فصل: باب حِلِّ أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب حِلِّ أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ:

ذَكَرَ فيه الْأَحَادِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّام أَجْره قَالَ اِبْن عَبَّاس: وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا فِي بَاب تَحْرِيم ثَمَن الْكَلْب بَيَان اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي أُجْرَة الْحِجَامَة.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث إِبَاحَة نَفْس الْحِجَامَة، وَأَنَّهَا مِنْ أَفْضَل الْأَدْوِيَة.
وَفيها إِبَاحَة التَّدَاوِي، وَإِبَاحَة الْأُجْرَة عَلَى الْمُعَالَجَة بِالتَّطَبُّبِ. وَفيها الشَّفَاعَة إِلَى أَصْحَاب الْحُقُوق وَالدُّيُون فِي أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْهَا. وَفيها جَوَاز مُخَارَجَة الْعَبْد بِرِضَاهُ وَرِضَاء سَيِّده. وَحَقِيقَة الْمُخَارَجَة أَنْ يَقُول السَّيِّد لِعَبْدِهِ: تَكْتَسِب وَتُعْطِينِي مِنْ الْكَسْب كُلّ يَوْم دِرْهَمًا مَثَلًا وَالْبَاقِي لَك، أَوْ فِي كُلّ أُسْبُوع كَذَا وَكَذَا وَيُشْتَرَط رِضَاهُمَا.
2952- قَوْله: (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَة) هُوَ بِطَاءٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة تَحْت ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة. وَهُوَ عَبْد لِبَنِي بَيَاضَة اِسْمه نَافِع، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانكُمْ بِالْغَمْزِ» هُوَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ مِيم سَاكِنَة ثُمَّ زَاي مَعْنَاهُ لَا تَغْمِزُوا حَلْق الصَّبِيّ بِسَبَبِ الْعُذْرَة، وَهُوَ وَجَع الْحَلْق، بَلْ دَاوُوهُ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيّ وَهُوَ الْعُود الْهِنْدِيّ.

.باب تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ:

2956- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه يَعْرِض بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّه سَيُنْزِلُ فيها أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْده مِنْهَا شَيْء فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ» قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه حَرَّمَ الْخَمْر، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَة وَعِنْده مِنْهَا شَيْء فَلَا يَشْرَب وَلَا يَبِعْ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاس بِمَا كَانَ عِنْدهمْ مِنْهَا فِي طَرِيق الْمَدِينَة فَسَفَكُوهَا» وَيَعْنِي رَاقُوهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاء قَبْل وُرُود الشَّرْع لَا تَكْلِيف فيها بِتَحْرِيمٍ وَلَا غَيْره، وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف مَشْهُور لِلْأُصُولِيِّينَ، الْأَصَحّ أَنَّهُ لَا حُكْم وَلَا تَكْلِيف قَبْل وُرُود الشَّرْع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَث رَسُولًا}.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلهَا عَلَى التَّحْرِيم حَتَّى يَرِد الشَّرْع بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّالِث: عَلَى الْإِبَاحَة.
وَالرَّابِع عَلَى الْوَقْف، وَهَذَا الْخِلَاف فِي غَيْر التَّنَفُّس وَنَحْوه مِنْ الضَّرُورِيَّات الَّتِي لَا يُمْكِن الِاسْتِغْنَاء عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَة بِلَا خِلَاف إِلَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَجُوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا بَذْل النَّصِيحَة لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَهُمْ فِي تَعْجِيل الِانْتِفَاع بِهَا مَا دَامَتْ حَلَالًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَشْرَب وَلَا يَبِعْ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبهَا حَرَّمَ بَيْعهَا» فيه تَحْرِيم بَيْع الْخَمْر، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَالْعِلَّة فيها عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ كَوْنهَا نَجِسَة أَوْ لَيْسَ فيها مَنْفَعَة مُبَاحَة مَقْصُودَة، فَيَلْحَق بِهَا جَمِيع النَّجَاسَات كَالسِّرْجِينِ وَذَرْق الْحَمَام وَغَيْره وَكَذَلِكَ يَلْحَق بِهَا مَا لَيْسَ فيه مَنْفَعَة كَالسِّبَاعِ الَّتِي لَا تَصْلُح لِلِاصْطِيَادِ وَالْحَشَرَات وَالْحَبَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْحِنْطَة، وَنَحْو ذَلِكَ، فَلَا يَجُوز بَيْع شَيْء مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَدِيث الْمَشْهُور فِي كِتَاب السُّنَن عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّه إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْم أَكْل شَيْء حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنه» فَمَحْمُول عَلَى مَا الْمَقْصُود مِنْهُ الْأَكْل، بِخِلَافِ مَا الْمَقْصُود مِنْهُ غَيْر ذَلِكَ، كَالْعَبْدِ وَالْبَغْل وَالْحِمَار الْأَهْلِيّ، فَإِنَّ أَكْلهَا حَرَام، وَبَيْعهَا جَائِز بِالْإِجْمَاعِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَة» أَيْ أَدْرَكَتْهُ حَيًّا وَبَلَغَتْهُ، وَالْمُرَاد بِالْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْر وَالْمَيْسِر} الْآيَة.
قَوْله: «فَاسْتَقْبَلَ النَّاس بِمَا كَانَ عِنْدهمْ مِنْهَا فِي طَرِيق الْمَدِينَة فَسَفَكُوهَا» هَذَا دَلِيل عَلَى تَحْرِيم تَخْلِيلهَا، وَوُجُوب الْمُبَادَرَة بِإِرَاقَتِهَا، وَتَحْرِيم إِمْسَاكهَا، وَلَوْ جَازَ التَّخْلِيل لَبَيَّنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إِضَاعَتهَا، كَمَا نَصَحَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الِانْتِفَاع بِهَا قَبْل تَحْرِيمهَا حِين تَوَقَّعَ نُزُول تَحْرِيمهَا، وَكَمَا نَبَّهَ أَهْل الشَّاة الْمَيْتَة عَلَى دِبَاغ جِلْدهَا وَالِانْتِفَاع بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تَخْلِيلهَا وَأَنَّهَا لَا تَطْهُر بِذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَالثَّوْرِيّ وَمَالِك فِي أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَوَّزَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك فِي رِوَايَة عَنْهُ.
وَأَمَّا إِذَا اِنْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَيَطْهُر عِنْد جَمِيعهمْ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ سَحْنُون الْمَالِكِي أَنَّهُ قَالَ: لَا يَطْهُر.
2957- قَوْله: (عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن وَعْلَة السَّبَئِيّ) هُوَ بِسِينٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ هَمْزَة مَنْسُوب إِلَى سَبَأ، وَأَمَّا (وَعْلَة) فَبِفَتْحِ الْوَاو وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة، وَسَبَقَ بَيَانه فِي آخِر كِتَاب الطَّهَارَة فِي حَدِيث الدِّبَاغ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَمْر: «هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّه قَدْ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا» لَعَلَّ السُّؤَال كَانَ لِيُعْرَف حَاله، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ هَدِيَّتهَا وَإِمْسَاكهَا وَحَمْلهَا وَعَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ عَذَرَهُ. وَالظَّاهِر أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّة كَانَتْ عَلَى قُرْب تَحْرِيم الْخَمْر قَبْل اِشْتِهَار ذَلِكَ، وَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ اِرْتَكَبَ مَعْصِيَة جَاهِلًا تَحْرِيمهَا لَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِير.
قَوْله: «فَسَارَ إِنْسَانًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ سَارَرْته؟ فَقَالَ: أَمَرْته بِبَيْعِهَا» الْمَسَار الَّذِي خَاطَبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الرَّجُل الَّذِي أَهْدَى الرَّاوِيَة، كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة، وَأَنَّهُ رَجُل مِنْ دَوْس.
قَالَ الْقَاضِي: وَغَلِطَ بَعْض الشَّارِحِينَ فَظَنَّ أَنَّهُ رَجُل آخَر، وَفيه دَلِيل لِجَوَازِ سُؤَال الْإِنْسَان عَنْ بَعْض أَسْرَار الْإِنْسَان فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِب كِتْمَانه كَتَمَهُ وَإِلَّا فَيَذْكُرهُ.
قَوْله: «فَفَتْح الْمَزَاد» هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (الْمَزَاد) بِحَذْفِ الْهَاء فِي آخِرهَا، وَفِي بَعْضهَا: (الْمَزَادَة) بِالْهَاءِ، وَقَالَ فِي أَوَّل الْحَدِيث: أَهْدَى رَاوِيَة وَهِيَ هِيَ، قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُمَا بِمَعْنًى، وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: إِنَّمَا يُقَال لَهَا: مَزَادَة، وَأَمَّا الرَّاوِيَة: فَاسْم لِلْبَعِيرِ خَاصَّة، وَالْمُخْتَار قَوْل أَبِي عُبَيْد، وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ لِأَبِي عُبَيْد فَإِنَّهُ سَمَّاهَا رَاوِيَة وَمَزَادَة، قَالُوا: سُمِّيَتْ رَاوِيَة لِأَنَّهَا تَرْوِي صَاحِبهَا وَمَنْ مَعَهُ، وَالْمَزَادَة لِأَنَّهُ يَتَزَوَّد فيها الْمَاء فِي السَّفَر وَغَيْره، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُزَاد فيها جِلْد لِيَتَّسِع، وَفِي قَوْله: (فَفَتْح الْمَزَاد) دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ أَوَانِي الْخَمْر لَا تُكْسَر وَلَا تُشَقّ، بَلْ يُرَاق مَا فيها. وَعَنْ مَالِك رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَالْجُمْهُورِ، وَالثَّانِيَة يُكْسَر الْإِنَاء، وَيُشَقّ السِّقَاء، وَهَذَا ضَعِيف لَا أَصْل لَهُ، وَأَمَّا حَدِيث أَبِي طَلْحَة أَنَّهُمْ كَسَرُوا الدِّنَان فَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْر أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2959- قَوْلهَا: «لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَات مِنْ آخِر سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا، خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاس ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَة فِي الْخَمْر» قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: تَحْرِيم الْخَمْر هُوَ فِي سُورَة الْمَائِدَة وَهِيَ نَزَلَتْ قَبْل آيَة الرِّبَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَة، فَإِنَّ آيَة الرِّبَا آخِر مَا نَزَلَ، أَوْ مِنْ آخِر مَا نَزَلَ، فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون هَذَا النَّهْي عَنْ التِّجَارَة مُتَأَخِّرًا عَنْ تَحْرِيمهَا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ التِّجَارَة حِين حُرِّمَتْ الْخَمْر، ثُمَّ أُخْبِرَ بِهِ مَرَّة أُخْرَى بَعْد نُزُول آيَة الرِّبَا تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَة فِي إِشَاعَته، وَلَعَلَّهُ حَضَرَ الْمَجْلِس مَنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ تَحْرِيم التِّجَارَة فيها قَبْل ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ:

2960- قَوْله: عَنْ جَابِر: «أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول عَام الْفَتْح وَهُوَ بِمَكَّة: إِنَّ اللَّه وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْع الْخَمْر وَالْمَيْتَة وَالْخِنْزِير وَالْأَصْنَام فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت شُحُوم الْمَيْتَة فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُن، وَيُدْهَن بِهَا الْجُلُود، وَيُسْتَصْبَح بِهَا النَّاس، فَقَالَ: لَا هُوَ حَرَام»، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّه الْيَهُود إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنه» يُقَال: أَجْمَلَ الشَّحْم وَجَمَلَهُ أَيْ أَذَابَهُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا هُوَ حَرَام» فَمَعْنَاهُ: لَا تَبِيعُوهَا فَإِنَّ بَيْعهَا حَرَام، وَالضَّمِير فِي (هُوَ) يَعُود إِلَى الْبَيْع، لَا إِلَى الِانْتِفَاع، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه أَنَّهُ يَجُوز الِانْتِفَاع بِشَحْمِ الْمَيْتَة فِي طَلْي السُّفُن وَالِاسْتِصْبَاح بِهَا، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا فِي بَدَن الْآدَمِيّ، وَبِهَذَا قَالَ أَيْضًا عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا يَجُوز الِانْتِفَاع بِهِ فِي شَيْء أَصْلًا لِعُمُومِ النَّهْي عَنْ الِانْتِفَاع بِالْمَيْتَةِ إِلَّا مَا خُصَّ، وَهُوَ الْجِلْد الْمَدْبُوغ.
وَأَمَّا الزَّيْت وَالسَّمْن وَنَحْوهمَا مِنْ الْأَدْهَان الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَة فَهَلْ يَجُوز الِاسْتِصْبَاح بِهَا وَنَحْوه مِنْ الِاسْتِعْمَال فِي غَيْر الْأَكْل وَغَيْر الْبَدَن، أَوْ يَجْعَل مِنْ الزَّيْت صَابُونًا أَوْ يُطْعِم الْعَسَل الْمُتَنَجِّس لِلنَّحْلِ، أَوْ يُطْعِم الْمَيْتَة لِكِلَابِهِ، أَوْ يُطْعِم الطَّعَام النَّجِس لِدَوَابِّهِ فيه خِلَاف بَيْن السَّلَف، الصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا: جَوَاز جَمِيع ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك وَكَثِير مِنْ الصَّحَابَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بْن سَعْد، قَالَ: وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَأَبِي مُوسَى وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَسَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر، قَالَ: وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث وَغَيْرهمْ بَيْع الزَّيْت النَّجِس إِذَا بَيَّنَهُ، وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُونِ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَحْمَد بْن صَالِح: لَا يَجُوز الِانْتِفَاع بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلّه فِي شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي عُمُوم تَحْرِيم بَيْع الْمَيْتَة أَنَّهُ يَحْرُم بَيْع جُثَّة الْكَافِر إِذَا قَتَلْنَاهُ، وَطَلَب الْكُفَّار شِرَاءَهُ، أَوْ دَفْع عِوَض عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: أَنَّ نَوْفَل بْن عَبْد اللَّه الْمَخْزُومِيّ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْم الْخَنْدَق، فَبَذَلَ الْكُفَّار فِي جَسَده عَشْرَة آلَاف دِرْهَم لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْخُذهَا، وَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ حَدِيثًا نَحْو هَذَا.
قَالَ أَصْحَابنَا: الْعِلَّة فِي مَنْع بَيْع الْمَيْتَة وَالْخَمْر وَالْخِنْزِير النَّجَاسَة، فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلّ نَجَاسَة، وَالْعِلَّة فِي الْأَصْنَام كَوْنهَا لَيْسَ فيها مَنْفَعَة مُبَاحَة، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ إِذَا كُسِرَتْ يُنْتَفَع بِرُضَاضِهَا فَفِي صِحَّة بَيْعهَا خِلَاف مَشْهُور لِأَصْحَابِنَا؛ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ لِظَاهِرِ النَّهْي وَإِطْلَاقه، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ اِعْتِمَادًا عَلَى الِانْتِفَاع، وَتَأَوَّلَ الْحَدِيث عَلَى مَا لَمْ يَنْتَفِع بِرُضَاضِهِ، أَوْ عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه فِي الْأَصْنَام خَاصَّة.
وَأَمَّا الْمَيْتَة وَالْخَمْر وَالْخِنْزِير: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم بَيْع كُلّ وَاحِد مِنْهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مَا لَا يَحِلّ أَكْله وَالِانْتِفَاع بِهِ لَا يَجُوز بَيْعه، وَلَا يَحِلّ أَكْل ثَمَنه، كَمَا فِي الشُّحُوم الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث، فَاعْتَرَضَ بَعْض الْيَهُود وَالْمَلَاحِدَة بِأَنَّ الِابْن إِذَا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ جَارِيَة كَانَ الْأَب وَطِئَهَا فَإِنَّهَا تَحْرُم عَلَى الِابْن، وَيَحِلّ لَهُ بَيْعهَا بِالْإِجْمَاعِ وَأَكْل ثَمَنهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا تَمْوِيه عَلَى مَنْ لَا عِلْم عِنْده؛ لِأَنَّ جَارِيَة الْأَب لَمْ يَحْرُم عَلَى الِابْن مِنْهَا غَيْر الِاسْتِمْتَاع عَلَى هَذَا الْوَلَد دُون غَيْره مِنْ النَّاس، وَيَحِلّ لِهَذَا الِابْن الِانْتِفَاع بِهَا فِي جَمِيع الْأَشْيَاء سِوَى الِاسْتِمْتَاع، وَيَحِلّ لِغَيْرِهِ الِاسْتِمْتَاع وَغَيْره، بِخِلَافِ الشُّحُوم فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة، الْمَقْصُود مِنْهَا، وَهُوَ الْأَكْل مِنْهَا عَلَى جَمِيع الْيَهُود، وَكَذَلِكَ شُحُوم الْمَيْتَة مُحَرَّمَة الْأَكْل عَلَى كُلّ أَحَد، وَكَانَ مَا عَدَا الْأَكْل تَابِعًا لَهُ، بِخِلَافِ مَوْطُوءَة الْأَب. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الرِّبَا:

مَقْصُور وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو، فَيُكْتَب بِالْأَلِفِ، وَتَثْنِيَته رِبَوَانِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ كَتْبه وَتَثْنِيَته بِالْيَاءِ لِسَبَبِ الْكَسْرَة فِي أَوَّله، وَغَلَّطَهُمْ الْبَصْرِيُّونَ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْمُصْحَف بِالْوَاوِ، وَقَالَ الْفَرَّاء: إِنَّمَا كَتَبُوهُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ أَهْل الْحِجَاز تَعَلَّمُوا الْخَطّ مِنْ أَهْل الْحِيرَة، وَلُغَتهمْ الرَّبْو، فَعَلَّمُوهُمْ صُورَة الْخَطّ عَلَى لُغَتهمْ.
قَالَ: وَكَذَا قَرَأَهَا أَبُو سِمَاك الْعَدَوِيُّ بِالْوَاوِ، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِالْإِمَالَةِ بِسَبَبِ كَسْرَة الرَّاء، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ لِفَتْحَةِ الْيَاء، قَالَ: وَيَجُوز كَتْبه بِالْأَلِفِ وَالْوَاو وَالْيَاء، وَقَالَ أَهْل اللُّغَة: و(الرَّمَاء) بِالْمِيمِ وَالْمَدّ هُوَ الرِّبَا، وَكَذَلِكَ (الرُّبْيَة) بِضَمِّ الرَّاء وَالتَّخْفِيف لُغَة فِي الرِّبَا. وَأَصْل الرِّبَا: الزِّيَادَة، يُقَال: رَبَا الشَّيْء يَرْبُو إِذَا زَادَ، وَأَرْبَى الرَّجُل، وَأَرْمَى عَامِل بِالرِّبَا.
وَقَدْ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْجُمْلَة، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي ضَابِطه وَتَفَارِيعه، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيْع وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَالْأَحَادِيث فيه كَثِيرَة مَشْهُورَة، وَنَصَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى تَحْرِيم الرِّبَا فِي سِتَّة أَشْيَاء: الذَّهَب، وَالْفِضَّة وَالْبُرّ وَالشَّعِير وَالتَّمْر وَالْمِلْح. فَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: لَا رِبَا فِي غَيْر هَذِهِ السِّتَّة بِنَاء عَلَى أَصْلهمْ فِي نَفْي الْقِيَاس، قَالَ جَمِيع الْعُلَمَاء سِوَاهُمْ: لَا يَخْتَصّ بِالسِّتَّةِ، بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ مَا يُشَارِكهَا فِي الْعِلَّة، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّة الَّتِي هِيَ سَبَب تَحْرِيم الرِّبَا فِي السِّتَّة، فَقَالَ الشَّافِعِيّ: الْعِلَّة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة كَوْنهمَا جِنْس الْأَثْمَان، فَلَا يَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهُمَا إِلَى غَيْرهمَا مِنْ الْمَوْزُونَات وَغَيْرهَا، لِعَدَمِ الْمُشَارَكَة، قَالَ: وَالْعِلَّة فِي الْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة: كَوْنهَا مَطْعُومَة فَيَتَعَدَّى الرِّبَا مِنْهَا إِلَى كُلّ مَطْعُوم، وَأَمَّا مَالِك فَقَالَ فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة كَقَوْلِ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقَالَ فِي الْأَرْبَعَة: الْعِلَّة فيها كَوْنهَا تُدَّخَر لِلْقُوتِ وَتَصْلُح لَهُ، فَعَدَّاهُ إِلَى الزَّبِيب لِأَنَّهُ كَالتَّمْرِ، وَإِلَى الْقُطْنِيَّة لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرّ وَالشَّعِير.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ: الْعِلَّة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة الْوَزْن، وَفِي الْأَرْبَعَة الْكَيْل، فَيَتَعَدَّى إِلَى كُلّ مَوْزُون مِنْ نُحَاس وَحَدِيد وَغَيْرهمَا، وَإِلَى كُلّ مَكِيل كَالْجِصِّ وَالْأُشْنَان وَغَيْرهمَا وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم: الْعِلَّة فِي الْأَرْبَعَة كَوْنهَا مَطْعُومَة مَوْزُونَة أَوْ مَكِيلَة بِشَرْطِ الْأَمْرَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَا رِبَا فِي الْبِطِّيخ وَالسَّفَرْجَل وَنَحْوه مِمَّا لَا يُكَال وَلَا يُوزَن.
وَأَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز بَيْع الرِّبَوِيّ بِرِبَوِيٍّ لَا يُشَارِكهُ فِي الْعِلَّة مُتَفَاضِلًا وَمُؤَجَّلًا، وَذَلِكَ كَبَيْعِ الذَّهَب بِالْحِنْطَةِ، وَبَيْع الْفِضَّة بِالشَّعِيرِ وَغَيْره مِنْ الْمَكِيل.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ، وَأَحَدهمَا مُؤَجَّل، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز التَّفَاضُل إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ حَالًّا كَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز التَّفَرُّق قَبْل التَّقَايُض إِذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسه مِمَّا يُشَارِكهُ فِي الْعِلَّة، كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْحِنْطَة بِالشَّعِيرِ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوز التَّفَاضُل عِنْد اِخْتِلَاف الْجِنْس إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، كَصَاعِ حِنْطَة بِصَاعَيْ شَعِير، وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي شَيْء مِنْ هَذَا، إِلَّا مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي تَخْصِيص الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِذَا بِيعَ الذَّهَب بِذَهَبٍ، أَوْ الْفِضَّة بِفِضَّةٍ، سَمَّيْت مُرَاطَلَة، وَإِذَا بِيعَتْ الْفِضَّة بِذَهَبٍ سُمِّيَ صَرْفًا، لِصَرْفِهِ عَنْ مُقْتَضَى الْبِيَاعَات مِنْ جَوَاز التَّفَاضُل، وَالتَّفَرُّق قَبْل الْقَبْض وَالتَّأْجِيل، وَقِيلَ: مِنْ صَرِيفهمَا، وَهُوَ تَصْوِيتهمَا فِي الْمِيزَان. وَاَللَّه أَعْلَم.
2964- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تُشِفُّوا بَعْضهَا عَلَى بَعْض» هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَكَسْر الشِّين الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْفَاء، أَيْ لَا تُفَضِّلُوا، وَالشِّفّ بِكَسْرِ الشِّين، وَيُطْلَق أَيْضًا عَلَى النُّقْصَان، فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد، يُقَال: شَفَّ الدِّرْهَم بِفَتْحِ الشِّين يَشِفّ بِكَسْرِهَا إِذَا زَادَ وَإِذَا نَقَصَ، وَأَشَفَّهُ غَيْره يَشِفّهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» الْمُرَاد بِالنَّاجِزِ الْحَاضِر، وَبِالْغَائِبِ الْمُؤَجَّل، وَقَدْ أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم بَيْع الذَّهَب بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ مُؤَجَّلًا، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِالشَّعِيرِ، وَكَذَلِكَ كُلّ شَيْئَيْنِ اِشْتَرَكَا فِي عِلَّة الرِّبَا، أَمَّا إِذَا بَاعَ دِينَارًا بِدِينَارٍ كِلَاهُمَا فِي الذِّمَّة، ثُمَّ أَخْرَجَ كُلّ وَاحِد الدِّينَار، أَوْ بَعَثَ مَنْ أَحْضَرَ لَهُ دِينَارًا مِنْ بَيْته وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِس فَيَجُوز بِلَا خِلَاف عِنْد أَصْحَابنَا؛ لِأَنَّ الشَّرْط أَنْ أَلَّا يَتَفَرَّقَا بِلَا قَبْض، وَقَدْ حَصَلَ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ: «وَلَا تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ» وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع أَحَدهمَا بِالْآخَرِ إِذَا كَانَ أَحَدهمَا مُؤَجَّلًا أَوْ غَابَ عَنْ الْمَجْلِس، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَغَيْرهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَاز الصُّوَر الَّتِي ذَكَرْتهَا، وَاَللَّه أَعْلَم.
2966- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِق بِالْوَرِقِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاءٍ» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا يَتَنَاوَل جَمِيع أَنْوَاع الذَّهَب وَالْوَرِق مِنْ جَيِّد وَرَدِيء، وَصَحِيح وَمَكْسُور، وَحُلِيّ وَتِبْر، وَغَيْر ذَلِكَ، وَسَوَاء الْخَالِص وَالْمَخْلُوط بِغَيْرِهِ، وَهَذَا كُلّه مُجْمَع عَلَيْهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلِ سَوَاء بِسَوَاءٍ» يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْأَلْفَاظ تَوْكِيدًا وَمُبَالَغَة فِي الْإِيضَاح.

.باب الصَّرْفِ وَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَقْدًا:

2968- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَرِق بِالذَّهَبِ رَبًّا إِلَّا هَاء وَهَاء» فيه لُغَتَانِ الْمَدّ وَالْقَصْر، وَالْمَدّ أَفْصَح وَأَشْهَر، وَأَصْله (هَاكِ) فَأُبْدِلَتْ الْمَدَّة مِنْ الْكَاف، وَمَعْنَاهُ: خُذْ هَذَا، وَيَقُول صَاحِبه مِثْله، وَالْمُدَّة مَفْتُوحَة، وَيُقَال بِالْكَسْرِ أَيْضًا، وَمَنْ قَصَرَهُ قَالَ: وَزْنه وَزْن خُفّ يُقَال لِلْوَاحِدِ: (هَا) كَخَفْ، وَالِاثْنَيْنِ (هَاءَا) كَخَافَا، وَلِلْجَمْعِ (هَاءُوا) كَخَافُوا، وَالْمُؤَنَّثَة (هَاك) وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع عَلَى هَذِهِ اللُّغَة وَلَا يُغَيِّرهَا فِي التَّأْنِيث، بَلْ يَقُول فِي الْجَمِيع: (هَا) قَالَ السِّيرَافِيّ: كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا صَوْتًا كَصَهٍ، وَمَنْ ثَنَّى وَجَمَعَ قَالَ لِلْمُؤَنَّثَةِ: (هَاك وَهَا) لُغَتَانِ. وَيُقَال فِي لُغَة: (هَاء) بِالْمَدِّ وَكَسْر الْهَمْزَة لِلذَّكَرِ، وَلِلْأُنْثَى (هَاتِي) بِزِيَادَةِ تَاء، وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة يُنْكِرُونَ (هَا) بِالْقَصْرِ، وَغَلِطَ الْخَطَّابِيّ وَغَيْره مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فِي رِوَايَة الْقَصْر، وَقَالَ: الصَّوَاب الْمَدّ وَالْفَتْح، وَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ، بَلْ هِيَ صَحِيحَة كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة، قَالَ الْقَاضِي: وَفيه لُغَة أُخْرَى (هَاءَك) بِالْمَدِّ وَالْكَاف، قَالَ الْعُلَمَاء: وَمَعْنَاهُ: التَّقَابُض فَفيه اِشْتِرَاط التَّقَابُض فِي بَيْع الرِّبَوِيّ بِالرِّبَوِيِّ إِذَا اِتَّفَقَا فِي عِلَّة الرِّبَا، سَوَاء اِتَّفَقَ جِنْسهمَا كَذَهَبِ بِذَهَبٍ، أَمْ اِخْتَلَفَ كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيث بِمُخْتَلَفِ الْجِنْس عَلَى مُتَّفِقه، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَاب مَالِك بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَط التَّقَابُض عَقِبَ الْعَقْد حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنْ الْعَقْد وَقَبَضَ فِي الْمَجْلِس لَا يَصِحّ عِنْدهمْ. وَمَذْهَبنَا صِحَّة الْقَبْض فِي الْمَجْلِس، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْعَقْد يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا وَأَكْثَر مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث حُجَّة لِأَصْحَابِ مَالِك، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ طَلْحَة بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يُصَادِف صَاحِب الذَّهَب فَيَأْخُذ الذَّهَب وَيُؤَخِّر دَفْع الدَّرَاهِم إِلَى مَجِيء الْخَادِم، فَإِنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ جَوَازه كَسَائِرِ الْبِيَاعَات، وَمَا كَانَ بَلَغَهُ حُكْم الْمَسْأَلَة، فَأَبْلَغَهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَتَرَكَ الْمُصَارَفَة.
2969- قَوْله: «فَرَدَّ النَّاس مَا أَخَذُوا» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْبَيْع الْمَذْكُور بَاطِل.
قَوْله: (أَنَّ عُبَادَة بْن الصَّامِت قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَة) قَالَ: (وَإِنْ رَغِمَ) يُقَال: رَغِمَ بِكَسْرِ الْغَيْن وَفَتْحهَا، وَمَعْنَاهُ: ذَلَّ وَصَارَ كَاللَّاصِقِ بِالرُّغَامِ، وَهُوَ التُّرَاب، وَفِي هَذَا الِاهْتِمَام بِتَبْلِيغِ السُّنَن وَنَشْر الْعِلْم وَإِنْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ لِمَعْنًى، وَفيه الْقَوْل بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ الْمَقُول لَهُ كَبِيرًا.
2970- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبُرّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاء بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» هَذَا دَلِيل ظَاهِر فِي أَنَّ الْبُرّ وَالشَّعِير صِنْفَانِ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيِّ وَفُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرِينَ، وَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُعْظَم عُلَمَاء الْمَدِينَة وَالشَّام مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهَا صِنْف وَاحِد، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ عُمَر وَسَعِيد وَغَيْرهمَا مِنْ السَّلَف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّخَن صِنْف، وَالذُّرَة صِنْف وَالْأَرُزّ صِنْف إِلَّا اللَّيْث بْن سَعْد وَابْن وَهْب فَقَالَا: هَذِهِ الثَّلَاثَة صِنْف وَاحِد.
2971- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ زَادَ أَوْ اِزْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» مَعْنَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الرِّبَا الْمُحَرَّم، فَدَافِع الزِّيَادَة وَآخُذهَا عَاصِيَانِ مُرْبِيَانِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدًا بِيَدٍ» حُجَّة لِلْعُلَمَاءِ كَافَّة فِي وُجُوب التَّقَابُض وَإِنْ اِخْتَلَفَ الْجِنْس وَجَوَّزَ إِسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة التَّفَرُّق عِنْد اِخْتِلَاف الْجِنْس، وَهُوَ مَحْجُوج بِالْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاع، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْحَدِيث، فَلَوْ بَلَغَهُ لَمَا خَالَفَهُ.
قَوْله: (أَخْبَرَنَا سُلَيْمَان الرَّبَعِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة، مَنْسُوب إِلَى بَنِي رَبِيعَة.
2972- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا مَا اُخْتُلِفَتْ أَلْوَانه» يَعْنِي أَجْنَاسه كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيث الْبَاقِيَة.

.باب النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ دَيْنًا:

2976- قَوْله: «نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الْوَرِق بِالذَّهَبِ دَيْنًا» يَعْنِي مُؤَجَّلًا، أَمَّا إِذَا بَاعَهُ بِعِوَضٍ فِي الذِّمَّة حَال فَيَجُوز كَمَا سَبَقَ.
2977- قَوْله: «أَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِي الْفِضَّة بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا» يَعْنِي: سَوَاء وَمُتَفَاضِلًا، وَشَرْطه أَنْ يَكُون حَالًّا وَيَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِس.

.باب بَيْعِ الْقِلاَدَةِ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ:

2978- قَوْله: (سَمِعَ عُلَيّ بْن رَبَاح) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن عَلَى الْمَشْهُور، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَقِيلَ: يُقَال بِالْوَجْهَيْنِ فَالْفَتْح اِسْم وَالضَّمّ لَقَب.
2979- قَوْله: عَنْ فَضَالَة بْن عُبَيْد قَالَ: «اِشْتَرَيْت يَوْم خَيْبَر قِلَادَة بِاثْنَيْ عَشَر دِينَارًا فيها ذَهَبَ وَخَرَز فَفَصَلْتهَا. فَوَجَدَتْ فيها أَكْثَر مِنْ اِثْنَيْ عَشَر دِينَارًا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا تُبَاع حَتَّى تُفَصَّل» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ مُعْتَمَدَة: «قِلَادَة بِاثْنَيْ عَشَر دِينَارًا» وَفِي كَثِير مِنْ النُّسَخ: «قِلَادَة فيها اِثْنَيْ عَشَر دِينَارًا» وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَقَعَ لِمُعْظَمِ شُيُوخهمْ: «قِلَادَة فيها اِثْنَيْ عَشَر دِينَارًا» وَأَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْد أَصْحَاب الْحَافِظ أَبِي عَلِيّ الْغَسَّانِيّ مُصَلَّحَة: «قِلَادَة بِاثْنَيْ عَشَر دِينَارًا» قَالَ: وَهَذَا لَهُ وَجْه حَسَن وَبِهِ يَصِحّ الْكَلَام، هَذَا الْكَلَام الْقَاضِي، وَالصَّوَاب مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا: «بِاثْنَيْ عَشَر» وَهُوَ الَّذِي أَصْلَحَهُ صَاحِب أَبِي عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقَاضِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْع ذَهَب مَعَ غَيْره بِذَهَبٍ حَتَّى يُفَصَّل فَيُبَاع الذَّهَب بِوَزْنِهِ ذَهَبًا، وَيُبَاع الْآخَر بِمَا أَرَادَ. وَكَذَا لَا تُبَاع فِضَّة مَعَ غَيْرهَا بِفِضَّةٍ، وَكَذَا الْحِنْطَة مَعَ غَيْرهَا بِحِنْطَةٍ، وَالْمِلْح مَعَ غَيْره بِمِلْحٍ، وَكَذَا سَائِر الرِّبَوِيَّات، بَلْ لابد مِنْ فَصْلهَا، وَسَوَاء كَانَ الذَّهَب فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة أَوَّلًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ بَاقِي الرِّبَوِيَّات، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة فِي كُتُب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَغَيْرهمْ، الْمَعْرُوفَة بِمَسْأَلَةِ: «مُدّ عَجْوَة» وَصُورَتهَا: بَاعَ مُدّ عَجْوَة وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْ عَجْوَة، أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ، لَا يَجُوز لِهَذَا الْحَدِيث، وَهَذَا مَنْقُول عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَابْنه وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَمُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم الْمَالِكِيّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح: يَجُوز بَيْعه بِأَكْثَر مِمَّا فيه مِنْ الذَّهَب، وَلَا يَجُوز بِمِثْلِهِ وَلَا بِدُونِهِ، وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَآخَرُونَ: يَجُوز بَيْع السَّيْف الْمُحَلَّى بِذَهَبٍ وَغَيْره مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا فيه ذَهَب، فَيَجُوز بَيْعه بِالذَّهَبِ إِذَا كَانَ الذَّهَب فِي الْمَبِيع تَابِعًا لِغَيْرِهِ وَقَدَّرُوهُ بِأَنْ يَكُون الثُّلُث فَمَا دُونه، وَقَالَ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان: يَجُوز بَيْعه بِالذَّهَبِ مُطْلَقًا سَوَاء بَاعَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ الذَّهَب أَوْ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر، وَهَذَا غَلَط مُخَالِف لِصَرِيحِ الْحَدِيث، وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِحَدِيثِ الْقِلَادَة وَأَجَابَتْ الْحَنَفِيَّة بِأَنَّ الذَّهَب كَانَ فيها أَكْثَر مِنْ اِثْنَيْ عَشَر دِينَارًا، وَقَدْ اِشْتَرَاهَا بِاثْنَيْ عَشَر دِينَارًا. قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نُجِيز هَذَا وَإِنَّمَا نُجِيز الْبَيْع إِذَا بَاعَهَا بِذَهَبٍ أَكْثَر مِمَّا فيها، فَيَكُون مَا زَادَ مِنْ الذَّهَب الْمُنْفَرِد فِي مُقَابَلَة الْخَرَز وَنَحْوه مِمَّا هُوَ مَعَ الذَّهَب الْمَبِيع فَيَصِير كَعِقْدَيْنِ، وَأَجَابَ الطَّحَاوِيّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهْي عَنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَيْع الْغَنَائِم لِئَلَّا يَغْبِن الْمُسْلِمُونَ فِي بَيْعهَا قَالَ أَصْحَابنَا: وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ لاسيما جَوَاب الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ دَعْوَى مُجَرَّدَة.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَدَلِيل صِحَّة قَوْلنَا وَفَسَاد التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُبَاع حَتَّى يُفَصَّل»، وَهَذَا صَرِيح فِي اِشْتِرَاط فَصْل أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر فِي الْبَيْع، وَأَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن أَنْ يَكُون الذَّهَب الْمَبِيع قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَأَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن بَيْع الْغَنَائِم وَغَيْرهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
2980- قَوْله: (عَنْ الْجُلَاح أَبِي كَثِير) هُوَ بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام وَآخِره حَاء مُهْمَلَة.
قَوْله: «كُنَّا نُبَايِع الْيَهُود الْأُوقِيَّة الذَّهَب بِالدِّينَارَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَبِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ» يُحْتَمَل أَنَّ مُرَاده كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْأُوقِيَّة مِنْ ذَهَبَ وَخَرَز وَغَيْره بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة، وَإِلَّا فَالْأُوقِيَّة وَزْن أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَمَعْلُوم أَنَّ أَحَدًا لَا يَبْتَاع هَذَا الْقَدْر مِنْ ذَهَب خَالِص بِدِينَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة، وَهَذَا سَبَب مُبَايَعَة الصَّحَابَة عَلَى هَذَا الْوَجْه ظَنُّوا جَوَازه لِاخْتِلَاطِ الذَّهَب بِغَيْرِهِ، فَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَام حَتَّى يُمَيِّزُوا، وَيُبَاع الذَّهَب بِوَزْنِهِ ذَهَبًا. وَوَقَعَ هُنَا فِي النُّسَخ (الْوُقِيَّة الذَّهَب) وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة وَالْأَشْهُر (الْأُوقِيَّة) بِالْهَمْزِ فِي أَوَّله، وَسَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات.
2981- قَوْله: «فَطَارَتْ لِي وَلِأَصْحَابِي قِلَادَة» أَيْ: حَصَلَتْ لَنَا مِنْ الْغَنِيمَة.
قَوْله: «وَاجْعَلْ ذَهَبَك فِي كِفَّة» هِيَ بِكَسْرِ الْكَاف، قَالَ أَهْل اللُّغَة: كِفَّة الْمِيزَان وَكُلّ مُسْتَدِير بِكَسْرِ الْكَاف، وَكِفَّة الثَّوْب وَالصَّائِد بِضَمِّهَا، وَكَذَلِكَ كُلّ مُسْتَطِيل، وَقِيلَ بِالْوَجْهَيْنِ فيهمَا مَعًا.

.باب بَيْعِ الطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ:

2982- قَوْله: «إِنَّ مَعْمَر بْن عَبْد اللَّه أَرْسَلَ غُلَامه بِصَاعِ قَمْح لِيَبِيعَهُ وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ شَعِيرًا، فَبَاعَهُ بِصَاعٍ وَزِيَادَة فَقَالَ لَهُ مَعْمَر: رُدَّهُ وَلَا تَأْخُذهُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّعَام مِثْلًا بِمِثْلٍ» قَالَ: «وَكَانَ طَعَامنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِير، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف أَنْ يُضَارِع» مَعْنَى يُضَارِع: يُشَابِه وَيُشَارِك، وَمَعْنَاهُ: أَخَاف أَنْ يَكُون فِي مَعْنَى الْمُمَاثِل، فَيَكُون لَهُ حُكْمه فِي تَحْرِيم الرِّبَا. وَاحْتَجَّ مَالِك بِهَذَا الْحَدِيث فِي كَوْن الْحِنْطَة وَالشَّعِير صِنْفًا وَاحِدًا لَا يَجُوز بَيْع أَحَدهمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُمَا صِنْفَانِ يَجُوز التَّفَاضُل بَيْنهمَا كَالْحِنْطَةِ مَعَ الْأَرُزّ، وَدَلِيلنَا مَا سَبَقَ عِنْد قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا اِخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاس فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُمْ» مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي حَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا بَأْس بِبَيْعِ الْبُرّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِير أَكْثَرهمَا يَدًا بِيَدٍ» وَأَمَّا حَدِيث مَعْمَر هَذَا فَلَا حُجَّة فيه؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح بِأَنَّهُمَا جِنْس وَاحِد، وَإِنَّمَا خَافَ مِنْ ذَلِكَ فَتَوَرَّعَ عَنْهُ اِحْتِيَاطًا.
2983- قَوْله: «قَدِمَ بِتَمْرِ جَنِيب فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه: أَكْل تَمْر خَيْبَر هَكَذَا؟ قَالَ: لَا وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاع بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْع، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَان» أَمَّا: «الْجَنِيب»: فَبِجِيمٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون مَكْسُورَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت ثُمَّ مُوَحَّدَة، وَهُوَ نَوْع مِنْ التَّمْر مِنْ أَعْلَاهُ، وَأَمَّا (الْجَمْع) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْمِيم وَهُوَ تَمْر رَدِيء، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة بِأَنَّهُ الْخَلْط مِنْ التَّمْر، وَمَعْنَاهُ: مَجْمُوع مِنْ أَنْوَاع مُخْتَلِفَة، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَامِل الَّذِي بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ لَمْ يَعْلَم تَحْرِيم هَذَا، لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَوَائِل تَحْرِيم الرِّبَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيث أَصْحَابنَا وَمُوَافِقُوهُمْ فِي أَنَّ مَسْأَلَة الْعِينَة لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَهِيَ الْحِيلَة الَّتِي يَعْمَلهَا بَعْض النَّاس تَوَصَّلَا إِلَى مَقْصُود الرِّبَا بِأَنْ يُرِيد أَنْ يُعْطِيه مِائَة دِرْهَم بِمِائَتَيْنِ، فَيَبِيعهُ ثَوْبًا بِمِائَتَيْنِ، ثُمَّ يَشْتَرِيه مِنْهُ بِمِائَةٍ، وَمَوْضِع الدَّلَالَة مِنْ هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرَوْا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَلَمْ يُفَرَّق بَيْن أَنْ يَشْتَرِي مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْره، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْق، وَهَذَا كُلّه لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْد الشَّافِعِيّ وَآخَرِينَ، وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد: هُوَ حَرَام.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَذَا الْمِيزَان» فَيَسْتَدِلّ بِهِ الْحَنَفِيَّة لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيث الْكَيْل وَالْمِيزَان، وَأَجَابَ أَصْحَابنَا وَمُوَافِقُوهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَكَذَلِكَ الْمِيزَان لَا يَجُوز التَّفَاضُل فيه فِيمَا كَانَ رِبَوِيًّا مَوْزُونًا.
2985- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّهْ عَيْن الرِّبَا» قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ كَلِمَة تَوَجُّع وَتَحَزُّن. وَمَعْنَى عَيْن الرِّبَا: أَنَّهُ حَقِيقَة الرِّبَا الْمُحَرَّم، وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَة لُغَات الْفَصِيحَة الْمَشْهُورَة فِي الرِّوَايَات: (أَوَّهْ) بِهَمْزَةِ مَفْتُوحَة وَوَاو مَفْتُوحَة مُشَدَّدَة، وَهَاء سَاكِنَة، وَيُقَال: بِنَصَبِ الْهَاء مَنُونَة، وَيُقَال (أُوهِ) بِإِسْكَانِ الْوَاو وَكَسْر الْهَاء مُنَوَّنَة وَغَيْر مُنَوَّنَة، وَيُقَال أَوٍّ بِتَشْدِيدِ الْوَاو مَكْسُورَة مُنَوَّنَة بِلَا هَاء، وَيُقَال (آهْ) بِمَدِّ الْهَمْزَة وَتَنْوِينَ الْهَاء سَاكِنَة مِنْ غَيْر وَاو.
2986- قَوْله: صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد لِمَنْ اِشْتَرَى صَاعًا بِصَاعَيْنِ: «هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوض بِبَيْعٍ فَاسِد يَجِب رَدّه عَلَى بَائِعه، وَإِذَا رَدَّهُ اِسْتَرَدَّ الثَّمَن. فَإِنَّ قِيلَ فَلَمْ يَذْكُر فِي الْحَدِيث السَّابِق أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّهِ، فَالْجَوَاب: أَنَّ الظَّاهِر أَنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة وَأَمَرَ فيها بِرَدِّهِ فَبَعْض الرُّوَاة حَفِظَ ذَلِكَ، وَبَعْضهمْ لَمْ يَحْفَظهُ، فَقَبِلْنَا زِيَادَة الثِّقَة، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ لَحُمِلَتْ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا أَمَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغنَا ذَلِكَ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُر بِهِ مَعَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ لَحَمَلْنَاهَا عَلَى أَنَّهُ جَهِلَ بَائِعه، وَلَا يُمْكِن مَعْرِفَته، فَصَارَ مَالًا ضَائِعًا لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْن بِقِيمَتِهِ وَهُوَ التَّمْر الَّذِي قَبَضَهُ عِوَضًا، فَحَصَلَ أَنَّهُ لَا إِشْكَال فِي الْحَدِيث. وَلِلَّهِ الْحَمْد.
2988- قَوْله: «سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ الصَّرْف فَقَالَ: أَيَدًا بِيَدٍ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ» وَفِي رِوَايَة: (سَأَلْت اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا قَالَ: فَسَأَلْت أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ فَقَالَ: مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا فَأَنْكَرْت ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا، فَذَكَرَ أَبُو سَعِيد حَدِيث نَهْي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، وَذَكَرْت رُجُوع اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ إِبَاحَته إِلَى مَنْعه) وَفِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْده أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرِّبَا فِي النَّسِيئَة»، وَفِي رِوَايَة: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة»، وَفِي رِوَايَة: «لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا يَعْتَقِدَانِ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، وَأَنَّهُ يَجُوز بَيْع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ، وَدِينَار بِدِينَارَيْنِ، وَصَاع تَمْر بِصَاعَيْنِ مِنْ التَّمْر، وَكَذَا الْحِنْطَة وَسَائِر الرِّبَوِيَّات، كَانَا يَرَيَانِ جَوَاز بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُم فِي شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء إِلَّا إِذَا كَانَ نَسِيئَة، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله: إِنَّهُ سَأَلَهُمَا عَنْ الصَّرْف فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا، يَعْنِي الصَّرْف مُتَفَاضِلًا كَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَكَانَ مُعْتَمَدهمَا حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة» ثُمَّ رَجَعَ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس عَنْ ذَلِكَ وَقَالَا بِتَحْرِيمِ بَيْع الْجِنْس بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حِين بَلَغَهُمَا حَدِيث أَبِي سَعِيد كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رُجُوعهمَا صَرِيحًا.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم تَدُلّ عَلَى أَنَّ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُمَا حَدِيث النَّهْي عَنْ التَّفَاضُل فِي غَيْر النَّسِيئَة، فَلَمَّا بَلَغَهُمَا رَجَعَا إِلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيث أُسَامَة: «لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة» فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْك الْعَمَل بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى نَسْخه.
وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ تَأْوِيلَات:
أَحَدهَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى غَيْر الرِّبَوِيَّات، وَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْن بِالدَّيْنِ مُؤَجَّلًا بِأَنْ يَكُون لَهُ عِنْده ثَوْب مَوْصُوف، فَيَبِيعهُ بِعَبْدٍ مَوْصُوف مُؤَجَّلًا، فَإِنْ بَاعَهُ بِهِ حَالًّا جَازَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْأَجْنَاس الْمُخْتَلِفَة، فَإِنَّهُ لَا رِبَا فيها مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُل، بَلْ يَجُوز تَفَاضُلهَا يَدًا بِيَدٍ.
الثَّالِث: أَنَّهُ مُجْمَل، وَحَدِيث عُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ وَغَيْرهمَا مُبَيِّن، فَوَجَبَ الْعَمَل بِالْمُبَيِّنِ، وَتَنْزِيل الْمُجْمَل عَلَيْهِ. هَذَا جَوَاب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
2989- سبق شرحه بالباب.
2990- سبق شرحه بالباب.
2991- سبق شرحه بالباب.
2992- سبق شرحه بالباب.
2993- قَوْله: (حَدَّثَنَا هِقْل) هُوَ بِكَسْرِ الْهَاء وَإِسْكَان الْقَاف.