَا.
قَالَ أَهْل اللُّغَة (الْجِرَّة) بِكَسْرِ الْجِيم مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِير مِنْ بَطْنه لِيَمْضَغَهُ ثُمَّ يَبْلَعَهُ، (وَالْقَصْع) شِدَّة الْمَضْغ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيّهَا النَّاس إِلَّا مَا يُخْرِج اللَّه لَكُمْ مِنْ زَهْرَة الدُّنْيَا فَقَالَ رَجُل يَا: رَسُول اللَّه أَيَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْخَيْر لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ أَوْ خَيْر هُوَ» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَهُمْ مِنْ زَهْرَة الدُّنْيَا وَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، فَقَالَ هَذَا الرَّجُل: إِنَّمَا يَحْصُل ذَلِكَ لَنَا مِنْ جِهَة مُبَاحَة كَغَنِيمَةٍ وَغَيْرهَا، وَذَلِكَ خَيْر، وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟ وَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار وَاسْتِبْعَاد، أَيْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُون الشَّيْء خَيْرًا ثُمَّ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَرّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الْخَيْر الْحَقِيقِيّ فَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، أَيْ لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ إِلَّا خَيْر، ثُمَّ قَالَ: «أَوْ خَيْر هُوَ» مَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يَحْصُل لَكُمْ مِنْ زَهْرَة الدُّنْيَا لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِتْنَة، وَتَقْدِيره: الْخَيْر لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الزَّهْرَة بِخَيْرٍ لِمَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَة وَالْمُنَافَسَة وَالِاشْتِغَال بِهَا عَنْ كَمَالِ الْإِقْبَال عَلَى الْآخِرَة، ثُمَّ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ كُلّ مَا يُنْبِت الرَّبِيع يَقْتُل حَبَطًا أَوْ يُلِمّ إِلَّا آكِلَة الْخَضِر...» إِلَى آخِره وَمَعْنَاهُ: أَنَّ نَبَات الرَّبِيع وَخَضِرَهُ يَقْتُل حَبَطًا بِالتُّخَمَةِ لِكَثْرَةِ الْأَكْل، أَوْ يُقَارِب الْقَتْل إِلَّا إِذَا اُقْتُصِرَ مِنْهُ عَلَى الْيَسِير الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَة وَتَحْصُل بِهِ الْكِفَايَة الْمُقْتَصَدَة فَإِنَّهُ لَا يَضُرّ، وَهَكَذَا الْمَال هُوَ كَنَبَاتِ الرَّبِيع مُسْتَحْسَن تَطْلُبهُ النُّفُوس وَتَمِيل إِلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَكْثِر مِنْهُ وَيَسْتَغْرِق فيه غَيْر صَارِف لَهُ فِي وُجُوهه، فَهَذَا يُهْلِكهُ أَوْ يُقَارِب إِهْلَاكه، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِد فيه فَلَا يَأْخُذ إِلَّا يَسِيرًا، وَإِنْ أَخَذَ كَثِيرًا فَرَّقَهُ فِي وُجُوهه كَمَا تَثْلِطُهُ الدَّابَّة فَهَذَا لَا يَضُرّهُ.
هَذَا مُخْتَصَر مَعْنَى الْحَدِيث.
قَالَ الْأَزْهَرِيّ: فيه مَثَلَانِ أَحَدهمَا لِلْمُكْثِرِ مِنْ الْجَمْع الْمَانِع مِنْ الْحَقّ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا يُنْبِت الرَّبِيع مَا يَقْتُل»؛ لِأَنَّ الرَّبِيع يُنْبِت أَجْرَار الْبُقُول فَتَسْتَكْثِر مِنْهُ الدَّابَّة حَتَّى تَهْلِك، وَالثَّانِي لِلْمُقْتَصِدِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا آكِلَة الْخَضِر»؛ لِأَنَّ الْخَضِر لَيْسَ مِنْ أَجْرَار الْبُقُول، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: ضَرَبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَثَلًا بِحَالَتَيْ الْمُقْتَصِد وَالْمُكْثِر فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ نَبَات الرَّبِيع خَيْر، وَبِهِ قِوَام الْحَيَوَان وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا، بَلْ مِنْهُ مَا يَقْتُل أَوْ يُقَارِب الْقَتْل، فَحَالَة الْمَبْطُون الْمَتْخُوم كَحَالَةِ مَنْ يَجْمَع الْمَال وَلَا يَصْرِفهُ فِي وُجُوهه، فَأَشَارَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ الِاعْتِدَال وَالتَّوَسُّط فِي الْجَمْع أَحْسَن، ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِمَنْ يَنْفَعهُ إِكْثَاره وَهُوَ التَّشْبِيه بِآكِلَةِ الْخَضِر، وَهَذَا التَّشْبِيه لِمَنْ صَرَفه فِي وُجُوهه الشَّرْعِيَّة. وَوَجْه الشَّبَه أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّة تَأْكُل مِنْ الْخَضِر حَتَّى تَمْتَلِئ خَاصِرَتهَا ثُمَّ تَثْلِط، وَهَكَذَا مِنْ يَجْمَعهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ، وَاَللَّه أَعْلَم.
1744- قَوْله: (فَأَفَاقَ يَمْسَح الرُّحَضَاء) هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَفَتْح الْحَاء الْمُهْمَلَة وَبِضَادٍ مُعْجَمَة مَمْدُودَة أَيْ الْعَرَق مِنْ الشِّدَّة، وَأَكْثَر مَا يُسَمَّى بِهِ عَرَق الْحُمَّى، قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا السَّائِل» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا: «أَيْنَ»، وَفِي بَعْضهَا: «أَنَّى» وَفِي بَعْضهَا: «أَيْ»، وَكُلّه صَحِيح، فَمَنْ قَالَ: «أَنَّى» أَو: «أَيْنَ» فَهُمَا بِمَعْنًى، وَمَنْ قَالَ: «إِنَّ» فَمَعْنَاهُ- وَاَللَّه أَعْلَم- إِنَّ هَذَا هُوَ السَّائِل الْمَمْدُوح الْحَاذِق الْفَطِن. وَلِهَذَا قَالَ: «وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ» وَمَنْ قَالَ: (أَيّ) فَمَعْنَاهُ أَيّكُمْ، فَحَذَفَ الْكَاف وَالْمِيم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ مِمَّا يَنْبُت الرَّبِيع» وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ: «إِنَّ كُلّ مَا يُنْبِت الرَّبِيع» أَو: «أَنْبَتَ الرَّبِيع» وَرِوَايَة: «كُلّ» مَحْمُولَة عَلَى رِوَايَة: «مِمَّا» وَهُوَ مِنْ بَاب: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ هَذَا الْمَال خَضِر حُلْو، وَنِعْمَ صَاحِب الْمُسْلِم هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِين وَالْيَتِيم وَابْن السَّبِيل»، فيه: فَضِيلَة الْمَال لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَصَرَفَهُ فِي وُجُوه الْخَيْر، وَفيه حُجَّة لِمَنْ يُرَجِّح الْغَنِيّ عَلَى الْفَقِير. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ التَّعَفُّفِ وَالصَّبْرِ:

1745- قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أُعْطِيَ أَحَد مِنْ عَطَاء خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْر» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم: «خَيْر» مَرْفُوع وَهُوَ صَحِيح وَتَقْدِيره: «هُوَ خَيْر» كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ.
وَفِي الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى التَّعَفُّف وَالْقَنَاعَة، وَالصَّبْر عَلَى ضِيق الْعَيْش وَغَيْره مِنْ مَكَارِه الدُّنْيَا.

.باب فِي الْكَفَافِ وَالْقَنَاعَةِ:

1746- قَوْله: (عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْحُبُلِيّ) هُوَ مَنْسُوب إِلَى بَنِي الْحُبُل، وَالْمَشْهُور فِي اِسْتِعْمَال الْمُحَدِّثِينَ ضَمّ الْبَاء مِنْهُ، وَالْمَشْهُور عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة فَتْحهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَّنَهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّه بِمَا آتَاهُ» الْكَفَاف: الْكِفَايَة بِلَا زِيَادَة وَلَا نَقْص. وَفيه فَضِيلَة هَذِهِ الْأَوْصَاف، وَقَدْ يُحْتَجّ بِهِ لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُول: الْكَفَاف أَفْضَل مِنْ الْفَقْر وَمِنْ الْغِنَى.
1747- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اِجْعَلْ رِزْق آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» قَالَ أَهْل اللُّغَة وَالْعَرَبِيَّة: الْقُوت مَا يَسُدّ الرَّمَق، وَفيه فَضِيلَة التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا وَالِاقْتِصَار عَلَى الْقُوت مِنْهَا وَالدُّعَاء بِذَلِكَ.

.باب إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِفُحْشٍ وَغِلْظَةٍ:

1748- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيَّرُونِي بَيْن أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخِّلُونِي وَلَسْت بِبَاخِلٍ» مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَلَحُّوا فِي الْمَسْأَلَة لِضَعْفِ إِيمَانهمْ، وَأَلْجَئُونِي بِمُقْتَضَى حَالهمْ إِلَى السُّؤَال بِالْفُحْشِ أَوْ نِسْبَتِي إِلَى الْبُخْل، وَلَسْت بِبَاخِلٍ، وَلَا يَنْبَغِي اِحْتِمَال وَاحِد مِنْ الْأَمْرَيْنِ.
فَفيه مُدَارَاة أَهْل الْجَهَالَة وَالْقَسْوَة وَتَأَلُّفهمْ إِذَا كَانَ فيهمْ مَصْلَحَة، وَجَوَاز دَفْع الْمَال إِلَيْهِمْ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَة.
1749- قَوْله: «فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَة، نَظَرْت إِلَى صَفْحَة عُنُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَة الرِّدَاء مِنْ شِدَّة جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد مُرْ لِي مِنْ مَال اللَّه الَّذِي عِنْدك، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» فيه اِحْتِمَال الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاض عَنْ مُقَابَلَتهمْ. وَدَفْع السَّيِّئَة بِالْحَسَنَةِ وَإِعْطَاء مَنْ يُتَأَلَّف قَلْبُهُ، وَالْعَفْو عَنْ مُرْتَكِب كَبِيرَة لَا حَدّ فيها بِجَهْلِهِ، وَإِبَاحَة الضَّحِك عِنْد الْأُمُور الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا فِي الْعَادَة، وَفيه كَمَالُ خُلُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِلْمه وَصَفْحه الْجَمِيل.
قَوْله: «فَجَاذَبَهُ» هُوَ بِمَعْنَى جَبَذَهُ فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة، فَيُقَال: جَبَذَ وَجَذَبَ، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَوْله: «حَتَّى اِنْشَقَّ الْبُرْد وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَته فِي عُنُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ الْحَاشِيَة اِنْقَطَعَتْ وَبَقِيَتْ فِي الْعُنُق، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: بَقِيَ أَثَرهَا، لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَة الرِّدَاء».
1750- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَخْرَمَةَ: «خَبَّأْت هَذَا لَك» هُوَ مِنْ بَاب التَّأَلُّفِ.

.باب إِعْطَاءِ مَنْ يُخَافُ عَلَى إِيمَانِهِ:

1752- قَوْله فِي حَدِيث سَعْد: «أَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا» إِلَى آخِره. مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ سَعْدًا رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي نَاسًا وَيَتْرُك مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُمْ فِي الدِّين، وَظَنَّ أَنَّ الْعَطَاء يَكُون بِحَسَبِ الْفَضَائِل فِي الدِّين، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَم حَال هَذَا الْإِنْسَان الْمَتْرُوك، فَأَعْلَمَهُ بِهِ وَحَلَفَ أَنَّهُ يَعْلَمهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ مُسْلِمًا» فَلَمْ يَفْهَم مِنْهُ النَّهْي عَنْ الشَّفَاعَة فيه مَرَّة أُخْرَى، فَسَكَتَ ثُمَّ رَآهُ يُعْطِي مَنْ هُوَ دُونه بِكَثِيرٍ فَغَلَبَهُ مَا يَعْلَم مِنْ حُسْن حَال ذَلِكَ الْإِنْسَان، فَقَالَ: «يَا رَسُول اللَّه مَا لَك عَنْ فُلَان؟» تَذْكِيرًا، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِعَطَائِهِ مِنْ الْمَرَّة الْأُولَى ثُمَّ نَسِيَهُ فَأَرَادَ تَذْكِيره، وَهَكَذَا الْمَرَّة الثَّالِثَة، إِلَى أَنْ أَعْلَمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَطَاء لَيْسَ هُوَ عَلَى حَسَب الْفَضَائِل فِي الدِّين، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُل وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ مَخَافَة أَنْ يَكُبَّهُ اللَّه فِي النَّار» مَعْنَاهُ: إِنِّي أُعْطِي نَاسًا مُؤَلَّفَة، فِي إِيمَانهمْ ضَعْف، لَوْ لَمْ أُعْطِهِمْ كَفَرُوا، فَيَكُبُّهُمْ اللَّه فِي النَّار، وَأَتْرُك أَقْوَامًا هُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِينَ أَعْطَيْتهمْ، وَلَا أَتْرُكهُمْ اِحْتِقَارًا لَهُمْ، وَلَا لِنَقْصِ دِينهمْ، وَلَا إِهْمَالًا لِجَانِبِهِمْ، بَلْ أَكِلُهُمْ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ مِنْ النُّور وَالْإِيمَان التَّامّ، وَأَثِق بِأَنَّهُمْ لَا يَتَزَلْزَل إِيمَانهمْ لِكَمَالِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ عَمْرو بْن تَغْلِب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْي فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْد، فَوَاَللَّهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُل وَأَدَع الرَّجُل، وَاَلَّذِي أَدَع أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنِّي أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْجَزَع وَالْهَلَع، وَأَكِل أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْر».
قَوْله: أَخْبَرَنِي عَامِر بْن سَعْد عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّهُ أَعْطَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ، وَهُوَ صَحِيح وَتَقْدِيره: قَالَ أَعْطَى، فَحَذَفَ لَفْظَة (قَالَ).
قَوْله: «وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ» أَيْ أَفْضَلُهُمْ عِنْدِي.
قَوْله: «فَقُمْت إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاوَرْتُهُ فَقُلْت: مَا لَك عَنْ فُلَان» فيه التَّأَدُّب مَعَ الْكِبَار وَأَنَّهُمْ يُسَارُّونَ بِمَا كَانَ مِنْ بَاب التَّذْكِير لَهُمْ وَالتَّنْبِيه وَنَحْوه، وَلَا يُجَاهِرُونَ بِهِ فَقَدْ يَكُون فِي الْمُجَاهَرَة بِهِ مَفْسَدَة، قَوْله: «إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا» هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة: «لَأَرَاهُ» وَإِسْكَان وَاو: «أَوْ مُسْلِمًا».
وَقَدْ سَبَقَ شَرْح هَذَا الْحَدِيث مُسْتَوْفًى فِي كِتَاب الْإِيمَان.

.باب إِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى الإِسْلاَمِ وَتَصَبُّرِ مَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ:

1753- قَوْله فِي حَدِيث أَنَس: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى يَوْم حُنَيْنٍ مِنْ غَنَائِم هَوَازِن رِجَالًا مِنْ قُرَيْش الْمِائَة مِنْ الْإِبِل فَعَتَبَ نَاس مِنْ الْأَنْصَار» إِلَى آخِره، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: لَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ قَبْل إِخْرَاج الْخُمُس، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْسِب مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الْخُمُس، قَالَ: وَالْمَعْرُوف فِي بَاقِي الْأَحَادِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الْخُمُس، فَفيه أَنَّ لِلْإِمَامِ صَرْفَ الْخُمُس، وَتَفْضِيل النَّاس فيه عَلَى مَا يَرَاهُ، وَأَنْ يُعْطِيَ الْوَاحِد مِنْهُ الْكَثِير، وَأَنَّهُ يَصْرِفهُ فِي مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيّ مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً» فيها لُغَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: ضَمّ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الثَّاء، وَأَصَحّهمَا وَأَشْهَرُهُمَا بِفَتْحِهَا جَمِيعًا، (وَالْأَثَرَة) الِاسْتِئْثَار بِالْمُشْتَرَكِ، أَيْ يَسْتَأْثِر عَلَيْكُمْ وَيُفَضَّل عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ بِغَيْرِ حَقّ.
1754- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِبْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُمْ» اِسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يُوَرِّث ذَوِي الْأَرْحَام، وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَآخَرِينَ. وَمَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرِينَ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ مَا يَقْتَضِي تَوْرِيثه، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ بَيْنه وَبَيْنهمْ اِرْتِبَاطًا وَقَرَابَة، وَلَمْ يَتَعَرَّض لِلْإِرْثِ. وَسِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ كَالْوَاحِدِ مِنْهُمْ فِي إِفْشَاء سِرّهمْ بِحَضْرَتِهِ وَنَحْو ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسَلَكْت شِعْب الْأَنْصَار» قَالَ الْخَلِيل: هُوَ مَا اِنْفَرَجَ بَيْن جَبَلَيْنِ، وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: هُوَ الطَّرِيق فِي الْجَبَل.
وَفيه: فَضِيلَة الْأَنْصَار وَرُجْحَانهمْ.
1756- قَوْله: (وَإِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرْعَرَةَ) هُوَ بِعَيْنَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ.
قَوْله: «وَمَعَهُ الطُّلَقَاء» هُوَ بِضَمِّ الطَّاء وَفَتْح اللَّام وَبِالْمَدِّ، وَهُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَوْم فَتْح مَكَّة، وَهُوَ جَمْع طَلِيق، يُقَال ذَاكَ لِمَنْ أُطْلِقَ مِنْ إِسَار أَوْ وَثَاق، قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: قِيلَ لِمُسْلِمِي الْفَتْح؛ الطُّلَقَاء لِمَنِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
قَوْله: «وَمَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ عَشَرَة آلَاف وَمَعَهُ الطُّلَقَاء» وَقَالَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ: «نَحْنُ بَشَرٌ كَثِير قَدْ بَلَغْنَا سِتَّة آلَاف». الرِّوَايَة الْأُولَى أَصَحّ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُور فِي كُتُب الْمَغَازِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ اِثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، عَشَرَة آلَاف شَهِدُوا الْفَتْح، وَأَلْفَانِ مِنْ أَهْل مَكَّة وَمَنْ اِنْضَافَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله: «مَعَهُ عَشَرَة آلَاف وَمَعَهُ الطُّلَقَاء» قَالَ الْقَاضِي: قَوْله سِتَّة آلَاف وَهُمْ مِنْ الرَّاوِي عَنْ أَنَس. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (حَدَّثَنِي السُّمَيْط عَنْ أَنَس) هُوَ بِضَمِّ السِّين الْمُهْمَلَة تَصْغِير سِمْط.
قَوْله: (وَعَلَى مُجَنِّبَة خَيْلنَا خَالِد) بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْجِيم وَكَسْر النُّون قَالَ شَمِر: (الْمُجَنِّبَة) هِيَ الْكَتِيبَة مِنْ الْخَيْل الَّتِي تَأْخُذ جَانِب الطَّرِيق الْأَيْمَن، وَهُمَا مُجَنِّبَتَانِ مَيْمَنَة وَمَيْسَرَة بِجَانِبَيْ الطَّرِيق وَالْقَلْب بَيْنهمَا.
قَوْله: «فَجَعَلَتْ خَيْلنَا تَلْوِي خَلْف ظُهُورنَا» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ وَفِي بَعْضهَا (تَلُوذ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَالَ الْمُهَاجِرِينَ يَالَ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ قَالَ: يَالَ الْأَنْصَار يَالَ الْأَنْصَار» هَكَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ فِي الْمَوَاضِع الْأَرْبَعَة (يَالَ) بِلَامٍ مَفْصُولَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَالْمَعْرُوف وَصْلهَا بِلَامِ التَّعْرِيف الَّتِي بَعْدهَا.
قَوْله: (قَالَ أَنَس: هَذَا حَدِيث عِمِّيَّة) هَذِهِ اللَّفْظَة ضَبَطُوهَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَلَى أَوْجُه: أَحَدهَا (عِمِّيَّة) بِكَسْرِ الْعَيْن وَالْمِيم وَتَشْدِيد الْمِيم وَالْيَاء قَالَ الْقَاضِي: كَذَا رُوِّينَا هَذَا الْحَرْف عَنْ عَامَّة شُيُوخنَا، قَالَ: وَفُسِّرَ بِالشِّدَّةِ.
وَالثَّانِي: (عُمِّيَّة) كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الْعَيْن.
وَالثَّالِث: (عَمِّيَة) بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر الْمِيم الْمُشَدَّدَة وَتَخْفِيف الْيَاء وَبَعْدهَا هَاء السَّكْت أَيْ حَدَّثَنِي بِهِ عَمِّي، وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَى هَذَا الْوَجْه مَعْنَاهُ عِنْدِي جَمَاعَتِي أَيْ هَذَا حَدِيثهمْ.
قَالَ صَاحِب الْعَيْن: (الْعَمّ) الْجَمَاعَة، وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ اِبْن دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَة: أَفْنَيْت عَمَّا وَجُبِرْت عَمَّا.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَشْبَهَ بِالْحَدِيثِ. وَالْوَجْه الرَّابِع كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِتَشْدِيدِ الْيَاء، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيّ صَاحِب الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ، وَفَسَّرَهُ بِعُمُومَتِي، أَيْ هَذَا حَدِيث فَضْل أَعْمَامِي، أَوْ هَذَا الْحَدِيث الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ أَعْمَامِي: كَأَنَّهُ حَدَّثَ بِأَوَّلِ الْحَدِيث عَنْ مُشَاهَدَة، ثُمَّ لَعَلَّهُ لَمْ يَضْبِط هَذَا الْمَوْضِع لَتَفَرَّقَ النَّاس فَحَدَّثَهُ بِهِ مِنْ شَهْده مِنْ أَعْمَامه أَوْ جَمَاعَته الَّذِينَ شَهِدُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْده: «قَالَ: قُلْنَا لَبَّيْكَ يَا رَسُول اللَّه». وَاَللَّه أَعْلَم.
1757- قَوْله: «أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهَب الْعُبَيْد» «الْعُبَيْد» اِسْم فَرَسه.
قَوْله: «يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الرِّوَايَات (مِرْدَاس) غَيْر مَصْرُوف، وَهُوَ حُجَّة لِمَنْ جَوَّزَ تَرْك الصَّرْف بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَجَابَ الْجُمْهُور بِأَنَّهُ فِي ضَرُورَة الشَّعْر.
قَوْله: (وَعَلْقَمَة بْن عُلَاثَة) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف اللَّام وَبِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا مَخْلَد بْن خَالِد الشَّعِيرِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَكَسْر الْعَيْن، مَنْسُوب إِلَى الشَّعِير الْحَبّ الْمَعْرُوف، وَهُوَ مَخْلَد بْن خَالِد بْن يَزِيد أَبُو مُحَمَّد، بَغْدَادِيّ سَكَنَ طَرَسُوسَ، رَوَى عَنْ عَبْد الرَّزَّاق بْن هَمَّام وَإِبْرَاهِيم بْن خَالِد الصَّنْعانِيَّيْنِ وَسُفْيَان، رُوِيَ عَنْهُ مُسْلِم، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو عَوْف الْبَزْدَوِيّ، وَابْنه أَحْمَد بْن أَبِي عَوْف، وَالْمُنْذِر بْن شَاذَان، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهُوَ ثِقَة، وَذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَة مِنْ أَحْوَاله الْحَافِظُ عَبْد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِيُّ، وَذَكَره أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي حَاتِم فِي كِتَابه الْمَشْهُور فِي الْجَرْح وَالتَّعْدِيل مُخْتَصَرًا، وَذَكَره الْحَافِظ أَبُو الْفَضْل مُحَمَّد بْن طَاهِر بْن عَلِيّ بْن أَحْمَد الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابه رِجَال الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ: مَخْلَد بْن خَالِد الشَّعِيرِيّ سَمِعَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ فِي الزَّكَاة. وَإِنَّمَا ذَكَرْت هَذَا كُلّه؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ: لَمْ أَجِد أَحَدًا ذَكَرَ مَخْلَد بْن خَالِد الشَّعِيرِيّ فِي رِجَال الصَّحِيح وَلَا فِي غَيْرهمْ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِم وَلَا الْبَاجِيّ وَلَا الْجَيَّانِيّ، وَمَنْ تَكَلَّمَ عَلَى رِجَال الصَّحِيح وَلَا أَحَد مِنْ أَصْحَاب الْمُؤْتَلِف وَالْمُخْتَلِف، وَلَا مِنْ أَصْحَاب التَّقْيِيد، وَلَا ذَكَرُوا مَخْلَد بْن خَالِد غَيْر مَنْسُوب أَصْلًا، وَبَسَطَ الْقَاضِي الْكَلَام فِي إِنْكَار هَذَا الِاسْم وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّوَاة أَحَد يُسَمَّى مَخْلَد بْن خَالِد، لَا فِي الصَّحِيح وَلَا فِي غَيْره، وَضَمَّ إِلَيْهِ كَلَامًا عَجِيبًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْعَجَائِب، فَمَخْلَد بْن خَالِد مَشْهُور كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
1758- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَنْصَار شِعَار وَالنَّاس دِثَار» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الشِّعَار) الثَّوْب الَّذِي يَلِي الْجَسَد، و(الدِّثَار) فَوْقه، وَمَعْنَى الْحَدِيث: الْأَنْصَار هُمْ الْبِطَانَة وَالْخَاصَّة وَالْأَصْفِيَاء وَأَلْصَقُ بِي مِنْ سَائِر النَّاس، وَهَذَا مِنْ مَنَاقِبِهِمْ الظَّاهِرَةِ وَفَضَائِلِهِمْ الْبَاهِرَةِ.
1759- قَوْله: «فَتَغَيَّرَ وَجْهه حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ» هُوَ بِكَسْرِ الصَّاد الْمُهْمَلَة، وَهُوَ صَبْغٌ أَحْمَرُ يُصْبَغ بِهِ الْجُلُود، قَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: وَقَدْ يُسَمَّى الدَّم أَيْضًا صِرْفًا.
قَوْله: «فَقَالَ رَجُل: وَاَللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فيها وَمَا أُرِيدَ فيها وَجْه اللَّه» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: حُكْم الشَّرْع أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَقُتِلَ، وَلَمْ يَذْكُر فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ هَذَا الرَّجُل قُتِلَ، قَالَ الْمَازِرِيّ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لَمْ يَفْهَم مِنْهُ الطَّعْن فِي النُّبُوَّة، وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إِلَى تَرْك الْعَدْل فِي الْقِسْمَة، وَالْمَعَاصِي ضَرْبَانِ: كَبَائِر وَصَغَائِر، فَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُوم مِنْ الْكَبَائِر بِالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِمْكَان وُقُوع الصَّغَائِر، وَمَنْ جَوَّزَهَا مَنَعَ مِنْ إِضَافَتهَا إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَى طَرِيق التَّنْقِيص، وَحِينَئِذٍ فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَاقِب هَذَا الْقَائِل؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَاحِد، وَشَهَادَة الْوَاحِد لَا يُرَاق بِهَا الدَّم.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّأْوِيل بَاطِل يَدْفَعهُ قَوْله: اِعْدِلْ يَا مُحَمَّد، وَاتَّقِ اللَّه يَا مُحَمَّد، وَخَاطَبَهُ خِطَاب الْمُوَاجِهَة بِحَضْرَةِ الْمَلَأ حَتَّى اِسْتَأْذَنَ عُمَر وَخَالِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْله، فَقَالَ: «مَعَاذ اللَّه أَنْ يَتَحَدَّث النَّاس أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُل أَصْحَابه» فَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّة، وَسَلَكَ مَعَهُ مَسْلَكه مَعَ غَيْره مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آذَوْهُ، وَسَمِعَ مِنْهُمْ فِي غَيْر مَوْطِن مَا كَرِهَهُ، لَكِنَّهُ صَبَرَ اِسْتِبْقَاءً لِانْقِيَادِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِغَيْرِهِمْ، لِئَلَّا يَتَحَدَّث النَّاس أَنَّهُ يَقْتُل أَصْحَابه فَيَنْفِرُوا، وَقَدْ رَأَى النَّاس هَذَا الصِّنْف فِي جَمَاعَتهمْ وَعَدُوّهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ.