فصل: باب صِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْهَا:

قَوْله: (بَاب وُجُوب الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَة بِخُرُوجِ الْمَنِيّ مِنْهَا) فيه: «أَنَّ أُمّ سُلَيْم رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْده عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: يَا رَسُول اللَّه الْمَرْأَة تَرَى مَا يَرَى الرَّجُل فِي الْمَنَام، فَتَرَى مِنْ نَفْسهَا مَا يَرَى الرَّجُل مِنْ نَفْسه؟ فَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: يَا أُمّ سُلَيْمٍ فَضَحْت النِّسَاء، تَرِبَتْ يَمِينك». قَوْلهَا: (تَرِبَتْ يَمِينك خَيْر)، فَقَالَ لِعَائِشَة: «بَلْ أَنْتِ فَتَرِبَت يَمِينك، نَعَمْ. فَلْتَغْتَسِلْ يَا أُمّ سُلَيْمٍ إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ» وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور الرِّوَايَات الْبَاقِيَة، وَسَتَمُرُّ عَلَيْهَا إِنْ شَاء اللَّه تَعَالَى.
اِعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَة إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَنِيّ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْل، كَمَا يَجِب عَلَى الرَّجُل بِخُرُوجِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوب الْغُسْل عَلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَة بِخُرُوجِ الْمَنِيّ أَوْ إِيلَاج الذَّكَر فِي الْفَرْج، وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبه- عَلَيْهَا- بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاس، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبه عَلَى مَنْ وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا أَصْلًا، وَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا وُجُوب الْغُسْل وَكَذَا الْخِلَاف فِيمَا إِذَا أَلْقَتْ مُضْغَة أَوْ عَلَقَة، وَالْأَصَحّ وُجُوب الْغُسْل، وَمَنْ لَا يُوجِب الْغُسْل يُوجِب الْوُضُوء. وَاللَّهُ أَعْلَم.
ثُمَّ إِنَّ مَذْهَبنَا أَنَّهُ يَجِب الْغُسْل بِخُرُوجِ الْمَنِيّ، سَوَاء كَانَ بِشَهْوَةٍ وَدَفْقٍ، أَمْ بِنَظَرٍ أَمْ فِي النَّوْم أَوْ فِي الْيَقَظَة، وَسَوَاء أَحَسَّ بِخُرُوجِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاء خَرَجَ مِنْ الْعَاقِل أَمْ مِنْ الْمَجْنُون، ثُمَّ إِنَّ الْمُرَاد بِخُرُوجِ الْمَنِيّ أَنْ يَخْرُج إِلَى الظَّاهِر، أَمَّا مَا لَمْ يَخْرُج فَلَا يَجِب الْغُسْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرَى النَّائِم أَنَّهُ يُجَامِع، وَأَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظ فَلَا يَرَى شَيْئًا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا لَوْ اِضْطَرَبَ بَدَنُهُ لِمَبَادِئ خُرُوج الْمَنِيّ فَلَمْ يَخْرُج، وَكَذَا لَوْ نَزَلَ الْمَنِيّ إِلَى أَصْل الذَّكَر ثُمَّ لَمْ يَخْرُج فَلَا غُسْلَ، وَكَذَا لَوْ صَارَ الْمَنِيّ فِي وَسَط الذَّكَر وَهُوَ فِي صَلَاة، فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ عَلَى ذَكَرِهِ فَوْق حَائِل فَلَمْ يَخْرُج الْمَنِيّ حَتَّى سَلَّمَ مِنْ صَلَاته، صَحَّتْ صَلَاته، فَإِنَّهُ مَا زَالَ مُتَطَهِّرًا حَتَّى خَرَجَ، وَالْمَرْأَة كَالرَّجُلِ فِي هَذَا، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَنَزَلَ الْمَنِيّ إِلَى فَرْجهَا، وَوَصَلَ الْمَوْضِع الَّذِي يَجِب عَلَيْهَا غَسْلُهُ فِي الْجَنَابَة وَالِاسْتِنْجَاء وَهُوَ الَّذِي يَظْهَر حَال قُعُودهَا لِقَضَاءِ الْحَاجَة- وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْل، بِوُصُولِ الْمَنِيّ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِع، لِأَنَّهُ فِي حُكْم الظَّاهِر، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يَلْزَمْهَا مَا لَمْ يَخْرُج مِنْ فَرْجِهَا لِأَنَّ دَاخِل فَرْجهَا كَدَاخِلِ إِحْلِيل الرَّجُل. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا أَلْفَاظ الْبَاب وَمَعَانِيه:
فَفيه أُمّ سُلَيْمٍ، وَهِيَ أُمّ أَنَس بْن مَالِك، وَاخْتَلَفُوا فِي اِسْمهَا فَقِيلَ: اِسْمهَا سَهْلَة.
وَقِيلَ: مُلَيْكَة.
وَقِيلَ: رَمِيثَة.
وَقِيلَ: أَنِيفَة. وَيُقَال: الرُّمَيْصَا وَالْغُمَيْصَا. وَكَانَتْ مِنْ فَاضِلَات الصَّحَابِيَّات وَمَشْهُورَاتهنَّ، وَهِيَ أُخْت أُمّ حَرَام بِنْت مِلْحَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَم.
468- قَوْلهَا: (فَضَحْت النِّسَاء) مَعْنَاهُ: حَكَيْت عَنْهُنَّ أَمْرًا يُسْتَحَيَا مِنْ وَصْفهنَّ بِهِ وَيَكْتُمْنَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ نُزُول الْمَنِيّ مِنْهُنَّ يَدُلّ عَلَى شِدَّة شَهْوَتهنَّ لِلرِّجَالِ.
وَأَمَّا قَوْلهَا: (تَرِبَتْ يَمِينك) فَفيه خِلَاف كَثِير مُنْتَشِر جِدًّا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَف مِنْ الطَّوَائِف كُلّهَا، وَالْأَصَحّ الْأَقْوَى الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ: أَنَّهَا كَلِمَة أَصْلُهَا اِفْتَقَرَتْ، وَلَكِنَّ الْعَرَب اِعْتَادَتْ اِسْتِعْمَالهَا غَيْر قَاصِدَة حَقِيقَة مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ، فَيَذْكُرُونَ تَرِبَتْ يَدَاك، وَقَاتَلَهُ اللَّه، مَا أَشْجَعه، وَلَا أُمّ لَهُ، وَلَا أَب لَك، وَثَكِلَتْهُ أُمّه، وَوَيْل أُمّه، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ أَلْفَاظهمْ يَقُولُونَهَا عِنْد إِنْكَار الشَّيْء، أَوْ الزَّجْر عَنْهُ، أَوْ الذَّمّ عَلَيْهِ، أَوْ اِسْتِعْظَامه، أَوْ الْحَثّ عَلَيْهِ، أَوْ الْإِعْجَاب بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة: (بَلْ أَنْتِ فَتَرِبَتْ يَمِينك) فَمَعْنَاهُ أَنْتِ أَحَقّ أَنْ يُقَال لَك هَذَا، فَإِنَّهَا فَعَلَتْ مَا يَجِب عَلَيْهَا مِنْ السُّؤَال عَنْ دِينهَا، فَلَمْ تَسْتَحِقّ الْإِنْكَار، وَاسْتَحْقَقْت أَنْتِ الْإِنْكَار، لِإِنْكَارِك مَا لَا إِنْكَار فيه.
وَأَمَّا قَوْلهَا: (تَرِبَتْ يَمِينك خَيْر)، فَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول، وَهُوَ تَفْسِير وَلَمْ يَقَع هَذَا التَّفْسِير فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الِاخْتِلَاف فِي إِثْبَاته، وَحَذْفِهِ الْقَاضِي عِيَاض، ثُمَّ اِخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ فِي ضَبْطِهِ فَنَقَلَ صَاحِب الْمَطَالِع وَغَيْره عَنْ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ (خَيْر) بِإِسْكَانِ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت ضِدّ الشَّرّ، وَعَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ (خَبَر) بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهَذَا الثَّانِي لَيْسَ بِشَيْءٍ، قُلْت: كِلَاهُمَا صَحِيح فَالْأَوَّل: مَعْنَاهُ لَمْ تُرِدْ بِهَذَا شَتْمًا، وَلَكِنَّهَا كَلِمَة تَجْرِي عَلَى اللِّسَان. وَمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدُعَاءٍ، بَلْ هُوَ خَبَر لَا يُرَاد حَقِيقَته. وَاللَّهُ أَعْلَم.
469- قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن الْوَلِيد. حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ) هُوَ عَبَّاس بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالسِّين الْمُهْمَلَة، وَصَحَّفَهُ بَعْض الرُّوَاة لِكِتَابِ مُسْلِم فَقَالَ: (عَيَّاش)- بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة وَالشِّين الْمُعْجَمَة- وَهُوَ غَلَط صَرِيح فَإِنَّ (عَيَّاشًا)- بِالْمُعْجَمَةِ- هُوَ عَيَّاش بْن الْوَلِيد الرَّقَّام الْبَصْرِيّ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مُسْلِم شَيْئًا، وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيّ.
وَأَمَّا (عَبَّاس)- بِالْمُهْمَلَةِ- فَهُوَ اِبْن الْوَلِيد الْبَصْرِيّ التُّرْسِيّ وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم جَمِيعًا، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَاف فيه، وَكَانَ غَلَط هَذَا الْقَائِل وَقَعَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا مُشْتَرَكَانِ فِي الْأَب وَالنَّسَب وَالْعَصْر. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (فَقَالَتْ أُمّ سُلَيْمٍ وَاسْتَحْيَيْت مِنْ ذَلِكَ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول، وَذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ أَنَّهُ هَكَذَا فِي أَكْثَر النُّسَخِ، وَأَنَّهُ غَيَّرَ فِي بَعْض النُّسَخ فَجَعَلَ (فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَة)، وَالْمَحْفُوظ مِنْ طُرُق شَتَّى أُمّ سَلَمَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّ السَّائِلَة هِيَ (أُمّ سُلَيْم)، وَالرَّادَّة عَلَيْهَا (أُمّ سَلَمَة) فِي هَذَا الْحَدِيث، وَعَائِشَة فِي الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم، وَيَحْتَمِل أَنَّ عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة جَمِيعًا أَنْكَرَتَا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَهْل الْحَدِيث يَقُولُونَ: الصَّحِيح هُنَا أُمّ سَلَمَة لَا عَائِشَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمِنْ أَيْنَ يَكُون الشَّبَه» مَعْنَاهُ: أَنَّ الْوَلَد مُتَوَلِّد مِنْ مَاء الرَّجُل وَمَاء الْمَرْأَة، فَأَيّهمَا غَلَبَ كَانَ الشَّبَه لَهُ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ مَنِيّ فَإِنْزَاله وَخُرُوجه مِنْهَا مُمْكِن، وَيُقَال: شِبْه وَشَبَه لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِكَسْرِ الشِّين وَإِسْكَان الْبَاء، وَالثَّانِيَة: بِفَتْحِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَاء الرَّجُل غَلِيظ أَبْيَض وَمَاء الْمَرْأَة رَقِيق أَصْفَر» هَذَا أَصْل عَظِيم فِي: بَيَان صِفَة الْمَنِيّ، وَهَذِهِ صِفَته فِي حَال السَّلَامَة وَفِي الْغَالِب، قَالَ الْعُلَمَاء: مَنِيّ الرَّجُل فِي حَال الصِّحَّة أَبْيَض ثَخِين، يَتَدَفَّق فِي خُرُوجه دَفْقَة بَعْد دَفْقَة، وَيَخْرُج بِشَهْوَةٍ وَبِتَلَذُّذٍ بِخُرُوجِهِ، وَإِذَا خَرَجَ اِسْتَعْقَبَ خُرُوجه فُتُورًا وَرَائِحَة كَرَائِحَةِ طَلْعِ النَّخْل، وَرَائِحَة الطَّلْع قَرِيبَة مِنْ رَائِحَة الْعَجِين، وَقِيلَ: تُشْبِه رَائِحَته رَائِحَة الْفَصِيل، وَقِيلَ: إِذَا يَبِسَ كَانَتْ رَائِحَته كَرَائِحَةِ الْبَوْل، فَهَذِهِ صِفَاته، وَقَدْ يُفَارِقهُ بَعْضهَا مَعَ بَقَاء مَا يَسْتَقِلّ بِكَوْنِهِ مَنِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْرَض فَيَصِير مَنِيّه رَقِيقًا أَصْفَر، أَوْ يَسْتَرْخِي وِعَاء الْمَنِيّ، فَيَسِيل مِنْ غَيْر اِلْتِذَاذ وَشَهْوَة، أَوْ يَسْتَكْثِر مِنْ الْجِمَاع؛ فَيَحْمَرّ وَيَصِير كَمَاءِ اللَّحْم، وَرُبَّمَا خَرَجَ دَمًا عَبِيطًا، وَإِذَا خَرَجَ الْمَنِيّ أَحْمَر فَهُوَ طَاهِر مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَبْيَض، ثُمَّ إِنَّ خَوَاصّ الْمَنِيّ الَّتِي عَلَيْهَا الِاعْتِمَاد فِي كَوْنه مَنِيًّا ثَلَاث: أَحَدهَا: الْخُرُوج بِشَهْوَةٍ مَعَ الْفُتُور عَقِبه. وَالثَّانِيَة: الرَّائِحَة الَّتِي شِبْه رَائِحَة الطَّلْع كَمَا سَبَقَ، الثَّالِث: الْخُرُوج بِزُرَيْقٍ وَدَفْقٍ وَدُفُعَاتٍ. وَكُلّ وَاحِدَة مِنْ هَذِهِ الثَّلَاث كَافِيَة فِي إِثْبَات كَوْنه مَنِيًّا، وَلَا يُشْتَرَط اِجْتِمَاعهَا فيه، وَإِذَا لَمْ يُوجَد شَيْء مِنْهَا لَمْ يُحْكَم بِكَوْنِهِ مَنِيًّا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنّ كَوْنه لَيْسَ مَنِيًّا، هَذَا كُلّه فِي مَنِيّ الرَّجُل.
وَأَمَّا مَنِيّ الْمَرْأَة فَهُوَ أَصْفَر رَقِيق، وَقَدْ يَبْيَضّ لِفَضْلِ قُوَّتِهَا، وَلَهُ خَاصِّيَّتَانِ يُعْرَف بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ رَائِحَته كَرَائِحَةِ مَنِيّ الرَّجُل. وَالثَّانِيَة التَّلَذُّذ بِخُرُوجِهِ وَفُتُور شَهْوَتهَا عَقِب خُرُوجه. قَالُوا: وَيَجِب الْغُسْل بِخُرُوجِ الْمَنِيّ بِأَيِّ صِفَة وَحَال كَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُون مِنْهُ الشَّبَه»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاء الرَّجُل وَإِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاءَهَا» قَالَ الْعُلَمَاء: يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْعُلُوِّ هُنَا السَّبْقُ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد الْكَثْرَة وَالْقُوَّة، بِحَسَبِ كَثْرَة الشَّهْوَة، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمِنْ أَيّهمَا عَلَا» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول. فَمِنْ أَيّهمَا بِكَسْرِ الْمِيم. وَبَعْدهَا نُون سَاكِنَة، وَهِيَ الْحَرْف الْمَعْرُوف، وَإِنَّمَا ضَبَطْته لِئَلَّا يُصَحَّف بِمَنِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَم.
470- قَوْله: (حَدَّثَنَا دَاوُدَ بْن رُشَيْد) هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَفَتْح الشِّين.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا يَكُون مِنْ الرَّجُل فَلْتَغْتَسِلْ» مَعْنَاهُ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْمَنِيّ؛ فَلْتَغْتَسِلْ، كَمَا أَنَّ الرَّجُل إِذَا خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيّ اِغْتَسَلَ، وَهَذَا مِنْ حُسْن الْعِشْرَة وَلُطْف الْخِطَاب، وَاسْتِعْمَال اللَّفْظ الْجَمِيل مَوْضِع اللَّفْظ الَّذِي يُسْتَحَيَا مِنْهُ فِي الْعَادَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
471- قَوْلهَا: (إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقّ) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ لَا يَمْتَنِع مِنْ بَيَان الْحَقّ، وَضَرَبَ الْمَثَل بِالْبَعُوضَةِ وَشَبَهِهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا} فَكَذَا أَنَا لَا أَمْتَنِع مِنْ سُؤَالِي عَمَّا أَنَا مُحْتَاجَة إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّه لَا يَأْمُر بِالْحَيَاءِ فِي الْحَقّ وَلَا يُبِيحهُ، وَإِنَّمَا قَالَتْ هَذَا اِعْتِذَارًا بَيْن يَدَيْ سُؤَالهَا عَمَّا دَعَتْ الْحَاجَة إِلَيْهِ: مِمَّا تَسْتَحْيِي النِّسَاء- فِي الْعَادَة - مِنْ السُّؤَال عَنْهُ، وَذِكْره بِحَضْرَةِ الرِّجَال، فَفيه: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مَسْأَلَة أَنْ يَسْأَل عَنْهَا، وَلَا يَمْتَنِع مِنْ السُّؤَال حَيَاء مِنْ ذِكْرِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقِيّ لِأَنَّ الْحَيَاء خَيْر كُلّه، وَالْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، وَالْإِمْسَاك عَنْ السُّؤَال فِي هَذِهِ الْحَال لَيْسَ بِخَيْرٍ، بَلْ هُوَ شَرٌّ. فَكَيْف يَكُون حَيَاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاح هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَائِل كِتَاب الْإِيمَان وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: نِعْمَ النِّسَاء نِسَاء الْأَنْصَار، لَمْ يَمْنَعهُنَّ الْحَيَاء أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّين. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة: يُقَال: (اِسْتَحْيَا) بِيَاءٍ قَبْل الْأَلْف يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ، وَيُقَال أَيْضًا: يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَة فِي الْمُضَارِع. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (قَالَتْ عَائِشَة: فَقُلْت لَهَا أُفّ لَك) مَعْنَاهُ: اِسْتِحْقَارًا لَهَا وَلِمَا تَكَلَّمَتْ بِهِ، وَهِيَ كَلِمَة تُسْتَعْمَل فِي الِاحْتِقَار وَالِاسْتِقْذَار وَالْإِنْكَار، قَالَ الْبَاجِيّ: وَالْمُرَاد بِهَا هُنَا الْإِنْكَار، وَأَصْل الْأُفّ: وَسَخ الْأَظْفَار. وَفِي أُفّ عَشْر لُغَات: أُفِّ وَأُفَّ وَأُفُّ بِضَمِّ الْهَمْزَة مَعَ كَسْر الْفَاء، وَفَتْحهَا، وَضَمّهَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَبِالتَّنْوِينِ؛ فَهَذِهِ السِّتَّة. وَالسَّابِعَة: إِفَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَفَتْح الْفَاء. وَالثَّامِنَة: أُفْ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْفَاء. وَالتَّاسِعَة: أُفِّي بِضَمِّ الْهَمْزَة وَبِالْيَاءِ. وَأُفِّه بِالْهَاءِ، وَهَذِهِ اللُّغَات مَشْهُورَات، ذَكَرهنَّ كُلّهنَّ اِبْن الْأَنْبَارِيّ، وَجَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء، وَدَلَائِلهَا مَشْهُورَة، وَمِنْ أَخْصَرِهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاج وَابْن الْأَنْبَارِيّ، وَاخْتَصَرَهُ أَبُو الْبَقَاء، فَقَالَ: مَنْ كَسَرَ بَنَاهُ عَلَى الْأَصْل، وَمَنْ فَتَحَ طَلَبَ التَّخْفِيف، وَمَنْ ضَمّ أَتْبَعَ، وَمَنْ نَوَّنَ أَرَادَ التَّنْكِير، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّن أَرَادَ التَّعْرِيف، وَمَنْ خَفَّفَ الْفَاء حَذَفَ أَحَد الْمِثْلَيْنِ تَخْفِيفًا، وَقَالَ الْأَخْفَش وَابْن الْأَنْبَارِيّ: فِي اللُّغَة التَّاسِعَة بِالْيَاءِ، كَأَنَّهُ إِضَافَة إِلَى نَفْسه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
472- قَوْله: (عَنْ مُسَافِع بْن عَبْد اللَّه) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِكَسْرِ الْفَاء.
قَوْلهَا: (تَرِبَتْ يَدَاك وَأُلَّتْ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَفَتْح اللَّام الْمُشَدَّدَة وَإِسْكَان التَّاء، هَكَذَا الرِّوَايَة فيه، وَمَعْنَاهُ أَصَابَتْهَا الْأَلَّة- بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد اللَّام- وَهِيَ الْحَرْبَة، وَأَنْكَرَ بَعْض الْأَئِمَّة هَذَا اللَّفْظ وَزَعَمَ أَنَّ صَوَابه أَلِلْت، بِلَامَيْنِ الْأُولَى مَكْسُورَة وَالثَّانِيَة سَاكِنَة، وَبِكَسْرِ التَّاء، وَهَذَا الْإِنْكَار فَاسِد، بَلْ مَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَة صَحِيح، وَأَصْله (أَلِلَت) بِكَسْرِ اللَّام الْأُولَى وَفَتْح الثَّانِيَة وَإِسْكَان التَّاء (كَرَدّت) أَصْله (رَدَدْت)، وَلَا يَجُوز فَكَّ هَذَا الْإِدْغَام إِلَّا مَعَ الْمُخَاطَب، وَإِنَّمَا وَحَّدَ (أُلَّتْ) مَعَ تَثْنِيَة يَدَاك لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْس.
وَالثَّانِي: صَاحِبَة الْيَدَيْنِ أَيْ وَأَصَابَتْك الْأَلَّة، فَيَكُون جَمْعًا بَيْن دُعَاءَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب بَيَانِ صِفَةِ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِمَا:

473- حَدِيث ثَوْبَانِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قِصَّة الْحَبْر الْيَهُودِيّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَاب الَّذِي قَبْله بَيَان صِفَة الْمَنِيّ.
وَأَمَّا (الْحَبْر): فَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، هُوَ الْعَالِم.
قَوْله: (حَدَّثَنِي أَبُو أَسْمَاء الرَّحَبِيّ) - هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَالْحَاء- وَاسْمه عَمْرو بْن مَرْثَد الشَّامِيّ الدِّمَشْقِيّ.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان بْن زَيْد: كَانَ أَبُو أَسْمَاء الرَّحْبِيّ مِنْ رَحْبَة دِمَشْق، قَرْيَة مِنْ قُرَاهَا بَيْنهَا وَبَيْن دِمَشْق مِيل، رَأَيْتهَا عَامِرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (فَنَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُود) هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَالْكَاف وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق، وَمَعْنَاهُ: يَخُطّ بِالْعُودِ فِي الْأَرْض، وَيُؤَثِّر بِهِ فيها، وَهَذَا يَفْعَلهُ الْمُفَكِّر، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز فِعْل مِثْل هَذَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخِلًّا بِالْمُرُوءَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ فِي الظُّلْمَة دُون الْجِسْر» هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا الصِّرَاط.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ أَوَّل النَّاس إِجَازَة» هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَبِالزَّايِ وَمَعْنَاهُ: جَوَازًا وَعُبُورًا. قَوْله: «فَمَا تُحْفَتُهُمْ» هِيَ بِإِسْكَانِ الْحَاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ، وَهِيَ مَا يُهْدَى إِلَى الرَّجُل وَيُخَصّ بِهِ وَيُلَاطَف، وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَلَبِيّ: هِيَ طَرَف الْفَاكِهَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زِيَادَة كَبِدِ النُّونِ» هُوَ النُّون بِنُونَيْنِ، الْأُولَى مَضْمُومَة، وَهُوَ الْحُوت. وَجَمْعُهُ نِينَان، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «زَائِدَة كَبِد النُّون» وَالزِّيَادَة وَالزَّائِدَة شَيْء وَاحِد، وَهُوَ طَرَف الْكَبِد وَهُوَ أَطْيَبهَا.
قَوْله: «فَمَا غِذَاؤُهُمْ» رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: بِكَسْرِ الْغَيْن وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَالثَّانِي: بِفَتْحِ الْغَيْن وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ: وَالْأَوَّل لَيْسَ بِشَيْءٍ، قُلْت: وَلَهُ وَجْه، وَتَقْدِيره: مَا غِذَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت؟ وَلَيْسَ الْمُرَاد وَالسُّؤَال عَنْ غِذَائِهِمْ دَائِمًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (عَلَى إِثْرهَا) بِكَسْرِ الْهَمْزَة مَعَ إِسْكَان الثَّاء وَبِفَتْحِهِمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ عَيْنٍ فيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا»، قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْمُفَسِّرِينَ: السَّلْسَبِيل اِسْم لِلْعَيْنِ.
وَقَالَ مُجَاهِد وَغَيْره: هِيَ شَدِيدَة الْجَرْي.
وَقِيلَ: هِيَ السِّلْسِلَة اللَّيِّنَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّه وَآنَثَا بِإِذْنِ اللَّه» مَعْنَى الْأَوَّل: كَانَ الْوَلَد ذَكَرًا. وَمَعْنَى الثَّانِي: كَانَ أُنْثَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آنَثَا» بِالْمَدِّ فِي أَوَّله وَتَخْفِيف النُّون، وَقَدْ رُوِيَ بِالْقَصْرِ وَتَشْدِيد النُّون. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب صِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ:

قَوْله: (بَاب صِفَة غُسْلِ الْجَنَابَة) قَالَ أَصْحَابنَا: كَمَالُ غُسْلِ الْجَنَابَة أَنْ يَبْدَأ الْمُغْتَسِل فَيَغْسِل كَفيه ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالهمَا فِي الْإِنَاء، ثُمَّ يَغْسِل مَا عَلَى فَرْجه وَسَائِر بَدَنه مِنْ الْأَذَى، ثُمَّ يَتَوَضَّأ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ بِكَمَالِهِ، ثُمَّ يُدْخِل أَصَابِعه كُلّهَا فِي الْمَاء، فَيَغْرِف غُرْفَة يُخَلِّل بِهَا أُصُول شَعْره مِنْ رَأْسه وَلِحْيَته، ثُمَّ يَحْثِي عَلَى رَأْسه ثَلَاث حَثَيَات، وَيَتَعَاهَد مَعَاطِف بَدَنه، كَالْإِبْطَيْنِ وَدَاخِل الْأُذُنَيْنِ وَالسُّرَّة، وَمَا بَيْن الْأَلْيَتَيْنِ وَأَصَابِع الرِّجْلَيْنِ، وَعُكَن الْبَطْن، وَغَيْر ذَلِكَ، فَيُوَصِّل الْمَاء إِلَى جَمِيع ذَلِكَ، ثُمَّ يُفِيض عَلَى رَأْسه ثَلَاث حَثَيَات، ثُمَّ يُفِيض الْمَاء عَلَى جَسَده ثَلَاث مَرَّات، يُدَلِّك فِي كُلّ مَرَّة مَا تَصِل إِلَيْهِ يَدَاهُ مِنْ بَدَنه، وَإِنْ كَانَ يَغْتَسِل فِي نَهَرٍ أَوْ بِرْكَةٍ اِنْغَمَسَ فيها ثَلَاث مَرَّات، وَيُوصِل الْمَاء إِلَى جَمِيع بَشَرَتِهِ، وَالشُّعُور الْكَثِيفَة وَالْخَفِيفَة، وَيَعُمّ بِالْغُسْلِ ظَاهِر الشَّعْر وَبَاطِنه وَأُصُول مَنَابِته، وَالْمُسْتَحَبّ أَنْ يَبْدَأ بِمَيَامِنِهِ وَأَعَالِي بَدَنه، وَأَنْ يَكُون مُسْتَقْبِل الْقِبْلَة، وَأَنْ يَقُول بَعْد الْفَرَاغ: أَشْهَد أَنْ أَلَّا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ، وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله، وَيَنْوِي الْغُسْل مِنْ أَوَّل شُرُوعه فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَسْتَصْحِب النِّيَّة إِلَى أَنْ يَفْرُغ مِنْ غَسْلِهِ، فَهَذَا كَمَال الْغُسْل، وَالْوَاجِب مِنْ هَذَا كُلّه النِّيَّة فِي أَوَّل مُلَاقَاة أَوَّل جُزْء مِنْ الْبَدَن لِلْمَاءِ، وَتَعْمِيم الْبَدَن شَعْره وَبَشَره بِالْمَاءِ، وَمِنْ شَرْطه أَنْ يَكُون الْبَدَن طَاهِرًا مِنْ النَّجَاسَة، وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ سُنَّة. وَيَنْبَغِي لِمَنْ اِغْتَسَلَ مِنْ إِنَاء كَالْإِبْرِيقِ وَنَحْوه أَنْ يَتَفَطَّن لِدَقِيقَةِ قَدْ يَغْفُل عَنْهَا، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا اِسْتَنْجَى وَطَهَّرَ مَحَلّ الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِل مَحَلّ الِاسْتِنْجَاء بَعْد ذَلِكَ بِنِيَّةِ غُسْل الْجَنَابَة؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْسِلهُ الْآن رُبَّمَا غَفَلَ عَنْهُ بَعْد ذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحّ غَسْله لِتَرْكِ ذَلِكَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ اِحْتَاجَ إِلَى مَسّ فَرْجِهِ؛ فَيَنْتَقِض وُضُوءُهُ، أَوْ يَحْتَاج إِلَى كُلْفَة فِي لَفِّ خِرْقَة عَلَى يَده. وَاللَّهُ أَعْلَم.
هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب كَثِيرِينَ مِنْ الْأَئِمَّة وَلَمْ يُوجِب أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء الدَّلْك، فِي الْغُسْل وَلَا فِي الْوُضُوء إِلَّا مَالِك وَالْمُزَنِيّ، وَمَنْ سِوَاهُمَا يَقُول: هُوَ سُنَّة، لَوْ تَرَكَهُ صَحَّتْ طَهَارَته فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل، وَلَمْ يُوجِب أَيْضًا الْوُضُوء فِي غُسْل الْجَنَابَة إِلَّا دَاوُدَ الظَّاهِرِيّ، وَمَنْ سِوَاهُ يَقُولُونَ: هُوَ سُنَّة، فَلَوْ أَفَاضَ الْمَاء عَلَى جَمِيع بَدَنه مِنْ غَيْر وُضُوء صَحَّ غُسْلُهُ، وَاسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاة وَغَيْرهَا، وَلَكِنَّ الْأَفْضَل أَنْ يَتَوَضَّأ كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَحْصُل الْفَضِيلَة بِالْوُضُوءِ قَبْل الْغُسْل أَوْ بَعْده، وَإِذَا تَوَضَّأَ أَوَّلًا لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبّ وُضُوءَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
فَهَذَا مُخْتَصَر مَا يَتَعَلَّق بِصِفَةِ الْغُسْل. وَأَحَادِيث الْبَاب تَدُلّ عَلَى مُعْظَم مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا بَقِيَ فَلَهُ دَلَائِل مَشْهُورَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَات عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْل إِفَاضَة الْمَاء عَلَيْهِ، فَظَاهِر هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ الْوُضُوء بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي أَكْثَر رِوَايَات مَيْمُونَة، تَوَضَّأَ ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاء عَلَيْهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مِنْ حَدِيثهَا، رَوَاهَا الْبُخَارِيّ: تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْر قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاء عَلَيْهِ، ثُمَّ نَحَّى قَدَمَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، وَهَذَا تَصْرِيح بِتَأْخِيرِ الْقَدَمَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَوْلَانِ: أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهمَا وَالْمُخْتَار مِنْهُمَا: أَنَّهُ يُكْمِل وُضُوءَهُ بِغَسْلِ الْقَدَمَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُؤَخِّر غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ، فَعَلَى الْقَوْل الضَّعِيف يَتَأَوَّل رِوَايَات عَائِشَة وَأَكْثَر رِوَايَات مَيْمُونَة عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِوُضُوءِ الصَّلَاة أَكْثَره، وَهُوَ مَا سِوَى الرِّجْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَتْهُ مَيْمُونَة فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ فَهَذِهِ الرِّوَايَة صَرِيحَة، وَتِلْكَ الرِّوَايَة مُحْتَمِلَة لِلتَّأْوِيلِ، فَيُجْمَع بَيْنهمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا عَلَى الْمَشْهُور الصَّحِيح، فَيُعْمَل بِظَاهِرِ الرِّوَايَات الْمَشْهُورَة الْمُسْتَفِيضَة عَنْ عَائِشَة وَمَيْمُونَة جَمِيعًا فِي تَقْدِيم وُضُوء الصَّلَاة، فَإِنَّ ظَاهَرَهُ كَمَالُ الْوُضُوء، فَهَذَا كَانَ الْغَالِب وَالْعَادَة الْمَعْرُوفَة لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُعِيد غَسْل الْقَدَمَيْنِ بَعْد الْفَرَاغ لِإِزَالَةِ الطِّين لَا لِأَجْلِ الْجَنَابَة، فَتَكُون الرِّجْل مَغْسُولَة مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْمَل الْأَفْضَل، فَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاظِب عَلَيْهِ.
وَأَمَّا رِوَايَة الْبُخَارِيّ عَنْ مَيْمُونَة فَجَرَى ذَلِكَ مَرَّة أَوْ نَحْوهَا بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَرَّة مَرَّة، فَكَانَ الثَّلَاث فِي مُعْظَم الْأَوْقَات لِكَوْنِهِ الْأَفْضَل، وَالْمَرَّة فِي نَادِر مِنْ الْأَوْقَات لِبَيَانِ الْجَوَاز. وَنَظَائِر هَذَا كَثِيرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا نِيَّة هَذَا الْوُضُوء فَيَنْوِي بِهِ رَفْعَ الْحَدَث الْأَصْغَر، إِلَّا أَنْ يَكُون جُنُبًا غَيْر مُحْدِث، فَإِنَّهُ يَنْوِي بِهِ سُنَّة الْغُسْل. وَاللَّهُ أَعْلَم.
474- قَوْله: (فَيُدْخِل أَصَابِعه فِي أُصُول الشَّعْر) إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُلَيِّن الشَّعْر وَيُرَطِّبهُ؛ فَيَسْهُل مُرُور الْمَاء عَلَيْهِ.
قَوْله: «حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ اِسْتَبْرَأَ حَفَنَ عَلَى رَأْسه حَفَنَات» مَعْنَى: «اِسْتَبْرَأَ» أَيْ أَوْصَلَ الْبَلَل إِلَى جَمِيعه. وَمَعْنَى (حَفَنَ) أَخَذَ الْمَاء بِيَدَيْهِ جَمِيعًا.
476- قَوْلهَا: «أَدْنَيْت لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْله مِنْ الْجَنَابَة» هُوَ بِضَمِّ الْغَيْن، وَهُوَ الْمَاء الَّذِي يُغْتَسَل بِهِ.
قَوْلهَا: (ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْض فَدَلَكَهَا دَلْكًا شَدِيدًا) فيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَلْمُسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إِذَا فَرَغَ أَنْ يَغْسِل يَده بِتُرَابٍ أَوْ أُشْنَان أَوْ يَدْلُكهَا بِالتُّرَابِ أَوْ بِالْحَائِطِ، لِيَذْهَب الِاسْتِقْذَار مِنْهَا.
قَوْلهَا (ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسه ثَلَاث حَفَنَات مِلْء كَفّه) هَكَذَا هُوَ فِي الْأَصْل الَّتِي بِبِلَادِنَا (كَفّه) بِلَفْظِ الْإِفْرَاد، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيِّ (كَفيه) بِالتَّثْنِيَةِ، وَهِيَ مُفَسِّرَة لِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ، (وَالْحَفْنَة) مِلْء الْكَفَّيْنِ جَمِيعًا.
قَوْلهَا: (ثُمَّ أَتَيْته بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ) فيه اِسْتِحْبَاب تَرْكِ تَنْشِيف الْأَعْضَاء، وَقَدْ اِخْتَلَفَ عُلَمَاء أَصْحَابنَا فِي تَنْشِيف الْأَعْضَاء فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل عَلَى خَمْسَة أَوْجُه: أَشْهَرهَا: أَنَّ الْمُسْتَحَبّ تَرْكُهُ، وَلَا يُقَال: فِعْلُهُ مَكْرُوه. وَالثَّانِي أَنَّهُ مَكْرُوه.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ مُبَاح، يَسْتَوِي فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَخْتَارهُ، فَإِنَّ الْمَنْع وَالِاسْتِحْبَاب يَحْتَاج إِلَى دَلِيل ظَاهِر.
وَالرَّابِع: أَنَّهُ مُسْتَحَبّ؛ لِمَا فيه مِنْ الِاحْتِرَاز عَنْ الْأَوْسَاخ.
وَالْخَامِس: يُكْرَه فِي الصَّيْف دُون الشِّتَاء.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابنَا، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ فِي التَّنْشِيف عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب: أَحَدهَا: أَنَّهُ لَا بَأْس بِهِ فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل، وَهُوَ قَوْل أَنَس بْن مَالِك وَالثَّوْرِيِّ.
وَالثَّانِي: مَكْرُوه فيهمَا، وَهُوَ قَوْل اِبْن عُمَر وَابْن أَبِي لَيْلَى.
وَالثَّالِث: يُكْرَه فِي الْوُضُوء دُون الْغُسْل، وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَقَدْ جَاءَ فِي تَرْكِ التَّنْشِيف هَذَا الْحَدِيث وَالْحَدِيث الْآخَر فِي الصَّحِيح: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِغْتَسَلَ وَخَرَجَ وَرَأْسه يَقْطُر مَاء، وَأَمَّا فِعْلُ التَّنْشِيف، فَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ أَوْجُهٍ، لَكِنَّ أَسَانِيدهَا ضَعِيفَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا يَصِحّ فِي هَذَا الْبَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْء، وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض الْعُلَمَاء عَلَى إِبَاحَة التَّنْشِيف، بِقَوْلِ مَيْمُونَة فِي هَذَا الْحَدِيث: وَجَعَلَ يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا، يَعْنِي يَنْفُضهُ.
قَالَ: فَإِذَا كَانَ النَّفْض مُبَاحًا، كَانَ التَّنْشِيف مِثْله، أَوْ أَوْلَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إِزَالَة الْمَاء. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا (الْمِنْدِيل) فَبِكَسْرِ الْمِيم وَهُوَ مَعْرُوف، وَقَالَ اِبْن فَارِس: لَعَلَّهُ مَأْخُوذ مِنْ النَّدْلِ وَهُوَ النَّقْل، وَقَالَ غَيْره: هُوَ مَأْخُوذ مِنْ النَّدْل، وَهُوَ الْوَسَخ؛ لِأَنَّهُ يُنْدَلُ بِهِ، وَيُقَال: تَنَدَّلْت بِالْمِنْدِيلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَيُقَال أَيْضًا: تَمَنْدَلْت بِهِ، وَأَنْكَرَهَا الْكِسَائِيّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
477- قَوْلهَا: (وَجَعَلَ يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا يَعْنِي يَنْفُضهُ) فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ نَفْضَ الْيَد- بَعْد الْوُضُوء وَالْغُسْل- لَا بَأْس بِهِ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فيه عَلَى أَوْجُهٍ أَشْهَرهَا: أَنَّ الْمُسْتَحَبّ تَرْكُهُ، وَلَا يُقَال: أَنَّهُ مَكْرُوه.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَكْرُوه.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ مُبَاح، يَسْتَوِي فِعْله وَتَرْكه، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَر الْمُخْتَار، فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح فِي الْإِبَاحَة، وَلَمْ يَثْبُت فِي النَّهْي شَيْء أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
478- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى الْعَنَزِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالنُّون وَبِالزَّايِ.
قَوْلهَا: (دَعَا بِشَيْءٍ نَحْو الْحِلَاب) - هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء وَتَخْفِيف اللَّام وَآخِره بَاءَ مُوَحَّدَة- وَهُوَ إِنَاء يُحْلَب فيه، وَيُقَال لَهُ: الْمِحْلَب، أَيْضًا بِكَسْرِ الْمِيم.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ إِنَاء يَسَع قَدْر حَلْبَةِ نَاقَة، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور الصَّحِيح الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَة. وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ عَنْ الْأَزْهَرِيّ أَنَّهُ (الْجُلَّاب) بِضَمِّ الْجِيم وَتَشْدِيد اللَّام، قَالَ الْأَزْهَرِيّ: وَأَرَادَ بِهِ مَاء الْوَرْدِ، وَهُوَ فَارِسِيّ مُعَرَّب، وَأَنْكَرَ الْهَرَوِيُّ هَذَا، وَقَالَ: أَرَاهُ الْحِلَاب، وَذَكَرَ نَحْو مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ الْمَاءِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَغُسْلِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ:

أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَاء الَّذِي يُجْزِئ فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل غَيْر مُقَدَّر، بَلْ يَكْفِي فيه الْقَلِيل وَالْكَثِير إِذَا وُجِدَ شَرْط الْغُسْل وَهُوَ جَرَيَان الْمَاء عَلَى الْأَعْضَاء.
قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَقَدْ يَرْفُق بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي، وَيَخْرُق بِالْكَثِيرِ فَلَا يَكْفِي.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْمُسْتَحَبّ أَلَّا يَنْقُص فِي الْغُسْل عَنْ صَاع، وَلَا فِي الْوُضُوء عَنْ مَدّ. وَالصَّاع خَمْسَة أَرْطَال وَثُلُث بِالْبَغْدَادِيِّ، وَالْمُدّ رِطْل وَثُلُث. ذَلِكَ مُعْتَبَر عَلَى التَّقْرِيب لَا عَلَى التَّحْدِيد، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور. وَذَكَرَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّ الصَّاع هُنَا ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَالْمُدّ رِطْلَانِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى النَّهْي عَنْ الْإِسْرَاف فِي الْمَاء وَلَوْ كَانَ عَلَى شَاطِئ الْبَحْر، وَالْأَظْهَر أَنَّهُ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: الْإِسْرَاف حَرَام. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا تَطْهِير الرَّجُل وَالْمَرْأَة مِنْ إِنَاء وَاحِد فَهُوَ جَائِز بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي فِي الْبَاب.
وَأَمَّا تَطْهِير الرَّجُل لِفَضْلِهَا فَهُوَ جَائِز عِنْدنَا وَعِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، سَوَاء خَلَتْ بِهِ أَوْ لَمْ تَخْلُ.
قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: وَلَا كَرَاهَة فِي ذَلِكَ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْوَارِدَة بِهِ. وَذَهَبَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهَا إِذَا خَلَتْ بِالْمَاءِ وَاسْتَعْمَلَتْهُ لَا يَجُوز لِلرَّجُلِ اِسْتِعْمَال فَضْلهَا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَرْجِس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى كَمَذْهَبِنَا، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب كَرَاهَة فَضْلهَا مُطْلَقًا. وَالْمُخْتَار مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي تَطْهِيره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَزْوَاجه. وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يَسْتَعْمِل فَضْلَ صَاحِبه. وَلَا تَأْثِير لِلْخَلْوَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الْآخَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِغْتَسَلَ بِفَضْلِ بَعْض أَزْوَاجه. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَصْحَاب السُّنَن.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ وَهُوَ حَدِيث الْحَكَم بْن عَمْرو فَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدهَا أَنَّهُ ضَعِيف، ضَعَّفَهُ أَئِمَّة الْحَدِيث مِنْهُمْ الْبُخَارِيّ وَغَيْره، الثَّانِي أَنَّ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ فَضْل أَعْضَائِهَا وَهُوَ الْمُتَسَاقِط مِنْهَا، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَل، الثَّالِث أَنَّ النَّهْي لِلِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَل. وَاللَّهُ أَعْلَم.
479- قَوْله: (الْفَرَقُ) قَالَ سُفْيَان: هُوَ ثَلَاثَة آصُع. أَمَّا كَوْنه ثَلَاثَة آصُع فَكَذَا قَالَهُ الْجَمَاهِير. وَهُوَ بِفَتْحِ الْفَاء وَفَتْح الرَّاء وَإِسْكَانهَا، لُغَتَانِ حَكَاهُمَا اِبْن دُرَيْد وَجَمَاعَة غَيْره وَالْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر، وَزَعَمَ الْبَاجِيّ أَنَّهُ الصَّوَاب. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُمَا لُغَتَانِ.
وَأَمَّا قَوْلهَا: (كَانَ يَغْتَسِل مِنْ الْفَرَقِ) فَلَفْظَة (مِنْ) هُنَا الْمُرَاد بِهَا بَيَان الْجِنْس وَالْإِنَاء الَّذِي يُسْتَعْمَل الْمَاء مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ يَغْتَسِل بِمَاءِ الْفَرَقِ بِدَلِيلِ الْحَدِيث الْآخَر كُنْت أَغْتَسِل أَنَا وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَدَح يُقَال لَهُ الْفَرَق، وَبِدَلِيلِ الْحَدِيث الْآخَر يَغْتَسِل بِالصَّاعِ.
480- وَأَمَّا قَوْله: (ثَلَاثَة آصُع) فَصَحِيح فَصِيح، وَقَدْ جَهِلَ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوز إِلَّا أَصْوُعٌ، وَهَذِهِ مِنْهُ غَفْلَة بَيِّنَة أَوْ جَهَالَة ظَاهِرَة؛ فَإِنَّهُ يَجُوز أَصْوُعٌ وَآصُع؛ فَالْأَوَّل هُوَ الْأَصْل، وَالثَّانِي عَلَى الْقَلْب، فَتُقَدَّم الْوَاو عَلَى الصَّاد وَتُقْلَب أَلِفًا وَهَذَا كَمَا قَالُوا: (آدُر) وَشَبَهه. وَفِي الصَّاع لُغَتَانِ التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث. وَيُقَال: صَاعٌ وَصَوَعٌ فَتْح الصَّاد وَالْوَاو وَصُوَاع ثَلَاث لُغَات.
قَوْله: (كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِل فِي الْقَدَحِ) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (فِي الْقَدَح)، وَهُوَ صَحِيح، وَمَعْنَاهُ (مِنْ الْقَدَح).
481- قَوْله (عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَة أَنَا وَأَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَة فَسَأَلَهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجَنَابَة، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْرَ الصَّاعِ، فَاغْتَسَلَتْ وَبَيْننَا وَبَيْنهَا سِتْر، فَأَفْرَغَتْ عَلَى رَأْسهَا ثَلَاثًا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُمَا رَأَيَا عَمَلهَا فِي رَأْسهَا وَأَعَالِي جَسَدهَا مِمَّا يَحِلّ لِذِي الْمَحْرَم النَّظَر إِلَيْهِ مِنْ ذَات الْمَحْرَم، وَكَانَ أَحَدهمَا أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَة كَمَا ذُكِرَ، قِيلَ: اِسْمه عَبْد اللَّه بْن يَزِيد، وَكَانَ أَبُو سَلَمَة اِبْن أُخْتهَا مِنْ الرَّضَاعَة، أَرْضَعَتْهُ أُمّ كُلْثُوم بِنْت أَبِي بَكْر.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْلَا أَنَّهُمَا شَاهَدَا ذَلِكَ وَرَأَيَاهُ لَمْ يَكُنْ لِاسْتِدْعَائِهَا الْمَاء وَطَهَارَتهَا بِحَضْرَتِهِمَا مَعْنَى؛ إِذْ لَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ كُلّه فِي سِتْر عَنْهُمَا لَكَانَ عَبَثًا وَرَجَعَ الْحَال إِلَى وَصْفِهَا لَهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَتْ السِّتْر لِيَسْتَتِر أَسَافِل الْبَدَن، وَمَا لَا يَحِلّ لِلْمَحْرَمِ نَظَرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَالرَّضَاعَة وَالرَّضَاع بِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْرِهَا فيهمَا لُغَتَانِ الْفَتْح أَفْصَح. وَفِي هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا دَلَالَة عَلَى اِسْتِحْبَاب التَّعْلِيم بِالْوَصْفِ بِالْفِعْلِ؛ فَإِنَّهُ أَوْقَع فِي النَّفْس مِنْ الْقَوْل، وَيَثْبُت فِي الْحِفْظ مَا لَا يَثْبُت بِالْقَوْلِ: وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (وَكَانَ أَزْوَاج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسهنَّ حَتَّى تَكُون كَالْوَفْرَةِ) الْوَفْرَة أَشْبَع وَأَكْثَر مِنْ (اللُّمَّة)، وَاللُّمَّة مَا يَلُمّ بِالْمَنْكِبَيْنِ مِنْ الشَّعْر، قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ، وَقَالَ غَيْره: الْوَفْرَة أَقَلّ مِنْ اللُّمَّة، وَهِيَ مَا لَا يُجَاوِز الْأُذُنَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الْوَفْرَة مَا عَلَى الْأُذُنَيْنِ مِنْ الشَّعْر.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: الْمَعْرُوف أَنَّ نِسَاء الْعَرَب إِنَّمَا كُنَّ يَتَّخِذْنَ الْقُرُون وَالذَّوَائِب، وَلَعَلَّ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلْنَ هَذَا بَعْد وَفَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَرْكِهِنَّ التَّزَيُّن، وَاسْتِغْنَائِهِنَّ عَنْ تَطْوِيل الشَّعْر، وَتَخْفِيفًا لِمُؤْنَةِ رُءُوسهنَّ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض مِنْ كَوْنهنَّ فَعَلْنَهُ بَعْد وَفَاته لَا فِي حَيَاته، كَذَا قَالَهُ أَيْضًا غَيْره وَهُوَ مُتَعَيِّن، وَلَا يُظَنّ بِهِنَّ فِعْلُهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز تَخْفِيف الشُّعُور لِلنِّسَاءِ: وَاللَّهُ أَعْلَم.
482- قَوْلهَا: (وَنَحْنُ جُنُبَانِ) هَذَا جَارٍ عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ فِي الْجُنُبِ أَنَّهُ يُثَنَّى وَيُجْمَع، فَيُقَال: جُنُب، وَجُنُبَانِ، وَجَنِبُونِ، وَأَجْنَاب. وَاللُّغَة الْأُخْرَى رَجُل جُنُب، وَرَجُلَانِ جُنُب، وَرِجَال جُنُب، وَنِسَاء جُنُب بِلَفْظٍ وَاحِد.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا} الْآيَة وَهَذِهِ اللُّغَة أَفْصَح وَأَشْهَر، وَيُقَال فِي الْفِعْل: أَجْنَبَ الرَّجُل وَجَنُبَ بِضَمِّ الْجِيم وَكَسْر النُّون، وَالْأُولَى أَفْصَح وَأَشْهَر. وَأَصْل الْجَنَابَة فِي اللُّغَة الْبُعْد، وَتُطْلَق عَلَى الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ غُسْلٌ بِجِمَاعٍ أَوْ خُرُوج مَنِيّ لِأَنَّهُ يَجْتَنِب الصَّلَاة وَالْقِرَاءَة وَالْمَسْجِد وَيَتَبَاعَد عَنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
483- قَوْله (عَنْ عِرَاك) هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن وَتَخْفِيف الرَّاء.
قَوْله: «أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنَاء وَاحِد يَسَع ثَلَاثَة أَمْدَاد» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مِنْ إِنَاء وَاحِد تَخْتَلِف أَيْدِينَا فيه» قَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي تَفْسِير الرِّوَايَة الْأُولَى وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يَنْفَرِد فِي اِغْتِسَاله بِثَلَاثَةِ أَمْدَاد، وَالثَّانِي أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْمُدِّ هُنَا الصَّاع، وَيَكُون مُوَافِقًا لِحَدِيثِ الْفَرَقِ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا وَقَعَ فِي بَعْض الْأَحْوَال وَاغْتَسَلَا مِنْ إِنَاء يَسَعُ ثَلَاثَة أَمْدَاد، وَزَادَهُ لَمَّا فَرَغَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «ثَلَاثَة أَمْدَاد أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى كَانَ يَغْتَسِل مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ هُوَ الْفَرَق، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ قَدْر الصَّاع فَاغْتَسَلَتْ بِهِ، وَفِي الْأُخْرَى: «كَانَ يَغْتَسِل بِخَمْسِ مَكَاكِيك وَيَتَوَضَّأ بِمَكُّوكٍ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يُغَسِّلهُ الصَّاع وَيُوَضِّئهُ الْمُدّ» وَفِي الْأُخْرَى: «يَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد» قَالَ الْإِمَام الشَّافِعِيّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء: الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّهَا كَانَتْ اغْتِسَالَات فِي أَحْوَال وُجِدَ فيها أَكْثَر مَنْ اِسْتَعْمَلَهُ وَأَقَلّه، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدّ فِي قَدْر مَاء الطَّهَارَة يَجِب اِسْتِيفَاؤُهُ وَاللَّهُ أَعْلَم.
486- قَوْله: (عَنْ أَبِي الشَّعْثَاء) اِسْمه جَابِر بْن زَيْد.
487- قَوْله: (عِلْمِي وَاَلَّذِي يَخْطُر عَلَى بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاء أَخْبَرَنِي) يُقَال: (يَخْطُر) بِضَمِّ الطَّاء، وَكَسْرهَا لُغَتَانِ الْكَسْر أَشْهَر، مَعْنَاهُ يَمُرّ وَيَجْرِي. وَالْبَال الْقَلْب وَالذِّهْن.
قَالَ الْأَزْهَرِيّ: يُقَال: خَطَر بِبَالِي، وَعَلَى بَالِي كَذَا، يَخْطِر خُطُورًا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَالك وَهَمِّك.
قَالَ غَيْره: الْخَاطِر الْهَاجِس وَجَمْعُهُ خَوَاطِر. وَهَذَا الْحَدِيث ذَكَرَهُ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مُتَابَعَة لَا أَنَّهُ قَصَدَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
489- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن جَبْر) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (عَنْ اِبْن جَبْر) هَذَا كُلّه صَحِيح، وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ بَعْض الْأَئِمَّة، وَقَالَ: صَوَابه (اِبْن جَابِر)، وَهَذَا غَلَط مِنْ هَذَا الْمُعْتَرِض، بَلْ يُقَال: فيه جَابِر، وَجَبْر، وَهُوَ عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن جَابِر بْن عَتِيك، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فيه الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْبُخَارِيّ، وَأَنَّ مِسْعَرًا وَأَبَا الْعُمَيْسِ وَشُعْبَة وَعَبْد اللَّه بْن عِيسَى يَقُولُونَ فيه (جَبْر). وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِل بِخَمْسِ مَكَاكِيك وَيَتَوَضَّأ بِمَكُّوكٍ» وَفِي رِوَايَة (بِخَمْسِ مُكَاكِيّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاء و(الْمَكُّوك) بِفَتْحِ الْمِيم وَضَمَّ الْكَاف الْأُولَى وَتَشْدِيدهَا وَجَمْعه مَكَاكِيك وَمَكَاكِيّ وَلَعَلَّ الْمُرَاد بِالْمَكُّوكِ هُنَا الْمُدّ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد.
491- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو رَيْحَانَة عَنْ سَفِينَة) اِسْم أَبِي رَيْحَانَة عَبْد اللَّه بْن مَطَر، وَيُقَال: زِيَاد بْن مَطَر.
وَأَمَّا سَفِينَة فَهُوَ صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْلَاهُ، يُقَال: اِسْمه مِهْرَانُ بْن فَرُّوخ، وَقِيلَ: اِسْمه بَحْرَان، وَقِيلَ: رُومَان، وَقِيلَ: قَيْس، وَقِيلَ: عُمَيْر، وَقِيلَ شُنْبَة بِإِسْكَانِ النُّون بَعْد الشِّين وَبَعْدهَا بَاءَ مُوَحَّدَة، كُنْيَتُهُ الْمَشْهُورَة أَبُو عَبْد الرَّحْمَن، وَقِيلَ: أَبُو الْبُخْتُرِيّ، قِيلَ: سَبَب تَسْمِيَته سَفِينَة أَنَّهُ حَمَلَ مَتَاعًا كَثِيرًا لِرُفْقَةٍ فِي الْغَزْو فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ سَفِينَة».
492- قَوْله: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا بْن عُلَيَّة (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيّ بْن حَجَر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل عَنْ أَبِي رَيْحَانَة عَنْ (سَفِينَة) قَالَ أَبُو بَكْر: صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِل بِالصَّاعِ وَيَتَطَهَّر بِالْمُدِّ» وَفِي حَدِيث اِبْن حَجَرٍ أَوْ قَالَ: وَيُطَهِّرهُ الْمُدّ.
قَالَ: وَكَانَ كَبُرَ، وَمَا كُنْت أَثِقُ بِحَدِيثِهِ.
قَوْله: (صَاحِبِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هُوَ بِخَفْضِ صَاحِب صِفَة لِسَفِينَةِ، وَأَبُو بَكْر الْقَائِل هُوَ اِبْن أَبِي شَيْبَة، يَعْنِي مُسْلِم أَنَّ أَبَا بَكْر اِبْن أَبِي شَيْبَة وَصَفَهُ، وَعَلِيّ بْن حَجَر لَمْ يَصِفهُ، بَلْ اِقْتَصَرَ عَلَى قَوْله عَنْ سَفِينَة.
قَوْله وَأَمَّا: (وَقَدْ كَانَ كَبُرَ) فَهُوَ بِكَسْرِ الْبَاء. (وَمَا كُنْت أَثِق بِحَدِيثِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول (أَثِق) بِكَسْرِ الثَّاء الْمُثَلَّثَة مِنْ الْوُثُوق الَّذِي هُوَ الِاعْتِمَاد. وَرَوَاهُ جَمَاعَة وَمَا كُنْت (أَيْنِقُ) بِيَاءِ مُثَنَّاة تَحْت ثُمَّ نُون أَيْ أُعْجَب بِهِ وَأَرْتَضِيه، وَالْقَائِل: وَقَدْ كَانَ كَبُرَ، هُوَ أَبُو رَيْحَانَة، وَاَلَّذِي كَبُرَ هُوَ سَفِينَة، وَلَمْ يَذْكُر مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى حَدِيثه هَذَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، بَلْ ذَكَرَهُ مُتَابَعَة لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيث الَّذِي ذَكَرهَا وَاللَّهُ أَعْلَم.