فصل: باب فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِ مَنْ أَحْصَاهَا:

4835- سبق شرحه بالباب.
4836- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَة وَتِسْعِينَ اِسْمًا، مِائَة إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة، إِنَّهُ وِتْر يُحِبّ الْوِتْر» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّة» قَالَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاسْم هُوَ الْمُسَمَّى، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْره لَكَانَتْ الْأَسْمَاء لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ أَشْهَر أَسْمَائِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى: (اللَّه) لِإِضَافَةِ هَذِهِ الْأَسْمَاء إِلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّه هُوَ اِسْمه الْأَعْظَم، قَالَ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرِيُّ: وَإِلَيْهِ يُنْسَب كُلّ اِسْم لَهُ فَيُقَال: الرَّءُوف وَالْكَرِيم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُقَال مِنْ أَسْمَاء الرَّءُوف أَوْ الْكَرِيم اللَّه. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَيْسَ فيه حَصْر لِأَسْمَائِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَسْمَاء غَيْر هَذِهِ التِّسْعَة وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُود الْحَدِيث أَنَّ هَذِهِ التِّسْعَة وَالتِّسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة، فَالْمُرَاد الْإِخْبَار عَنْ دُخُول الْجَنَّة بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَار بِحَصْرِ الْأَسْمَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «أَسْأَلك بِكُلِّ اِسْم سَمَّيْت بِهِ نَفْسك أَوْ اِسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْم الْغَيْب عِنْدك»، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ الْمَالِكِيّ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى أَلْف اِسْم، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: وَهَذَا قَلِيل فيها. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا تَعْيِين هَذِهِ الْأَسْمَاء فَقَدْ جَاءَ فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيْره فِي بَعْض أَسْمَائِهِ خِلَاف، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُخْفِيَة التَّعْيِين كَالِاسْمِ الْأَعْظَم، وَلَيْلَة الْقَدْر وَنَظَائِرهَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة» فَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِإِحْصَائِهَا، فَقَالَ الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ: مَعْنَاهُ: حَفِظَهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَر؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مَنْ حَفِظَهَا» وَقِيلَ: أَحْصَاهَا: عَدَّهَا فِي الدُّعَاء بِهَا، وَقِيلَ: أَطَاقَهَا أَيْ: أَحْسَن الْمُرَاعَاة لَهَا، وَالْمُحَافَظَة عَلَى مَا تَقْتَضِيه، وَصَدَّقَ بِمَعَانِيهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الْعَمَل بِهَا وَالطَّاعَة بِكُلِّ اِسْمهَا، وَالْإِيمَان بِهَا لَا يَقْتَضِي عَمَلًا، وَقَالَ بَعْضهمْ: الْمُرَاد حِفْظ الْقُرْآن وَتِلَاوَته كُلّه، لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ لَهَا، وَهُوَ ضَعِيف وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه وِتْر يُحِبّ الْوِتْر» الْوِتْر: الْفَرْد، وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى: الْوَاحِد الَّذِي لَا شَرِيك لَهُ وَلَا نَظِير. وَمَعْنَى: «يُحِبّ الْوِتْر»: تَفْضِيل الْوِتْر فِي الْأَعْمَال، وَكَثِير مِنْ الطَّاعَات، فَجَعَلَ الصَّلَاة خَمْسًا، وَالطَّهَارَة ثَلَاثًا، وَالطَّوَاف سَبْعًا، وَالسَّعْي سَبْعًا، وَرَمْي الْجِمَار سَبْعًا، وَأَيَّام التَّشْرِيق ثَلَاثًا، وَالِاسْتِنْجَاء ثَلَاثًا، وَكَذَا الْأَكْفَان، وَفِي الزَّكَاة خَمْسَة أَوْسُق وَخَمْس أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِق، وَنِصَاب الْإِبِل وَغَيْر ذَلِكَ، وَجَعَلَ كَثِيرًا مِنْ عَظِيم مَخْلُوقَاته وِتْرًا مِنْهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْضُونَ وَالْبِحَار وَأَيَّام الْأُسْبُوع وَغَيْر ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ مُنْصَرِف إِلَى صِفَة مَنْ يَعْبُد اللَّه بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالتَّفَرُّد مُخْلِصًا لَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الْعَزْمِ بِالدُّعَاءِ وَلاَ يَقُلْ إِنْ شِئْتَ:

4837- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَعَا أَحَدكُمْ فَلْيَعْزِمْ فِي الدُّعَاء، وَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْت فَأَعْطِنِي فَإِنَّ اللَّه لَا مُسْتَكْرِه لَهُ» وَفِي رِوَايَة: «فَإِنَّ اللَّه صَانِع مَا شَاءَ لَا مُكْرِه لَهُ» وَفِي رِوَايَة: «وَلْيَعْزِمْ الرَّغْبَة فَإِنَّ اللَّه لَا يَتَعَاظَمهُ شَيْء أَعْطَاهُ» قَالَ الْعُلَمَاء: عَزْم الْمَسْأَلَة الشِّدَّة فِي طَلَبهَا، وَالْجَزْم مِنْ غَيْر ضَعْف فِي الطَّلَب، وَلَا تَعْلِيق عَلَى مَشِيئَة وَنَحْوهَا، وَقِيلَ: هُوَ حُسْن الظَّنّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِجَابَة. وَمَعْنَى الْحَدِيث: اِسْتِحْبَاب الْجَزْم فِي الطَّلَب، وَكَرَاهَة التَّعْلِيق عَلَى الْمَشِيئَة، قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب كَرَاهَته أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّق اِسْتِعْمَال الْمَشِيئَة إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَتَوَجَّه عَلَيْهِ الْإِكْرَاه، وَاَللَّه تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر الْحَدِيث: فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِه لَهُ، وَقِيلَ: سَبَب الْكَرَاهَة أَنَّ فِي هَذَا اللَّفْظ صُورَة الِاسْتِعْفَاء عَلَى الْمَطْلُوب وَالْمَطْلُوب مِنْهُ.
4838- سبق شرحه بالباب.
4839- قَوْله: (عَنْ عَطَاء بْن مِينَاء) هُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْر.

.باب كَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ:

4840- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدكُمْ الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لابد مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاة خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاة خَيْرًا لِي» فيه: التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ مَرَض أَوْ فَاقَة أَوْ مِحْنَة مِنْ عَدُوّ أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا، فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي دِينه أَوْ فِتْنَة فيه، فَلَا كَرَاهَة فيه؛ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الثَّانِي خَلَائِق مِنْ السَّلَف عِنْد خَوْف الْفِتْنَة فِي أَدْيَانهمْ. وَفيه أَنَّهُ إِنْ خَافَ وَلَمْ يَصْبِر عَلَى حَاله فِي بَلْوَاهُ بِالْمَرَضِ وَنَحْوه فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتْ الْحَيَاة خَيْرًا... إِلَخْ، وَالْأَفْضَل الصَّبْر وَالسُّكُون لِلْقَضَاءِ.
4841- قَوْله: (حَدَّثَنَا عَاصِم عَنْ النَّضْر بْن أَنَس، وَأَنَس يَوْمئِذٍ حَيّ) مَعْنَاهُ: أَنَّ النَّضْر حَدَّثَ بِهِ فِي حَيَاة أَبِيهِ.
4843- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ أَحَدكُمْ اِنْقَطَعَ عَمَله» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ: «عَمَله» وَفِي كَثِير مِنْهَا: «أَمَله» وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لَكِنْ الْأَوَّل أَجْوَد، وَهُوَ الْمُتَكَرِّر فِي الْأَحَادِيث. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ:

4844- قَوْله: (حَدَّثَنَا هَدَّاب) هَذَا الْإِسْنَاد وَاَلَّذِي بَعْده كُلّهمْ بَصْرِيُّونَ إِلَّا عُبَادَةُ بْن الصَّامِت فَشَامِيّ.
4845- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاء اللَّه أَحَبَّ اللَّه لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاء اللَّه كَرِهَ اللَّه لِقَاءَهُ قَالَتْ عَائِشَة: فَقُلْت: يَا نَبِيّ اللَّه أَكَرَاهِيَة الْمَوْت؟ فَكُلّنَا يَكْرَه الْمَوْت، قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِن إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّه وَرِضْوَانه وَجَنَّته أَحَبَّ لِقَاء اللَّه، فَأَحَبَّ اللَّه لِقَاءَهُ، وَأَنَّ الْكَافِر إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّه وَسَخَطه كَرِهَ لِقَاء اللَّه، وَكَرِهَ اللَّه لِقَاءَهُ». هَذَا الْحَدِيث يُفَسِّر آخِره أَوَّله، وَيُبَيِّن الْمُرَاد بِبَاقِي الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة مَنْ أَحَبَّ لِقَاء اللَّه، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاء اللَّه. وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ الْكَرَاهَة الْمُعْتَبَرَة هِيَ الَّتِي تَكُون عِنْد النَّزْع فِي حَالَةٍ لَا تُقْبَل تَوْبَته وَلَا غَيْرهَا، فَحِينَئِذٍ يُبَشَّر كُلّ إِنْسَان بِمَا هُوَ صَائِر إِلَيْهِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُ، وَيُكْشَف لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَهْل السَّعَادَة يُحِبُّونَ الْمَوْت وَلِقَاء اللَّه، لِيَنْتَقِلُوا إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَيُحِبّ اللَّه لِقَاءَهُمْ، أَيْ: فَيُجْزِل لَهُمْ الْعَطَاء وَالْكَرَامَة، وَأَهْل الشَّقَاوَة يَكْرَهُونَ لِقَاءَهُ لِمَا عَلِمُوا مِنْ سُوء مَا يَنْتَقِلُونَ إِلَيْهِ، وَيَكْرَه اللَّه لِقَاءَهُمْ، أَيْ يُبْعِدهُمْ عَنْ رَحْمَته وَكَرَامَته، وَلَا يُرِيد ذَلِكَ بِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى كَرَاهَته سُبْحَانه لِقَاءَهُمْ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ سَبَب كَرَاهَة اللَّه تَعَالَى لِقَاءَهُمْ كَرَاهَتهمْ ذَلِكَ، وَلَا أَنَّ حُبّه لِقَاء الْآخَرِينَ حُبّهمْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ صِفَة لَهُمْ.
4846- سبق شرحه بالباب.
4847- قَوْلهَا: «إِذَا شَخَصَ الْبَصَر وَحَشْرَجَ الصَّدْر وَاقْشَعَرَّ الْجِلْد وَتَشَنَّجَتْ الْأَصَابِع» أَمَّا (شَخَصَ) فَبِفَتْحِ الشِّين وَالْخَاء، وَمَعْنَاهُ: اِرْتِفَاع الْأَجْفَان إِلَى فَوْق، وَتَحْدِيد النَّظَر، وَأَمَّا (الْحَشْرَجَة) فَهِيَ تَرَدُّد النَّفَس فِي الصُّدُور، وَأَمَّا (اِقْشِعْرَار الْجِلْد) فَهُوَ قِيَام شِعْره (وَتَشَنُّج الْأَصَابِع) تَقَبُّضهَا.
4848- سبق شرحه بالباب.

.باب فَضْلِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:

4849- سبق شرحه بالباب.
4850- قَوْله تَعَالَى: «وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إِلَيْهِ بَاعًا أَوْ بُوعًا» الْبَاع وَالْبُوع بِضَمِّ الْبَاء، وَالْبُوع بِفَتْحِهَا كُلّه بِمَعْنًى، وَهُوَ طُول ذِرَاعَيْ الْإِنْسَان وَعَضُدَيْهِ، وَعَرْض صَدْره، قَالَ الْبَاجِيّ: وَهُوَ قَدْر أَرْبَع أَذْرُع وَهَذَا حَقِيقَة اللَّفْظ، وَالْمُرَاد بِهَا فِي هَذَا الْحَدِيث الْمَجَاز كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّل كِتَاب الذِّكْر فِي شَرْح هَذَا الْحَدِيث مَعَ الْحَدِيثَيْنِ بَعْده.
4851- سبق شرحه بالباب.
4852- قَوْله تَعَالَى: «فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَأَزْيَد» مَعْنَاهُ: أَنَّ التَّضْعِيف بِعَشْرَةِ أَمْثَالهَا لابد بِفَضْلِ اللَّه وَرَحْمَته وَوَعْده الَّذِي لَا يُخْلَف، وَالزِّيَادَة بَعْد بِكَثْرَةِ التَّضْعِيف إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف، وَإِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة، يَحْصُل لِبَعْضِ النَّاس دُون بَعْض عَلَى حَسَب مَشِيئَته سُبْحَانه وَتَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: «وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْض خَطِيئَة» هُوَ بِضَمِّ الْقَاف عَلَى الْمَشْهُور، وَهُوَ مَا يُقَارِب مِلْأَهَا وَحُكِيَ كَسْر الْقَاف، نَقَلَهُ الْقَاضِي وَغَيْره. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا:

4853- قَوْله: «عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَت مِثْل الْفَرْخ» أَيْ: ضَعُفَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: النَّهْي عَنْ الدُّعَاء بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَة. وَفيه: فَضْل الدُّعَاء بِاَللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار. وَفيه: جَوَاز التَّعَجُّب بِقَوْلِ: سُبْحَان اللَّه، وَقَدْ سَبَقَتْ نَظَائِره. وَفيه: اِسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض وَالدُّعَاء لَهُ. وَفيه: كَرَاهَة تَمَنِّي الْبَلَاء؛ لِئَلَّا يَتَضَجَّر مِنْهُ وَيَسْخَطهُ، وَرُبَّمَا شَكَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَال فِي تَفْسِير الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا الْعِبَادَة وَالْعَافِيَة، وَفِي الْآخِرَة الْجَنَّة وَالْمَغْفِرَة، وَقِيلَ: الْحَسَنَة تَعُمّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

.باب فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ:

4854- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَة سَيَّارَة فُضُلًا يَبْتَغُونَ مَجَالِس الذِّكْر» أَمَّا السَّيَّارَة فَمَعْنَاهُ: سَيَّاحُونَ فِي الْأَرْض، وَأَمَّا (فُضُلًا) فَضَبَطُوهُ عَلَى أَوْجُه أَحَدهَا: وَهُوَ أَرْجَحهَا وَأَشْهَرهَا فِي بِلَادنَا (فُضُلًا) بِضَمِّ الْفَاء وَالضَّاد. وَالثَّانِيَة: بِضَمِّ الْفَاء وَإِسْكَان الضَّاد، وَرَجَّحَهَا بَعْضهمْ، وَادَّعَى أَنَّهَا أَكْثَر وَأَصْوَب، وَالثَّالِثَة: بِفَتْحِ الْفَاء وَإِسْكَان الضَّاد.
قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا الرِّوَايَة عِنْد جُمْهُور شُيُوخنَا فِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَالرَّابِعَة (فُضُل) بِضَمِّ الْفَاء وَالضَّاد وَرَفْع اللَّام عَلَى أَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف، وَالْخَامِسَة (فُضَلَاء) بِالْمَدِّ جَمْع فَاضِل.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ عَلَى جَمِيع الرِّوَايَات: أَنَّهُمْ مَلَائِكَة زَائِدُونَ عَلَى الْحَفَظَة وَغَيْرهمْ مِنْ الْمُرَتَّبِينَ مَعَ الْخَلَائِق، فَهَؤُلَاءِ السَّيَّارَة لَا وَظِيفَة لَهُمْ، إِنَّمَا مَقْصُودهمْ حِلَق الذِّكْر، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَبْتَغُونَ» فَضَبَطُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة مِنْ التَّتَبُّع وَهُوَ الْبَحْث عَنْ الشَّيْء وَالتَّفْتِيش.
وَالثَّانِي: (يَبْتَغُونَ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة مِنْ الِابْتِغَاء، وَهُوَ الطَّلَب وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فيه ذِكْر قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضهمْ بَعْضًا» هَكَذَا هُوَ فِي كَثِير مِنْ نُسَخ بِلَادنَا (حَفَّ) بِالْفَاءِ، وَفِي بَعْضهَا (حَضَّ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة أَيْ: حَثّ عَلَى الْحُضُور وَالِاسْتِمَاع، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض رُوَاتهمْ (وَحَطَّ) بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَة وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَشَارَ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض بِالنُّزُولِ، وَيُؤَيِّد هَذِهِ الرِّوَايَة قَوْله بَعْده فِي الْبُخَارِيّ: «هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتكُمْ» وَيُؤَيِّد الرِّوَايَة الْأُولَى وَهِيَ (حَفَّ) قَوْله فِي الْبُخَارِيّ: «يَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ، وَيُحْدِقُونَ بِهِمْ وَيَسْتَدِيرُونَ حَوْلهمْ، وَيَحُوف بَعْضهمْ بَعْضًا».
قَوْله: «وَيَسْتَجِيرُونَك مِنْ نَارك» أَيْ: يَطْلُبُونَ الْأَمَان مِنْهَا.
قَوْله: «عَبْد خَطَّاء» أَيْ: كَثِير الْخَطَايَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: فَضِيلَة الذِّكْر، وَفَضِيلَة مَجَالِسه، وَالْجُلُوس مَعَ أَهْله، وَإِنْ لَمْ يُشَارِكهُمْ، وَفَضْل مَجَالِس الصَّالِحِينَ وَبَرَكَتهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَذِكْر اللَّه تَعَالَى ضَرْبَانِ: ذِكْر بِالْقَلْبِ، وَذِكْر بِاللِّسَانِ، وَذِكْر الْقَلْب نَوْعَانِ. أَحَدهمَا: وَهُوَ أَرْفَع الْأَذْكَار وَأَجَلّهَا الْفِكْر فِي عَظَمَة اللَّه تَعَالَى وَجَلَاله وَجَبَرُوته وَمَلَكُوته وَآيَاته فِي سَمَاوَاته وَأَرْضِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيث: «خَيْر الذِّكْر الْخَفِيّ» وَالْمُرَاد بِهِ هَذَا.
وَالثَّانِي: ذِكْره بِالْقَلْبِ عِنْد الْأَمْر وَالنَّهْي، فَيَمْتَثِل مَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُك مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَقِف عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا ذِكْر اللِّسَان مُجَرَّدًا فَهُوَ أَضْعَف الْأَذْكَار، وَلَكِنْ فيه فَضْل عَظِيم كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث، قَالَ: وَذَكَرَ اِبْن جَرِير الطَّبَرِيُّ وَغَيْره اِخْتِلَاف السَّلَف فِي ذِكْر الْقَلْب وَاللِّسَان أَيّهمَا أَفْضَل؟ قَالَ الْقَاضِي: وَالْخِلَاف عِنْدِي إِنَّمَا يُتَصَوَّر فِي مُجَرَّد ذِكْر الْقَلْب تَسْبِيحًا وَتَهْلِيلًا وَشِبْههمَا، وَعَلَيْهِ يَدُلّ كَلَامهمْ لَا أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الذِّكْر الْخَفِيّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِلَّا فَذَلِكَ يُقَارِبهُ ذِكْر اللِّسَان، فَكَيْف يُفَاضِلهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَاف ذِكْر الْقَلْب بِالتَّسْبِيحِ الْمُجَرَّد وَنَحْوه، وَالْمُرَاد بِذِكْرِ اللِّسَان مَعَ حُضُور الْقَلْب، فَإِنْ كَانَ لَاهِيًا فَلَا، وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ ذِكْر الْقَلْب بِأَنَّ عَمَل السِّرّ أَفْضَل، وَمَنْ رَجَّحَ اللِّسَان قَالَ: لِأَنَّ الْعَمَل فيه أَكْثَر، فَإِنْ زَادَ بِاسْتِعْمَالِ اللِّسَان اِقْتَضَى زِيَادَة أَجْر، قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَكْتُب الْمَلَائِكَة ذِكْر الْقَلْب؟ فَقِيلَ: تَكْتُبهُ وَيَجْعَل اللَّه تَعَالَى لَهُمْ عَلَامَة يَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا يَكْتُبُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ غَيْر اللَّه، قُلْت: الصَّحِيح أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَهُ، وَأَنَّ ذِكْر اللِّسَان مَعَ حُضُور الْقَلْب أَفْضَل مِنْ الْقَلْب وَحْده. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الدُّعَاءِ بِاللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ:

ذُكِرَ فِي الْحَدِيث أَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَر دُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا جَمَعَتْهُ مِنْ خَيْرَات الْآخِرَة وَالدُّنْيَا وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه قَرِيبًا. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ:

4857- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَنْ قَالَ فِي يَوْم: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير مِائَة مَرَّة، لَمْ يَأْتِ أَحَد بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَد عَمِلَ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ» هَذَا فيه دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيل أَكْثَر مِنْ مِائَة مَرَّة فِي الْيَوْم، كَانَ لَهُ هَذَا الْأَجْر الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث عَلَى الْمِائَة، وَيَكُون لَهُ ثَوَاب آخَر عَلَى الزِّيَادَة، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحُدُود الَّتِي نُهِيَ عَنْ اِعْتِدَائِهَا وَمُجَاوَزَة أَعْدَادهَا، وَإِنَّ زِيَادَتهَا لَا فَضْل فيها أَوْ تُبْطِلهَا، كَالزِّيَادَةِ فِي عَدَد الطَّهَارَة، وَعَدَد رَكَعَات الصَّلَاة، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد الزِّيَادَة مِنْ أَعْمَال الْخَيْر، لَا مِنْ نَفْس التَّهْلِيل، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد مُطْلَق الزِّيَادَة سَوَاء كَانَتْ مِنْ التَّهْلِيل أَوْ مِنْ غَيْره، أَوْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْره، وَهَذَا الِاحْتِمَال أَظْهَر. وَاَللَّه أَعْلَم. وَظَاهِر إِطْلَاق الْحَدِيث أَنَّهُ يُحَصِّلُ هَذَا الْأَجْر الْمَذْكُور فِي هَذَا الْحَدِيث مَنْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيل مِائَة مَرَّة فِي يَوْمه، سَوَاء قَالَهُ مُتَوَالِيَة أَوْ مُتَفَرِّقَة فِي مَجَالِس، أَوْ بَعْضهَا أَوَّل النَّهَار وَبَعْضهَا آخِره، لَكِنَّ الْأَفْضَل أَنْ يَأْتِي بِهَا مُتَوَالِيَة فِي أَوَّل النَّهَار، لِيَكُونَ حِرْزًا لَهُ فِي جَمِيع نَهَاره.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث التَّهْلِيل: «وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَة سَيِّئَة» وَفِي حَدِيث التَّسْبِيح: «حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَد الْبَحْر» ظَاهِره أَنَّ التَّسْبِيح أَفْضَل، وَقَدْ قَالَ فِي حَدِيث التَّهْلِيل: «وَلَمْ يَأْتِ أَحَد أَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ» قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَوَاب عَنْ هَذَا: إِنَّ التَّهْلِيل الْمَذْكُور أَفْضَل، وَيَكُون مَا فيه مِنْ زِيَادَة الْحَسَنَات، وَمَحْو السَّيِّئَات، وَمَا فيه مِنْ فَضْل عِتْق الرِّقَاب، وَكَوْنه حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَان زَائِدًا عَلَى فَضْل التَّسْبِيح وَتَكْفِير الْخَطَايَا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة أَعْتَقَ اللَّه بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّار، فَقَدْ حَصَلَ بِعِتْقِ رَقَبَة وَاحِدَة تَكْفِير جَمِيع الْخَطَايَا مَعَ مَا يَبْقَى لَهُ مِنْ زِيَادَة عِتْق الرِّقَاب الزَّائِدَة عَلَى الْوَاحِدَة، وَمَعَ مَا فيه مِنْ زِيَادَة مِائَة دَرَجَة، وَكَوْنه حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَان، وَيُؤَيِّدهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث بَعْد هَذَا: «إِنَّ أَفْضَل الذِّكْر التَّهْلِيل» مَعَ الْحَدِيث الْآخَر: «أَفْضَل مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ...» الْحَدِيث وَقِيلَ: إِنَّهُ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم، وَهِيَ كَلِمَة الْإِخْلَاص. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى التَّسْبِيح التَّنْزِيه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى مِنْ الشَّرِيك وَالْوَلَد وَالصَّاحِبَة، وَالنَّقَائِص مُطْلَقًا، وَسِمَات الْحُدُوث مُطْلَقًا.
4858- سبق شرحه بالباب.
4859- (حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي السَّفَر عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ رَبِيع بْن خُثَيْمٍ عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي أَيُّوب الْأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ)، هَذَا الْحَدِيث فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ، يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَهُمْ الشَّعْبِيّ وَرَبِيع وَعَمْرو وَابْن أَبِي لَيْلَى، وَاسْم اِبْن أَبِي لَيْلَى هَذَا: عَبْد الرَّحْمَن، وَأَمَّا اِبْن أَبِي السَّفَر فَبِفَتْحِ الْفَاء وَسَكَّنَهَا بَعْض الْمَغَارِبَة، وَالصَّوَاب الْفَتْح.
4862- قَوْله: «اللَّه أَكْبَر كَبِيرًا» مَنْصُوب بِفِعْلٍ مَحْذُوف، أَيْ: كَبَّرْت كَبِيرًا، أَوْ ذَكَرْت كَبِيرًا.
4866- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسَبِّح مِائَة تَسْبِيحَة فَيُكْتَب لَهُ أَلْف حَسَنَة أَوْ يُحَطّ عَنْهُ أَلْف خَطِيئَة» هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّة نُسَخ صَحِيح مُسْلِم (أَوْ يُحَطّ) بِأَوْ، وَفِي بَعْضهَا (وَيُحَطّ) بِالْوَاوِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ: كَذَا هُوَ فِي كِتَاب مُسْلِم (أَوْ يُحَطّ) بِأَوْ، وَقَالَ الْبُرْقَانِيّ: وَرَوَاهُ شُعْبَة وَأَبُو عَوَانَة وَيَحْيَى الْقَطَّان عَنْ يَحْيَى الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ جِهَته فَقَالُوا (وَيُحَطّ) بِالْوَاوِ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الاِجْتِمَاعِ عَلَى تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ:

4867- حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِن كُرْبَة... إِلَى آخِره» وَهُوَ حَدِيث عَظِيم جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعُلُوم وَالْقَوَاعِد وَالْآدَاب، وَسَبَقَ شَرْح أَفْرَاد فُصُوله. وَمَعْنَى: «نَفَّسَ الْكُرْبَة»: أَزَالَهَا. وَفيه: فَضْل قَضَاء حَوَائِج الْمُسْلِمِينَ، وَنَفْعهمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ عِلْم أَوْ مَال أَوْ مُعَاوَنَة أَوْ إِشَارَة بِمَصْلَحَةٍ أَوْ نَصِيحَة وَغَيْر ذَلِكَ، وَفَضْل السَّتْر عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيله، وَفَضْل إِنْظَار الْمُعْسِر، وَفَضْل الْمَشْي فِي طَلَب الْعِلْم، وَيَلْزَم مِنْ ذَلِكَ الِاشْتِغَال بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيّ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِد بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى، إِنْ كَانَ هَذَا شَرْطًا فِي كُلّ عِبَادَة، لَكِنَّ عَادَة الْعُلَمَاء يُقَيِّدُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَة بِهِ، لِكَوْنِهِ قَدْ يَتَسَاهَل فيه بَعْض النَّاس، وَيَغْفُل عَنْهُ بَعْض الْمُبْتَدِئِينَ وَنَحْوهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا اِجْتَمَعَ قَوْم فِي بَيْت مِنْ بُيُوت اللَّه يَتْلُونَ كِتَاب اللَّه تَعَالَى وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنهمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَة، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة» قِيلَ: الْمُرَاد بِالسَّكِينَةِ هُنَا: الرَّحْمَة، وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاض، وَهُوَ ضَعِيف، لِعَطْفِ الرَّحْمَة عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الطُّمَأْنِينَة وَالْوَقَار وَهُوَ أَحْسَن، وَفِي هَذَا: دَلِيل لِفَضْلِ الِاجْتِمَاع عَلَى تِلَاوَة الْقُرْآن فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ مَالِك: يُكْرَه، وَتَأَوَّلَهُ بَعْض أَصْحَابه، وَيُلْحَق بِالْمَسْجِدِ فِي تَحْصِيل هَذِهِ الْفَضِيلَة الِاجْتِمَاع فِي مَدْرَسَة وَرِبَاط وَنَحْوهمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَيَدُلّ عَلَيْهِ الْحَدِيث الَّذِي بَعْده فَإِنَّهُ مُطْلَق يَتَنَاوَل جَمِيع الْمَوَاضِع، وَيَكُون التَّقْيِيد فِي الْحَدِيث الْأَوَّل خَرَجَ عَلَى الْغَالِب، لاسيما فِي ذَلِكَ الزَّمَان، فَلَا يَكُون لَهُ مَفْهُوم يُعْمَل بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَله لَمْ يُسْرِع بِهِ نَسَبه» مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ عَمَله نَاقِصًا، لَمْ يُلْحِقهُ بِمَرْتَبَةِ أَصْحَاب الْأَعْمَال، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَتَّكِل عَلَى شَرَف النَّسَب، وَفَضِيلَة الْآبَاء، وَيُقَصِّر فِي الْعَمَل.
4869- قَوْله: «لَمْ أَسْتَحْلِفكُمْ تُهْمَة لَكُمْ» هِيَ بِفَتْحِ الْهَاء وَإِسْكَانهَا، وَهِيَ فُعْلَة وَفُعَلَة مِنْ الْوَهْم، وَالتَّاء بَدَل مِنْ الْوَاو، وَاتَّهَمْته بِهِ إِذَا ظَنَنْت لَهُ ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَة» مَعْنَاهُ: يُظْهِر فَضْلكُمْ لَهُمْ، وَيُرِيهِمْ حُسْن عَمَلِكُمْ، وَيُثْنِي عَلَيْكُمْ عِنْدهمْ، وَأَصْل الْبَهَاء: الْحُسْن وَالْجَمَال، وَفُلَان يُبَاهِي بِمَا لَهُ، أَيْ: يَفْخَر وَيَتَجَمَّل بِهِمْ عَلَى غَيْرهمْ وَيُظْهِر حُسْنهمْ.

.باب اسْتِحْبَابِ الاِسْتِغْفَارِ وَالاِسْتِكْثَارِ مِنْهُ:

4870- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّه فِي الْيَوْم مِائَة مَرَّة» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْغَيْن) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة، وَالْغَيْم بِمَعْنًى، وَالْمُرَاد هُنَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: الْمُرَاد الْفَتَرَات وَالْغَفَلَات عَنْ الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفْتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ، قَالَ: وَقِيلَ هُوَ هَمّه بِسَبَبِ أُمَّته، وَمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالهَا بَعْده، فَيَسْتَغْفِر لَهُمْ، وَقِيلَ: سَبَبه اِشْتِغَاله بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِح أُمَّته وَأُمُورهمْ، وَمُحَارَبَة الْعَدُوّ وَمُدَارَاته، وَتَأْلِيف الْمُؤَلَّفَة، وَنَحْو ذَلِكَ فَيَشْتَغِل بِذَلِكَ مِنْ عَظِيم مَقَامه، فَيَرَاهُ ذَنْبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظِيم مَنْزِلَته، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُور مِنْ أَعْظَم الطَّاعَات، وَأَفْضَل الْأَعْمَال، فَهِيَ نُزُول عَنْ عَالِي دَرَجَته، وَرَفِيع مَقَامه مِنْ حُضُوره مَعَ اللَّه تَعَالَى، وَمُشَاهَدَته وَمُرَاقَبَته وَفَرَاغه مِمَّا سِوَاهُ، فَيَسْتَغْفِر لِذَلِكَ، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا الْغَيْن هُوَ السَّكِينَة الَّتِي تَغْشَى قَلْبه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِ} وَيَكُون اِسْتِغْفَاره إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَار، وَمُلَازَمَة الْخُشُوع، وَشُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَاشِيّ: خَوْف الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة خَوْف إِعْظَام، وَإِنْ كَانُوا آمِنِينَ عَذَاب اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا الْغَيْن حَال خَشْيَة وَإِعْظَام يَغْشَى الْقَلْب، وَيَكُون اِسْتِغْفَاره شُكْرًا، كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْء يَعْتَرِي الْقُلُوب الصَّافِيَة مِمَّا تَتَحَدَّث بِهِ النَّفْس فَهُوَ شها. وَاَللَّه أَعْلَم.
4871- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيّهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى اللَّه فَإِنِّي أَتُوب فِي الْيَوْم مِائَة مَرَّة» هَذَا الْأَمْر بِالتَّوْبَةِ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّه جَمِيعًا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّه تَوْبَة نَصُوحًا} وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَاب قَبْله بَيَان سَبَب اِسْتِغْفَاره وَتَوْبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ إِلَى الِاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة أَحْوَج.
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَة شُرُوط: أَنْ يُقْلِع عَنْ الْمَعْصِيَة، وَأَنْ يَنْدَم عَلَى فِعْلهَا، وَأَنْ يَعْزِم عَزْمًا جَازِمًا أَلَّا يَعُود إِلَى مِثْلهَا أَبَدًا. فَإِنْ كَانَتْ الْمَعْصِيَة تَتَعَلَّق بِآدَمِيٍّ فَلَهَا شَرْط رَابِع، وَهُوَ: رَدّ الظُّلَامَة إِلَى صَاحِبهَا، أَوْ تَحْصِيل الْبَرَاءَة مِنْهُ. وَالتَّوْبَة أَهَمُّ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَهِيَ أَوَّل مَقَامَات سَالِكِي طَرِيق الْآخِرَة.
4872- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَابَ قَبْل أَنْ تَطْلُع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا تَابَ اللَّه عَلَيْهِ» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا حَدٌّ لِقَبُولِ التَّوْبَة، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: إِنَّ لِلتَّوْبَةِ بَابًا مَفْتُوحًا، فَلَا تَزَال مَقْبُولَة حَتَّى يُغْلَق، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا أُغْلِقَ، وَامْتَنَعَتْ التَّوْبَة عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ تَابَ قَبْل ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَأْتِي بَعْض آيَات رَبّك لَا يَنْفَع نَفْسًا إِيمَانهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْل أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانهَا خَيْرًا} وَمَعْنَى: «تَابَ اللَّه عَلَيْهِ»: قَبِلَ تَوْبَته، وَرَضِيَ بِهَا. وَلِلتَّوْبَةِ شَرْط آخَر وَهُوَ: أَنْ يَتُوب قَبْل الْغَرْغَرَة، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح، وَأَمَّا فِي حَالَة الْغَرْغَرَة وَهِيَ حَالَة النَّزْع، فَلَا تُقْبَل تَوْبَته وَلَا غَيْرهَا، وَلَا تُنَفَّذ وَصِيَّته وَلَا غَيْرهَا.

.باب اسْتِحْبَابِ خَفْضِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ:

4873- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ حِين جَهَرُوا بِالتَّكْبِيرِ: «أَيّهَا النَّاس أرْبَعُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ» «أِرْبَعُوا»: بِهَمْزَةِ وَصْل وَبِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة مَعْنَاهُ: اُرْفُقُوا بِأَنْفُسِكُمْ، وَاخْفِضُوا أَصْوَاتكُمْ، فَإِنَّ رَفْع الصَّوْت إِنَّمَا يَفْعَلهُ الْإِنْسَان لِبُعْدِ مَنْ يُخَاطِبهُ لِيَسْمَعهُ وَأَنْتُمْ تَدْعُونَ اللَّه تَعَالَى، لَيْسَ هُوَ بِأَصَمَّ وَلَا غَائِب، بَلْ هُوَ سَمِيع قَرِيب، وَهُوَ مَعَكُمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَة. فَفيه: النَّدْب إِلَى خَفْض الصَّوْت بِالذِّكْرِ إِذَا لَمْ تَدْعُ حَاجَة إِلَى رَفْعه، فَإِنَّهُ إِذَا خَفَضَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَوْقِيره وَتَعْظِيمه، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَة إِلَى الرَّفْع رَفَعَ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيث.
4874- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «وَاَلَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَب إِلَى أَحَدكُمْ مِنْ عُنُق رَاحِلَة أَحَدكُمْ» هُوَ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ، وَحَاصِله أَنَّهُ مَجَاز كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَب إِلَيْهِ مِنْ حَبْل الْوَرِيد} وَالْمُرَاد تَحْقِيق سَمَاع الدُّعَاء.
4875- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَوْل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ كَنْز مِنْ كُنُوز الْجَنَّة» قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب ذَلِكَ أَنَّهَا كَلِمَة اِسْتِسْلَام وَتَفْوِيض إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَاعْتِرَاف بِالْإِذْعَانِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا صَانِع غَيْره، وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَأَنَّ الْعَبْد لَا يَمْلِك شَيْئًا مِنْ الْأَمْر، وَمَعْنَى الْكَنْز هُنَا: أَنَّهُ ثَوَاب مُدَّخَر فِي الْجَنَّة، وَهُوَ ثَوَاب نَفِيس، كَمَا أَنَّ الْكَنْز أَنْفَس أَمْوَالكُمْ، قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْحَوْل) الْحَرَكَة وَالْحِيلَة، أَيْ: لَا حَرَكَة وَلَا اِسْتِطَاعَة وَلَا حِيلَة إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا حَوْل فِي دَفْع شَرٍّ، وَلَا قُوَّة فِي تَحْصِيل خَيْر إِلَّا بِاَللَّهِ، وَقِيلَ: لَا حَوْل عَنْ مَعْصِيَة اللَّه إِلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَلَا قُوَّة عَلَى طَاعَته إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَكُلّه مُتَقَارِب، قَالَ أَهْل اللُّغَة: وَيُعَبَّر عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَة بِالْحَوْقَلَةِ وَالْحَوْلَقَة، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الْأَزْهَرِيّ وَالْجُمْهُور، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْجَوْهَرِيّ، وَيُقَال أَيْضًا: لَا حَيْل وَلَا قُوَّة فِي لُغَة غَرِيبَة، حَكَاهَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره.

.باب التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ وَغَيْرِهَا:

قَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الصَّلَاة وَغَيْره بَيَان تَعَوُّذه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِتْنَة الْقَبْر، وَعَذَاب الْقَبْر، وَفِتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، وَغَسْل الْخَطَايَا بِالْمَاءِ وَالثَّلْج.
4877- اِسْتِعَاذَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِتْنَة الْغِنَى وَفِتْنَة الْفَقْر؛ فَلِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ تُخْشَى الْفِتْنَة فيهمَا بِالتَّسَخُّطِ وَقِلَّة الصَّبْر، وَالْوُقُوع فِي حَرَام أَوْ شُبْهَة لِلْحَاجَةِ، وَيُخَاف فِي الْغِنَى مِنْ الْأَشَر وَالْبَطَر وَالْبُخْل بِحُقُوقِ الْمَال، أَوْ إِنْفَاقه فِي إِسْرَاف وَفِي بَاطِل، أَوْ فِي مَفَاخِر.
وَأَمَّا (الْكَسَل): فَهُوَ عَدَم اِنْبِعَاث النَّفْس لِلْخَيْرِ، وَقِلَّة الرَّغْبَة مَعَ إِمْكَانه.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا اِسْتَعَاذَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَقْر الَّذِي هُوَ فَقْر النَّفْس لَا قِلَّة الْمَال.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَكُون اِسْتِعَاذَته مِنْ فَقْر الْمَال، وَالْمُرَاد الْفِتْنَة فِي عَدَم اِحْتِمَاله وَقِلَّة الرِّضَا بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: فِتْنَة الْقَبْر، وَلَمْ يَقُلْ: الْفَقْر، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الصَّحِيح بِفَضْلِ الْفَقْر، وَأَمَّا اِسْتِعَاذَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَغْرَم، وَهُوَ الدَّيْن، فَقَدْ فَسَّرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي كِتَاب الصَّلَاة أَنَّ الرَّجُل إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَمْطُل الْمَدِين صَاحِب الدَّيْن، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَغِل بِهِ قَلْبه، وَرُبَّمَا مَاتَ قَبْل وَفَائِهِ، فَبَقِيَتْ ذِمَّته مُرْتَهَنَة بِهِ.

.باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَغَيْرِهِ:

وَأَمَّا (الْعَجْز): فَعَدَم الْقُدْرَة عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ تَرْك مَا يَجِب فِعْله، وَالتَّسْوِيف بِهِ، وَكِلَاهُمَا تُسْتَحَبّ الْإِعَاذَة مِنْهُ. أَمَّا اِسْتِعَاذَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهَرَم، فَالْمُرَاد بِهِ الِاسْتِعَاذَة مِنْ الرَّدّ إِلَى أَرْذَل الْعُمُر كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا، وَسَبَب ذَلِكَ مَا فيه مِنْ الْخَرَف، وَاخْتِلَال الْعَقْل وَالْحَوَاسّ وَالضَّبْط وَالْفَهْم، وَتَشْوِيه بَعْض الْمَنَاظِر، وَالْعَجْز عَنْ كَثِير مِنْ الطَّاعَات، وَالتَّسَاهُل فِي بَعْضهَا.
وَأَمَّا اِسْتِعَاذَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجُبْن وَالْبُخْل، فَلِمَا فيهمَا مِنْ التَّقْصِير عَنْ أَدَاء الْوَاجِبَات، وَالْقِيَام بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى، وَإِزَالَة الْمُنْكَر، وَالْإِغْلَاظ عَلَى الْعُصَاة، وَلِأَنَّهُ بِشَجَاعَةِ النَّفْس وَقُوَّتهَا الْمُعْتَدِلَة تَتِمّ الْعِبَادَات، وَيَقُوم بِنَصْرِ الْمَظْلُوم وَالْجِهَاد، وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْبُخْل يَقُوم بِحُقُوقِ الْمَال، وَيَنْبَعِث لِلْإِنْفَاقِ وَالْجُود وَلِمَكَارِمِ الْأَخْلَاق، وَيَمْتَنِع مِنْ الطَّمَع فِيمَا لَيْسَ لَهُ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَاسْتِعَاذَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء لِتَكْمُل صِفَاته فِي كُلّ أَحْوَاله وَشَرْعه أَيْضًا تَعْلِيمًا.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاء، وَالِاسْتِعَاذَة مِنْ كُلّ الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء وَأَهْل الْفَتَاوَى فِي الْأَمْصَار، وَذَهَبَتْ طَائِفَة مِنْ الزُّهَّاد وَأَهْل الْمَعَارِف إِلَى أَنَّ تَرْك الدُّعَاء أَفْضَل اِسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنْ دَعَا لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسَن، وَإِنْ دَعَا لِنَفْسِهِ فَالْأَوْلَى تَرْكه، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنْ وَجَدَ فِي نَفْسه بَاعِث لِلدُّعَاءِ اُسْتُحِبَّ، وَإِلَّا فَلَا، وَدَلِيل الْفُقَهَاء ظَوَاهِر الْقُرْآن وَالسُّنَّة فِي الْأَمْر بِالدُّعَاءِ وَفِعْله، وَالْإِخْبَار عَنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِفِعْلِهِ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث ذِكْر الْمَأْثَم، وَهُوَ: الْإِثْم. وَفيها فِتْنَة الْمَحْيَا وَالْمَمَات، أَيْ: فِتْنَة الْحَيَاة وَالْمَوْت.
قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَتَعَوَّذ مِنْ سُوء الْقَضَاء، وَمِنْ دَرَك الشَّقَاء، وَمِنْ شَمَاتَة الْأَعْدَاء وَمِنْ جَهْد الْبَلَاء» أَمَّا: «دَرَك الشَّقَاء» فَالْمَشْهُور فيه فَتْح الرَّاء، وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْره أَنَّ بَعْض رُوَاة مُسْلِم رَوَاهُ سَاكِنهَا، وَهِيَ لُغَة، و«جَهْد الْبَلَاء» بِفَتْحِ الْجِيم وَضَمّهَا، الْفَتْح أَشْهَر وَأَفْصَح.
فَأَمَّا الِاسْتِعَاذَة مِنْ سُوء الْقَضَاء؛ فَيَدْخُل فيها سُوء الْقَضَاء فِي الدِّين وَالدُّنْيَا، وَالْبَدَن وَالْمَال وَالْأَهْل، وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ فِي الْخَاتِمَة.
وَأَمَّا دَرَك الشَّقَاء؛ فَيَكُون أَيْضًا فِي أُمُور الْآخِرَة وَالدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَعُوذ بِك أَنْ يُدْرِكنِي شَقَاء، وَشَمَاتَة الْأَعْدَاء هِيَ فَرَح الْعَدُوّ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِل بِعَدُوِّهِ، يُقَال مِنْهُ: شَمِتَ بِكَسْرِ الْمِيم، وَشَمَتَ بِفَتْحِهَا، فَهُوَ شَامِت، وَأَشْمَتَهُ غَيْره.
وَأَمَّا جَهْد الْبَلَاء؛ فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِقِلَّةِ الْمَال وَكَثْرَة الْعِيَال، وَقَالَ غَيْره: هِيَ الْحَال الشَّاقَّة.