فصل: باب فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْقُدْسِ إِلَى الْكَعْبَةِ:

فيه حَدِيث الْبَرَاء، وَهُوَ دَلِيل عَلَى جَوَاز النَّسْخ وَوُقُوعه. وَفيه: قَبُول خَبَر الْوَاحِد. وَفيه جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة إِلَى جِهَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا: مَنْ صَلَّى إِلَى جِهَة بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اِجْتِهَاده فِي أَثْنَائِهَا فَيَسْتَدْبِر إِلَى الْجِهَة الْأُخْرَى، حَتَّى لَوْ تَغَيَّرَ اِجْتِهَاده أَرْبَع مَرَّات فِي الصَّلَاة الْوَاحِدَة، فَصَلَّى كُلّ رَكْعَة مِنْهَا إِلَى جِهَة؛ صَحَّتْ صَلَاته عَلَى الْأَصَحّ؛ لِأَنَّ أَهْل هَذَا الْمَسْجِد الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث اِسْتَدَارُوا فِي صَلَاتهمْ وَاسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَة وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ النَّسْخ لَا يَثْبُت فِي حَقِّ الْمُكَلَّف حَتَّى يَبْلُغهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا نَسْخ لِلْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِد، وَذَلِكَ مُمْتَنِع عِنْد أَهْل الْأُصُول، فَالْجَوَاب أَنَّهُ اِحْتَفَتْ بِهِ قَرَائِن وَمُقَدِّمَات أَفَادَتْ الْعِلْم، وَخَرَجَ عَنْ كَوْنه خَبَر وَاحِد مُجَرَّدًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى فِي أَنَّ اِسْتِقْبَال بَيْت الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ أَمْ بِاجْتِهَادِ النَّبِيّ! فَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِنَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّهُ كَانَ بِسُنَّةٍ لَا بِقُرْآنٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُون فيه دَلِيل لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآن يَنْسَخ السُّنَّة، وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى. وَالْقَوْل الثَّانِي لَهُ وَبِهِ قَالَ طَائِفَة: لَا يَجُوز؛ لِأَنَّ السُّنَّة مُبَيِّنَة لِلْكِتَابِ فَكَيْف يَنْسَخهَا؟ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ اِسْتِقْبَال بَيْت الْمَقْدِسِ بِسُنَّةٍ، بَلْ كَانَ بِوَحْيٍ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة الَّتِي كُنْت عَلَيْهَا} الْآيَة. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي عَكْسه وَهُوَ نَسْخ السُّنَّة لِلْقُرْآنِ، فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَطَائِفَة.
818- قَوْله: «بَيْت الْمَقْدِسِ» فيه لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: فَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْقَاف، وَالثَّانِيَة: ضَمُّ الْمِيم وَفَتْح الْقَاف، وَيُقَال فيه أَيْضًا: إِيلِيَاء، وَالْيَاء. وَأَصْل الْمَقْدِسِ وَالتَّقْدِيس مِنْ التَّطْهِير.
وَقَدْ أَوْضَحْته مَعَ بَيَان لُغَاته وَتَصْرِيفه وَاشْتِقَاقه فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء.
820- قَوْله: «بَيْنَمَا النَّاس فِي صَلَاة الصُّبْح بِقُبَاءَ» هُوَ بِالْمَدِّ وَمَصْرُوف وَمُذَكَّر.
وَقِيلَ: مَقْصُور وَغَيْر مَصْرُوف، وَقِيلَ: مُؤَنَّث، وَهُوَ مَوْضِع بِقُرْبِ الْمَدِينَة مَعْرُوف. وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا بَيَان مَعْنَى قَوْلهمْ: بَيْنَمَا وَبَيْنَا، وَأَنَّ تَقْدِيره بَيْن أَوْقَات كَذَا.
قَوْله: «وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِل الْكَعْبَة فَاسْتَقْبِلُوهَا» رُوِيَ: «فَاسْتَقْبِلُوهَا» بِكَسْرِ الْبَاء وَفَتْحهَا وَالْكَسْر أَصَحُّ وَأَشْهَر، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه تَمَام الْكَلَام بَعْده.
قَوْلهَا: «بَيْنَمَا النَّاس فِي صَلَاة الْغَدَاة». فيه جَوَاز تَسْمِيَة الصُّبْح: غَدَاة، وَهَذَا لَا خِلَاف فيه، وَلَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: سَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى الْفَجْر، وَسَمَّاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْح، فَلَا أُحِبّ أَنْ تُسَمَّى بِغَيْرِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ.

.باب النَّهْيِ عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَاتِّخَاذِ الصُّوَرِ فيها وَالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ:

أَحَادِيث الْبَاب ظَاهِرَة الدَّلَالَة فِيمَا تَرْجَمْنَا لَهُ.
822- قَوْلهَا: «ذَكَرْنَ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَة» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (ذَكَرْنَ) بِالنُّونِ، وَفِي بَعْض الْأُصُول (ذَكَرَتْ) بِالتَّاءِ، وَالْأَوَّل أَشْهَر، وَهُوَ جَائِز عَلَى تِلْكَ اللُّغَة الْقَلِيلَة لُغَة: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث. وَمِنْهَا: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة.
823- قَوْلهَا: «غَيْر أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا» ضَبَطْنَاهُ (خُشِيَ) بِضَمِّ الْخَاء وَفَتْحهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ.
824- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَاتَلَ اللَّه الْيَهُود» وَمَعْنَاهُ: لَعَنَهُمْ كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَتَلَهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ.
826- قَوْله: «لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (نُزِلَ) بِضَمِّ النُّون وَكَسْر الزَّاي، وَفِي أَكْثَر الْأُصُول (نُزِلَتْ) بِفَتْحِ الْحُرُوف الثَّلَاثَة وَبِتَاءِ التَّأْنِيث السَّاكِنَة، أَيْ لَمَّا حَضَرَتْ الْمَنِيَّة وَالْوَفَاة.
وَأَمَّا الْأَوَّل فَمَعْنَاهُ: نَزَلَ مَلَكَ الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة الْكِرَام.
قَوْله: «طَفِقَ يَطْرَح خَمِيصَة لَهُ» يُقَال طَفِقَ بِكَسْرِ الْفَاء وَفَتْحهَا أَيْ جَعَلَ، وَالْكَسْر أَفْصَح وَأَشْهَر، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن، وَمِمَّنْ حَكَى الْفَتْح الْأَخْفَش وَالْجَوْهَرِيّ. وَالْخَمِيصَة: كِسَاء لَهُ أَعْلَام.
827- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث النَّجْرَانِيّ) هُوَ النُّون وَالْجِيم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَبْرَأ إِلَى اللَّه أَنْ يَكُون لِي مِنْكُمْ خَلِيل» إِلَى آخِره. مَعْنَى أَبْرَأ أَيْ أَمْتَنِع مِنْ هَذَا وَأُنْكِرهُ. و(الْخَلِيل) هُوَ الْمُنْقَطِع إِلَيْهِ، وَقِيلَ الْمُخْتَصّ بِشَيْءٍ دُون غَيْره. قِيلَ: هُوَ مُشْتَقّ مِنْ (الْخَلَّة) بِفَتْحِ الْخَاء وَهِيَ الْحَاجَة، وَقِيلَ مِنْ (الْخُلَّة) بِضَمِّ الْخَاء وَهِيَ تُخَلِّل الْمَوَدَّة فِي الْقَلْب، فَنَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُون حَاجَته وَانْقِطَاعه إِلَى غَيْر اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ الْخَلِيل مَنْ لَا يَتَّسِع الْقَلْب لِغَيْرِهِ.
قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِتِّخَاذ قَبْره وَقَبْر غَيْره مَسْجِدًا خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيمه وَالِافْتِتَان بِهِ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْكُفْر كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمَم الْخَالِيَة. وَلَمَّا اِحْتَاجَتْ الصَّحَابَة- رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَالتَّابِعُونَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَة إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوت أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ فيه، وَمِنْهَا حُجْرَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مَدْفِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَنَوْا عَلَى الْقَبْر حِيطَانًا مُرْتَفِعَة مُسْتَدِيرَة حَوْله لِئَلَّا يَظْهَر فِي الْمَسْجِد، فَيُصَلِّي إِلَيْهِ الْعَوَامّ وَيُؤَدِّي الْمَحْذُور، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ الْقَبْر الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى اِلْتَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّن أَحَد مِنْ اِسْتِقْبَال الْقَبْر، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث: لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْره، غَيْر أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا:

828- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا بَنَى اللَّه تَعَالَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة مِثْله» يَحْتَمِل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِثْله» أَمْرَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: بَنَى اللَّه تَعَالَى لَهُ مِثْله فِي مُسَمَّى الْبَيْت، وَأَمَّا صِفَته فِي السَّعَة وَغَيْرهَا فَمَعْلُوم فَضْلهَا: أَنَّهَا مِمَّا لَا عَيْن رَأَتْ وَلَا أُذُن سَمِعْت وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَر. الثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ فَضْله عَلَى بُيُوت الْجَنَّة كَفَضْلِ الْمَسْجِد عَلَى بُيُوت الدُّنْيَا.

.باب النَّدْبِ إِلَى وَضْعِ الأَيْدِي عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ وَنَسْخِ التَّطْبِيقِ:

مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة: أَنَّ السُّنَّة وَضْع الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَكَرَاهَة التَّطْبِيق، إِلَّا اِبْن مَسْعُود وَصَاحِبَيْهِ عَلْقَمَة وَالْأَسْوَد فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ السُّنَّة التَّطْبِيق، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُمْ النَّاسِخ وَهُوَ حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالصَّوَاب: مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور لِثُبُوتِ النَّاسِخ الصَّرِيح.
830- قَوْله: «أَصَلَّى هَؤُلَاءِ» يَعْنِي الْأَمِير وَالتَّابِعِينَ لَهُ، وَفيه إِشَارَة إِلَى إِنْكَار تَأْخِيرهمْ الصَّلَاة.
قَوْله: «قُومُوا فَصَلُّوا» فيه: جَوَاز إِقَامَة الْجَمَاعَة فِي الْبُيُوت، لَكِنْ لَا يَسْقُط بِهَا فَرْض الْكِفَايَة، إِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ الصَّحِيح: أَنَّهَا فَرْض كِفَايَة، بَلْ لابد مِنْ إِظْهَارهَا. وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى فِعْلهَا فِي الْبَيْت؛ لِأَنَّ الْفَرْض كَانَ يَسْقُط بِفِعْلِ الْأَمِير وَعَامَّة النَّاس، وَإِنْ أَخَّرُوهَا إِلَى أَوَاخِر الْوَقْت.
قَوْله: «فَلَمْ يَأْمُرنَا بِأَذَانٍ وَلَا إِقَامَة» هَذَا مَذْهَب اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَبَعْض السَّلَف مِنْ أَصْحَابه وَغَيْرهمْ: أَنَّهُ لَا يُشْرَع الْأَذَان وَلَا الْإِقَامَة لِمَنْ يُصَلِّي وَحْده فِي الْبَلَد الَّذِي يُؤَذَّن فيه وَيُقَام لِصَلَاةِ الْجَمَاعَة الْعُظْمَى، بَلْ يَكْفِي أَذَانهمْ وَإِقَامَتهمْ. وَذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى أَنَّ الْإِقَامَة سُنَّة فِي حَقّه وَلَا يَكْفيه إِقَامَة الْجَمَاعَة، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَذَان فَقَالَ بَعْضهمْ: يُشْرَع لَهُ، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا يُشْرَع، وَمَذْهَبنَا الصَّحِيح أَنَّهُ يُشْرَع لَهُ الْأَذَان إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ أَذَان الْجَمَاعَة وَإِلَّا فَلَا يُشْرَع.
قَوْله: «ذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفه فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا، فَجَعَلَ أَحَدنَا عَنْ يَمِينه وَالْآخَر عَنْ شِمَاله» وَهَذَا مَذْهَب اِبْن مَسْعُود وَصَاحِبَيْهِ، وَخَالَفَهُمْ جَمِيع الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ إِلَى الْآن، فَقَالُوا: إِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَام رَجُلَانِ وَقَفَا وَرَاءَهُ صَفًّا لِحَدِيثِ جَابِر وَحَبَّار بْن صَخْر، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه فِي آخِر الْكِتَاب فِي الْحَدِيث الطَّوِيل عَنْ جَابِر، وَأَجْمَعُوا إِذَا كَانُوا ثَلَاثَة أَنَّهُمْ يَقِفُونَ وَرَاءَهُ، وَأَمَّا الْوَاحِد فَيَقِف عَنْ يَمِين الْإِمَام عِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة، وَنَقَلَ جَمَاعَة الْإِجْمَاع فيه، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ يَقِف عَنْ يَسَاره، وَلَا أَظُنّهُ يَصِحّ عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ حَدِيث اِبْن عَبَّاس، وَكَيْف كَانَ فَهُمْ الْيَوْم مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ يَقِف عَنْ يَمِينه.
قَوْله: «إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاء يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاة عَنْ مِيقَاتهَا وَيَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَق الْمَوْتَى» مَعْنَاهُ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار، وَهُوَ أَوَّل وَقْتهَا، لَا عَنْ جَمِيع وَقْتهَا.
وَقَوْله: (يَخْنُقُونَهَا) بِضَمِّ النُّون مَعْنَاهُ يُضَيِّقُونَ وَقْتهَا وَيُؤَخِّرُونَ أَدَاءَهَا، يُقَال هُمْ فِي خِنَاق مِنْ كَذَا أَيْ فِي ضِيق. وَالْمُخْتَنِق: الْمَضِيق. (وَشَرَق) الْمَوْتَى بِفَتْحِ الشِّين وَالرَّاء، قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: فيه مَعْنَيَانِ: أَحَدهمَا أَنَّ الشَّمْس فِي ذَلِكَ الْوَقْت- وَهُوَ آخِر النَّهَار- إِنَّمَا تَبْقَى سَاعَة ثُمَّ تَغِيب. وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ قَوْلهمْ شَرَق الْمَيِّت بِرِيقِهِ. إِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْده إِلَّا يَسِيرًا ثُمَّ يَمُوت.
قَوْله: «فَصَلُّوا الصَّلَاة لِمِيقَاتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَة»: (السُّبْحَة) بِضَمِّ السِّين وَإِسْكَان الْبَاء هِيَ النَّافِلَة، وَمَعْنَاهُ: صَلُّوا فِي أَوَّل الْوَقْت يَسْقُط عَنْكُمْ الْفَرْض، ثُمَّ صَلُّوا مَعَهُمْ مَتَى صَلَّوْا لِتُحْرِزُوا فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت وَفَضِيلَة الْجَمَاعَة، وَلِئَلَّا تَقَع فِتْنَة بِسَبَبِ التَّخَلُّف عَنْ الصَّلَاة مَعَ الْإِمَام وَتَخْتَلِف كَلِمَة الْمُسْلِمِينَ. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى فَرِيضَة مَرَّتَيْنِ تَكُون الثَّانِيَة سَقْط، وَالْفَرْض سَقْط بِالْأَوْلَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا.
وَقِيلَ: الْفَرْض أَكْمَلهمَا، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا، وَقِيلَ: إِحْدَاهُمَا مُبْهَمَة، وَتَظْهَر فَائِدَة الْخِلَاف فِي مَسَائِل مَعْرُوفَة.
قَوْله: (وَلْيَجْنَأ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَإِسْكَان الْجِيم آخِره مَهْمُوز، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا هُوَ فِي أُصُول بِلَادنَا، وَمَعْنَاهُ: يَنْعَطِف، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: رُوِيَ وَلْيَجْنَأْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَرُوِيَ (وَلْيَحْنِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، قَالَ: وَهَذَا رِوَايَة أَكْثَر شُيُوخنَا، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَمَعْنَاهُ الِانْحِنَاء وَالِانْعِطَاف فِي الرُّكُوع.
قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْض شُيُوخنَا بِضَمِّ النُّون وَهُوَ صَحِيح فِي الْمَعْنَى أَيْضًا، يُقَال: حَنَيْت الْعُود وَحَنَوْته إِذَا عَطَفْته، وَأَصْل الرُّكُوع فِي اللُّغَة الْخُضُوع وَالذِّلَّة، وَسُمِّيَ الرُّكُوع الشَّرْعِيّ: رُكُوعًا؛ لِمَا فيه مِنْ صُورَة الذِّلَّة وَالْخُضُوع وَالِاسْتِسْلَام.
832- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَة عَنْ أَبَى يَعْفُور) هُوَ بِالرَّاءِ وَاسْمه عَبْد الرَّحْمَن بْن عُبَيْد بْن نِسْطَاس- بِكَسْرِ النُّون- وَهُوَ أَبُو يَعْفُور الْأَصْغَر، وَأَمَّا أَبُو يَعْفُور الْأَكْبَر فَاسْمه: (وَاقِد) وَقِيلَ: (وَقْدَان)، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانهمَا فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث: أَيّ الْأَعْمَال أَفْضَل.

.باب جَوَازِ الإِقْعَاءِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ:

835- فيه: (طَاوُسٌ قَالَ: قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي الْإِقْعَاء عَلَى الْقَدَمَيْنِ قَالَ: هِيَ السُّنَّة فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لَنَرَاهُ جُفَاء بِالرَّجُلِ، فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: بَلْ هِيَ سُنَّة نَبِيّك صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اِعْلَمْ أَنَّ الْإِقْعَاء وَرَدَ فيه حَدِيثَانِ: فَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ سُنَّة، وَفِي حَدِيث آخَر النَّهْي عَنْهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ رِوَايَة عَلِيّ، وَابْن مَاجَهْ مِنْ رِوَايَة أَنَس، وَأَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ رِوَايَة سَمُرَة وَأَبِي هُرَيْرَة، وَالْبَيْهَقِيّ مِنْ رِوَايَة سَمُرَة وَأَنَس، وَأَسَانِيدهَا كُلّهَا ضَعِيفَة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْم الْإِقْعَاء وَفِي تَفْسِيره اِخْتِلَافًا كَثِيرًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَالصَّوَاب الَّذِي لَا مَعْدِل عَنْهُ أَنَّ الْإِقْعَاء نَوْعَانِ. أَحَدهمَا أَنْ يُلْصِق أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ، وَيَنْصِب سَاقَيْهِ، وَيَضَع يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْض كَإِقْعَاءِ الْكَلْب، هَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى وَصَاحِبه أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَام وَآخَرُونَ مِنْ أَهْل اللُّغَة، وَهَذَا النَّوْع هُوَ الْمَكْرُوه الَّذِي وَرَدَ فيه النَّهْي. وَالنَّوْع الثَّانِي: أَنْ يَجْعَل أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ بَيْن السَّجْدَتَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مُرَاد اِبْن عَبَّاس بِقَوْلِهِ: سُنَّة نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الْبُوَيْطِيّ وَالْإِمْلَاء عَلَى اِسْتِحْبَابه فِي الْجُلُوس بَيْن السَّجْدَتَيْنِ، وَحَمَلَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَلَيْهِ جَمَاعَات مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاض وَآخَرُونَ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالسَّلَف أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: وَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ السُّنَّة أَنْ تَمَسّ عَقِبَيْك أَلْيَيْكَ، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي تَفْسِير حَدِيث اِبْن عَبَّاس.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى اِسْتِحْبَابه فِي الْجُلُوس بَيْن السَّجْدَتَيْنِ، وَلَهُ نَصٌّ آخَر وَهُوَ الْأَشْهَر: أَنَّ السُّنَّة فيه الِافْتِرَاش، وَحَاصِله أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ، وَأَيّهمَا أَفْضَل؟ فيه قَوْلَانِ.
وَأَمَّا جِلْسَة التَّشَهُّد الْأَوَّل وَجِلْسَة الِاسْتِرَاحَة فَسُنَّتهمَا الِافْتِرَاش، وَجِلْسَة التَّشَهُّد الْأَخِير السُّنَّة فيه التَّوَرُّك، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَعَ مَذَاهِب الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى. وَقَوْله: (إِنَّا لَنَرَاهُ جُفَاء بِالرَّجُلِ) ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الرَّاء وَضَمِّ الْجِيم أَيْ بِالْإِنْسَانِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيع رُوَاة مُسْلِم، قَالَ: وَضَبَطَهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ بِكَسْرِ الرَّاء وَإِسْكَان الْجِيم، قَالَ أَبُو عُمَر: وَمَنْ ضَمَّ الْجِيم فَقَدْ غَلِطَ، وَرَدَّ الْجُمْهُور عَلَى اِبْن عَبْد الْبَرّ وَقَالُوا: الصَّوَاب الضَّمّ وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بِهِ إِضَافَة الْجُفَاء إِلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ وَنَسْخِ مَا كَانَ مِنْ إِبَاحَتِهِ:

836- قَوْله: (وَاثُكْل أُمِّيَّاهُ) الثُّكْل بِضَمِّ الثَّاء وَإِسْكَان الْكَاف وَبِفَتْحِهِمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ، كَالْبُخْلِ وَالْبَخَل، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره، وَهُوَ فِقْدَان الْمَرْأَة وَلَدهَا، وَامْرَأَة ثَكْلَى وَثَاكِل، وَثَكِلَتْهُ أُمّه بِكَسْرِ الْكَاف، وَأَثْكَلَهُ اللَّه تَعَالَى أُمّه. وَقَوْله: (أُمِّيَّاهُ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم.
قَوْله: (فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذهمْ) يَعْنِي فَعَلُوا هَذَا لِيُسْكِتُوهُ، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْل أَنْ يُشْرَع التَّسْبِيح لِمَنْ نَابَهُ شَيْء فِي صَلَاته. وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الْفِعْل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة، وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَة فيه إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ.
قَوْله: «فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْت مُعَلِّمًا قَبْله وَلَا بَعْده أَحْسَن تَعْلِيمًا مِنْهُ» فيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَظِيم الْخُلُق الَّذِي شَهِدَ اللَّه تَعَالَى لَهُ بِهِ، وَرِفْقه بِالْجَاهِلِ، وَرَأْفَته بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ. وَفيه التَّخَلُّق بِخُلُقِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّفْق بِالْجَاهِلِ، وَحُسْن تَعْلِيمه وَاللُّطْف بِهِ، وَتَقْرِيب الصَّوَاب إِلَى فَهْمه.
قَوْله: «فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي» أَيْ مَا اِنْتَهَرَنِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاة لَا يَصْلُح فيها شَيْء مِنْ كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن» فيه: تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، سَوَاء كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرهَا، وَسَوَاء كَانَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاة أَوْ غَيْرهَا، فَإِنْ اِحْتَاجَ إِلَى تَنْبِيه أَوْ إِذْن لِدَاخِلٍ وَنَحْوه سَبَّحَ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَصَفَّقَتْ إِنْ كَانَتْ اِمْرَأَة، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَالْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف.
وَقَالَ طَائِفَة مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجُوز الْكَلَام لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاة وَلِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعه- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- وَهَذَا فِي كَلَام الْعَامِد الْعَالِم. أَمَّا النَّاسِي فَلَا تَبْطُل صَلَاته بِالْكَلَامِ الْقَلِيل عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ: تَبْطُل. دَلِيلنَا: حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ. فَإِنْ كَثُرَ كَلَام النَّاسِي فَفيه وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا: تَبْطُل صَلَاته؛ لِأَنَّهُ نَادِر، وَأَمَّا كَلَام الْجَاهِل إِذَا كَانَ قَرِيب عَهْد بِالْإِسْلَامِ فَهُوَ كَكَلَامِ النَّاسِي، فَلَا تَبْطُل الصَّلَاة بِقَلِيلِهِ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَة بْن الْحَكَم هَذَا، الَّذِي نَحْنُ فيه؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاة، لَكِنْ عَلَّمَهُ تَحْرِيم الْكَلَام فِيمَا يُسْتَقْبَل.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن» فَمَعْنَاهُ: هَذَا وَنَحْوه، فَإِنَّ التَّشَهُّد وَالدُّعَاء وَالتَّسْلِيم مِنْ الصَّلَاة وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَذْكَار مَشْرُوع فيها، فَمَعْنَاهُ: لَا يَصْلُح فيها شَيْء مِنْ كَلَام النَّاس وَمُخَاطَبَاتهمْ، وَإِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيح وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الذِّكْر وَالدُّعَاء وَأَشْبَاههمَا مِمَّا وَرَدَ بِهِ الشَّرْع. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّم، فَسَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ قَرَأَ الْقُرْآن لَا يَحْنَث، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور فِي مَذْهَبنَا. وَفيه: دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَالْجُمْهُور أَنَّ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام فَرْض مِنْ فُرُوض الصَّلَاة وَجُزْء مِنْهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَيْسَتْ مِنْهَا، بَلْ هِيَ شَرْط خَارِج عَنْهَا مُتَقَدِّم عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: النَّهْي عَنْ تَشْمِيت الْعَاطِس فِي الصَّلَاة، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَام النَّاس الَّذِي يَحْرُم فِي الصَّلَاة وَتَفْسُد بِهِ إِذَا أَتَى بِهِ عَالِمًا عَامِدًا.
قَالَ أَصْحَابنَا: إِنْ قَالَ: يَرْحَمك اللَّه بِكَافِ الْخِطَاب بَطَلَتْ صَلَاته، وَإِنْ قَالَ: يَرْحَمهُ اللَّه، أَوْ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ، أَوْ رَحِمَ اللَّه فُلَانًا لَمْ تَبْطُل صَلَاته؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ.
وَأَمَّا الْعَاطِس فِي الصَّلَاة فَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَحْمَد اللَّه تَعَالَى سِرًّا، هَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَغَيْره، وَعَنْ اِبْن عُمَر وَالنَّخَعِيّ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُ يَجْهَر بِهِ، وَالْأَوَّل أَظْهَر؛ لِأَنَّهُ ذِكْر، وَالسُّنَّة فِي الْأَذْكَار فِي الصَّلَاة الْإِسْرَار إِلَّا مَا اِسْتَثْنَى مِنْ الْقِرَاءَة فِي بَعْضهَا وَنَحْوهَا.
قَوْله: «إِنِّي حَدِيث عَهْد بِجَاهِلِيَّةٍ» قَالَ الْعُلَمَاء: الْجَاهِلِيَّة مَا قَبْل وُرُود الشَّرْع، سُمُّوا جَاهِلِيَّة لِكَثْرَةِ جَهَالَاتهمْ وَفُحْشهمْ.
فَقَوْله: «إِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّان قَالَ: فَلَا تَأْتِهِمْ» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ إِتْيَان الْكَاهِن؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي مُغَيَّبَات قَدْ يُصَادِف بَعْضهَا الْإِصَابَة؛ فَيُخَاف الْفِتْنَة عَلَى الْإِنْسَان بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاس كَثِيرًا مِنْ أَمْر الشَّرَائِع، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِالنَّهْيِ عَنْ إِتْيَان الْكُهَّان وَتَصْدِيقهمْ فِيمَا يَقُولُونَ، وَتَحْرِيم مَا يُعْطُونَ مِنْ الْحُلْوَانِ، وَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاع فِي تَحْرِيمه جَمَاعَة مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّد الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: اِتَّفَقَ أَهْل الْعِلْم عَلَى تَحْرِيم حُلْوَانِ الْكَاهِن، وَهُوَ مَا أَخَذَهُ الْمُتَكَهِّن عَلَى كِهَانَته، لِأَنَّ فِعْل الْكِهَانَة بَاطِل لَا يَجُوز أَخْذ الْأُجْرَة عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة: وَيَمْنَع الْمُحْتَسِب النَّاس مِنْ التَّكَسُّب بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْو، وَيُؤَدِّب عَلَيْهِ الْآخِذ وَالْمُعْطِي، وَقَالَ الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: حُلْوَان الْكَاهِن مَا يَأْخُذهُ الْمُتَكَهِّن عَلَى كِهَانَته، وَهُوَ مُحَرَّم. وَفِعْله بَاطِل، قَالَ: وَحُلْوَان الْعَرَّاف حَرَام أَيْضًا، قَالَ: وَالْفَرْق بَيْن الْعَرَّاف وَالْكَاهِن، أَنَّ الْكَاهِن إِنَّمَا يَتَعَاطَى الْأَخْبَار عَنْ الْكَوَائِن فِي الْمُسْتَقْبَل، وَيَدَّعِي مَعْرِفَة الْأَسْرَار، وَالْعَرَّاف يَتَعَاطَى مَعْرِفَة الشَّيْء الْمَسْرُوق، وَمَكَان الضَّالَّة وَنَحْوهمَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيّ أَيْضًا فِي حَدِيث: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، قَالَ: كَانَ فِي الْعَرَب كَهَنَة يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُور، مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُم أَنَّ لَهُ رِئْيًا مِنْ الْجِنّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَار، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي اِسْتِدْرَاك ذَلِكَ بِفَهْمٍ أُعْطِيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى: عَرَّافًا وَهُوَ الَّذِي يَزْعُم مَعْرِفَة الْأُمُور بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَاب اِسْتَدَلَّ بِهَا، كَمَعْرِفَةِ مَنْ سَرَقَ الشَّيْء الْفُلَانِيّ، وَمَعْرِفَة مَنْ يُتَّهَم بِهِ الْمَرْأَة، وَنَحْو ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّم كَاهِنًا، قَالَ: وَالْحَدِيث يَشْتَمِل عَلَى النَّهْي عَنْ إِتْيَان هَؤُلَاءِ كُلّهمْ، وَالرُّجُوع إِلَى قَوْلهمْ وَتَصْدِيقهمْ فِيمَا يَدَّعُونَهُ. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيّ وَهُوَ نَفِيس.
قَوْله: «وَمِنَّا رِجَال يَتَطَيَّرُونَ قَالَ: ذَلِكَ شَيْء يَجِدُونَهُ فِي صُدُورهمْ فَلَا يَصُدَّنهُمْ»، وَفِي رِوَايَة: «فَلَا يَصُدَّنكُمْ» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَّ الطِّيَرَة شَيْء تَجِدُونَهُ فِي نُفُوسِكُمْ ضَرُورَة وَلَا عَتَب عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ غَيْر مُكْتَسَب لَكُمْ فَلَا تَكْلِيف بِهِ، وَلَكِنْ لَا تَمْتَنِعُوا بِسَبَبِهِ مِنْ التَّصَرُّف فِي أُمُوركُمْ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُكْتَسَب لَكُمْ فَيَقَع بِهِ التَّكْلِيف، فَنَهَاهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعَمَل بِالطِّيَرَةِ وَالِامْتِنَاع مِنْ تَصَرُّفَاتهمْ بِسَبَبِهَا، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ التَّطَيُّر. وَالطِّيَرَة هِيَ مَحْمُولَة عَلَى الْعَمَل بِهَا لَا عَلَى مَا يُوجَد فِي النَّفْس مِنْ غَيْر عَمَل عَلَى مُقْتَضَاهُ عِنْدهمْ. وَسَيَأْتِي بَسْط الْكَلَام فيها فِي مَوْضِعهَا- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- حَيْثُ ذَكَرَهَا مُسْلِم- رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: «وَمِنَّا رِجَال يَخُطُّونَ قَالَ: كَانَ نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام يَخُطّ فَمَنْ وَافَقَ خَطّه فَذَاكَ» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ، فَالصَّحِيح أَنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ وَافَقَهُ خَطُّه فَهُوَ مُبَاح لَهُ، وَلَكِنْ لَا طَرِيق لَنَا إِلَى الْعِلْم الْيَقِينِيّ بِالْمُوَافَقَةِ فَلَا يُبَاح، وَالْمَقْصُود: أَنَّهُ حَرَام، لِأَنَّهُ لَا يُبَاح إِلَّا بِيَقِينِ الْمُوَافَقَة، وَلَيْسَ لَنَا يَقِين بِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ وَافَقَ خَطُّه فَذَاكَ، وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ حَرَام، بِغَيْرِ تَعْلِيق عَلَى الْمُوَافَقَة، لِئَلَّا يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم أَنَّ هَذَا النَّهْي يَدْخُل فيه ذَاكَ النَّبِيّ الَّذِي كَانَ يَخُطّ، فَحَافَظَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُرْمَة ذَاكَ النَّبِيّ مَعَ بَيَان الْحَكَم فِي حَقّنَا. فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَاكَ النَّبِيّ لَا مَنْع فِي حَقّه، وَكَذَا لَوْ عَلِمْتُمْ مُوَافَقَته، وَلَكِنْ لَا عِلْم لَكُمْ بِهَا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: هَذَا الْحَدِيث يَحْتَمِل النَّهْي عَنْ هَذَا الْخَطّ إِذَا كَانَ عَلَمًا لِنُبُوَّةِ ذَاكَ النَّبِيّ، وَقَدْ اِنْقَطَعَتْ فَنُهِينَا عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الْمُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَافَقَ خَطّه فَذَاكَ الَّذِي يَجِدُونَ إِصَابَته فِيمَا يَقُول، لَا أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِفَاعِلِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّ هَذَا نُسِخَ فِي شَرْعنَا فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوع كَلَام الْعُلَمَاء فيه الِاتِّفَاق عَلَى النَّهْي عَنْهُ الْآن.
قَوْله: «وَكَانَتْ لِي جَارِيَة تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَل أُحُد وَالْجَوَّانِيَّة» هِيَ بِفَتْحِ الْجِيم وَتَشْدِيد الْوَاو، وَبَعْد الْأَلِف نُون مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء مُشَدَّدَة، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْد الْبَكْرِيّ وَالْمُحَقِّقُونَ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ بَعْضهمْ تَخْفِيف الْيَاء، وَالْمُخْتَار التَّشْدِيد. وَالْجَوَّانِيَّة- بِقُرْبِ أُحُد- مَوْضِع فِي شَمَالِي الْمَدِينَة، وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: إِنَّهَا مِنْ عَمَل الْفَرْع فَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ لِأَنَّ الْفَرْع بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة بَعِيد مِنْ الْمَدِينَة وَأُحُد فِي الْمَدِينَة، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيث: قِبَل أُحُد وَالْجَوَّانِيَّة. فَكَيْفَ يَكُون عِنْد الْفَرْع؟ وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز اِسْتِخْدَام السَّيِّد جَارِيَته فِي الرَّعْي وَإِنْ كَانَتْ تَنْفَرِد فِي الْمَرْعَى، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْع مُسَافَرَة الْمَرْأَة وَحْدهَا، لِأَنَّ السَّفَر مَظِنَّة الطَّمَع فيها وَانْقِطَاع نَاصِرهَا وَالذَّابّ عَنْهَا وَبَعْدهَا مِنْهُ، بِخِلَافِ الرَّاعِيَة، وَمَعَ هَذَا فَإِنْ خِيفَ مَفْسَدَة مِنْ رَعْيهَا- لِرِيبَةٍ فيها أَوْ لِفَسَادِ مَنْ يَكُون فِي النَّاحِيَة الَّتِي تَرْعَى فيها أَوْ نَحْو ذَلِكَ- لَمْ يَسْتَرْعِهَا، وَلَمْ تُمَكَّن الْحُرَّة وَلَا الْأَمَة مِنْ الرَّعْي حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِير فِي مَعْنَى السَّفَر الَّذِي حَرَّمَ الشَّرْع عَلَى الْمَرْأَة، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَم أَوْ نَحْوه مِمَّنْ تَأْمَن مَعَهُ عَلَى نَفْسهَا؛ فَلَا مَنْع حِينَئِذٍ. كَمَا لَا يَمْنَع مِنْ الْمُسَافَرَة فِي هَذَا الْحَال. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «آسَف» أَيْ أَغْضَب وَهُوَ بِفَتْحِ السِّين.
قَوْله: «صَكَكْتهَا» أَيْ لَطَمْتهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّه؟ قَالَتْ فِي السَّمَاء قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُول اللَّه قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة» هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات، وَفيها مَذْهَبَانِ تَقَدَّمَ ذِكْرهمَا مَرَّات فِي كِتَاب الْإِيمَان. أَحَدهمَا: الْإِيمَان بِهِ مِنْ غَيْر خَوْض فِي مَعْنَاهُ، مَعَ اِعْتِقَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَتَنْزِيهه عَنْ سِمَات الْمَخْلُوقَات. وَالثَّانِي تَأْوِيله بِمَا يَلِيق بِهِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ: كَانَ الْمُرَاد اِمْتِحَانهَا، هَلْ هِيَ مُوَحِّدَة تُقِرّ بِأَنَّ الْخَالِق الْمُدَبِّر الْفَعَّال هُوَ اللَّه وَحْده، وَهُوَ الَّذِي إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي اِسْتَقْبَلَ السَّمَاء كَمَا إِذَا صَلَّى الْمُصَلِّي اِسْتَقْبَلَ الْكَعْبَة؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنْحَصِر فِي السَّمَاء كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي جِهَة الْكَعْبَة، بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَاء قِبْلَة الدَّاعِينَ، كَمَا أَنَّ الْكَعْبَة قِبْلَة الْمُصَلِّينَ، أَوْ هِيَ مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان الْعَابِدِينَ لِلْأَوْثَانِ الَّتِي بَيْن أَيْدِيهمْ، فَلَمَّا قَالَتْ: فِي السَّمَاء، عَلِمَ أَنَّهَا مُوَحِّدَة وَلَيْسَتْ عَابِدَة لِلْأَوْثَانِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: لَا خِلَاف بَيْن الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَة فَقِيههمْ وَمُحَدِّثهمْ وَمُتَكَلِّمهمْ وَنُظَّارهمْ وَمُقَلِّدهمْ أَنَّ الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى فِي السَّمَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِف بِكُمْ الْأَرْض} وَنَحْوه لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرهَا، بَلْ مُتَأَوَّلَة عِنْد جَمِيعهمْ، فَمَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ جِهَة فَوْق مِنْ غَيْر تَحْدِيد وَلَا تَكْيِيف مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ تَأَوَّلَ: فِي السَّمَاء، أَيْ: عَلَى السَّمَاء، وَمَنْ قَالَ مِنْ دَهْمَاء النُّظَّار وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَاب التَّنْزِيه بِنَفْيِ الْحَدّ وَاسْتِحَالَة الْجِهَة فِي حَقّه سُبْحَانه وَتَعَالَى تَأَوَّلُوهَا تَأْوِيلَات بِحَسَبِ مُقْتَضَاهَا، وَذَكَرَ نَحْو مَا سَبَقَ.
قَالَ: وَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَمَعَ أَهْل السُّنَّة وَأَلْحَقَ كُلّهمْ عَلَى وُجُوب الْإِمْسَاك عَنْ الْفِكْر فِي الذَّات كَمَا أُمِرُوا، وَسَكَتُوا لِحِيرَةِ الْعَقْل، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيم التَّكْيِيف وَالتَّشْكِيل، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وُقُوفهمْ وَإِمْسَاكهمْ غَيْر شَاكّ فِي الْوُجُود وَالْمَوْجُودَة، وَغَيْر قَادِح فِي التَّوْحِيد، بَلْ هُوَ حَقِيقَته، ثُمَّ تَسَامَحَ بَعْضهمْ بِإِثْبَاتِ الْجِهَة خَاشِيًا مِنْ مِثْل هَذَا التَّسَامُح، وَهَلْ بَيْن التَّكْيِيف وَإِثْبَات الْجِهَات فَرْق؟ لَكِنْ إِطْلَاق مَا أَطْلَقَهُ الشَّرْع مِنْ أَنَّهُ الْقَاهِر فَوْق عِبَاده، وَأَنَّهُ اِسْتَوَى عَلَى الْعَرْش، مَعَ التَّمَسُّك بِالْآيَةِ الْجَامِعَة لِلتَّنْزِيهِ الْكُلِّيّ الَّذِي لَا يَصِحّ فِي الْمَعْقُول غَيْره، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} عِصْمَة لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ إِعْتَاق الْمُؤْمِن أَفْضَل مِنْ إِعْتَاق الْكَافِر، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز عِتْق الْكَافِر فِي غَيْر الْكَفَّارَات، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئ الْكَافِر فِي كَفَّارَة الْقَتْل، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآن. وَاخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين وَالْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَان، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور: لَا يُجْزِئهُ إِلَّا مُؤْمِنَة حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّد فِي كَفَّارَة الْقَتْل، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ: يُجْزِئهُ الْكَافِر لِلْإِطْلَاقِ فَإِنَّهَا تُسَمَّى رَقَبَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّه؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاء قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة». فيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَافِر لَا يَصِير مُؤْمِنًا إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ جَزْمًا كَفَاهُ ذَلِكَ فِي صِحَّة إِيمَانه وَكَوْنه، مِنْ أَهْل الْقِبْلَة وَالْجَنَّة، وَلَا يُكَلَّف مَعَ هَذَا إِقَامَة الدَّلِيل وَالْبُرْهَان عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمهُ مَعْرِفَة الدَّلِيل، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان مَعَ مَا يَتَعَلَّق بِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
837- قَوْله فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود: «كُنَّا نُسَلِّم عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيَرُدّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْد النَّجَاشِيّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّه كُنَّا نُسَلِّم عَلَيْك فِي الصَّلَاة فَتَرُدّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاة شُغْلًا» وَفِي حَدِيث زَيْد بْن أَرْقَم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «كُنَّا نَتَكَلَّم فِي الصَّلَاة، يُكَلِّم الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ إِلَى جَنْبه فِي الصَّلَاة حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَام» وَفِي حَدِيث جَابِر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ-: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ ثُمَّ أَدْرَكْته وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ: إِنَّك سَلَّمْت آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي» هَذِهِ الْأَحَادِيث فيها فَوَائِد. مِنْهَا تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة سَوَاء كَانَ لِمَصْلَحَتِهَا أَمْ لَا، وَتَحْرِيم رَدِّ السَّلَام فيها بِاللَّفْظِ، وَأَنَّهُ لَا تَضُرّ الْإِشَارَة بَلْ يُسْتَحَبّ رَدُّ السَّلَام بِالْإِشَارَةِ، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَة قَالَ الشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَرُونَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: يَرُدّ السَّلَام فِي الصَّلَاة نُطْقًا، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَالْحَسَن وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَقَتَادَة وَإِسْحَاق، وَقِيلَ: يَرُدّ فِي نَفْسه، وَقَالَ عَطَاء، وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ: يَرُدّ بَعْد السَّلَام فِي الصَّلَاة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يَرُدّ بِلَفْظٍ، وَلَا إِشَارَة بِكُلِّ حَال، وَقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمَالِك وَأَصْحَابه وَجَمَاعَة: يَرُدّ إِشَارَة وَلَا يَرُدّ نُطْقًا، وَمَنْ قَالَ يَرُدّ نُطْقًا، كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْأَحَادِيث.
وَأَمَّا اِبْتِدَاء السَّلَام عَلَى الْمُصَلِّي فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُسَلِّم عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَسْتَحِقّ جَوَابًا، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء، وَعَنْ مَالِك- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: كَرَاهَة السَّلَام. وَالثَّانِيَة جَوَازه. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الصَّلَاة شُغْلًا». مَعْنَاهُ: إِنَّ الْمُصَلِّي وَظِيفَته أَنْ يَشْتَغِل بِصَلَاتِهِ فَيَتَدَبَّر مَا يَقُولهُ، وَلَا يُعَرِّج عَلَى غَيْرهَا، فَلَا يَرُدّ سَلَامًا وَلَا غَيْره.
قَوْله: (حَدَّثَنَا هُرَيْم) هُوَ بِضَمِّ الْهَاء وَفَتْح الرَّاء.
838- قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ: مُطِيعِينَ، وَقِيلَ: سَاكِتِينَ.
قَوْله: «أُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَام»: فيه دَلِيل عَلَى تَحْرِيم جَمِيع أَنْوَاع كَلَام الْآدَمِيِّينَ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْكَلَام فيها عَامِدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بِغَيْرِ مَصْلَحَتهَا وَبِغَيْرِ إِنْقَاذهَا وَشِبْهه مُبْطِل لِلصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْكَلَام لِمَصْلَحَتِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَالْجُمْهُور: يُبْطِل الصَّلَاة، وَجَوَّزَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَبَعْض أَصْحَاب مَالِك وَطَائِفَة قَلِيلَة. وَكَلَام النَّاسِي لَا يُبْطِلهَا عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور مَا لَمْ يُطِلْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ: يُبْطِل، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه. وَفِي حَدِيث جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَدُّ السَّلَام بِالْإِشَارَةِ وَأَنَّهُ لَا تَبْطُل الصَّلَاة بِالْإِشَارَةِ وَنَحْوهَا مِنْ الْحَرَكَات الْيَسِيرَة، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْ رَدِّ السَّلَام مَانِع أَنْ يَعْتَذِر إِلَى الْمُسْلِم، وَيَذْكُر لَهُ ذَلِكَ الْمَانِع.
839- قَوْله: «وَهُوَ مُوَجِّه قِبَل الْمَشْرِق» وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيم أَيْ مُوَجِّه وَجْهه وَرَاحِلَته، وَفيه: دَلِيل لِجَوَازِ النَّافِلَة فِي السَّفَر حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَته، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ.
841- قَوْله: (حَدَّثَنَا كَثِير بْن شِنْظِير) هُوَ بِكَسْرِ الشِّين وَالظَّاء الْمُعْجَمَتَيْنِ.