فصل: باب فَضْلِ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَا يُكْرَهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْلِ:

3483- قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَه الشِّكَال مِنْ الْخَيْل» وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة بِأَنْ يَكُون فِي رِجْله الْيُمْنَى بَيَاض وَفِي يَده الْيُسْرَى، أَوْ يَده الْيُمْنَى وَرِجْله الْيُسْرَى، وَهَذَا التَّفْسِير أَحَد الْأَقْوَال فِي الشِّكَال، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد وَجُمْهُور أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب: هُوَ أَنْ يَكُون مِنْهُ ثَلَاث قَوَائِم مُحَجَّلَة وَوَاحِدَة مُطْلَقَة تَشْبِيهًا بِالشِّكَالِ الَّذِي تُشَكَّل بِهِ الْخَيْل، فَإِنَّهُ يَكُون فِي ثَلَاث قَوَائِم غَالِبًا، قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَقَدْ يَكُون الشِّكَال ثَلَاث قَوَائِم مُطْلَقَة وَوَاحِدَة مُحَجَّلَة، قَالَ: وَلَا تَكُون الْمُطْلَقَة مِنْ الْأَرْجُل أَوْ الْمُحَجَّلَة إِلَّا الرِّجْل، وَقَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: الشِّكَال أَنْ يَكُون مُحَجَّلًا مِنْ شِقّ وَاحِد فِي يَده وَرِجْله، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قِيلَ: الشِّكَال مُخَالِف، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَبُو عَمْرو الْمُطَرِّز: قِيلَ: الشِّكَال بَيَاض الرِّجْل الْيُمْنَى وَالْيَد الْيُمْنَى، وَقِيلَ: بَيَاض الرِّجْل الْيُسْرَى وَالْيَد الْيُسْرَى، وَقِيلَ: بَيَاض الْيَدَيْنِ، وَقِيلَ: بَيَاض الرِّجْلَيْنِ، وَقِيلَ: بَيَاض الرِّجْلَيْنِ وَيَد وَاحِدَة، وَقِيلَ: بَيَاض الْيَدَيْنِ وَرِجْل وَاحِدَة.
وَقَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُ عَلَى صُورَة الْمَشْكُول، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ الْجِنْس فَلَمْ يَكُنْ فيه نَجَابَة، قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَغَرّ زَالَتْ الْكَرَاهَة لِزَوَالِ شِبْه الشِّكَال.

.باب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ:

3484- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَضَمَّنَ اللَّه لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيله لَا يُخْرِجهُ إِلَّا جِهَادًا» إِلَى قَوْله: «أَنْ أُدْخِلهُ الْجَنَّة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «تَكَفَّلَ اللَّه» وَمَعْنَاهُمَا: أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى لَهُ الْجَنَّة بِفَضْلِهِ وَكَرَمه سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَهَذَا الضَّمَان وَالْكَفَالَة مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة} الْآيَة.
قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: «لَا يُخْرِجهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «جِهَادًا» بِالنَّصْبِ، وَكَذَا قَالَ بَعْده: «وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا» وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول لَهُ وَتَقْدِيره: لَا يُخْرِجهُ الْمُخْرِج وَيُحَرِّكهُ الْمُحَرِّك إِلَّا لِلْجِهَادِ وَالْإِيمَان وَالتَّصْدِيق.
قَوْله: «لَا يُخْرِجهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي» مَعْنَاهُ: لَا يَخْرِجُه إِلَا مَحْضُ الْإِيمَان وَالْإِخْلَاص لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَتَصْدِيق كَلِمَته» أَيْ: كَلِمَة الشَّهَادَتَيْنِ، وَقِيلَ: تَصْدِيق كَلَام اللَّه فِي الْإِخْبَار بِمَا لِلْمُجَاهِدِ مِنْ عَظِيم ثَوَابه.
قَوْله تَعَالَى: «فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِن» ذَكَرُوا فِي (ضَامِن) هُنَا وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى: مَضْمُون كَمَاءٍ دَافِق وَمَدْفُوق، وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى: ذُو ضَمَان.
قَوْله تَعَالَى: «أَنْ أُدْخِلهُ الْجَنَّة» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنْ يَدْخُل عِنْد مَوْته كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء: {أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ} وَفِي الْحَدِيث: «أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجَنَّة» قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد دُخُوله الْجَنَّة عِنْد دُخُول السَّابِقِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب وَلَا مُؤَاخَذَة بِذَنْبٍ، وَتَكُون الشَّهَادَة مُكَفِّرَة لِذُنُوبِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح.
قَوْله: «أَوْ أَرْجِعهُ إِلَى مَسْكَنه نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَة» قَالُوا: مَعْنَاهُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَجْر بِلَا غَنِيمَة إِنْ لَمْ يَغْنَم أَوْ مِنْ الْأَجْر وَالْغَنِيمَة مَعًا إِنْ غَنِمُوا وَقِيلَ: إِنَّ (أَوْ) هُنَا بِمَعْنَى الْوَاو، أَيْ: مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة، وَكَذَا وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم فِي رِوَايَة يَحْيَى بْن يَحْيَى الَّتِي بَعْد هَذِهِ بِالْوَاوِ.
وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ضَمِنَ أَنَّ الْخَارِج لِلْجِهَادِ يَنَال خَيْرًا بِكُلِّ حَال، فَإِمَّا أَنْ يُسْتَشْهَد فَيَدْخُل الْجَنَّة، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِع بِأَجْرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِع بِأَجْرٍ وَغَنِيمَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْم يُكْلَم فِي سَبِيل اللَّه إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة كَهَيْئَتِهِ حِين كُلِمَ، لَوْنه لَوْن دَم وَرِيحه مِسْك» أَمَّا (الْكَلْم) بِفَتْحِ الْكَاف وَإِسْكَان اللَّام، فَهُوَ: الْجُرْح، وَيُكْلَم بِإِسْكَانِ الْكَاف، أَيْ: يُجْرَح، وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّهِيد لَا يَزُول عَنْهُ الدَّم بِغُسْلٍ وَلَا غَيْره، وَالْحِكْمَة فِي مَجِيئِهِ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى هَيْئَته أَنْ يَكُون مَعَهُ شَاهِد فَضِيلَته، وَبَذْله نَفْسه فِي طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز الْيَمِين وَانْعِقَادهَا بِقَوْلِهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» وَنَحْو هَذِهِ الصِّيغَة، مِنْ الْحَلِف بِمَا يَدُلّ عَلَى الذَّات، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا، قَالَ أَصْحَابنَا: الْيَمِين تَكُون بِأَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاته، أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَاته، قَالَ الْقَاضِي: وَالْيَد هُنَا بِمَعْنَى الْقُدْرَة وَالْمُلْك.
قَوْله: «وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يُشَقّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خِلَاف سَرِيَّة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه» أَيْ: خَلْفهَا وَبَعْدهَا. وَفيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَة بِهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُك بَعْض مَا يَخْتَارهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح بَدَأَ بِأَهَمِّهَا. وَفيه: مُرَاعَاة الرِّفْق بِالْمُسْلِمِينَ، وَالسَّعْي فِي زَوَال الْمَكْرُوه وَالْمَشَقَّة عَنْهُمْ.
قَوْله: «لَوَدِدْت أَنْ أَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَأُقْتَل ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَل» فيه: فَضِيلَة الْغَزْو وَالشَّهَادَة، وَفيه: تَمَنِّي الشَّهَادَة وَالْخَيْر، وَتَمَنِّي مَا لَا يُمْكِن فِي الْعَادَة مِنْ الْخَيْرَات، وَفيه: أَنَّ الْجِهَاد فَرْض كِفَايَة لَا فَرْض عَيْن.
3486- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهُ أَعْلَم بِمَنْ يُكْلَم فِي سَبِيله» هَذَا تَنْبِيه عَلَى الْإِخْلَاص فِي الْغَزْو، وَأَنَّ الثَّوَاب الْمَذْكُور فيه إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَخْلَص فيه، وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا، قَالُوا: وَهَذَا الْفَضْل، وَإِنْ كَانَ ظَاهِره أَنَّهُ فِي قِتَال الْكُفَّار، فَيَدْخُل فيه مَنْ خَرَجَ فِي سَبِيل اللَّه فِي قِتَال الْبُغَاة، وَقُطَّاع الطَّرِيق، وَفِي إِقَامَة الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَنَحْو ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُرْحه يَثْعَب» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَالْعَيْن وَإِسْكَان الْمُثَلَّثَة بَيْنهمَا، وَمَعْنَاهُ: يَجْرِي مُتَفَجِّرًا أَيْ: كَثِيرًا، وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَتَفَجَّر دَمًا».
3487- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَكُون يَوْم الْقِيَامَة كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ» الضَّمِير فِي: «كَهَيْئَتِهَا» يَعُود عَلَى الْجِرَاحَة، و«إِذَا طُعِنَتْ» بِالْأَلِفِ بَعْد الذَّال كَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْعَرْف عَرْف الْمِسْك» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الرَّاء، وَهُوَ: الرِّيح.

.باب فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى:

3488- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَنْ شُعْبَة عَنْ قَتَادَة وَحُمَيْد عَنْ أَنَس) قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ: ظَاهِر هَذَا الْإِسْنَاد أَنَّ شُعْبَة يَرْوِيه عَنْ قَتَادَة وَحُمَيْد جَمِيعًا عَنْ أَنَس، قَالَ: وَصَوَابه: أَنَّ أَبَا خَالِد يَرْوِيه عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس، وَيَرْوِيه أَبُو خَالِد أَيْضًا عَنْ شُعْبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس، قَالَ: وَهَكَذَا قَالَهُ عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد، قَالَ الْقَاضِي: فَيَكُون حُمَيْدٌ مَعْطُوفًا عَلَى شُعْبَة لَا عَلَى قَتَادَة، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة فِي كِتَابه عَنْ أَبِي خَالِد عَنْ حُمَيْدٍ وَشُعْبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس، فَبَيَّنَهُ، وَإِنْ كَانَ فيه أَيْضًا إِيهَام فَإِنَّ ظَاهِره: أَنَّ حُمَيْدًا يَرْوِيه عَنْ قَتَادَة، وَلَيْسَ الْمُرَاد كَذَلِكَ؛ بَلْ الْمُرَاد أَنَّ حُمَيْدًا يَرْوِيه عَنْ أَنَس كَمَا سَبَقَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْس تَمُوت لَهَا عِنْد اللَّه خَيْر يَسُرّهَا أَنَّهَا تَرْجِع إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فيها إِلَّا الشَّهِيد... إِلَى آخِره» هَذَا مِنْ صَرَائِح الْأَدِلَّة فِي عَظِيم فَضْل الشَّهَادَة، وَاللَّهُ الْمَحْمُود الْمَشْكُور.
وَأَمَّا سَبَب تَسْمِيَته شَهِيدًا: فَقَالَ النَّضْر بْن شُمَيْلٍ: لِأَنَّهُ حَيّ، فَإِنَّ أَرْوَاحهمْ شَهِدَتْ وَحَضَرَتْ دَار السَّلَام وَأَرْوَاح غَيْرهمْ إِنَّمَا تَشْهَدهَا يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَته عَلَيْهِمْ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ شَهِدَ عِنْد خُرُوج رُوحه مَا أَعَدَّهُ اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْ الثَّوَاب وَالْكَرَامَة، وَقِيلَ: لِأَنَّ مَلَائِكَة الرَّحْمَة يَشْهَدُونَهُ فَيَأْخُذُونَ رُوحه، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَخَاتِمَة الْخَيْر بِظَاهِرِ حَاله، وَقِيلَ: لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِكَوْنِهِ شَهِيدًا وَهُوَ الدَّم، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَشْهَد عَلَى الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ الرِّسَالَةَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يُشَارِكهُمْ غَيْرهمْ فِي هَذَا الْوَصْف.
3490- قَوْله: «مَا يَعْدِل الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه؟ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُوهُ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «لَا تَسْتَطِيعُوهُ» وَفِي بَعْضهَا: «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ» بِالنُّونِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَالْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا، وَهِيَ لُغَة فَصِيحَة حَذْف النُّون مِنْ غَيْر نَاصِب وَلَا جَازِم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانهَا وَنَظَائِرهَا مَرَّات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه كَمَثَلِ الصَّائِم الْقَائِم الْقَانِت بِآيَاتِ اللَّه... إِلَى آخِره» مَعْنَى الْقَانِت هُنَا: الْمُطِيع. وَفِي هَذَا الْحَدِيث عَظِيم فَضْل الْجِهَاد؛ لِأَنَّ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْقِيَام بِآيَاتِ اللَّه أَفْضَل الْأَعْمَال، وَقَدْ جَعَلَ الْمُجَاهِد مِثْل مَنْ لَا يَفْتُر عَنْ ذَلِكَ فِي لَحْظَة مِنْ اللَّحَظَات، وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ» وَاللَّهُ أَعْلَم.
3491- قَوْله: (أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ زَجَرَ الرِّجَال الَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتهمْ يَوْم الْجُمُعَة عِنْد الْمِنْبَر) فيه: كَرَاهَة رَفْع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد يَوْم الْجُمُعَة وَغَيْره، وَأَنَّهُ لَا يُرْفَع الصَّوْت بِعِلْمٍ وَلَا غَيْره عِنْد اِجْتِمَاع النَّاس لِلصَّلَاةِ لِمَا فيه مِنْ التَّشْوِيش عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ:

3492- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَغَدْوَة فِي سَبِيل اللَّه أَوْ رَوْحَة خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فيها» (الْغَدْوَة): بِفَتْحِ الْغَيْن: السَّيْر أَوَّل النَّهَار إِلَى الزَّوَال، و(الرَّوْحَة) السَّيْر مِنْ الزَّوَال إِلَى آخِر النَّهَار. (أَوْ) هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الرَّوْحَة يَحْصُل بِهَا هَذَا الثَّوَاب، وَكَذَا الْغَدْوَة، وَالظَّاهِر أَنَّهُ لَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاح مِنْ بَلْدَته، بَلْ يَحْصُل هَذَا الثَّوَاب بِكُلِّ غَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي طَرِيقه إِلَى الْغَزْو، وَكَذَا بِغَدْوَةٍ وَرَوْحَة فِي مَوْضِع الْقِتَال؛ لِأَنَّ الْجَمِيع يُسَمَّى غَدْوَة وَرَوْحَة فِي سَبِيل اللَّه. وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ فَضْل الْغَدْوَة وَالرَّوْحَة فِي سَبِيل اللَّه وَثَوَابهمَا خَيْر مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا كُلّهَا لَوْ مَلَكهَا الْإِنْسَان، وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمه بِهَا كُلّهَا؛ لِأَنَّهُ زَائِل وَنَعِيم الْآخِرَة بَاقٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ وَمَعْنَى نَظَائِره مِنْ تَمْثِيل أُمُور الْآخِرَة وَثَوَابهَا بِأُمُورِ الدُّنْيَا: أَنَّهَا خَيْر مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فيها لَوْ مَلَكَهَا إِنْسَان، وَمَلَكَ جَمِيع مَا فيها وَأَنْفَقَهُ فِي أُمُور الْآخِرَة، قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَيْسَ تَمْثِيل الْبَاقِي بِالْفَانِي عَلَى ظَاهِر إِطْلَاقه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3494- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عُمَر حَدَّثَنَا مَرْوَان بْن مُعَاوِيَة عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ عَنْ رِوَايَة الْجُلُودِيّ، قَالَ: وَوَقَعَ فِي نُسْخَة اِبْن مَاهَان: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا مَرْوَان، فَذَكَرَ اِبْن أَبِي شَيْبَة بَدَل اِبْن أَبِي عُمَر، قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوَّل.

.باب بَيَانِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الدَّرَجَاتِ:

3496- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُخْرَى يُرْفَع بِهَا الْعَبْد مِائَة دَرَجَة فِي الْجَنَّة مَا بَيْن كُلّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يُحْتَمَل أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ الدَّرَجَات هُنَا الْمَنَازِل الَّتِي بَعْضهَا أَرْفَع مِنْ بَعْض فِي الظَّاهِر، وَهَذِهِ صِفَة مَنَازِل الْجَنَّة كَمَا جَاءَ فِي أَهْل الْغُرَف أَنَّهُمْ يَتَرَاءَوْنَ كَالْكَوَاكِبِ الدُّرِّيّ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد الرِّفْعَة بِالْمَعْنَى مِنْ كَثْرَة النَّعِيم وَعَظِيم الْإِحْسَان مِمَّا لَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَر، وَلَا بِصِفَةِ مَخْلُوق، وَأَنَّ أَنْوَاع مَا أَنْعَمَ اللَّه بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْبِرّ وَالْكَرَامَة يَتَفَاضَل تَفَاضُلًا كَثِيرًا، وَيَكُون تَبَاعُده فِي الْفَضْل كَمَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض فِي الْبُعْد، قَالَ الْقَاضِي: وَالِاحْتِمَال الْأَوَّل أَظْهَر وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُفِّرَتْ خَطَايَاهُ إِلاَّ الدَّيْنَ:

3497- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ تَكْفِير خَطَايَاهُ إِنْ قُتِلَ: «نَعَمْ إِنْ قُتِلْت فِي سَبِيل اللَّه وَأَنْتَ صَابِر مُحْتَسِب مُقْبِل غَيْر مُدْبِر، ثُمَّ أَعَادَهُ فَقَالَ: إِلَّا الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيل قَالَ لِي ذَلِكَ» فيه: هَذِهِ الْفَضِيلَة الْعَظِيمَة لِلْمُجَاهِدِ، وَهِيَ تَكْفِير خَطَايَاهُ كُلّهَا إِلَّا حُقُوق الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَكُون تَكْفِيرهَا بِهَذِهِ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة، وَهُوَ أَنْ يُقْتَل صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْر مُدْبِر، وَفيه أَنَّ الْأَعْمَال لَا تَنْفَع إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص لِلَّهِ تَعَالَى. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُقْبِل غَيْر مُدْبِر» لَعَلَّهُ اِحْتِرَاز مِمَّنْ يُقْبِل فِي وَقْت وَيُدْبِر فِي وَقْت، وَالْمُحْتَسِب هُوَ الْمُخْلِص لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَاتَلَ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِصِيتٍ أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ هَذَا الثَّوَاب وَلَا غَيْره، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الدَّيْن» فَفيه تَنْبِيه عَلَى جَمِيع حُقُوق الْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّ الْجِهَاد وَالشَّهَادَة وَغَيْرهمَا مِنْ أَعْمَال الْبِرّ لَا يُكَفِّر حُقُوق الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُكَفِّر حُقُوق اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ثُمَّ قَالَ بَعْد ذَلِكَ: «إِلَّا الدَّيْن» فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ فِي الْحَال، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيل قَالَ لِي ذَلِكَ». وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: (حَدَّثَنَا سَعِيد بْن مَنْصُور حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ مُحَمَّد بْن قَيْس قَالَ وَحَدَّثَنَا اِبْن عَجْلَان عَنْ مُحَمَّد بْن قَيْس عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي قَتَادَة) الْقَائِل: (وَحَدَّثَنَا اِبْن عَجْلَان) هُوَ سُفْيَان.
3498- قَوْله: (عَنْ عَيَّاش بْن عَبَّاس الْقِتْبَانِيّ) الْأَوَّل بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة، وَالثَّانِي بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْقِتْبَانِيّ بِالْقَافِ مَكْسُورَة، ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق سَاكِنَة، ثُمَّ مُوَحَّدَة مَنْسُوب إِلَى قِتْبَان بَطْن مِنْ رُعَيْن.

.باب فِي بَيَانِ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ:

3500- قَوْله: (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن يَحْيَى وَأَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة- وَذَكَرَ إِسْنَاده إِلَى مَسْرُوق- قَالَ: سَأَلْنَا عَبْد اللَّه عَنْ هَذِهِ الْآيَة: {وَلَا تَحْسَبَنّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ}، أَمَّا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر خُضْر) قَالَ الْمَازِرِيّ: كَذَا جَاءَ عَبْد اللَّه غَيْر مَنْسُوب، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ: وَمِنْ النَّاس مَنْ يَنْسُبهُ فَيَقُول: عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ فِي مُسْنَد اِبْن مَسْعُود، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ مِنْ صَحِيح مُسْلِم (عَبْد اللَّه اِبْن مَسْعُود) قُلْت: وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ بِلَادنَا الْمُعْتَمَدَة، وَلَكِنْ لَمْ يَقَع مَنْسُوبًا فِي مُعْظَمهَا، وَذَكَرَهُ خَلَف الْوَاسِطِيُّ وَالْحُمَيْدِيّ وَغَيْرهمَا فِي مُسْنَد اِبْن مَسْعُود، وَهُوَ الصَّوَاب. وَهَذَا الْحَدِيث مَرْفُوع لِقَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَعْنِي: النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّهَدَاء: «أَرْوَاحهمْ فِي جَوْف طَيْر خُضْر لَهَا قَنَادِيل مُعَلَّقَة بِالْعَرْشِ تَسْرَح مِنْ الْجَنَّة حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل» فيه: بَيَان أَنَّ الْجَنَّة مَخْلُوقَة مَوْجُودَة، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة، وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم، وَهِيَ الَّتِي يُنَعَّم فيها الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة. هَذَا إِجْمَاع أَهْل السُّنَّة، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة وَطَائِفَة مِنْ الْمُبْتَدِعَة أَيْضًا وَغَيْرهمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مَوْجُودَة، وَإِنَّمَا تُوجَد بَعْد الْبَعْث فِي الْقِيَامَة، قَالُوا: وَالْجَنَّة الَّتِي أُخْرِجَ مِنْهَا آدَم غَيْرهَا، وَظَوَاهِر الْقُرْآن وَالسُّنَّة تَدُلّ لِمَذْهَبِ أَهْل الْحَقّ. وَفيه: إِثْبَات مُجَازَاة الْأَمْوَات بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب قَبْل الْقِيَامَة، قَالَ الْقَاضِي: وَفيه: أَنَّ الْأَرْوَاح بَاقِيَة لَا تَفْنَى فَيُنَعَّم الْمُحْسِن وَيُعَذَّب الْمُسِيء، وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالْآثَار، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَة قَالَتْ: تَفْنَى، قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ هُنَا: «أَرْوَاح الشُّهَدَاء»، وَقَالَ فِي حَدِيث مَالِك: «إِنَّمَا نَسَمَة الْمُؤْمِن»، وَالنَّسَمَة تُطْلَق عَلَى ذَات الْإِنْسَان جِسْمًا وَرُوحًا، وَتُطْلَق عَلَى الرُّوح مُفْرَدَة، وَهُوَ الْمُرَاد بِهَذَا التَّفْسِير فِي الْحَدِيث الْآخَر بِالرُّوحِ، وَلِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْجِسْم يَفْنَى وَيَأْكُلهُ التُّرَاب، وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث: «حَتَّى يُرْجِعهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى جَسَده يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ فِي حَدِيث مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: «نَسَمَة الْمُؤْمِن» وَقَالَ هُنَا: «الشُّهَدَاء» لِأَنَّ هَذِهِ صِفَتهمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يَرْزُقُونَ} وَكَمَا فَسَّرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيث.
وَأَمَّا غَيْرهمْ فَإِنَّمَا يُعْرَض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر، وَكَمَا قَالَ فِي آل فِرْعَوْن: {النَّار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: بَلْ الْمُرَاد جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِغَيْرِ عَذَاب فَيَدْخُلُونَهَا الْآن، بِدَلِيلِ عُمُوم الْحَدِيث، وَقِيلَ: بَلْ أَرْوَاح الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَة قُبُورهمْ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «فِي جَوْف طَيْر خُضْر» وَفِي غَيْر مُسْلِم: «بِطَيْرٍ خُضْر» وَفِي حَدِيث آخَر: «بِحَوَاصِل طَيْر» وَفِي الْمُوَطَّأ: «إِنَّمَا نَسَمَة الْمُؤْمِن طَيْر» وَفِي حَدِيث آخَر عَنْ قَتَادَة: «فِي صُورَة طَيْر أَبْيَض» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا: الْأَشْبَه صِحَّة قَوْل مَنْ قَالَ: طَيْر، أَوْ صُورَة طَيْر، وَهُوَ أَكْثَر مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَة لاسيما مَعَ قَوْله: «تَأْوِي إِلَى قَنَادِيل تَحْت الْعَرْش».
قَالَ الْقَاضِي: وَاسْتَبْعَدَ بَعْضهمْ هَذَا، وَلَمْ يُنْكِرهُ آخَرُونَ، وَلَيْسَ فيه مَا يُنْكَر، وَلَا فَرْق بَيْن الْأَمْرَيْنِ، بَلْ رِوَايَة طَيْر، أَوْ جَوْف طَيْر، أَصَحّ مَعْنًى، وَلَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُول فِي هَذَا حُكْم، وَكُلّه مِنْ الْمُجَوَّزَات، فَإِذَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَجْعَل هَذِهِ الرُّوح إِذَا خَرَجَتْ مِنْ الْمُؤْمِن أَوْ الشَّهِيد فِي قَنَادِيل، أَوْ أَجْوَاف طَيْر، أَوْ حَيْثُ يَشَاء كَانَ ذَلِكَ وَوَقَعَ، وَلَمْ يَبْعُد، لاسيما مَعَ الْقَوْل بِأَنَّ الْأَرْوَاح أَجْسَام، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْمُنْعِم أَوْ الْمُعَذَّب مِنْ الْأَرْوَاح جُزْء مِنْ الْجَسَد تَبْقَى فيه الرُّوح، هُوَ الَّذِي يَتَأَلَّم وَيُعَذَّب وَيُلْتَذّ وَيُنَعَّم، وَهُوَ الَّذِي يَقُول: رَبّ اِرْجِعُونِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْرَح فِي شَجَر الْجَنَّة، فَغَيْر مُسْتَحِيل أَنْ يُصَوَّر هَذَا الْجُزْء طَائِرًا أَوْ يُجْعَل فِي جَوْف طَائِر، وَفِي قَنَادِيل تَحْت الْعَرْش، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُرِيد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي الرُّوح- مَا هِيَ؟ اِخْتِلَافًا لَا يَكَاد يُحْصَر، فَقَالَ كَثِير مِنْ أَرْبَاب الْمَعَانِي وَعِلْم الْبَاطِن الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا تُعْرَف حَقِيقَته، وَلَا يَصِحّ وَصْفه، وَهُوَ مِمَّا جَهِلَ الْعِبَاد عِلْمه، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي} وَغَلَتْ الْفَلَاسِفَة فَقَالَتْ بِعَدَمِ الرُّوح، وَقَالَ جُمْهُور الْأَطِبَّاء: هُوَ الْبُخَار اللَّطِيف السَّارِي فِي الْبَدَن، وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ شُيُوخنَا: هُوَ الْحَيَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَجْسَام لَطِيفَة مُشَابِكَة لِلْجِسْمِ يَحْيَى لِحَيَاتِهِ، أَجْرَى اللَّه تَعَالَى الْعَادَة بِمَوْتِ الْجِسْم عِنْد فِرَاقه، وَقِيلَ: هُوَ بَعْض الْجِسْم، وَلِهَذَا وُصِفَ بِالْخُرُوجِ وَالْقَبْض وَبُلُوغ الْحُلْقُوم، وَهَذِهِ صِفَة الْأَجْسَام لَا الْمَعَانِي، وَقَالَ بَعْض مُقَدَّمِي أَئِمَّتنَا: هُوَ جِسْم لَطِيف مُتَصَوَّر عَلَى صُورَة الْإِنْسَان دَاخِل الْجِسْم، وَقَالَ بَعْض مَشَايِخنَا وَغَيْرهمْ: إِنَّهُ النَّفَس الدَّاخِل وَالْخَارِج، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الدَّم، هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي، وَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا: أَنَّ الرُّوح أَجْسَام لَطِيفَة مُتَخَلَّلَة فِي الْبَدَن، فَإِذَا فَارَقَتْهُ مَاتَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْس وَالرُّوح فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَهُمَا لَفْظَانِ لِمُسَمًّى وَاحِد.
وَقِيلَ: إِنَّ النَّفْس هِيَ النَّفَس الدَّاخِل وَالْخَارِج، وَقِيلَ: هِيَ الدَّم، وَقِيلَ: هِيَ الْحَيَاة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِنَا هَذَا وَشَبَهه بَعْض الْمَلَاحِدَة الْقَائِلِينَ بِالتَّنَاسُخِ وَانْتِقَال الْأَرْوَاح وَتَنْعِيمهَا فِي الصُّوَر الْحِسَان الْمُرَفَّهَة وَتَعْذِيبهَا فِي الصُّوَر الْقَبِيحَة الْمُسَخَّرَة، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَهَذَا ضَلَال بَيِّن، وَإِبْطَال لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِع مِنْ الْحَشْر وَالنَّشْر، وَالْجَنَّة وَالنَّار، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث: «حَتَّى يُرْجِعهُ اللَّه إِلَى جَسَده يَوْم يَبْعَثهُ» يَعْنِي: يَوْم يَجِيء بِجَمِيعِ الْخَلْق. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَالَ لَهُمْ اللَّه تَعَالَى: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا...» إِلَخْ، هَذَا مُبَالَغَة فِي إِكْرَامهمْ وَتَنْعِيمهمْ إِذْ قَدْ أَعْطَاهُمْ اللَّه مَا لَا يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَر، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ فِي سُؤَال الزِّيَادَة، فَلَمْ يَجِدُوا مَزِيدًا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ، فَسَأَلُوهُ حِين رَأَوْا أَنَّهُ لابد مِنْ سُؤَال أَنْ يُرْجِع أَرْوَاحهمْ إِلَى أَجْسَادهمْ لِيُجَاهِدُوا، أَوْ يَبْذُلُوا أَنْفُسهمْ فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى، وَيَسْتَلِذُّوا بِالْقَتْلِ فِي سَبِيل اللَّه. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ:

3501- قَوْله: «أَيّ النَّاس أَفْضَل؟ فَقَالَ: رَجُل يُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه بِمَالِهِ وَنَفْسه» قَالَ الْقَاضِي: هَذَا عَامّ مَخْصُوص وَتَقْدِيره: هَذَا مِنْ أَفْضَل النَّاس. وَإِلَّا فَالْعُلَمَاء أَفْضَل، وَكَذَا الصِّدِّيقُونَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ مُؤْمِن فِي شُعَب مِنْ الشِّعَاب يَعْبُد رَبّه وَيَدَع النَّاس مِنْ شَرّه» فيه: دَلِيل لِمَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْعُزْلَة عَلَى الِاخْتِلَاط، وَفِي ذَلِكَ خِلَاف مَشْهُور، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الِاخْتِلَاط أَفْضَل بِشَرْطِ رَجَاء السَّلَامَة مِنْ الْفِتَن، وَمَذْهَب طَوَائِف: أَنَّ الِاعْتِزَال أَفْضَل، وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الِاعْتِزَال فِي زَمَن الْفِتَن وَالْحُرُوب، أَوْ هُوَ فِيمَنْ لَا يَسْلَم النَّاس مِنْهُ، وَلَا يَصْبِر عَلَيْهِمْ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ الْخُصُوص، وَقَدْ كَانَتْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ وَجَمَاهِير الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاء وَالزُّهَّاد مُخْتَلِطِينَ، فَيُحَصِّلُونَ مَنَافِع الِاخْتِلَاط كَشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجَنَائِز وَعِيَادَة الْمَرْضَى وَحِلَق الذِّكْر وَغَيْر ذَلِكَ.
وَأَمَّا (الشِّعْب): فَهُوَ مَا اِنْفَرَاج بَيْن جَبَلَيْنِ، وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا؛ بَلْ الْمُرَاد الِانْفِرَاد وَالِاعْتِزَال، وَذَكَرَ الشِّعْب مِثَالًا لِأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا. وَهَذَا الْحَدِيث نَحْو الْحَدِيث الْآخَر حِين سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجَاة فَقَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانك وَلْيَسَعْك بَيْتك وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتك».
3503- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ خَيْر مَعَاش النَّاس لَهُمْ رَجُل يُمْسِك عِنَان فَرَسه» (الْمَعَاش): هُوَ الْعَيْش، وَهُوَ الْحَيَاة، وَتَقْدِيره وَاللَّهُ أَعْلَم: مِنْ خَيْر أَحْوَال عَيْشهمْ رَجُل مُمْسِك.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطِير عَلَى مَتْنه كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَة أَوْ فَزْعَة طَارَ عَلَى مَتْنه يَبْتَغِي الْقَتْل وَالْمَوْت مَظَانّه» مَعْنَاهُ: يُسَارِع عَلَى ظَهْره، وَهُوَ: مَتْنه، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَة، وَهِيَ: الصَّوْت عِنْد حُضُور الْعَدُوّ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَاء وَإِسْكَان الْيَاء. و(الْفَزْعَة) بِإِسْكَانِ الزَّاي وَهِيَ: النُّهُوض إِلَى الْعَدُوّ. وَمَعْنَى (يَبْتَغِي الْقَتْل مَظَانّه): يَطْلُبهُ فِي مَوَاطِنه الَّتِي يُرْجَى فيها لِشِدَّةِ رَغْبَته فِي الشَّهَادَة. وَفِي الْحَدِيث: فَضِيلَة الْجِهَاد وَالْحِرْص عَلَى الشَّهَادَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ رَجُل فِي غُنَيْمَة فِي رَأْس شَعَفَة» (الْغُنَيْمَة) بِضَمِّ الْغَيْن تَصْغِير الْغَنَم، أَيْ: قِطْعَة مِنْهَا، و(الشَّعَفَة) بِفَتْحِ الشِّين وَالْعَيْن: أَعْلَى الْجَبَل.

.باب بَيَانِ الرَّجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلاَنِ الْجَنَّةَ:

3504- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَضْحَك اللَّه إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُل أَحَدهمَا الْآخَر كِلَاهُمَا يَدْخُل الْجَنَّة، يُقَاتِل هَذَا فِي سَبِيل اللَّه فَيُسْتَشْهَد، ثُمَّ يَتُوب اللَّه عَلَى الْقَاتِل فَيُسْلِم فَيُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه فَيُسْتَشْهَد» قَالَ الْقَاضِي: الضَّحِك هُنَا اِسْتِعَارَة فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوز عَلَيْهِ سُبْحَانه الضَّحِك الْمَعْرُوف فِي حَقّنَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِحّ مِنْ الْأَجْسَام، وَمِمَّنْ يَجُوز عَلَيْهِ تَغَيُّر الْحَالَات، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ الرِّضَا بِفِعْلِهِمَا، وَالثَّوَاب عَلَيْهِ وَحَمْد فِعْلهمَا وَمَحَبَّته، وَتَلَقِّي رُسُل اللَّه لَهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّحِك مِنْ أَحَدنَا إِنَّمَا يَكُون عِنْد مُوَافَقَته مَا يَرْضَاهُ، وَسُرُوره وَبِرّه لِمَنْ يَلْقَاهُ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد هُنَا: ضَحِك مَلَائِكَة اللَّه تَعَالَى الَّذِينَ يُوَجِّههُمْ لِقَبْضِ رُوحه وَإِدْخَاله الْجَنَّة كَمَا يُقَال: قَتَلَ السُّلْطَان فُلَانًا أَيْ: أَمَرَ بِقَتْلِهِ.

.باب مَنْ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ:

3506- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِع كَافِر وَقَاتِله فِي النَّار أَبَدًا» وَفِي رِوَايَة: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار اِجْتِمَاعًا يَضُرّهُمَا قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: مُؤْمِن قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ» قَالَ الْقَاضِي: فِي الرِّوَايَة الْأُولَى يُحْتَمَل أَنَّ هَذَا مُخْتَصّ بِمَنْ قَتَلَ كَافِرًا فِي الْجِهَاد، فَيَكُون ذَلِكَ مُكَفِّرًا لِذُنُوبِهِ حَتَّى لَا يُعَاقَب عَلَيْهَا، أَوْ يَكُون بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَة، أَوْ حَالَة مَخْصُوصَة. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون عِقَابه إِنْ عُوقِبَ بِغَيْرِ النَّار كَالْحَبْسِ فِي الْأَعْرَاف عَنْ دُخُول الْجَنَّة أَوَّلًا وَلَا يَدْخُل النَّار، أَوْ يَكُون إِنْ عُوقِبَ بِهَا فِي غَيْر مَوْضِع عِقَاب الْكُفَّار، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي إِدْرَاكهَا، قَالَ: وَأَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «اِجْتِمَاعًا يَضُرّ أَحَدهمَا الْآخَر» فَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ اِجْتِمَاع مَخْصُوص، قَالَ وَهُوَ مُشْكِل الْمَعْنَى، وَأَوْجَه مَا فيه أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَقْت إِنْ اِسْتَحَقَّ الْعِقَاب، فَيُعَيِّرهُ بِدُخُولِهِ مَعَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَعهُ إِيمَانه وَقَتْله إِيَّاهُ، وَقَدْ جَاءَ مِثْل هَذَا فِي بَعْض الْحَدِيث، لَكِنْ قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث: «مُؤْمِن قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ» مُشْكِل لِأَنَّ الْمُؤْمِن إِنَّمَا سَدَّدَ، وَمَعْنَاهُ: اِسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَة الْمُثْلَى وَلَمْ يَخْلِط، لَمْ يَدْخُل النَّار أَصْلًا، سَوَاء قَتَلَ كَافِرًا أَوْ لَمْ يَقْتُلهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَوَجْهه عِنْدِي أَنْ يَكُون قَوْله: «ثُمَّ سَدَّدَ» عَائِدًا عَلَى الْكَافِر الْقَاتِل، وَيَكُون بِمَعْنَى الْحَدِيث السَّابِق: «يَضْحَك اللَّه إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُل أَحَدهمَا الْآخَر يَدْخُلَانِ الْجَنَّة» وَرَأَى بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظ تَغَيُّر مِنْ بَعْض الرُّوَاة، وَأَنَّ صَوَابه: «مُؤْمِن قَتَلَهُ كَافِر ثُمَّ سَدَّدَ» وَيَكُون مَعْنَى قَوْله: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار اِجْتِمَاعًا يَضُرّ أَحَدهمَا الْآخَر» أَيْ: لَا يَدْخُلَانِهَا لِلْعِقَابِ، وَيَكُون هَذَا اِسْتِثْنَاء مِنْ اِجْتِمَاع الْوُرُود، وَتَخَاصُمهمْ عَلَى جِسْر جَهَنَّم، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.

.باب فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَضْعِيفِهَا:

3508- قَوْله: «جَاءَ رَجُل بِنَاقَةٍ مَخْطُومَة فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيل اللَّه، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَك بِهَا يَوْم الْقِيَامَة سَبْعمِائَةِ نَاقَة كُلّهَا مَخْطُومَة» مَعْنَى (مَخْطُومَة) أَيْ: فيها خِطَام، وَهُوَ قَرِيب مِنْ الزِّمَام، وَسَبَقَ شَرْحه مَرَّات.
قِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد لَهُ أَجْر سَبْعمِائَةِ نَاقَة، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره، وَيَكُون لَهُ فِي الْجَنَّة بِهَا سَبْعمِائَةٍ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ مَخْطُومَة يَرْكَبهُنَّ حَيْثُ شَاءَ لِلتَّنَزُّهِ، كَمَا جَاءَ فِي خَيْل الْجَنَّة وَنَجْبهَا وَهَذَا الِاحْتِمَال أَظْهَر. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب فَضْلِ إِعَانَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَرْكُوبٍ وَغَيْرِهِ وَخِلاَفَتِهِ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ:

3509- قَوْله: «أُبْدِعَ بِي» هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة، وَفِي بَعْض النُّسَخ: «بُدِّعَ بِي» بِحَذْفِ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الدَّال، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُور رُوَاة مُسْلِم، قَالَ: وَالْأَوَّل هُوَ الصَّوَاب، وَمَعْرُوف فِي اللُّغَة، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَآخَرُونَ بِالْأَلِفِ، وَمَعْنَاة: هَلَكَتْ دَابَّتِي، وَهِيَ مَرْكُوبِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْر فَلَهُ مِثْل أَجْر فَاعِله» فيه: فَضِيلَة الدَّلَالَة عَلَى الْخَيْر وَالتَّنْبِيه عَلَيْهِ، وَالْمُسَاعَدَة لِفَاعِلِهِ، وَفيه: فَضِيلَة تَعْلِيم الْعِلْم وَوَظَائِف الْعِبَادَات، لاسيما لِمَنْ يَعْمَل بِهَا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرهمْ، وَالْمُرَاد بِمِثْلِ أَجْر فَاعِله. أَنَّ لَهُ ثَوَابًا بِذَلِكَ الْفِعْل كَمَا أَنَّ لِفَاعِلِهِ ثَوَابًا، وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُون قَدْر ثَوَابهمَا سَوَاء.
3510- قَوْله: «إِنَّ فَتًى مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أُرِيدَ الْغَزْو وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَجَهَّز بِهِ، قَالَ: اِئْتِ فُلَانًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ... إِلَى آخِرِهِ» فيه: فَضِيلَة الدَّلَالَة عَلَى الْخَيْر. وَفيه: أَنَّ مَا نَوَى الْإِنْسَانُ صَرْفَهُ فِي جِهَة بِرّ فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجِهَة يُسْتَحَبّ لَهُ بَذْله فِي جِهَة أُخْرَى مِنْ الْبِرّ، وَلَا يَلْزَمهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَلْتَزِمهُ بِالنَّذْرِ.
3511- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» أَيْ: حَصَلَ لَهُ أَجْر بِسَبَبِ الْغَزْو، وَهَذَا الْأَجْر يَحْصُل بِكُلِّ جِهَاد، وَسَوَاء قَلِيله وَكَثِيره، وَلِكُلِّ خَالِف لَهُ فِي أَهْله بِخَيْرٍ مِنْ قَضَاء حَاجَة لَهُمْ، وَإِنْفَاق عَلَيْهِمْ، أَوْ مُسَاعَدَتهمْ فِي أَمْرهمْ، وَيَخْتَلِف قَدْر الثَّوَاب بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَته. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى الْإِحْسَان إِلَى مَنْ فَعَلَ مَصْلَحَة لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ قَامَ بِأَمْرٍ مِنْ مُهِمَّاتهمْ.
3513- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي لِحْيَان مِنْ هُذَيْل فَقَالَ: لِيَنْبَعِث مِنْ كُلّ رَجُلَيْنِ أَحَدهمَا وَالْأَجْر بَيْنهمَا» أَمَّا (بَنُو لِحْيَان) فَبِكَسْرِ اللَّام وَفَتْحهَا، وَالْكَسْر أَشْهَر، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ بَنِي لِحْيَانَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْت كُفَّارًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بَعْثًا يَغْزُونَهُمْ، وَقَالَ لِذَلِكَ الْبَعْث: لِيَخْرُج مِنْ كُلّ قَبِيلَة نِصْف عَدَدهَا، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: مِنْ كُلّ رَجُلَيْنِ أَحَدهمَا.
وَأَمَّا كَوْن الْأَجْر بَيْنهمَا، فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا خَلَفَ الْمُقِيم الْغَازِي فِي أَهْله بِخَيْرٍ كَمَا شَرَحْنَاهُ قَرِيبًا، وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَاقِي الْأَحَادِيث.
قَوْله: فِي إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث: (أَبُو سَعِيد مَوْلَى الْمَهْرِيّ) هُوَ بِالرَّاءِ، وَاسْمه: سَالِم بْن عَبْد اللَّه أَبُو عَبْد اللَّه الْنَصْرِيّ- بِالنُّونِ- الْمَدَنِيّ، مَوْلَى شَدَّاد بْن الْهَادِي، وَيُقَال: مَوْلَى مَالِك بْن أَوْس بْن الْحَدَثَان، وَيُقَال: مَوْلَى دَوْس، وَيُقَال لَهُ: سَالِم سَبَلَات، بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة الْمَفْتُوحَتَيْنِ، وَهُوَ سَالِم الْبُرْد بِالرَّاءِ وَآخِرَة دَال، وَهُوَ سَالِم مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ بِالنُّونِ، وَهُوَ أَبُو عَبْد اللَّه مَوْلَى شَدَّاد، وَهُوَ سَالِم أَبُو عَبْد اللَّه الْمَدِينِيّ، وَهُوَ سَالِم مَوْلَى مَالِك بْن أَوْس، وَهُوَ سَالِم مَوْلَى الْمَهْرَبَيْنِ، وَهُوَ سَالَمَ مَوْلَى دَوْس، وَهُوَ سَالِم أَبُو عَبْد اللَّه الدَْوْسِيّ. وَلِسَالِمٍ هَذَا نَظَائِر فِي هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَكُون لِلْإِنْسَانِ أَسْمَاء أَوْ صِفَات وَتَعْرِيفَات يَعْرِفهُ كُلّ إِنْسَان بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَصَنَّفَ الْحَافِظ عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد الْمِصْرِيّ فِي هَذَا كِتَابًا حَسَنًا وَصَنَّفَ فيه غَيْره.