فصل: باب ذِكْرِ الْخَوَارِجِ وَصِفَاتِهِمْ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب ذِكْرِ الْخَوَارِجِ وَصِفَاتِهِمْ:

1761- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يَعْدِلْ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت» رُوِيَ بِفَتْحِ التَّاء فِي: «خِبْت وَخَسِرْت» وَبِضَمِّهِمَا فيهمَا، وَمَعْنَى الضَّمّ ظَاهِر، وَتَقْدِير الْفَتْح: خِبْت أَنْتَ أَيّهَا التَّابِع إِذَا كُنْت لَا أَعْدِل لِكَوْنِك تَابِعًا وَمُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا يَعْدِل، وَالْفَتْح أَشْهَرُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب: دَعْنِي يَا رَسُول اللَّه فَأَقْتُل هَذَا الْمُنَافِق». وَفِي رِوَايَات أُخَر أَنَّ خَالِد بْن الْوَلِيد اِسْتَأْذَنَ فِي قَتْله لَيْسَ فيهمَا تَعَارُض، بَلْ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا اِسْتَأْذَنَ فيه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآن لَا يُجَاوِز حَنَاجِرهمْ» قَالَ الْقَاضِي: فيه تَأْوِيلَانِ: أَحَدهمَا: مَعْنَاهُ: لَا تَفْقَهُهُ قُلُوبهمْ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا تَلَوْا مِنْهُ، وَلَا لَهُمْ حَظّ سِوَى تِلَاوَة الْفَم وَالْحَنْجَرَة وَالْحَلْق إِذْ بِهِمَا تَقْطِيع الْحُرُوف، الثَّانِي: مَعْنَاهُ: لَا يَصْعَد لَهُمْ عَمَل وَلَا تِلَاوَة وَلَا يُتَقَبَّل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُق السَّهْم مِنْ الرَّمْيَة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَام». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّين» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ: يَخْرُجُونَ مِنْهُ خُرُوج السَّهْم إِذَا نَفَذَ الصَّيْد مِنْ جِهَة أُخْرَى، وَلَمْ يَتَعَلَّق بِهِ شَيْء مِنْهُ، و«الرَّمْيَة» هِيَ الصَّيْد الْمَرْمِيّ، وَهِيَ فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة.
قَالَ: و«الدِّين» هُنَا هُوَ الْإِسْلَام، كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى: {إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام} وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الطَّاعَة أَيْ مِنْ طَاعَة الْإِمَام، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلِيل لِمَنْ يُكَفِّرُ الْخَوَارِجَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: قَالَ الْمَازِرِيّ: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَكْفِير الْخَوَارِج، قَالَ: وَقَدْ كَادَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة تَكُون أَشَدّ إِشْكَالًا مِنْ سَائِر الْمَسَائِل، وَلَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمَعَالِي وَقَدْ رَغَّبَ إِلَيْهِ الْفَقِيه عَبْد الْحَقّ- رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى- فِي الْكَلَام عَلَيْهَا فَرَهَّبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْغَلَط فيها يَصْعُبُ مَوْقِعُهُ؛ لِأَنَّ إِدْخَال كَافِر فِي الْمِلَّة وَإِخْرَاج مُسْلِم مِنْهَا عَظِيم فِي الدِّين، وَقَدْ اِضْطَرَبَ فيها قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ، وَنَاهِيك بِهِ فِي عِلْم الْأُصُول، وَأَشَارَ اِبْن الْبَاقِلَّانِيّ إِلَى أَنَّهَا مِنْ الْمُعَوِّصَات؛ لِأَنَّ الْقَوْم لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا قَالُوا أَقْوَالًا تُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَأَنَا أَكْشِف لَك نُكْتَة الْخِلَاف وَسَبَب الْإِشْكَال، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ مَثَلًا يَقُول: إِنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِم، وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَحَيٌّ وَلَا حَيَاةَ لَهُ. يُوقِع الِالْتِبَاس فِي تَكْفِيره؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ دَيْن الْأُمَّة ضَرُورَةً أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَالِم كَانَ كَافِرًا، وَقَامَتْ الْحُجَّة عَلَى اِسْتِحَالَة كَوْن الْعَالَم لَا عِلْم لَهُ، فَهَلْ نَقُول: إِنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ إِذَا نَفَى الْعِلْم نَفَى أَنْ يَكُون اللَّه تَعَالَى عَالِمًا، وَذَلِكَ كُفْر بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَنْفَعُهُ اِعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ عَالِم مَعَ نَفيه أَصْل الْعِلْم، أَوْ نَقُول قَدْ اِعْتَرَفَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِم، وَإِنْكَاره الْعِلْم لَا يُكَفِّرهُ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ، فَهَذَا مَوْضِع الْإِشْكَال. هَذَا كَلَام الْمَازِرِيّ وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير أَصْحَابه الْعُلَمَاء أَنَّ الْخَوَارِج لَا يَكْفُرُونَ، وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّة وَجَمَاهِير الْمُعْتَزِلَة وَسَائِر أَهْل الْأَهْوَاء، قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: أَقْبَلُ شَهَادَة أَهْل الْأَهْوَاء إِلَّا الْخَطَّابِيَّة، وَهُمْ طَائِفَة مِنْ الرَّافِضَة يَشْهَدُونَ لِمُوَافِقِيهِمْ فِي الْمَذْهَب بِمُجَرَّدِ قَوْلهمْ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِهَذَا لَا لِبِدْعَتِهِمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
1762- قَوْله: «بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا بِفَتْحِ الذَّال، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيع رُوَاة مُسْلِم عَنْ الْجُلُودِيّ، قَالَ: وَفِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان: «بِذُهَيْبَةٍ» عَلَى التَّصْغِير.
قَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة: (عُيَيْنَة بْن بَدْر الْفَزَارِيُّ) وَكَذَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ- رِوَايَة قُتَيْبَة- قَالَ فيها: (عُيَيْنَة بْن بَدْر) وَفِي بَعْض النُّسَخ فِي الثَّانِيَة: (عُيَيْنَة بْن حِصْن)، وَفِي مُعْظَمهَا (عُيَيْنَة بْن بَدْر) وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْل هَذِهِ- وَهِيَ الرِّوَايَة الَّتِي فيها الشِّعْر-: (عُيَيْنَة بْن حِصْن) فِي جَمِيع النُّسَخ، وَكُلّه صَحِيح، فَحِصْن أَبُوهُ وَبَدْر جَدّ أَبِيهِ، فَنُسِبَ تَارَة إِلَى أَبِيهِ، وَتَارَة إِلَى جَدّ أَبِيهِ لِشُهْرَتِهِ، وَلِهَذَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ الشَّاعِر فِي قَوْله: فَمَا كَانَ بَدْر وَلَا حَابِس وَهُوَ عُيَيْنَة بْن حِصْن بْن حُذَيْفَة بْن بَدْر بْن عَمْرو بْن جُوَيْرِيَةَ بْن لَوْذَان بْن ثَعْلَبَة بْن عَدِيٍّ بْن فَزَارَة بْن دِينَار الْفَزَارِيُّ.
قَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة: (وَزَيْد الْخَيْر الطَّائِيّ) كَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: (الْخَيْر) بِالرَّاءِ وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا: (زَيْد الْخَيْل) بِاللَّامِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، يُقَال بِالْوَجْهَيْنِ، كَانَ يُقَال لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة: (زَيْد الْخَيْل) فَسَمَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَام: (زَيْد الْخَيْر).
قَوْله: «أَيُعْطِي صَنَادِيد نَجْدٍ» أَيْ سَادَاتهَا، وَأَحَدهمْ (صِنْدِيد) بِكَسْرِ الصَّاد.
قَوْله: «فَجَاءَ رَجُل كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِف الْوَجْنَتَيْنِ» أَمَّا (كَثُّ اللِّحْيَة) فَبِفَتْحِ الْكَاف وَهُوَ كَثِيرهَا، و(الْوَجْنَة) بِفَتْحِ الْوَاو وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا، وَيُقَال أَيْضًا: (أَجِنَّة) وَهِيَ لَحْم الْخَدّ.
قَوْله: (نَاتِئ الْجَبِين) هُوَ بِهَمْزٍ (نَاتِئ) وَأَمَّا (الْجَبِين) فَهُوَ جَانِب الْجَبْهَة، وَلِكُلِّ إِنْسَان جَبِينَانِ يَكْتَنِفَانِ الْجَبْهَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا» هُوَ بِضَادَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ وَآخِرَهُ مَهْمُوزٌ، وَهُوَ أَصْل الشَّيْء، وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُور وَعَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا صَحِيح فِي اللُّغَة، قَالُوا: وَلِأَصْلِ الشَّيْء أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا (الضِّئْضِئ) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ (وَالنِّجَار) بِكَسْرِ النُّون (وَالنُّحَاس) و(السِّنْخ) بِكَسْرِ السِّين وَإِسْكَان النُّون وَبِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ و(الْعُنْصُر) (وَالْغَضّ) و(الْأَرُومَة).
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْل عَادٍ» أَيْ قَتْلًا عَامًّا مُسْتَأْصِلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} وَفيه: الْحَثّ عَلَى قِتَالِهِمْ وَفَضِيلَةٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قِتَالِهِمْ.
1763- قَوْله: «فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ» أَيْ مَدْبُوغ بِالْقَرَظِ.
قَوْله: «لَمْ تَحْصُل مِنْ تُرَابِهَا» أَيْ لَمْ تُمَيَّزْ.
قَوْله: فِي هَذِهِ الرِوَايَة: (وَالرَّابِع إِمَّا عَلْقَمَة بْن عُلَاثَة، وَإِمَّا عَامِر بْن الطُّفَيْل).
قَالَ الْعُلَمَاء: ذِكْرُ (عَامِرٍ) هُنَا غَلَطٌ ظَاهِر؛ لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْل هَذَا بِسِنِين، وَالصَّوَاب الْجَزْم بِأَنَّهُ عَلْقَمَة بْن عُلَاثَة كَمَا هُوَ مَجْزُوم فِي بَاقِي الرِّوَايَات. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوب النَّاس وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» مَعْنَاهُ: إِنِّي أُمِرْت بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه». وَفِي الْحَدِيث: «هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبه».
قَوْله: «وَهُوَ مُقَفٍّ» أَيْ مُوَلٍّ قَدْ أَعْطَانَا قَفَاهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى لَيِّنًا رَطْبًا» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (لَيِّنًا) بِالنُّونِ أَيْ سَهْلًا، وَفِي كَثِير مِنْ النُّسَخ (لَيًّا) بِحَذْفِ النُّون، وَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ رِوَايَة أَكْثَر شُيُوخهمْ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ سَهْلًا لِكَثْرَةِ حِفْظِهِمْ، قَالَ: وَقِيلَ: (لَيًّا) أَيْ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِهِ أَيْ يُحَرِّفُونَ مَعَانِيَهُ وَتَأْوِيله، قَالَ: وَقَدْ يَكُون مِنْ اللَّيِّ فِي الشَّهَادَة وَهُوَ الْمَيْل، قَالَهُ اِبْن قُتَيْبَة.
1764- قَوْله: (فَسَأَلَاهُ عَنْ الْحَرُورِيَّة) هُمْ الْخَوَارِج سُمُّوا (حَرُورِيَّة)؛ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا حَرُورَاءَ وَتَعَاقَدُوا عِنْدهَا عَلَى قِتَال أَهْل الْعَدْل (وَحَرُورَاء) بِفَتْحِ الْحَاء وَبِالْمَدِّ قَرْيَة بِالْعِرَاقِ قَرِيبَة مِنْ الْكُوفَة، وَسُمُّوا: خَوَارِج؛ لِخُرُوجِهِمْ عَلَى الْجَمَاعَة، وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِمْ عَنْ طَرِيق الْجَمَاعَة، وَقِيلَ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُج مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا».
قَوْله: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «يَخْرُج فِي هَذِهِ الْأُمَّة وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا» قَالَ الْمَازِرِيّ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى سَعَة عِلْم الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَدَقِيق نَظَرِهِمْ، وَتَحْرِيرِهِمْ الْأَلْفَاظَ وَفَرْقهمْ بَيْن مَدْلُولَاتهَا الْخَفِيَّة؛ لِأَنَّ لَفْظَة (مِنْ) تَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مِنْ الْأُمَّة لَا كُفَّارًا بِخِلَافِ (فِي)، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ جَاءَ بَعْد هَذَا مِنْ رِوَايَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «يَخْرُج مِنْ أُمَّتِي قَوْم»، وَفِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ: «إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي» أَو: «سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي» وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَاف فِي تَكْفِيرهمْ، وَأَنَّ الصَّحِيح عَدَم تَكْفِيرهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَنْظُر الرَّامِي إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَنْظُر إِلَى نَضِيِّهِ» وَفيها: «ثُمَّ يَنْظُر إِلَى قُذَذِهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَيَنْظُر فِي النَّضِيّ فَلَا يَرَى بَصِيرَة وَيَنْظُر فِي الْفُوق فَلَا يَرَى بَصِيرَة» أَمَّا (الرِّصَاف) فَبِكَسْرِ الرَّاء وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَة وَهُوَ مَدْخَل النَّصْل مِنْ السَّهْم، و(النَّصْل) هُوَ حَدِيدَة السَّهْم، و(الْقَدْح) عُودُهُ و(الْقُذَذ) بِضَمِّ الْقَاف وَبِذَالَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ رِيش السَّهْم، و(الْفُوق) بِضَمِّ الْفَاء هُوَ الْحَزّ الَّذِي يُجْعَل فيه الْوِتْر، و(نَضِيّ) بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْيَاء وَهُوَ الْقَدَح، وَكَذَا جَاءَ فِي كِتَاب مُسْلِم مُفَسَّرًا، وَكَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ، وَأَمَّا (الْبَصِير) فَبِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَكَسْر الصَّاد الْمُهْمَلَة، وَهِيَ الشَّيْء مِنْ الدَّم أَيْ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ الدَّم يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى إِصَابَة الرَّمْيَةِ.
1765- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» قَدْ سَبَقَ الْخِلَاف فِي فَتْح التَّاء وَضَمِّهَا فِي هَذَا الْبَاب.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِثْل الْبَضْعَة تَدَرْدَرُ» (الْبَضْعَة) بِفَتْحِ الْبَاء لَا غَيْرُ، وَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ اللَّحْم و(تَدَرْدَرُ) مَعْنَاهُ تَضْطَرِب وَتَذْهَب وَتَجِيء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُونَ عَلَى حِين فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ» ضَبَطُوهُ فِي الصَّحِيح بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: (حِين فُرْقَةٍ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ، و(فُرْقَة) بِضَمِّ الْفَاء أَيْ فِي وَقْت اِفْتِرَاق النَّاس، أَيْ اِفْتِرَاق يَقَع بَيْن الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الِافْتِرَاق الَّذِي كَانَ بَيْن عَلِيّ وَمُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَالثَّانِي: (خَيْر فُرْقَة) بِخَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ، و(فِرْقَة) بِكَسْرِ الْفَاء أَيْ الْفِرْقَتَيْنِ، وَالْأَوَّل أَشْهَر وَأَكْثَر، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي بَعْد هَذِهِ: «يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَة مِنْ النَّاس» فَإِنَّهُ بِضَمِّ الْفَاء بِلَا خِلَاف، وَمَعْنَاهُ ظَاهِر، وَقَالَ الْقَاضِي: عَلَى رِوَايَة الْخَاء الْمُعْجَمَة الْمُرَاد وَخَيْر الْقُرُون، وَهُمْ الصَّدْر الْأَوَّل.
قَالَ: أَوْ يَكُون الْمُرَاد عَلِيًّا وَأَصْحَابه، فَعَلَيْهِ كَانَ خُرُوجهمْ حَقِيقه؛ لِأَنَّهُ كَانَ الْإِمَام حِينَئِذٍ.
وَفيه حُجَّة لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُصِيبًا فِي قِتَاله، وَالْآخَرُونَ بُغَاة لاسيما مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» وَعَلِيّ وَأَصْحَابه الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا وَجَرَى كُلّه كَفَلَقِ الصُّبْح، وَيَتَضَمَّن بَقَاء الْأُمَّة بَعْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ لَهُمْ شَوْكَةً وَقُوَّةً خِلَافَ مَا كَانَ الْمُبْطِلُونَ يُشِيعُونَهُ، وَأَنَّهُمْ يَفْتَرِقُونَ فِرْقَتَيْنِ، وَأَنَّهُ يَخْرُج عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مَارِقَةٌ، وَأَنَّهُمْ يُشَدِّدُونَ فِي الدِّين فِي غَيْر مَوْضِع التَّشْدِيد، وَيُبَالِغُونَ فِي الصَّلَاة وَالْقِرَاءَة وَلَا يُقِيمُونَ بِحُقُوقِ الْإِسْلَام، بَلْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ أَهْل الْحَقّ وَأَنَّ أَهْل الْحَقّ يَقْتُلُونَهُمْ، وَأَنَّ فيهمْ رَجُلًا صِفَةُ يَدِهِ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَنْوَاع مِنْ الْمُعْجِزَات جَرَتْ كُلّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْد.
1766- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِيمَاهُمْ التَّحَالُق» (السِّيمَا) الْعَلَامَة، وَفيها ثَلَاث لُغَات: الْقَصْر وَهُوَ الْأَفْصَح، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن. وَالْمَدّ. وَالثَّالِثَة (السِّيمِيَاء) بِزِيَادَةِ يَاءٍ مَعَ الْمَدّ لَا غَيْرُ. وَالْمُرَاد بِالتَّحَالُقِ حَلْق الرُّءُوس، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (التَّحَلُّق)، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْض النَّاس عَلَى كَرَاهَة حَلْق الرَّأْس وَلَا دَلَالَة فيه، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ لَهُمْ، وَالْعَلَامَة قَدْ تَكُون بِحِرَامٍ، وَقَدْ تَكُون بِمُبَاحٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْل ثَدْي الْمَرْأَة» وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحِرَامٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْض رَأْسه فَقَالَ: «اِحْلِقُوهُ كُلّه أَوْ اُتْرُكُوهُ كُلّه»، وَهَذَا صَرِيح فِي إِبَاحَة حَلْق الرَّأْس لَا يَحْتَمِل تَأْوِيلًا، قَالَ أَصْحَابنَا: حَلْق الرَّأْس جَائِز بِكُلِّ حَال، لَكِنْ إِنْ شَقَّ عَلَيْهِ تَعَهُّدُهُ بِالدُّهْنِ وَالتَّسْرِيح اُسْتُحِبَّ حَلْقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ اُسْتُحِبَّ تَرْكُهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ شَرّ الْخَلْق أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْق» هَكَذَا هُوَ فِي كُلّ النُّسَخ (أَوْ مِنْ أَشَرِّ) بِالْأَلِفِ وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة، وَالْمَشْهُور (شَرّ) بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَفِي هَذَا اللَّفْظ دَلَالَة لِمَنْ قَالَ بِتَكْفِيرِهِمْ، وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُور أَيْ شَرّ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْتُلهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقّ»، وَفِي رِوَايَة: «أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»، وَفِي رِوَايَة: «تَكُون أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ تَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمَا بِالْحَقِّ». هَذِهِ الرِّوَايَات صَرِيحَة فِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ الْمُحِقَّ، وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى أَصْحَاب مُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانُوا بُغَاة مُتَأَوِّلِينَ، وَفيه التَّصْرِيح بِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنُونَ لَا يَخْرُجُونَ بِالْقِتَالِ عَنْ الْإِيمَان وَلَا يَفْسُقُونَ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مُوَافِقِينَا.
1767- قَوْله: (حَدَّثَنَا الْقَاسِم وَهُوَ اِبْن الْفَضْل الْحُدَّانِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الدَّال، بَعْد الْأَلِف نُون.
1770- قَوْله: (عَنْ الضَّحَّاك الْمِشْرَقِيّ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَة وَفَتْح الرَّاء وَكَسْر الْقَاف، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي ذَكَرَهُ جَمِيع أَصْحَاب الْمُؤْتَلِف وَالْمُخْتَلِف، وَأَصْحَاب الْأَسْمَاء وَالتَّوَارِيخ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الرَّاء، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيف، كَمَا قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى (مِشْرَق) بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الرَّاء بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ، وَهُوَ الضَّحَّاك الْهَمَدَانِيُّ الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة مِنْ رِوَايَة حَرْمَلَة وَأَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَن.
قَوْله: (فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فيه قَوْمًا يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ) ضَبَطُوهُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا.
1771- قَوْله: (عَنْ سُوَيْد بْن غَفَلَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالْفَاء.
قَوْله: «وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ» مَعْنَاهُ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَقَالَ الْقَاضِي: جَوَاز التَّوْرِيَة وَالتَّعْرِيض فِي الْحَرْب، فَكَأَنَّهُ تَأَوَّلَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا، وَقَوْله: (خُدْعَة) بِفَتْحِ الْخَاء وَإِسْكَان الدَّال عَلَى الْأَفْصَح، وَيُقَال بِضَمِّ الْخَاء، وَيُقَال: (خُدْعَة) بِضَمِّ الْخَاء وَفَتْح الدَّال، ثَلَاث لُغَات مَشْهُورَات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْدَاث الْأَسْنَان، سُفَهَاء الْأَحْلَام» مَعْنَاهُ: صِغَار الْأَسْنَان صِغَار الْعُقُول.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُونَ مِنْ خَيْر قَوْل الْبَرِيَّة» مَعْنَاهُ: فِي ظَاهِر الْأَمْر كَقَوْلِهِمْ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَنَظَائِره مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا» هَذَا تَصْرِيحٌ بِوُجُوبِ قِتَال الْخَوَارِج وَالْبُغَاة، وَهُوَ إِجْمَاع الْعُلَمَاء، قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْخَوَارِج وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْل الْبِدَع وَالْبَغْي مَتَى خَرَجُوا عَلَى الْإِمَام وَخَالَفُوا رَأْي الْجَمَاعَة وَشَقُّوا الْعَصَا وَجَبَ قِتَالهمْ بَعْد إِنْذَارهمْ، وَالِاعْتِذَار إِلَيْهِمْ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} لَكِنْ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحهمْ وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَا يُقْتَل أَسِيرهُمْ، وَلَا تُبَاح أَمْوَالهمْ، وَمَا لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ الطَّاعَة وَيَنْتَصِبُوا لِلْحَرْبِ لَا يُقَاتَلُونَ، بَلْ يُوعَظُونَ وَيُسْتَتَابُونَ مِنْ بِدْعَتهمْ وَبَاطِلهمْ، وَهَذَا كُلّه مَا لَمْ يَكْفُرُوا بِبِدْعَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَة مِمَّا يَكْفُرُونَ بِهِ جَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَام الْمُرْتَدِّينَ، وَأَمَّا الْبُغَاة الَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ فَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ، وَدَمهمْ فِي حَال الْقِتَال هَدَر، وَكَذَا أَمْوَالهمْ الَّتِي تُتْلَف فِي الْقِتَال، وَالْأَصَحّ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ أَيْضًا مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْل الْعَدْل فِي حَال الْقِتَال مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْر حَال الْقِتَال مِنْ نَفْس وَمَالٍ ضَمِنُوهُ، وَلَا يَحِلّ الِانْتِفَاع بِشَيْءٍ مِنْ دَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ فِي حَال الْحَرْب عِنْدَنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
1772- قَوْله: (عَنْ مُحَمَّد عَنْ عَبِيدَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَهُوَ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ.
قَوْله: (فيهمْ رَجُل مُخْدَجُ الْيَدِ أَوْ مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مَثْدُون الْيَد) أَمَّا (الْمُخْدَج) فَبِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفَتْح الدَّال أَيْ نَاقِص الْيَد و(الْمُودَن) بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْوَاو وَفَتْح الدَّال، وَيُقَال بِالْهَمْزِ وَبِتَرْكِهِ، وَهُوَ نَاقِص الْيَد، وَيُقَال أَيْضًا: وَدِينٌ، و(الْمَثْدُون) بِفَتْحِ الْمِيم وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ صَغِير الْيَد مُجْتَمِعُهَا كَثُنْدُوَةِ الثَّدْي، وَهِيَ بِفَتْحِ الثَّاء بِلَا هَمْزَة وَبِضَمِّهَا مَعَ الْهَمْز، وَكَانَ أَصْلُهُ (مَثْنُود) فَقُدِّمَتْ الدَّال عَلَى النُّون، كَمَا قَالُوا: جَبَذَ وَجَذَبَ، وَعَاثَ فِي الْأَرْض وَعَثَا.
1773- قَوْله: (فَنَزَّلَنِي زَيْد بْن وَهْب مَنْزِلًا حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَة) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ مَرَّة وَاحِدَة، وَفِي نَادِر مِنْهَا (مَنْزِلًا مَنْزِلًا) مَرَّتَيْنِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ وَجْه الْكَلَام، أَيْ ذَكَرَ لِي مَرَاحِلَهُمْ بِالْجَيْشِ مَنْزِلًا مَنْزِلًا حَتَّى بَلَغَ الْقَنْطَرَة الَّتِي كَانَ الْقِتَال عِنْدهَا، وَهِيَ قَنْطَرَة الدَّبْرَجَان، كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي سُنَن النَّسَائِيِّ، وَهُنَاكَ خَطَبَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَرَوَى لَهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيث. و(الْقَنْطَرَة) بِفَتْحِ الْقَاف. قَوْلهمْ: (فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ) أَيْ رَمَوْا بِهَا عَنْ بُعْدٍ.
قَوْله: (وَشَجَرَهُمْ النَّاس بِرِمَاحِهِمْ) هُوَ بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَالْجِيم الْمُخَفَّفَة أَيْ مَدَّدُوهَا إِلَيْهِمْ وَطَاعَنُوهُمْ بِهَا، وَمِنْهُ التَّشَاجُر فِي الْخُصُومَة.
قَوْله: (وَمَا أُصِيبَ مِنْ النَّاس يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ) يَعْنِي مِنْ أَصْحَاب عَلِيّ، وَأَمَّا الْخَوَارِج فَقُتِلُوا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
قَوْله: (فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَة السَّلْمَانِيّ) إِلَى آخِره، وَحَاصِله أَنَّهُ اِسْتَحْلَفَ عَلِيًّا ثَلَاثًا وَإِنَّمَا اِسْتَحْلَفَهُ لِيُسْمِعَ الْحَاضِرِينَ، وَيُؤَكِّد ذَلِكَ عِنْدهمْ، وَيَظْهَر لَهُمْ الْمُعْجِزَة الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَظْهَر لَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابه أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالهمْ، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ الْفَوَائِد، وَقَوْله: (السَّلْمَانِيّ) هُوَ بِإِسْكَانِ اللَّام مَنْسُوب إِلَى سَلْمَان جَدّ قَبِيلَة مَعْرُوفَة وَهُمْ بَطْن مِنْ مُرَاد، قَالَهُ اِبْن أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيّ. أَسْلَمَ عَبِيدَة قَبْل وَفَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ وَلَمْ يَرَهُ، وَسَمِعَ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمْ مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
1774- قَوْله: (قَالُوا لَا حُكْم إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيّ: كَلِمَة حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْكَلِمَة أَصْلهَا صِدْق، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} لَكِنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا الْإِنْكَارَ عَلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي تَحْكِيمه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ) هُوَ بِطَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ وَالْمُرَاد بِهِ ضَرْع الشَّاة، وَهُوَ فيها مَجَاز وَاسْتِعَارَة إِنَّمَا أَصْله لِلْكَلْبَةِ وَالسِّبَاع، قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَيُقَال أَيْضًا لِذَوَاتِ الْحَافِر، وَيُقَال لِلشَّاةِ ضَرْع، وَكَذَا لِلْبَقَرَةِ، وَيُقَال لِلنَّاقَةِ خُلْف، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْأَخْلَاف لِذَوَاتِ الْأَخْفَاف وَالْأَظْلَاف، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَال فِي ذَات الْخُفّ وَالظِّلْف خُلْف وَضَرْع.

.باب الْخَوَارِجُ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ:

1776- قَوْله: (عَنْ يُسَيْر بْن عَمْرو)، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أُسَيْر بْن عَمْرو)، وَهُوَ بِضَمِّ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْتُ وَفَتْح السِّين الْمُهْمَلَة، وَالثَّانِي مِثْله إِلَّا أَنَّهُ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ،يُقَال: يُسَيْر وَأُسَيْر.
1777- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِق» أَيْ يَذْهَبُونَ عَنْ الصَّوَاب وَعَنْ طَرِيق الْحَقّ. يُقَال: (تَاهَ) إِذَا ذَهَبَ وَلَمْ يَهْتَدِ لِطَرِيقِ الْحَقّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ:

1778- قَوْله: «أَخْذ الْحَسَن بْن عَلِيّ تَمْرَة مِنْ تَمْر الصَّدَقَة فَجَعَلَهَا فِي فيه فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِخْ كِخْ اِرْمِ بِهَا أَمَا عَلِمْت أَنَّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة» وَفِي رِوَايَة: «لَا تَحِلّ لَنَا الصَّدَقَة» قَالَ الْقَاضِي: «كِخْ كِخْ» بِفَتْحِ الْكَاف وَكَسْرهَا وَتَسْكِين الْخَاء، وَيَجُوز كَسْرهَا مَعَ التَّنْوِين، وَهِيَ كَلِمَة يُزْجَرُ بِهَا الصِّبْيَانُ عَنْ الْمُسْتَقْذَرَات فَيُقَال لَهُ: «كِخْ» أَيْ اُتْرُكْهُ، وَارْمِ بِهِ، قَالَ الدَّاوُدِيّ: هِيَ عَجَمِيَّة مُعَرَّبَةٌ بِمَعْنَى بِئْسَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْبُخَارِيّ بِقَوْلِهِ فِي تَرْجَمَة بَاب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَة.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الصِّبْيَان يُوَقَّوْنَ مَا يُوَقَّاهُ الْكِبَار، وَتُمْنَع مِنْ تَعَاطِيه،، وَهَذَا وَاجِب عَلَى الْوَلِيِّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا عَلِمْت أَنَّا لَا نَأْكُل الصَّدَقَة» هَذِهِ اللَّفْظَة تُقَال فِي الشَّيْء الْوَاضِح التَّحْرِيم وَنَحْوه وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُخَاطَب عَالِمًا بِهِ، وَتَقْدِيره: عَجَبٌ كَيْف خَفِيَ عَلَيْك هَذَا مَعَ ظُهُور تَحْرِيم الزَّكَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ، وَهُمْ بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِب، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ آلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبِهِ قَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِكٌ: هُمْ بَنُو هَاشِم خَاصَّة، قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا، وَقَالَ أُصْبَغُ الْمَالِكِيّ: هُمْ بَنُو قُصَيّ.
دَلِيل الشَّافِعِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب شَيْء وَاحِد»، وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى.
وَأَمَّا صَدَقَة التَّطَوُّع فَلِلشَّافِعِيِّ فيها ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحّهَا: أَنَّهَا تَحْرُم عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحِلّ لِآلِهِ، وَالثَّانِي: تَحْرُم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَالثَّالِث: تَحِلّ لَهُ وَلَهُمْ.
وَأَمَّا مَوَالِي بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب فَهَلْ تَحْرُم عَلَيْهِمْ الزَّكَاة؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحّهمَا: تَحْرُم، لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا حَدِيث أَبِي رَافِع، وَالثَّانِي: تَحِلّ. وَبِالتَّحْرِيمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَبَعْض الْمَالِكِيَّة وَبِالْإِبَاحَةِ قَالَ مَالِك؛ وَادَّعَى اِبْن بَطَّال الْمَالِكِيّ أَنَّ الْخِلَاف إِنَّمَا هُوَ فِي مَوَالِي بَنِي هَاشِم، وَأَمَّا مَوَالِي غَيْرهمْ فَتُبَاح لَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا تَحْرِيمهَا عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّا لَا تَحِلّ لَنَا الصَّدَقَة» ظَاهِره تَحْرِيم صَدَقَة الْفَرْض وَالنَّفْل وَفيهمَا الْكَلَام السَّابِق.
1779- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لِأَنْقَلِب إِلَى أَهْلِي فَأَجِد التَّمْرَة سَاقِطَة عَلَى فِرَاشِي ثُمَّ أَرْفَعهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُون صَدَقَة فَأُلْقِيهَا» فيه تَحْرِيم الصَّدَقَة عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَدَقَة الْفَرْض وَالتَّطَوُّع، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّدَقَة» بِالْأَلِفِ وَاللَّام وَهِيَ تَعُمّ النَّوْعَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ الزَّكَاة. وَفيه اِسْتِعْمَال الْوَرَع؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّمْرَة لَا تَحْرُم بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَال؛ لَكِنَّ الْوَرَعَ تَرْكُهَا.
1782- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيق فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَكُون مِنْ الصَّدَقَة لَأَكَلْتهَا» فيه اِسْتِعْمَال الْوَرَع كَمَا سَبَقَ، وَفيه: أَنَّ التَّمْرَة وَنَحْوهَا مِنْ مُحَقَّرَات الْأَمْوَال لَا يَجِب تَعْرِيفهَا بَلْ يُبَاح أَكْلهَا وَالتَّصَرُّف فيها فِي الْحَال؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَرَكَهَا خَشْيَة أَنْ تَكُون مِنْ الصَّدَقَة لَا لِكَوْنِهَا لُقَطَةً، وَهَذَا الْحُكْم مُتَّفَق عَلَيْهِ، وَعَلَّلَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرهمْ بِأَنَّ صَاحِبَهَا فِي الْعَادَة لَا يَطْلُبُهَا وَلَا يَبْقَى لَهُ فيها مَطْمَعٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب تَرْكِ اسْتِعْمَالِ آلِ النَّبِيِّ عَلَى الصَّدَقَةِ:

1784- قَوْله: (فَانْتَحَاهُ رَبِيعَة بْن الْحَارِث) هُوَ بِالْحَاءِ وَمَعْنَاهُ: عَرَضَ لَهُ وَقَصَدَهُ.
قَوْله: «مَا تَفْعَل هَذَا إِلَّا نَفَاسَةً مِنْك عَلَيْنَا» مَعْنَاهُ حَسَدًا مِنْك لَنَا.
قَوْله: «فَمَا نَفِسْنَا عَلَيْك» هُوَ بِكَسْرِ الْفَاء أَيْ مَا حَسَدْنَاك ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول بِبِلَادِنَا، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ وَالْمَازِرِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ أَهْل الضَّبْط: «تُصَرِّرَانِ» بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الصَّاد وَكَسْر الرَّاء وَبَعْدهَا رَاءٌ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: تَجْمَعَانِهِ فِي صُدُورِكُمَا مِنْ الْكَلَام، وَكُلّ شَيْء جَمَعْته فَقَدْ صَرَرْته، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ: «تُسَرِّرَانِ» بِالسِّينِ مِنْ السِّرّ، أَيْ مَا تَقُولَانِهِ لِي سِرًّا، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض فيه أَرْبَع رِوَايَات هَاتَيْنِ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّالِثَة: «تُصْدِرَانِ» بِإِسْكَانِ الصَّاد وَبَعْدهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ مَعْنَاهُ: مَاذَا تَرْفَعَانِ إِلَيَّ قَالَ: وَهَذِهِ رِوَايَة السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَالرَّابِعَة: «تُصَوِّرَانِ» بِفَتْحِ الصَّاد وَبِوَاوٍ مَكْسُورَةٍ، قَالَ: وَهَكَذَا ضَبَطَهُ الْحُمَيْدِيّ، قَالَ الْقَاضِي: وَرِوَايَتُنَا عَنْ أَكْثَر شُيُوخنَا بِالسِّينِ وَاسْتَبْعَدَ رِوَايَة الدَّال، وَالصَّحِيح مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مُعْظَم نُسَخ بِلَادنَا، وَرَجَّحَهُ أَيْضًا صَاحِب الْمَطَالِع فَقَالَ: الْأَصْوَب: «تُصَرِّرَانِ» بِالصَّادِ وَالرَّاءَيْنِ.
قَوْله: «قَدْ بَلَغْنَا النِّكَاح» أَيْ الْحُلُم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح} قَوْله: «وَجَعَلَتْ زَيْنَب تَلْمَع إِلَيْنَا مِنْ وَرَاء الْحِجَاب» هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَإِسْكَان اللَّام وَكَسْر الْمِيم، وَيَجُوز فَتْح التَّاء وَالْمِيم، يُقَال: أَلْمَعَ وَلَمَعَ إِذَا أَشَارَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِيَدِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِب بْن رَبِيعَة وَالْفَضْل بْن عَبَّاس- وَقَدْ سَأَلَاهُ الْعَمَل عَلَى الصَّدَقَة بِنَصِيبِ الْعَامِل-: «إِنَّ الصَّدَقَة لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ» دَلِيل عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَة سَوَاء كَانَتْ بِسَبَبِ الْعَمَل أَوْ بِسَبَبِ الْفَقْر وَالْمَسْكَنَة وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَسْبَاب الثَّمَانِيَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَجَوَّزَ بَعْض أَصْحَابنَا لِبَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب الْعَمَل عَلَيْهَا بِسَهْمِ الْعَامِل؛ لِأَنَّهُ إِجَارَة، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي رَدِّهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس» تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّة فِي تَحْرِيمهَا عَلَى بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب، وَأَنَّهَا لِكَرَامَتِهِمْ وَتَنْزِيههمْ عَنْ الْأَوْسَاخ، وَمَعْنَى: «أَوْسَاخ النَّاس» أَنَّهَا تَطْهِير لِأَمْوَالِهِمْ وَنُفُوسهمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فَهِيَ كَغَسَّالَةِ الْأَوْسَاخ.
قَوْله: «حَدَّثَنَا هَارُون بْن مَعْرُوف حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب أَخْبَرَنِي يُونُس بْن يَزِيد عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن نَوْفَل الْهَاشِمِيّ أَنَّ عَبْد الْمُطَّلِب بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب أَخْبَرَهُ» هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم مِنْ رِوَايَة يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب، وَسَبَقَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْل هَذِهِ عَنْ جُوَيْرِيَةَ عَنْ مَالِك عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عَبْد اللَّه بْن نَوْفَل، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْأَصْل هُوَ رِوَايَة مَالِك وَنَسَبَهُ فِي رِوَايَة يُونُس إِلَى جَدّه، وَلَا يَمْتَنِع ذَلِكَ، قَالَ النَّسَائِيُّ: وَلَا نَعْلَم أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ مَالِك إِلَّا جُوَيْرِيَةُ بْن أَسْمَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ الْخُمُس» يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مِنْ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ الْخُمُس؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد مِنْ سَهْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمُس.
قَوْله عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (وَقَالَ: أَنَا أَبُو حَسَن الْقَرْم) هُوَ بِتَنْوِينِ (حَسَن) وَأَمَّا (الْقَرْم) فَبِالرَّاءِ مَرْفُوع وَهُوَ السَّيِّد، وَأَصْله فَحْل الْإِبِل، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ الْمُقَدَّم فِي الْمَعْرِفَة بِالْأُمُورِ وَالرَّأْي كَالْفَحْلِ. هَذَا أَصَحّ الْأَوْجُه فِي ضَبْطه، وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي نُسَخ بِلَادنَا.
وَالثَّانِي حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن الْقَوْم بِالْوَاوِ بِإِضَافَةِ (حَسَن) إِلَى الْقَوْم، وَمَعْنَاهُ عَالِم الْقَوْم وَذُو رَأْيهمْ.
وَالثَّالِث حَكَاهُ الْقَاضِي أَيْضًا (أَبُو حَسَن) بِالتَّنْوِينِ و(الْقَوْم) بِالْوَاوِ مَرْفُوع، أَيْ أَنَا مَنْ عَلِمْتُمْ رَأْيَهُ أَيّهَا الْقَوْم. وَهَذَا ضَعِيف، لِأَنَّ حُرُوف النِّدَاء لَا تُحْذَف فِي نِدَاء الْقَوْم وَنَحْوه.
قَوْله: (لَا أَرِيم مَكَانِي) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء أَيْ لَا أُفَارِقهُ.
قَوْله: (وَاَللَّه لَا أَرِيم مَكَانِي حَتَّى يَرْجِع إِلَيْكُمَا اِبْنَاكُمَا بِحَوَرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ) قَوْله (بِحَوَرِ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة أَيْ بِجَوَابِ ذَلِكَ، قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي تَفْسِيره: يُقَال كَلَّمْته فَمَا رَدَّ عَلَيَّ حَوَرًا وَلَا حَوِيرًا، أَيْ جَوَابًا، قَالَ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ الْخَيْبَة، أَيْ يَرْجِعَا بِالْخَيْبَةِ، وَأَصْل (الْحَوَر) الرُّجُوع إِلَى النَّقْص، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْحَدِيث، أَمَّا قَوْله: (اِبْنَاكُمَا) فَهَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (اِبْنَاكُمَا) بِالتَّثْنِيَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول (أَبْنَاؤُكُمَا) بِالْوَاوِ عَلَى الْجَمْع، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَيْضًا قَالَ: وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَقَالَ: وَقَدْ يَصِحّ الثَّانِي عَلَى مَذْهَب مَنْ جَمَعَ الِاثْنَيْنِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُدْعُوَا لِي مَحْمِيَة بْن جُزْء وَهُوَ رَجُل مِنْ بَنِي أَسَد» أَمَّا (مُحْمِيَة) فَبِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مِيمٍ أُخْرَى مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُخَفَّفَةٍ، وَأَمَّا (جُزْء) فَبِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ زَايٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ، هَذَا هُوَ الْأَصَحّ، قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا تَقُولهُ عَامَّة الْحُفَّاظ وَأَهْل الْإِتْقَان وَمُعْظَم الرُّوَاة.
وَقَالَ عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد يُقَال: جُزِي بِكَسْرِ الزَّاي يَعْنِي وَبِالْيَاءِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ فِي بِلَادنَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ عِنْدنَا (جَزّ) مُشَدَّدُ الزَّاي، وَأَمَّا قَوْله: (وَهُوَ رَجُل مِنْ بَنِي أَسَد) فَقَالَ الْقَاضِي: كَذَا وَقَعَ، وَالْمَحْفُوظ أَنَّهُ مِنْ بَنِي زُبَيْد لَا مِنْ بَنِي أَسَد.