فصل: باب فِي إِغْمَاضِ الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءِ لَهُ إِذَا حُضِرَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَالْمَيِّتِ:

1527- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَضَرْتُمْ الْمَرِيض أَوْ الْمَيِّت فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَة يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» فيه النَّدْب إِلَى قَوْل الْخَيْر حِينَئِذٍ مِنْ الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَطَلَب اللُّطْف بِهِ وَالتَّخْفِيف عَنْهُ وَنَحْوه، وَفيه حُضُور الْمَلَائِكَة حِينَئِذٍ وَتَأْمِينهمْ.

.باب فِي إِغْمَاضِ الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءِ لَهُ إِذَا حُضِرَ:

1528- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ» هُوَ بِفَتْحِ الشِّين وَرَفْع بَصَره وَهُوَ فَاعِل شَقَّ هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ (بَصَره) بِالنَّصْبِ، وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا وَالشِّين مَفْتُوحَة بِلَا خِلَاف.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ صَاحِب الْأَفْعَال: يُقَال شَقَّ بَصَر الْمَيِّت وَشَقَّ الْمَيِّت بَصَره وَمَعْنَاهُ شَخَصَ كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت فِي الْإِصْلَاح، وَالْجَوْهَرِيّ حِكَايَة عَنْ اِبْن السِّكِّيت: يُقَال: شَقَّ بَصَر الْمَيِّت، وَلَا تَقُلْ: شَقَّ الْمَيِّت بَصَره، وَهُوَ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْت، وَصَارَ يَنْظُر إِلَى الشَّيْء لَا يَرْتَدّ إِلَيْهِ طَرَفه.
قَوْلهَا: (فَأَغْمَضَهُ) دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب إِغْمَاض الْمَيِّت، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَالْحِكْمَة فيه أَلَّا يَقْبُح بِمَنْظَرِهِ لَوْ تَرَكَ إِغْمَاضه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَر» مَعْنَاهُ إِذَا خَرَجَ الرُّوح مِنْ الْجَسَد يَتْبَعهُ الْبَصَر نَاظِرًا أَيْنَ يَذْهَب وَفِي (الرُّوح) لُغَتَانِ وَالتَّأْنِيث وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلتَّذْكِيرِ، وَفيه دَلِيل لِمَذْهَبِ أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الرُّوح أَجْسَام لَطِيفَة مُتَخَلِّلَة فِي الْبَدَن، وَتَذْهَب الْحَيَاة مِنْ الْجَسَد بِذَهَابِهَا وَلَيْسَ عَرْضًا كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَلَا دَمًا كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَفيها كَلَام مُتَشَعِّب لِلْمُتَكَلِّمِينَ.
قَوْلهَا: «ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَة» إِلَى آخِره فيه اِسْتِحْبَاب الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ عِنْد مَوْته وَلِأَهْلِهِ وَذُرِّيَّته بِأُمُورِ الْآخِرَة وَالدُّنْيَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَخْلَفَهُ فِي عَقِبه فِي الْغَابِرِينَ» أَيْ الْبَاقِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا اِمْرَأَته كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ}.

.باب فِي شُخُوصِ بَصَرِ الْمَيِّتِ يَتْبَعُ نَفْسَهُ:

1529- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَخَصَ بَصَره» بِفَتْحِ الْخَاء أَيْ اِرْتَفَعَ وَلَمْ يَرْتَدّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَع بَصَره نَفْسه» الْمُرَاد بِالنَّفْسِ هُنَا الرُّوح: قَالَ الْقَاضِي: وَفيه أَنَّ الْمَوْت لَيْسَ بِإِفْنَاءٍ وَإِعْدَام، وَإِنَّمَا هُوَ اِنْتِقَال وَتَغَيُّر حَال وَإِعْدَام الْجَسَد دُون الرُّوح إِلَّا مَا اِسْتَثْنَى مِنْ عَجْب الذَّنَب قَالَ: وَفيه حُجَّة لِمَنْ يَقُول: الرُّوح وَالنَّفْس بِمَعْنًى.

.باب الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ:

1530- قَوْلهَا: «غَرِيب وَفِي أَرْض غُرْبَة» مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْل مَكَّة وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ.
قَوْلهَا: «أَقْبَلَتْ اِمْرَأَة مِنْ الصَّعِيد» الْمُرَاد بِالصَّعِيدِ هُنَا عَوَالِي الْمَدِينَة، وَأَصْل الصَّعِيد مَا كَانَ عَلَى وَجْه الْأَرْض.
قَوْلهَا: «تُسْعِدنِي» أَيْ تُسَاعِدنِي فِي الْبُكَاء وَالنَّوْح.
1531- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلّ شَيْء عِنْده بِأَجَلٍ مُسَمَّى» مَعْنَاهُ الْحَثّ عَلَى الصَّبْر وَالتَّسْلِيم لِقَضَاءِ اللَّه وَتَقْدِيره إِنَّ هَذَا الَّذِي أَخَذَ مِنْكُمْ كَانَ لَهُ لَا لَكُمْ فَلَمْ يَأْخُذ إِلَّا مَا هُوَ لَهُ فَيَنْبَغِي أَلَّا تَجْزَعُوا كَمَا لَا يَجْزَع مَنْ اُسْتُرِدَّتْ مِنْهُ وَدِيعَة أَوْ عَارِيَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَهُ مَا أَعْطَى» عَنَاهُ أَنَّ مَا وَهَبَهُ لَكُمْ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ مِلْكه بَلْ هُوَ سُبْحَانه وَتَعَالَى يَفْعَل فيه مَا يَشَاء.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكُلّ شَيْء عِنْده بِأَجَلٍ مُسَمَّى» مَعْنَاهُ اِصْبِرُوا وَلَا تَجْزَعُوا فَإِنَّ كُلّ مَنْ يَأْتِ قَدْ اِنْقَضَى أَجَله الْمُسَمَّى فَمُحَال تَقَدُّمه أَوْ تَأَخُّره عَنْهُ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا كُلّه فَاصْبِرُوا وَاحْتَسِبُوا مَا نَزَلَ بِكُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام الْمُشْتَمِلَة عَلَى جُمَل مِنْ أُصُول الدِّين وَفُرُوعه وَالْآدَاب.
قَوْله: «وَنَفْسه تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّة» هُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَالْقَافَيْنِ وَالشَّنَّة الْقِرْبَة الْبَالِيَة وَمَعْنَاهُ لَهَا صَوْت وَحَشْرَجَة كَصَوْتِ الْمَاء إِذَا أُلْقِيَ فِي الْقِرْبَة الْبَالِيَة.
قَوْله: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْد: مَا هَذَا يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَة جَعَلَهَا اللَّه فِي قُلُوب عِبَاده وَإِنَّمَا يَرْحَم اللَّه مِنْ عِبَاده الرُّحَمَاء» مَعْنَاهُ أَنَّ سَعْدًا ظَنَّ أَنَّ جَمِيع أَنْوَاع الْبُكَاء حَرَام، وَأَنَّ دَمْع الْعَيْن حَرَام، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَ فَذَكَرَهُ، فَأَعْلَمَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُجَرَّد الْبُكَاء وَدَمَعَ بِعَيْنٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوه بَلْ هُوَ رَحْمَة وَفَضِيلَة وَإِنَّمَا الْمُحَرَّم النَّوْح وَالنَّدْب وَالْبُكَاء الْمَقْرُون بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيث: «أَنَّ اللَّه لَا يُعَذِّب بِدَمْعِ الْعَيْن وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْب وَلَكِنْ يُعَذِّب بِهَذَا أَوْ يَرْحَم وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «الْعَيْن تَدْمَع وَالْقَلْب يَحْزَن وَلَا نَقُول مَا يُسْخِط اللَّه» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «مَا لَمْ يَكُنْ لَقْع أَوْ لَقْلَقَة».
1532- قَوْله: «وَجَدَهُ فِي غَشْيَة» هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَكَسْر الشِّين وَتَشْدِيد الْيَاء قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِإِسْكَانِ الشِّين وَتَخْفِيف الْيَاء. وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «فِي غَاشِيَة» وَكُلّه صَحِيح، وَفيه قَوْلَانِ أَحَدهمَا مَنْ يَغْشَاهُ مِنْ أَهْله، وَالثَّانِي مَا يَغْشَاهُ مِنْ كَرْب الْمَوْت.
قَوْله: «فَأَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودهُ مَعَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود» فيه اِسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض وَعِيَادَة الْفَاضِل الْمَفْضُول وَعِيَادَة الْإِمَام وَالْقَاضِي وَالْعَالِم وَأَتْبَاعه.

.باب فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى:

1533- قَوْله: «مَا عَلَيْنَا نِعَال وَلَا خِفَاف وَلَا قَلَانِس وَلَا قُمُص» فيه مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ الزُّهْد فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّل مِنْهَا وَإِطْرَاح فُضُولهَا وَعَدَم الِاهْتِمَام بِفَاخِرِ اللِّبَاس وَنَحْوه، وَفيه جَوَاز الْمَشْي حَافِيًا وَعِيَادَة الْإِمَام وَالْعَالِم الْمَرِيض مَعَ أَصْحَابه.

.باب فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى:

1534- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّبْر عِنْد الصَّدْمَة الْأُولَى» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّمَا الصَّبْر» مَعْنَاهُ الصَّبْر الْكَامِل الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَجْر الْجَزِيل لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّة فيه، وَأَصْل الصَّدْم الضَّرْب فِي شَيْء صُلْب، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلّ مَكْرُوه حَصَلَ بَغْتَة.
1535- قَوْله: «أَتَى عَلَى اِمْرَأَة تَبْكِي عَلَى صَبِيّ لَهَا فَقَالَ لَهَا: اِتَّقِي اللَّه وَاصْبِرِي» فيه: الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ كُلّ أَحَد.
قَوْلهَا: «وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي» ثُمَّ قَالَتْ فِي آخِره: «لَمْ أَعْرِفك» فيه الِاعْتِذَار إِلَى أَهْل الْفَضْل إِذَا أَسَاءَ الْإِنْسَان أَدَبه مَعَهُمْ، وَفيه صِحَّة قَوْل الْإِنْسَان مَا أُبَالِي بِكَذَا، وَالرَّدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوز إِثْبَات الْبَاء، يُقَال: مَا بَالَيْت كَذَا، وَهُوَ غَلَط، بَلْ الصَّوَاب جَوَاز إِثْبَات الْبَاء وَحَذْفهَا، وَقَدْ كَثُرَ فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيث.
قَوْله: «فَلَمْ تَجِد عَلَى بَابه بَوَّابِينَ» فيه مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوَاضُع، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ وَالْقَاضِي إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَوَّاب أَنْ لَا يَتَّخِذهُ، وَهَكَذَا قَالَ أَصْحَابنَا.

.باب الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذِّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «بِبَعْضِ بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «بِبُكَاءِ الْحَيّ» وَفِي رِوَايَة: «يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ يَبْكِ عَلَيْهِ يُعَذَّب» وَهَذِهِ الرِّوَايَات مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْنه عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَة وَنَسَبَتْهَا إِلَى النِّسْيَان وَالِاشْتِبَاه عَلَيْهِمَا، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَتْ: وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَهُودِيَّة أَنَّهَا تُعَذَّب وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا يَعْنِي تُعَذَّب بِكُفْرِهَا فِي حَال بُكَاء أَهْلهَا لَا بِسَبَبِ الْبُكَاء وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث فَتَأَوَّلَهَا الْجُمْهُور عَلَى مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ وَيُنَاح بَعْد مَوْته فَنُفِّذَتْ وَصِيَّته، فَهَذَا يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ وَنَوْحهمْ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوب إِلَيْهِ. قَالُوا فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَلَيْهِ أَهْله وَنَاحُوا مِنْ غَيْر وَصِيَّة مِنْهُ فَلَا يُعَذَّب لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالُوا: وَكَانَ مِنْ عَادَة الْعَرَب الْوَصِيَّة بِذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَةَ بْن الْعَبْد: إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْله وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْب يَا اِبْنَة مَعْبَد.
قَالُوا: فَخَرَجَ الْحَدِيث مُطْلَقًا حَمْلًا عَلَى مَا كَانَ مُعْتَادًا لَهُمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَة: هُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَوْصَى بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْح أَوْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِمَا. فَمَنْ أَوْصَى بِهِمَا أَوْ أَهْمَلَ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا يُعَذَّب بِهِمَا لِتَفْرِيطِهِ بِإِهْمَالِ الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا فَأَمَّا مَنْ وَصَّى بِتَرْكِهِمَا فَلَا يُعَذَّب بِهِمَا إِذْ لَا صُنْع لَهُ فيهمَا وَلَا تَفْرِيط مِنْهُ. وَحَاصِل هَذَا الْقَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بِتَرْكِهِمَا، وَمَنْ أَهْمَلَهُمَا عُذِّبَ بِهِمَا.
وَقَالَتْ طَائِفَة: مَعْنَى الْأَحَادِيث أَنَّهُمْ كَانُوا يَنُوحُونَ عَلَى الْمَيِّت وَيَنْدُبُونَهُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِله وَمَحَاسِنه فِي زَعْمهمْ، وَتِلْكَ الشَّمَائِل قَبَائِح فِي الشَّرْع يُعَذَّب بِهَا كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُؤَيِّد النِّسْوَانِ، وَمُؤْتِمّ الْوِلْدَان وَمُخَرِّب الْعُمْرَانِ وَمُفَرِّق الْأَخْدَان، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا يَرَوْنَهُ شَجَاعَة وَفَخْرًا وَهُوَ حَرَام شَرْعًا.
وَقَالَتْ طَائِفَة: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَذَّب بِسَمَاعِهِ بُكَاء أَهْله وَيَرِقّ لَهُمْ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيُّ وَغَيْره.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهُوَ أَوْلَى الْأَقْوَال، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ فيه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ اِمْرَأَة عَنْ الْبُكَاء عَلَى أَبِيهَا وَقَالَ: «إِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا بَكَى اِسْتَعْبَرَ لَهُ صُوَيْحِبه فَيَا عِبَاد اللَّه لَا تُعَذِّبُوا إِخْوَانكُمْ» وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْكَافِر أَوْ غَيْره مِنْ أَصْحَاب الذُّنُوب يُعَذَّب فِي حَال بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ لَا بِبُكَائِهِمْ وَالصَّحِيح مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور وَأَجْمَعُوا كُلّهمْ عَلَى اِخْتِلَاف مَذَاهِبهمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاء بِصَوْتٍ وَنِيَاحَة لَا مُجَرَّد دَمْع الْعَيْن.
1536- سبق شرحه بالباب.
1537- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث مُحَمَّد بْن بَشَّار: «يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» و«مَا نِيحَ عَلَيْهِ» بِإِثْبَاتِ الْبَاء وَحَذْفهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ وَفِي رِوَايَة بِإِثْبَاتِ: «فِي قَبْره» وَفِي رِوَايَة بِحَذْفِهِ.
1538- سبق شرحه بالباب.
1541- قَوْله: «فَقَامَ بِحِيَالِهِ يَبْكِي» أَيْ حِذَاءَهُ وَعِنْده.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّب» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «يَبْكِي» بِالْيَاءِ وَهُوَ صَحِيح وَيَكُون (مَنْ) بِمَعْنَى الَّذِي وَيَجُوز عَلَى لُغَة أَنْ تَكُون شَرْطِيَّة وَتَثْبِيت الْيَاء وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر:
أَلَمْ يَأْتِيك وَالْأَنْبَاء تُنْمِي

قَوْله: (فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُوسَى بْن طَلْحَة) الْقَائِل فَذَكَرْت ذَلِكَ هُوَ عَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر.
1542- قَوْله: «عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ فَقَالَ: يَا حَفْصَة أَمَا سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول الْمُعَوَّل عَلَيْهِ يُعَذَّب» قَالَ مُحَقِّقُو أَهْل اللُّغَة: يُقَال عَوَّلَ عَلَيْهِ وَأَعْوَلَ لُغَتَانِ، وَهُوَ الْبُكَاء بِصَوْتٍ.
وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا يُقَال إِلَّا أَعْوَلَ، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَيْهِ.
1543- قَوْله: «عَنْ عَائِشَة فَقَالَتْ: لَا وَاَللَّه مَا قَالَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إِنَّ الْمَيِّت يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَحَد» فِي هَذِهِ جَوَاز الْحَلِف بِغَلَبَةِ الظَّنّ بِقَرَائِن وَإِنْ لَمْ يَقْطَع الْإِنْسَان، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمِنْ هَذَا قَالُوا لَهُ الْحَلِف بِدَيْنٍ رَآهُ بِخَطِّ أَبِيهِ الْمَيِّت عَلَى فُلَان إِذَا ظَنَّهُ فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ عَائِشَة لَمْ تَحْلِف عَلَى ظَنٍّ بَلْ عَلَى عِلْم وَتَكُون سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر أَجْزَاء حَيَاته قُلْنَا: هَذَا بَعِيد مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّ عُمَر وَابْن عُمَر سَمِعَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: فَيُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله وَالثَّانِي لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاحْتَجَّتْ بِهِ عَائِشَة وَقَالَتْ سَمِعَتْهُ فِي آخِر حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَحْتَجْ بِهِ إِنَّمَا اِحْتَجَّتْ بِالْآيَةِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
1547- قَوْلهَا: (وَهِلَ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْر الْهَاء وَفَتْحهَا أَيْ غَلِطَ وَنَسِيَ.
وَأَمَّا قَوْلهَا فِي إِنْكَارهَا سَمَاع الْمَوْتَى فَسَيَأْتِي بَسْط الْكَلَام فيه فِي آخِر الْكِتَاب حَيْثُ ذَكَرَ مُسْلِم أَحَادِيثه.

.باب التَّشْدِيدِ فِي النِّيَاحَةِ:

1550- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالِاسْتِسْقَاء بِالنُّجُومِ» قَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّائِحَة إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْل مَوْتهَا» إِلَى آخِره فيه دَلِيل عَلَى تَحْرِيم النِّيَاحَة وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَفيه صِحَّة التَّوْبَة مَا لَمْ يَمُتْ الْمُكَلَّف وَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْغَرْغَرَة.
1551- قَوْلهَا: «أَنْظُرُ مِنْ صَائِر الْبَاب شِقّ الْبَاب» هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَات الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم صَائِر الْبَاب شَقِّ الْبَاب، وَشَقُّ الْبَاب تَفْسِير لِلصَّائِرِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الشِّين، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا يُقَال: (صَائِر) وَإِنَّمَا يُقَال: (صِير) بِكَسْرِ الصَّاد وَإِسْكَان الْيَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِذْهَبْ فَاحْثُ فِي أَفْوَاههنَّ مِنْ التُّرَاب» هُوَ بِضَمِّ الثَّاء وَكَسْرهَا يُقَال: حَثَا يَحْثُو وَحَثَى يَحْثِي، لُغَتَانِ. وَأَمَرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مُبَالَغَة فِي إِنْكَار الْبُكَاء عَلَيْهِنَّ وَمَنْعهنَّ مِنْهُ، ثُمَّ تَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بُكَاء بِنَوْحٍ وَصِيَاح وَلِهَذَا تَأَكَّدَ النَّهْي، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّد دَمْع الْعَيْن لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَأَنَّهُ رَحْمَة. وَتَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بُكَاء مِنْ غَيْر نِيَاحَة وَلَا صَوْت.
قَالَ: وَيَبْعُد أَنَّ الصَّحَابِيَّات يَتَمَادَيْنَ بَعْد تَكْرَار نَهْيهنَّ عَلَى مُحَرَّم وَإِنَّمَا كَانَ بُكَاء مُجَرَّدًا، وَالنَّهْي عَنْهُ تَنْزِيه وَأَدَب لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلِهَذَا أَصْرَرْنَ عَلَيْهِ مُتَأَوِّلَات.
قَوْله (أَرْغَمَ اللَّه أَنْفك وَاَللَّه مَا تَفْعَل مَا أَمَرَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَرَكْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَنَاء) مَعْنَاهُ أَنَّك قَاصِر لَا تَقُوم بِمَا أُمِرْت بِهِ مِنْ الْإِنْكَار لِنَقْصِك وَتَقْصِيرك، وَلَا تُخْبِر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُصُورِك عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُرْسِل غَيْرك وَيَسْتَرِيح مِنْ الْعَنَاء. وَالْعَنَاء بِالْمَدِّ الْمَشَقَّة وَالتَّعَب. وَقَوْلهمْ: أَرْغَمَ اللَّه أَنْفه أَيْ أَلْصَقَهُ بِالرَّغَامِ وَهُوَ التُّرَاب، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى إِذْلَاله وَإِهَانَته.
قَوْله: وَفِي حَدِيث عَبْد الْعَزِيز: «وَمَا تَرَكْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعِيّ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم نُسَخ بِلَادنَا هُنَا الْعِيّ بِكَسْرِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة أَيْ التَّعَب، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعَنَاء السَّابِق فِي الرِّوَايَة الْأُولَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ عِنْد بَعْضهمْ (الْغَيّ) بِالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ تَصْحِيف.
قَالَ: وَوَقَعَ عِنْد أَكْثَرهمْ (الْعَنَاء) بِالْمَدِّ وَهُوَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِينَ خِلَاف سِيَاق مُسْلِم لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى الْأَوَّل الْعَنَاء، ثُمَّ رَوَى الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَقَالَ: إِنَّهَا بِنَحْوِ الْأُولَى إِلَّا فِي هَذَا اللَّفْظ فَيَتَعَيَّن أَنْ يَكُون خِلَافه.
1552- قَوْلهَا: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْبَيْعَة أَنْ لَا نَنُوح» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فِي الْبَيْعَة» فيه تَحْرِيم النَّوْح وَعَظِيم قُبْحه وَالِاهْتِمَام بِإِنْكَارِهِ وَالزَّجْر عَنْهُ لِأَنَّهُ مُهَيِّج لِلْحُزْنِ وَرَافِع لِلصَّبْرِ، وَفيه مُخَالَفَة التَّسْلِيم لِلْقَضَاءِ وَالْإِذْعَان لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى.
قَوْلهَا: «فَمَا وَفَتْ مِنَّا اِمْرَأَة إِلَّا خَمْس» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ لَمْ يَفِ مِمَّنْ بَايَعَ مَعَ أُمّ عَطِيَّة فِي الْوَقْت الَّذِي بَايَعَتْ فيه مِنْ النِّسْوَة إِلَّا خَمْس لَا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُك النِّيَاحَة مِنْ الْمُسْلِمَات غَيْر خَمْس.
1554- قَوْله: (عَنْ أُمّ عَطِيَّة) حِين نُهِينَ عَنْ النِّيَاحَة: «فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه إِلَّا آلَ فُلَان» هَذَا مَحْمُول عَلَى التَّرْخِيص لِأُمِّ عَطِيَّة فِي آلِ فُلَان خَاصَّة كَمَا هُوَ ظَاهِر، وَلَا تَحِلّ النِّيَاحَة لِغَيْرِهَا، وَلَا لَهَا فِي غَيْر آلِ فُلَان، كَمَا هُوَ صَرِيح فِي الْحَدِيث. وَلِلشَّارِعِ أَنْ يَخُصّ مِنْ الْعُمُوم مَا شَاءَ فَهَذَا صَوَاب الْحُكْم فِي هَذَا الْحَدِيث. وَاسْتَشْكَلَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره هَذَا الْحَدِيث، وَقَالُوا فيه أَقْوَالًا عَجِيبَة. وَمَقْصُودِي التَّحْذِير مِنْ الِاغْتِرَار بِهَا حَتَّى إِنَّ بَعْض الْمَالِكِيَّة قَالَ: النِّيَاحَة لَيْسَتْ بِحَرَامٍ بِهَذَا الْحَدِيِث وَقِصَّة نِسَاء جَعْفَر.
قَالَ: وَإِنَّمَا الْمُحَرَّم مَا كَانَ مَعَهُ شَيْء مِنْ أَفْعَال الْجَاهِلِيَّة كَشَقِّ الْجُيُوب وَخَمْش الْخُدُود وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة. وَالصَّوَاب مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَأَنَّ النِّيَاحَة حَرَام مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِل دَلِيل صَحِيح لِمَا ذَكَرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب نَهْيِ النِّسَاءِ عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ:

1556- قَوْله: «عَنْ أُمّ عَطِيَّة نُهِينَا عَنْ اِتِّبَاع الْجَنَائِز وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» مَعْنَاهُ: نَهَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ نَهْي كَرَاهَة تَنْزِيه، لَا نَهْي عَزِيمَة تَحْرِيم. وَمَذْهَب أَصْحَابنَا أَنَّهُ مَكْرُوه، لَيْسَ بِحَرَامٍ لِهَذَا الْحَدِيث، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء بِمَنْعِهِنَّ مِنْ اِتِّبَاعهَا، وَأَجَازَهُ عُلَمَاء الْمَدِينَة، وَأَجَازَهُ مَالِك، وَكَرِهَهُ لِلشَّابَّةِ.

.(بَاب فِي غُسْل الْمَيِّت):

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ»، وَفِي رِوَايَة: «ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ»، وَفِي رِوَايَة: «اِغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا». وَفِي رِوَايَة: «اِغْسِلْنَهَا وِتْرًا خَمْسًا أَوْ أَكْثَر».
هَذِهِ الرِّوَايَات مُتَّفِقَة فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ أَلْفَاظهَا، وَالْمُرَاد: اِغْسِلْنَهَا وِتْرًا، وَلْيَكُنْ ثَلَاثًا، فَإِنْ اِحْتَجْتُنَّ إِلَى زِيَادَة عَلَيْهَا لِلْإِنْقَاءِ فَلْيَكُنْ خَمْسًا، فَإِنْ اِحْتَجْتُنَّ إِلَى زِيَادَة الْإِنْقَاء فَلْيَكُنْ سَبْعًا، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَحَاصِله أَنَّ الْإِيتَار مَأْمُور بِهِ وَالثَّلَاث مَأْمُور بِهَا نَدْبًا، فَإِنْ حَصَلَ الْإِنْقَاء بِثَلَاثٍ لَمْ تُشْرَع الرَّابِعَة، وَإِلَّا زِيدَ حَتَّى يَحْصُل الْإِنْقَاء، وَيُنْدَب كَوْنهَا وِتْرًا.
وَأَصْل غُسْل الْمَيِّت فَرْض كِفَايَة، وَكَذَا حَمْله وَكَفَنه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَدَفْنه كُلّهَا فُرُوض كِفَايَة، وَالْوَاجِب فِي الْغُسْل مَرَّة وَاحِدَة عَامَّة لِلْبَدَنِ، هَذَا مُخْتَصَر الْكَلَام فيه.
1557- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ» بِكَسْرِ الْكَاف خِطَاب لِأُمِّ عَطِيَّة، وَمَعْنَاهُ: إِنْ اِحْتَجْتُنَّ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ التَّخْيِير وَتَفْوِيض ذَلِكَ إِلَى شَهْوَتهنَّ، وَكَانَتْ أُمّ عَطِيَّة غَاسِلَة لِلْمَيِّتَاتِ، وَكَانَتْ مِنْ فَاضِلَات الصَّحَابِيَّات أَنْصَارِيَّة. وَاسْمهَا نُسَيْبَةُ بِضَمِّ النُّون، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الَّتِي غَسَّلَتْهَا فَهِيَ زَيْنَب رَضِيَ اللَّه عَنْهَا هَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُور، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَالَ بَعْض أَهْل السِّيَر: إِنَّهَا أُمّ كُلْثُوم، وَالصَّوَاب: زَيْنَب، كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِم فِي رِوَايَته الَّتِي بَعْد هَذِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَاءٍ وَسِدْر» فيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب السِّدْر فِي غُسْل الْمَيِّت، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَى اِسْتِحْبَابه، وَيَكُون فِي الْمَرَّة الْوَاجِبَة.
وَقِيلَ: يَجُوز فيهمَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَة كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُور» فيه: اِسْتِحْبَاب شَيْء مِنْ الْكَافُور فِي الْأَخِيرَة، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يُسْتَحَبّ، وَحُجَّة الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث؛ وَلِأَنَّهُ يُطَيِّب الْمَيِّت، وَيُصَلِّب بَدَنه وَيُبَرِّدهُ، وَيَمْنَع إِسْرَاع فَسَاده، أَوْ يَتَضَمَّن إِكْرَامه.
قَوْلهَا: «فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ، يَعْنِي: إِزَاره. وَأَصْل الْحِقْو مَعْقِد الْإِزَار وَجَمْعه، أَحْقٍ وَحِقِيٌّ، وَسُمِّيَ بِهِ الْإِزَار مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ يُشَدّ فيه. وَمَعْنَى: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» اِجْعَلْنَهُ شِعَارًا لَهَا، وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي يَلِي الْجَسَد، سُمِّيَ شِعَارًا؛ لِأَنَّهُ يَلِي شَعْر الْجَسَد، وَالْحِكْمَة فِي إِشْعَارهَا بِهِ تَبْرِيكهَا بِهِ. فَفيه التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَلِبَاسهمْ. وَفيه: جَوَاز تَكْفِين الْمَرْأَة فِي ثَوْب الرَّجُل.
1558- قَوْلهَا: «فَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَة قُرُون» أَيْ: ثَلَاث ضَفَائِر، جَعَلْنَا قَرْنَيْهَا ضَفِيرَتَيْنِ وَنَاصِيَتهَا ضَفِيرَة كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة. وَمَشَطْنَاهَا بِتَخْفِيفِ الشِّين. فيه: اِسْتِحْبَاب مَشْط رَأْس الْمَيِّت وَضَفْره، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يُسْتَحَبّ الْمَشْط وَلَا الضَّفْر، بَلْ يُرْسَل الشَّعْر عَلَى جَانِبَيْهَا مُفَرَّقًا. وَدَلِيلنَا عَلَيْهِ الْحَدِيث، وَالظَّاهِر إِطْلَاع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتِئْذَانه فيه كَمَا فِي بَاقِي صِفَة غُسْلهَا.
1559- سبق شرحه بالباب.
1560- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِبْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِع الْوُضُوء مِنْهَا» فيه اِسْتِحْبَاب تَقْدِيم الْمَيَامِن فِي غَسْل الْمَيِّت وَسَائِر الطِّهَارَات، وَيَلْحَق بِهَا أَنْوَاع الْفَضَائِل. وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَة فِي الصَّحِيح مَشْهُورَة. وَفيه: اِسْتِحْبَاب وُضُوء الْمَيِّت، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يُسْتَحَبّ، وَيَكُون الْوُضُوء عِنْدنَا فِي أَوَّل الْغُسْل، كَمَا فِي وُضُوء الْجُنُب. وَفِي حَدِيث أُمّ عَطِيَّة هَذَا دَلِيل لِأَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدنَا: أَنَّ النِّسَاء أَحَقُّ بِغُسْلِ الْمَيِّتَة مِنْ زَوْجهَا، وَقَدْ تَمْنَع دَلَالَته حَتَّى يَتَحَقَّق أَنَّ زَوْج زَيْنَب كَانَ حَاضِرًا فِي وَقْت وَفَاتهَا لَا مَانِع لَهُ مِنْ غُسْلهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّض الْأَمْر إِلَى النِّسْوَة. وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّ لَهُ غُسْل زَوْجَته، وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة: لَا يَجُوز لَهُ غُسْلهَا، وَأَجْمَعُوا أَنَّ لَهَا غُسْل زَوْجهَا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضهمْ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب الْغُسْل عَلَى مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، وَوَجْه الدَّلَالَة أَنَّهُ مَوْضِع تَعْليم، فَلَوْ وَجَبَ لَعَلِمَهُ. وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور: أَنَّهُ لَا يَجِب الْغُسْل مِنْ غُسْل الْمَيِّت لَكِنْ يُسْتَحَبّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَم أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَأَوْجَبَ أَحْمَد وَإِسْحَاق الْوُضُوء مِنْهُ، وَالْجُمْهُور عَلَى اِسْتِحْبَابه، وَلَنَا وَجْه شَاذّ أَنَّهُ وَاجِب، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْحَدِيث الْمَرْوِيّ فيه مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ مَسَّهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» ضَعِيف بالِاتِّفَاقِ.

.باب فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ:

1562- قَوْله: «فَوَجَبَ أَجْرنَا عَلَى اللَّه» مَعْنَاهُ: وُجُوب إِنْجَاز وَعْد بِالشَّرْعِ لَا وُجُوب بِالْعَقْلِ كَمَا تَزْعُمهُ الْمُعْتَزِلَة، وَهُوَ نَحْو مَا فِي الْحَدِيث: «حَقُّ الْعِبَاد عَلَى اللَّه» وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان.
قَوْله: «فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا» مَعْنَاهُ: لَمْ يُوَسَّع عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُعَجَّل لَهُ شَيْء مِنْ جَزَاء عَمَله.
قَوْله: «فَلَمْ يُوجَد لَهُ شَيْء يُكَفَّن فيه إِلَّا نَمِرَة» هِيَ كِسَاء، وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَفَن مِنْ رَأْس الْمَال وَأَنَّهُ مُقَدَّم عَلَى الدُّيُون؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَكْفِينِهِ فِي نَمِرَته وَلَمْ يَسْأَل هَلْ عَلَيْهِ دَيْن مُسْتَغْرِق أَمْ لَا؟ وَلَا يَبعد مِنْ حَال مَنْ لَا يَكُون عِنْده إِلَّا نَمِرَة أَنْ يَكُون عَلَيْهِ دَيْن. وَاسْتَثْنَى أَصْحَابنَا مِنْ الدُّيُون الدَّيْن الْمُتَعَلِّق بِعَيْنِ الْمَال، فَيُقَدَّم عَلَى الْكَفَن، وَذَلِكَ كَالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْمَرْهُون، وَالْمَال الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ زَكَاة أَوْ حَقُّ بَائِعه بِالرُّجُوعِ بِإِفْلَاسٍ وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسه وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِر» هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَالْخَاء، وَهُوَ حَشِيش مَعْرُوف طَيِّب الرَّائِحَة. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ الْكَفَن عَنْ سَتْر جَمِيع الْبَدَن وَلَمْ يُوجَد غَيْره جُعِلَ مِمَّا يَلِي الرَّأْس، وَجعلَ النَّقْص مِمَّا يَلِي الرِّجْلَيْنِ وَيَسْتُر الرَّأْس، فَإِنْ ضَاقَ عَنْ ذَلِكَ سُتِرَتْ الْعَوْرَة فَإِنْ فَضَلَ شَيْء جُعِلَ فَوْقهَا، فَإِنْ ضَاقَ عَنْ الْعَوْرَة سُتِرَتْ السَّوْأَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهَمُّ وَهُمَا أَصْل فِي الْعَوْرَة.
وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْوَاجِب فِي الْكَفَن سَتْر الْعَوْرَة فَقَطْ، وَلَا يَجِب اِسْتِيعَاب الْبَدَن عِنْد التَّمَكُّن. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُونُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ جَمِيع الْبَدَن لِقَوْلِهِ: لَمْ يُوجَد لَهُ غَيْرهَا، فَجَوَابه: أَنَّ مَعْنَاهُ: لَمْ يُوجَد مِمَّا يَمْلِك الْمَيِّت إِلَّا نَمِرَة، وَلَوْ كَانَ سَتْر جَمِيع الْبَدَن وَاجِبًا لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرِينَ تَتْمِيمه إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيب تَلْزَمهُ نَفَقَته، فَإِنْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّة جَرَتْ يَوْم أُحُد وَقَدْ كَثُرَتْ الْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاشْتَغَلُوا بِهِمْ وَبِالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوّ وَغَيْر ذَلِكَ، فَجَوَابه: أَنَّهُ يَبْعُد مِنْ حال الْحَاضِرِينَ الْمُتَوَلِّينَ دَفْنه أَلَّا يَكُون مَعَ وَاحِد مِنْهُمْ قِطْعَة مِنْ ثَوْب وَنَحْوهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «مِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَته» أَيْ: أَدْرَكَتْ وَنَضِجَتْ.
قَوْله: «فَهو يَهْدِبُهَا» هُوَ بِفَتْحِ أَوَّله وَبِضَمِّ الدَّال وَكَسْرهَا، أَيْ يَجْتَنِيهَا. يُقَال: يَنَعَ الثَّمَر وَأَيْنَعَ يُنْعًا وَيُنُوعًا فَهُوَ يَانِع. وَهَدَبَهَا يَهْدِبُهَا إِذَا جَنَاهَا، وَهَذِهِ اِسْتِعَارَة لِمَا فُتِحَ عَلَيْهِمْ مِنْ الدُّنْيَا.
1563- قَوْلهَا: «كُفِّنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب بِيض سُحُولِيَّة لَيْسَ فيها قَمِيص وَلَا عِمَامَة» السَّحُولِيَّة بِفَتْحِ السِّين وَضَمّهَا، وَالْفَتْح أَشْهَر، وَهُو رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره: هِيَ ثِيَاب بِيض نَقِيَّة لَا تَكُون إِلَّا مِنْ الْقُطْن، وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة: ثِيَاب بِيض، وَلَمْ يَخُصّهَا بِالْقُطْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوبَة إِلَى سُحُول قَرْيَة بِالْيَمَنِ تُعْمَل فيها، وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: السَّحُولِيَّة- بِالْفَتْحِ- مَنْسُوبَة إِلَى سُحُول مَدِينَة بِالْيَمَنِ، يُحْمَل مِنْهَا هَذِهِ الثِّيَاب، وَبِالضَّمِّ ثِيَاب بِيض، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَرْيَة أَيْضًا بِالضَّمِّ، حَكَاهُ اِبْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة.
فِي هَذَا الْحَدِيث- وَحَدِيث مُصْعَب بْن عُمَيْر السَّابِق وَغَيْرهمَا- وُجُوب تَكْفِين الْمَيِّت، وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِب فِي مَاله، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال فَعَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَته، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي بَيْت الْمَال، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُوَزِّعهُ الْإِمَام عَلَى أَهْل الْيَسَار وَعَلَى مَا يَرَاهُ.
وَفيه: أَنَّ السُّنَّة فِي الْكَفَن ثَلَاثَة أَثْوَاب لِلرَّجُلِ، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير، وَالْوَاجِب ثَوْب وَاحِد كَمَا سَبَقَ، وَالْمُسْتَحَبّ فِي الْمَرْأَة خَمْسَة أَثْوَاب، وَيَجُوز أَنْ يُكَفَّن الرَّجُل فِي خَمْسَة، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبّ أَلَّا يَتَجَاوَز الثَّلَاثَة، وَأَمَّا الزِّيَادَة عَلَى خَمْسَة فَإِسْرَاف فِي حَقِّ الرَّجُل وَالْمَرْأَة.
قَوْلهَا: (بِيض) دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ التَّكْفِين فِي الْأَبْيَض، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح فِي الثِّيَاب الْبِيض: «وَكَفِّنُوا فيها مَوْتَاكُمْ» وَيُكْرَه الْمُصْبَغَات وَنَحْوهَا مِنْ ثِيَاب الزِّينَة.
وَأَمَّا الْحَرِير، فَقَالَ أَصْحَابنَا: يَحْرُم تَكْفِين الرَّجُل فيه، وَيَجُوز تَكْفِين الْمَرْأَة فيه مَعَ الْكَرَاهَة. وَكَرِهَ مَالِك وَعَامَّة الْعُلَمَاء التَّكْفِين فِي الْحَرِير مُطْلَقًا، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: وَلَا أَحْفَظ خِلَافه.
وَقَوْلهَا: «لَيْسَ فيها قَمِيص وَلَا عِمَامَة» مَعْنَاهُ: لَمْ يُكَفَّن فِي قَمِيص وَلَا عِمَامَة، وَإِنَّمَا كُفِّنَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب غَيْرهمَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الثَّلَاثَة شَيْء آخَر، هَكَذَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَهُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِر الْحَدِيث. قَالُوا: وَيُسْتَحَبّ أَلَّا يَكُون فِي الْكَفَن قَمِيص وَلَا عِمَامَة، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة: يُسْتَحَبّ قَمِيص وَعِمَامَة. وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْقَمِيص وَالْعِمَامَة مِنْ جُمْلَة الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا هُمَا زَائِدَانِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا ضَعِيف، فَلَمْ يَثْبُت أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي قَمِيص وَعِمَامَة.
وَهَذَا الْحَدِيث يَتَضَمَّن أَنَّ الْقَمِيص الَّذِي غُسِّلَ فيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُزِعَ عَنْهُ عِنْد تَكْفِينه، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا يُتَّجَه غَيْره؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَعَ رُطُوبَته لَأَفْسَدَ الْأَكْفَان.
وَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب: الْحُلَّة ثَوْبَانِ، وَقَمِيصه الَّذِي تُوُفِّيَ فيه، فَحَدِيث ضَعِيف لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ؛ لِأَنَّ يَزِيد بْن أَبِي زِيَاد أَحَد رُوَاته مُجْمَع عَلَى ضَعْفه، لاسيما وَقَدْ خَالَفَ بِرِوَايَتِهِ الثِّقَاةِ.
قَوْله: (مِنْ كُرْسُف) هُوَ الْقُطْن. وَفيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب كَفَن الْقُطْن.
قَوْلهَا: (أَمَّا الْحُلَّة فَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَى النَّاس فيها) هُوَ بِضَمِّ الشِّين وَكَسْر الْبَاء الْمُشَدَّدَة، وَمَعْنَاهُ: اِشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: وَلَا تَكُون الْحُلَّة إِلَّا ثَوْبَيْنِ: إِزَارًا وَرِدَاء.
1564- قَوْلهَا: (حُلَّة يَمَنِيَّة كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّه بْن أَبِي بَكْر) ضُبِطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة فِي مُسْلِم عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه حَكَاهَا الْقَاضِي، وَهِيَ مَوْجُودَة فِي النُّسَخ، أَحَدهَا (يَمَنِيَّة) بِفَتْحِ أَوَّله مَنْسُوبَة إِلَى الْيَمَن. وَالثَّانِي (يَمَانِيَّة) مَنْسُوبَة إِلَى الْيَمَن أَيْضًا. وَالثَّالِث (يُمْنَة) بِضَمِّ الْيَاء وَإِسْكَان الْمِيم وَهُوَ أَشْهَر.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: وَهِيَ عَلَى هَذَا مُضَافَة: حُلَّة يُمْنَة، قَالَ الْخَلِيل: هِيَ ضَرْب مِنْ بُرُود الْيَمَن.
قَوْلهَا: «وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَة أَثْوَاب سُحُول يَمَانِيَّة» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول (سُحُول). (أَمَّا يَمَانِيَّة) فَبِتَخْفِيفِ الْيَاء عَلَى اللُّغَة الْفَصِيحَة الْمَشْهُورَة، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْجَوْهَرِيّ وَغَيْرهمَا لُغَة فِي تَشْدِيدهَا، وَوَجْه الْأَوَّل: أَنَّ الْأَلِف بَدَل يَاء النَّسَب فَلَا يَجْتَمِعَانِ، بَلْ يُقَال: يَمَنِيَّة أَوْ يَمَانِيَة بِالتَّخْفِيفِ.
وَأَمَّا قَوْله: (سُحُول) فَبِضَمِّ السِّين وَفَتْحهَا، وَالضَّمّ أَشْهَر، وَالسُّحُول- بِضَمِّ السِّين- جَمْع سَحْل، وَهُوَ ثَوْب الْقُطْن.