فصل: باب فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فِي ذِكْرِ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ:

246- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَانِي لَيْلَة عِنْد الْكَعْبَة فَرَأَيْت رَجُلًا آدَم كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْم الرِّجَال، لَهُ لِمَّة كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللَّمَم، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُر مَاء، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِق رَجُلَيْنِ، يَطُوف بِالْبَيْتِ. فَسَأَلْت مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيح بْن مَرْيَم ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْد قَطِط أَعْوَر الْعَيْن الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَة طَافِيَة فَسَأَلْت مِنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيح الدَّجَّال» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَانِي» فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة.
وَأَمَّا الْكَعْبَة فَسُمِّيَتْ كَعْبَة لِارْتِفَاعِهَا وَتَرَبُّعهَا، وَكُلّ بَيْت مُرَبَّع عِنْد الْعَرَب فَهُوَ كَعْبَة.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كَعْبَة لِاسْتِدَارَتِهَا وَعُلُوّهَا وَمِنْهُ كَعْب الرَّجُل، وَمِنْهُ كَعَبَ ثَدْي الْمَرْأَة إِذَا عَلَا، وَاسْتَدَارَ.
وَأَمَّا (اللِّمَّة) فَهِيَ بِكَسْرِ اللَّام وَتَشْدِيد الْمِيم وَجَمْعهَا لِمَم كَقِرْبَةِ وَقِرَب قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَيُجْمَع عَلَى (لِمَام) يَعْنِي بِكَسْرِ اللَّام وَهُوَ الشَّعْر الْمُتَدَلِّي الَّذِي جَاوَزَ شَحْمَة الْأُذُنَيْنِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَنْكِبَيْنِ فَهُو: (جُمَّة).
وَأَمَّا (رَجَّلَهَا) فَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْجِيم وَمَعْنَاهُ سَرَّحَهَا بِمُشْطٍ مَعَ مَاء أَوْ غَيْره وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْطُر مَاء» فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره أَيْ يَقْطُر بِالْمَاءِ الَّذِي رَجَّلَهَا بِهِ لِقُرْبِ تَرْجِيله وَإِلَى هَذَا نَحَا الْقَاضِي الْبَاجِيُّ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَمَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يَكُون ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ نَضَارَته وَحُسْنه، وَاسْتِعَارَة لِجَمَالِهِ.
وَأَمَّا (الْعَوَاتِق) فَجَمْع عَاتِق.
قَالَ أَهْل اللُّغَة. هُوَ مَا بَيْن الْمَنْكِب وَالْعُنُق.
وَفيه لُغَتَانِ التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث وَالتَّذْكِير أَفْصَح وَأَشْهَر.
قَالَ صَاحِب الْمُحْكَم: وَيُجْمَع الْعَاتِق عَلَى عَوَاتِق كَمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى عُتُق وَعُتْق بِإِسْكَانِ التَّاء وَضَمّهَا.
وَأَمَّا طَوَاف عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ رُؤْيَا عَيْن فَعِيسَى حَيّ لَمْ يَمُتْ يَعْنِي فَلَا اِمْتِنَاع فِي طَوَافه حَقِيقَة، وَإِنْ كَانَ مَنَامًا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي رِوَايَته فَهُوَ مُحْتَمِل لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا ذُكِرَ مِنْ طَوَاف الدَّجَّال بِالْبَيْتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رُؤْيَا إِذْ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيح أَنَّهُ لَا يَدْخُل مَكَّة وَلَا الْمَدِينَة مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُر فِي رِوَايَة مَالِك طَوَاف الدَّجَّال.
وَقَدْ يُقَال. إِنَّ تَحْرِيم دُخُول الْمَدِينَة عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ فِي زَمَن فِتْنَته. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (الْمَسِيح) فَهُوَ صِفَة لِعِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِفَة لِلدَّجَّالِ. فَأَمَّا عِيسَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب تَسْمِيَته مَسِيحًا قَالَ الْوَاحِدِيّ: ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد وَاللَّيْث إِلَى أَنَّ أَصْله بِالْعِبْرَانِيَّةِ مشيحا فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَب، وَغَيَّرَتْ لَفْظه، كَمَا قَالُوا: مُوسَى وَأَصْله مُوشَى أَوْ مِيشَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ. فَلَمَّا عَرَّبُوهُ غَيَّرُوهُ فَعَلَى هَذَا لَا اِشْتِقَاق لَهُ.
قَالَ: وَذَهَبَ أَكْثَر الْعُلَمَاء إِلَى مُشْتَقّ وَكَذَا قَالَ غَيْره: إِنَّهُ مُشْتَقّ عَلَى قَوْل الْجُمْهُور ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسَح ذَا عَاهَة إِلَّا بَرِئَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَابْن الْأَعْرَابِيّ: الْمَسِيح الصِّدِّيق.
وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مَمْسُوح أَسْفَل الْقَدَمَيْنِ لَا أَخْمُص لَهُ، وَقِيلَ: لِمَسْحِ زَكَرِيَّا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: لِمَسْحِهِ الْأَرْض أَيْ قَطْعهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْن أُمّه مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ حِين وُلِدَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ اللَّه تَعَالَى مَسَحَهُ أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (الدَّجَّال) فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْسُوح الْعَيْن، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَعْوَر وَالْأَعْوَر يُسَمَّى مَسِيحًا، وَقِيلَ: لِمَسْحِهِ الْأَرْض حِينَ خُرُوجه، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا خِلَاف عِنْد أَحَد مِنْ الرُّوَاة فِي اِسْم عِيسَى أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر السِّين مُخَفَّفَة وَاخْتُلِفَ فِي الدَّجَّال فَأَكْثَرهمْ يَقُولهُ مِثْله، وَلَا فَرْق بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظ، وَلَكِنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسِيح هُدًى، وَالدَّجَّال مَسِيح ضَلَالَة. وَرَوَاهُ بَعْض الرُّوَاة (مِسِّيح) بِكَسْرِ الْمِيم وَالسِّين الْمُشَدَّدَة، وَقَالَهُ غَيْر وَاحِد كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَقَالَهُ بَعْضهمْ بِكَسْرِ الْمِيم وَتَخْفِيف السِّين. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا تَسْمِيَة الدَّجَّال فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانهَا فِي شَرْح الْمُقَدِّمَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَة الدَّجَّال: «جَعْد قَطَط» فَهُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالطَّاء هَذَا هُوَ الْمَشْهُور قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: رَوَيْنَاهُ بِفَتْحِ الطَّاء الْأُولَى وَبِكَسْرِهَا.
قَالَ: وَهُوَ شَدِيد الْجُعُودَة وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجَعْد فِي صِفَات الرِّجَال يَكُون مَدْحًا وَيَكُون ذَمًّا فَإِذَا كَانَ ذَمًّا فَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا الْقَصِير الْمُتَرَدِّد، وَالْآخَر الْبَخِيل. يُقَال: رَجُل جَعْد الْيَدَيْنِ، وَجَعْد الْأَصَابِع أَيْ بَخِيل. وَإِذَا كَانَ مَدْحًا فَلَهُ أَيْضًا مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ شَدِيد الْخَلْق، وَالْآخَر يَكُون شَعْره جَعْدًا غَيْر سَبِط فَيَكُون مَدْحًا لِأَنَّ السُّبُوطَة أَكْثَرهَا فِي شُعُور الْعَجَم.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ غَيْر الْهَرَوِيّ: الْجَعْد فِي صِفَة الدَّجَّال ذَمّ، وَفِي صِفَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَدْح وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْوَر الْعَيْن الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَة طَافِيَة» فَرُوِيَ بِالْهَمْزِ وَبِغَيْرِ هَمْز فَمَنْ هَمَزَ مَعْنَاهُ ذَهَبَ ضَوْءُهَا، وَمَنْ لَمْ يَهْمِز مَعْنَاهُ نَاتِئَة بَارِزَة. ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ هُنَا: «أَعْوَر الْعَيْن الْيُمْنَى»، وَجَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: «أَعْوَر الْعَيْن الْيُسْرَى» وَقَدْ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا مُسْلِم فِي آخِر الْكِتَاب وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه رَوَيْنَا هَذَا الْحَرْف عَنْ أَكْثَر شُيُوخنَا بِغَيْرِ هَمْز وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَكْثَرهمْ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَخْفَش وَمَعْنَاهُ نَاتِئَة كَنُتُوءِ حَبَّة الْعِنَب مِنْ بَيْن صَوَاحِبهَا.
قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْض شُيُوخنَا بِالْهَمْزِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضهمْ، وَلَا وَجْه لِإِنْكَارِهِ.
وَقَدْ وَصَفَ فِي الْحَدِيث بِأَنَّهُ مَمْسُوح الْعَيْن، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ جَحْرَاءَ وَلَا نَاتِئَة بَلْ مَطْمُوسَة، وَهَذِهِ صِفَة حَبَّة الْعِنَب إِذَا سَالَ مَاؤُهَا، وَهَذَا يُصَحِّح رِوَايَة الْهَمْز.
وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر: «جَاحِظ الْعَيْن وَكَأَنَّهَا كَوْكَب» وَفِي رِوَايَة: «لَهَا حَدَقَة جَاحِظَة كَأَنَّهَا نُخَاعَة فِي حَائِط» فَتُصَحِّح رِوَايَة تَرْك الْهَمْزَة وَلَكِنْ يُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيث وَتُصَحَّح الرِّوَايَات جَمِيعًا بِأَنْ يَكُون الْمَطْمُوسَة وَالْمَمْسُوحَة وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِجَحْرَاءَ وَلَا نَاتِئَة هِيَ الْعَوْرَاء الطَّافِئَة بِالْهَمْزِ وَهِيَ الْعَيْن الْيُمْنَى كَمَا جَاءَ هُنَا، وَتَكُون الْجَاحِظَة وَاَلَّتِي كَأَنَّهَا كَوْكَب، وَكَأَنَّهَا نُخَاعَة هِيَ الطَّافِيَة بِغَيْرِ هَمْز، وَهِيَ الْعَيْن الْيُسْرَى كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَهَذَا جَمْع بَيْن الْأَحَادِيث وَالرِّوَايَات فِي الطَّافِيَة بِالْهَمْزِ وَبِتَرْكِهِ وَأَعْوَر الْعَيْن الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى لِأَنَّ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَوْرَاء فَإِنَّ الْأَعْوَر مِنْ كُلّ شَيْء الْمَعِيب لاسيما مَا يَخْتَصّ بِالْعَيْنِ وَكِلَا عَيْنَيْ الدَّجَّال مَعِيبَة عَوْرَاء إِحْدَاهُمَا بِذَهَابِهَا وَالْأُخْرَى بِعَيْبِهَا هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي وَهُوَ فِي نِهَايَة مِنْ الْحُسْن. وَاَللَّه أَعْلَم.
247- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق الْمُسَيَّبِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء مَنْسُوب إِلَى جَدّ لَهُ وَهُوَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن الْمُسَيَّب بْن أَبِي السَّائِب أَبُو عَبْد اللَّه الْمَخْزُومِيّ.
قَوْله: (بَيْن ظَهْرَانَيْ النَّاس) هُوَ بِفَتْحِ الظَّاء وَإِسْكَان الْهَاء وَفَتْح النُّون أَيْ بَيْنَهُمْ وَتَقَدَّمَ بَيَانه أَيْضًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلَا إِنَّ الْمَسِيح الدَّجَّال أَعْوَر عَيْن الْيُمْنَى» مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ سِمَات الْحَدَث، وَعَنْ جَمِيع النَّقَائِص، وَأَنَّ الدَّجَّال مَخْلُوق مِنْ خَلْق اللَّه تَعَالَى نَاقِص الصُّورَة، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا هَذَا وَتُعَلِّمُوهُ النَّاس لِئَلَّا يَغْتَرّ بِالدَّجَّالِ مَنْ يَرَى تَخْيِيلَاته وَمَا مَعَهُ مِنْ الْفِتْنَة.
وَأَمَّا: «أَعْوَر عَيْن الْيُمْنَى» فَهُوَ عِنْد النَّحْوِيِّينَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ عَلَى ظَاهِره مِنْ الْإِضَافَة وَعِنْد الْبَصْرِيِّينَ يُقَدَّر فيه مَحْذُوف كَمَا يُقَدَّر فِي نَظَائِره فَالتَّقْدِير أَعْوَر عَيْن صَفْحَة وَجْهه الْيُمْنَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْت بِابْنِ قَطَن» ضَبَطْنَاهُ: «رَأَيْت» بِضَمِّ التَّاء وَفَتْحهَا وَهُمَا ظَاهِرَانِ و(قَطَن) هَذَا بِفَتْحِ الْقَاف وَالطَّاء.
249- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَجَلَا اللَّه لِي بَيْت الْمَقْدِس فَطَفِقْت أُخْبِرهُمْ عَنْ آيَاته» رَوَى (فَجَلَا) بِتَشْدِيدِ اللَّام وَتَخْفِيفهَا وَهُمَا ظَاهِرَانِ وَمَعْنَاهُ كَشَفَ وَأَظْهَرَ وَتَقَدَّمَ بَيَان لُغَات بَيْت الْمَقْدِس وَاشْتِقَاقه فِي أَوَّل هَذَا الْبَاب. وَآيَاته عَلَامَاته.
250- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْطِف رَأْسه مَاء أَوْ يُهْرَاق» أَمَّا (يَنْطِف) فَمَعْنَاهُ يَقْطُر وَيَسِيل يُقَال: نَطَفَ بِفَتْحِ الطَّاء يَنْطِف بِضَمِّهَا وَكَسْرهَا.
وَأَمَّا (يُهْرَاق) فَبِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الْهَاء وَمَعْنَاهُ يَنْصَبّ.
251- قَوْله: (حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْن الْمُثَنَّى) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة ثُمَّ جِيم مَفْتُوحَة ثُمَّ يَاء ثُمَّ نُون.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكُرِبْت كُرْبَة مَا كُرِبْت مِثْله قَطُّ» هُوَ بِضَمِّ الْكَافَيْنِ وَالضَّمِير فِي مِثْله يَعُود عَلَى مَعْنَى الْكُرْبَة وَهُوَ الْكَرْب أَوْ الْغَمّ أَوْ الْهَمّ أَوْ الشَّيْء.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ: الْكُرْبَة بِالضَّمِّ الْغَمّ الَّذِي يَأْخُذ بِالنَّفْسِ، وَكَذَلِكَ الْكَرْب. وَكَرَبَهُ الْغَمّ إِذَا اِشْتَدَّ عَلَيْهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَدْ رَأَيْتنِي فِي جَمَاعَة مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ فَإِذَا مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِم يُصَلِّي وَإِذَا عِيسَى بْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام قَائِم يُصَلِّي وَإِذَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَائِم يُصَلِّي فَحَانَتْ الصَّلَاة فَأَمَمْتهمْ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَاب فِي صَلَاتهمْ عِنْد ذِكْر طَوَاف مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ: وَقَدْ تَكُون الصَّلَاة هُنَا بِمَعْنَى الذِّكْر وَالدُّعَاء وَهِيَ مِنْ أَعْمَال الْآخِرَة.
قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ قِيلَ: كَيْف رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُصَلِّي فِي قَبْره وَصَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَنْبِيَاءِ بَيْت الْمَقْدِس وَوَجَدَهُمْ عَلَى مَرَاتِبهمْ فِي السَّمَوَات وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَرَحَّبُوا بِهِ فَالْجَوَاب أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون رُؤْيَته مُوسَى فِي قَبْره عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر كَانَتْ قَبْل صُعُود النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاء وَفِي طَرِيقه إِلَى بَيْت الْمَقْدِس، ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى قَدْ سَبَقَهُ إِلَى السَّمَاء. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ وَصَلَّى بِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْحَال لِأَوَّلِ مَا رَآهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ وَرَحَّبُوا بِهِ، أَوْ يَكُون اِجْتِمَاعه بِهِمْ وَصَلَاته وَرُؤْيَته مُوسَى بَعْد اِنْصِرَافه وَرُجُوعه عَنْ سِدْرَة الْمُنْتَهَى. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فِي ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى:

252- قَوْله (عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل عَنْ الزُّبَيْر بْن عَدِيّ عَنْ طَلْحَة عَنْ مُرَّة) أَمَّا (مِغْوَل) فَبِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْوَاو، وَطَلْحَة هُوَ اِبْن مُصَرِّف، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أَعْنِي الزُّبَيْر وَطَلْحَة وَمُرَّة تَابِعِيُّونَ كُوفِيُّونَ.
قَوْله: (اِنْتَهَى بِهِ إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاء السَّادِسَة) كَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول (السَّادِسَة) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَات الْأُخَر مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّهَا فَوْق السَّمَاء السَّابِعَة.
قَالَ الْقَاضِي: كَوْنهَا فِي السَّابِعَة هُوَ الْأَصَحّ. وَقَوْل الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه الْمَعْنَى، وَتَسْمِيَتهَا بِالْمُنْتَهَى.
قُلْت: وَيُمْكِن أَنْ يُجْمَع بَيْنَهُمَا فَيَكُون أَصْلهَا فِي السَّادِسَة وَمُعْظَمهَا فِي السَّابِعَة فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا فِي نِهَايَة مِنْ الْعِظَم.
وَقَدْ قَالَ الْخَلِيل رَحِمَهُ اللَّه: هِيَ سِدْرَة فِي السَّمَاء السَّابِعَة قَدْ أَظَلَّتْ السَّمَوَات وَالْجَنَّة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فِي قَوْله: إِنَّ مُقْتَضَى خُرُوج النَّهْرَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ النِّيل وَالْفُرَات مِنْ أَصْل سِدْرَة الْمُنْتَهَى أَنْ يَكُون أَصْلهَا فِي الْأَرْض فَإِنْ سُلِّمَ لَهُ هَذَا أَمْكَنَ حَمْله عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِك بِاَللَّهِ مِنْ أُمَّته شَيْئًا الْمُقْحِمَات» هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْقَاف وَكَسْر الْحَاء، وَمَعْنَاهُ: الذُّنُوب الْعِظَام الْكَبَائِر الَّتِي تُهْلِك أَصْحَابهَا وَتُورِدهُمْ النَّار وَتُقْحِمهُمْ إِيَّاهَا، وَالتَّقَحُّم: الْوُقُوع فِي الْمَهَالِك.
وَمَعْنَى الْكَلَام: مَنْ مَاتَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة غَيْر مُشْرِك بِاَللَّهِ غُفِرَ لَهُ الْمُقْحِمَات. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالْمُرَاد بِغُفْرَانِهَا أَنَّهُ لَا يَخْلُد فِي النَّار بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ لَا يُعَذَّب أَصْلًا فَقَدْ تَقَرَّرَتْ نُصُوص الشَّرْع وَإِجْمَاع أَهْل السُّنَّة عَلَى إِثْبَات عَذَاب بَعْض الْعُصَاة مِنْ الْمُوَحِّدِينَ. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهَذَا خُصُوصًا مِنْ الْأُمَّة أَيْ: يُغْفَر لِبَعْضِ الْأُمَّة الْمُقْحِمَات، وَهَذَا يَظْهَر عَلَى مَذْهَب مَنْ يَقُول: إِنَّ لَفْظَة (مِنْ) لَا تَقْتَضِي الْعُمُوم مُطْلَقًا، وَعَلَى مَذْهَب مَنْ يَقُول: لَا تَقْتَضِيه فِي الْإِخْبَار وَإِنْ اِقْتَضَتْهُ فِي الْأَمْر وَالنَّهْي، وَيُمْكِن تَصْحِيحه عَلَى الْمَذْهَب الْمُخْتَار وَهُوَ كَوْنهَا لِلْعُمُومِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ دَلِيل عَلَى إِرَادَة الْخُصُوص وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النُّصُوص وَالْإِجْمَاع. وَاَللَّه أَعْلَم.
253- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الزَّاي وَإِسْكَان الْهَاءِ وَاسْمه سُلَيْمَانُ بْن دَاوُدَ.
254- قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا حَفْص بْن غِيَاث عَنْ الشَّيْبَانِيّ عَنْ زِرّ عَنْ عَبْد اللَّه) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ. و(غِيَاث) بَالِغِينَ الْمُعْجَمَة. و(الشَّيْبَانِيّ) هُوَ أَبُو إِسْحَاق وَاسْمه سُلَيْمَان بْن فَيْرُوز، وَقِيلَ: اِبْن خَاقَان، وَقِيلَ: اِبْن عَمْرو وَهُوَ تَابِعِيّ.
وَأَمَّا (زِرّ) فَبِكَسْرِ الزَّاي، وَحُبَيْش بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الْمُوَحَّدَة وَآخِره الشِّين الْمُعْجَمَة وَهُوَ مِنْ الْمُعَمِّرِينَ زَادَ عَلَى مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة وَهُوَ مِنْ كِبَار التَّابِعِينَ.
قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَا رَأَى} قَالَ: رَأَى جِبْرِيل لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاح) هَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُوَ مَذْهَبه فِي الْآيَة، وَذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ رَأَى رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى، ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَذَهَبَ جَمَاعَة إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبّه بِفُؤَادِهِ دُونَ عَيْنَيْهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَة إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْهِ.
قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْوَاحِدِيّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا إِخْبَار عَنْ رُؤْيَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَة الْمِعْرَاج، قَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو ذَرّ وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيُّ: رَآهُ بِقَلْبِهِ.
قَالَ: وَعَلَى هَذَا رَأَى بِقَلْبِهِ رَبّه رُؤْيَة صَحِيحَة وَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ بَصَره فِي فُؤَاده أَوْ خَلَقَ لِفُؤَادِهِ بَصَرًا حَتَّى رَأَى رَبّه رُؤْيَة صَحِيحَة كَمَا يَرَى بِالْعَيْنِ.
قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ قَوْل أَنَس وَعِكْرِمَة وَالْحَسَن وَالرَّبِيع.
قَالَ الْمُبَرِّد: وَمَعْنَى الْآيَة أَنَّ الْفُؤَاد رَأَى شَيْئًا فَصَدَقَ فيه و(مَا رَأَى) فِي مَوْضِع نَصْب أَيْ: مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَرْئِيّه، وَقَرَأَ اِبْن عَامِر (مَا كَذَّبَ) بِالتَّشْدِيدِ.
قَالَ الْمُبَرِّد: مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى شَيْئًا فَقَبِلَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُبَرِّد عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَة لِلْفُؤَادِ فَإِنْ جَعَلْتهَا لِلْبَصَرِ فَظَاهِر أَيْ: مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَا رَآهُ الْبَصَر. هَذَا آخِر كَلَام الْوَاحِدِيّ.
255- قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَات رَبّه الْكُبْرَى} قَالَ: رَأَى جِبْرِيل فِي صُورَته لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاح) هَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُوَ قَوْل كَثِيرِينَ مِنْ السَّلَف، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَابْن زَيْد وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَمُقَاتِل بْن حَيَّان.
وَقَالَ الضَّحَّاك: الْمُرَاد أَنَّهُ رَأَى سِدْرَة الْمُنْتَهَى، وَقِيلَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَر، وَفِي الْكُبْرَى قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُول: نَعْت لِلْآيَاتِ، وَيَجُوز نَعْت الْجَمَاعَة بِنَعْتِ الْوَاحِدَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَآرِب أُخْرَى} وَقِيلَ: هُوَ صِفَة لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيره: رَأَى مِنْ آيَات رَبّه الْآيَة الْكُبْرَى.

.باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} وَهَلْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ:

قَالَ الْقَاضِي عِيَاض- رَحِمَهُ اللَّه: اِخْتَلَفَ السَّلَف وَالْخَلَف هَلْ رَأَى نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه لَيْلَة الْإِسْرَاء؟ فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَمَا وَقَعَ هُنَا فِي صَحِيح مُسْلِم، وَجَاءَ مِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَجَمَاعَة وَهُوَ الْمَشْهُور عَنْ اِبْن مَسْعُود، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَمِثْله عَنْ أَبِي ذَرّ وَكَعْب رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَالْحَسَن رَحِمَهُ اللَّه وَكَانَ يَحْلِف عَلَى ذَلِكَ، وَحُكِيَ مِثْله عَنْ اِبْن مَسْعُود وَأَبِي هُرَيْرَة وَأَحْمَد بْن حَنْبَل، وَحَكَى أَصْحَاب الْمَقَالَات عَنْ أَبِي الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ، وَجَمَاعَة مِنْ أَصْحَابه أَنَّهُ رَآهُ، وَوَقَفَ بَعْض مَشَايِخنَا فِي هَذَا، وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل وَاضِح وَلَكِنَّهُ جَائِز، وَرُؤْيَة اللَّه تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَة وَسُؤَال مُوسَى إِيَّاهَا دَلِيل عَلَى جَوَازهَا إِذْ لَا يَجْهَل نَبِيّ مَا يَجُوز أَوْ يَمْتَنِع عَلَى رَبّه، وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَة مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه، وَفِي مُقْتَضَى الْآيَة وَرُؤْيَة الْجَبَل، فَفِي جَوَاب الْقَاضِي أَبِي بَكْر مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ وَكَذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي أَنَّ نَبِيّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَلَّمَ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَيْلَة الْإِسْرَاء بِغَيْرِ وَاسِطَة أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنْ الْأَشْعَرِيّ وَقَوْم مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَعَزَا بَعْضهمْ هَذَا إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ اِخْتَلَفُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الدُّنُوّ وَالتَّدَلِّي مُنْقَسِم مَا بَيْن جِبْرِيل وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مُخْتَصّ بِأَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَر وَمِنْ السِّدْرَة الْمُنْتَهَى. وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَجَعْفَر بْن مُحَمَّد وَغَيْرهمْ أَنَّهُ دُنُوّ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَوْ مِنْ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَكُون الدُّنُوّ وَالتَّدَلِّي مُتَأَوَّلًا لَيْسَ عَلَى وَجْهه بَلْ كَمَا قَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد: الدُّنُوّ مِنْ اللَّه تَعَالَى لَا حَدّ لَهُ وَمِنْ الْعِبَاد بِالْحُدُودِ، فَيَكُون مَعْنَى دُنُوّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى وَقُرْبه مِنْهُ ظُهُور عَظِيم مَنْزِلَته لَدَيْهِ، وَإِشْرَاق أَنْوَار مَعْرِفَته عَلَيْهِ، وَإِطْلَاعه مِنْ غَيْبه وَأَسْرَار مَلَكُوته عَلَى مَا لَمْ يُطْلِع سِوَاهُ عَلَيْهِ.
وَالدُّنُوّ مِنْ اللَّه سُبْحَانه لَهُ إِظْهَار ذَلِكَ لَهُ وَعَظِيم بِرّه وَفَضْله الْعَظِيم لَدَيْهِ، وَيَكُون قَوْله تَعَالَى: {قَاب قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} عَلَى هَذَا عِبَارَة عَنْ لُطْف الْمَحَلّ وَإِيضَاح الْمَعْرِفَة وَالْإِشْرَاف عَلَى الْحَقِيقَة مِنْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ اللَّه إِجَابَة الرَّغْبَة وَإِبَانَة الْمَنْزِلَة وَيُتَأَوَّل فِي ذَلِكَ مَا يُتَأَوَّل فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبّه عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا...» الْحَدِيث هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَأَمَّا صَاحِب التَّحْرِير فَإِنَّهُ اِخْتَارَ إِثْبَات الرُّؤْيَة.
قَالَ: وَالْحُجَج فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَة لَكِنَّا لَا نَتَمَسَّك إِلَّا بِالْأَقْوَى مِنْهَا وَهُوَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا (أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُون الْخُلَّة لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَام لِمُوسَى وَالرُّؤْيَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَعَنْ عِكْرِمَة سَأَلَ اِبْنَ عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا هَلْ رَأَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْس بِهِ عَنْ شُعْبَة عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: رَأَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه. وَكَانَ الْحَسَن يَحْلِف لَقَدْ رَأَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه. وَالْأَصْل فِي الْبَاب حَدِيث اِبْن عَبَّاس حَبْر الْأُمَّة وَالْمَرْجُوع إِلَيْهِ فِي الْمُعْضِلَات، وَقَدْ رَاجَعَهُ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَرَاسَلَهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ. وَلَا يَقْدَح فِي هَذَا حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لِأَنَّ عَائِشَة لَمْ تُخْبِر أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «لَمْ أَرَ رَبِّي»، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مُتَأَوِّلَةً لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} وَلِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ قَوْلًا وَخَالَفَهُ غَيْره مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ قَوْله حُجَّة.
وَإِذَا صَحَّتْ الرِّوَايَات عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي إِثْبَات الرُّؤْيَة وَجَبَ الْمَصِير إِلَى إِثْبَاتهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُدْرَك بِالْعَقْلِ، وَيُؤْخَذ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى بِالسَّمَاعِ وَلَا يَسْتَجِيز أَحَد أَنْ يَظُنّ بِابْنِ عَبَّاس أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَاد.
وَقَدْ قَالَ مَعْمَر بْن رَاشِد حِين ذَكَرَ اِخْتِلَاف عَائِشَة وَابْن عَبَّاس: مَا عَائِشَة عِنْدَنَا بِأَعْلَمَ مِنْ اِبْن عَبَّاس، ثُمَّ إِنَّ اِبْن عَبَّاس أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ وَالْمُثْبِت مُقَدَّم عَلَى النَّافِي، هَذَا كَلَام صَاحِب التَّحْرِير، فَالْحَاصِل أَنَّ الرَّاجِح عِنْد أَكْثَر الْعُلَمَاء: أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسه لَيْلَة الْإِسْرَاء لِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره مِمَّا تَقَدَّمَ. وَإِثْبَات هَذَا لَا يَأْخُذُونَهُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَشَكَّك فيه.
ثُمَّ إِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَة بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا فيه حَدِيث لَذَكَرَتْهُ، وَإِنَّمَا اِعْتَمَدَتْ الِاسْتِنْبَاط مِنْ الْآيَات وَسَنُوَضِّحُ الْجَوَاب عَنْهَا.
فَأَمَّا اِحْتِجَاج عَائِشَة بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار} فَجَوَابه ظَاهِر، فَإِنَّ الْإِدْرَاك هُوَ الْإِحَاطَة وَاَللَّه تَعَالَى لَا يُحَاط بِهِ، وَإِذَا وَرَدَ النَّصّ بِنَفْيِ الْإِحَاطَة لَا يَلْزَم مِنْهُ نَفْي الرُّؤْيَة بِغَيْرِ إِحَاطَة، وَأُجِيبَ عَنْ الْآيَة بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ فَإِنَّهُ فِي نِهَايَة مِنْ الْحُسْن مَعَ اِخْتِصَاره.
وَأَمَّا اِحْتِجَاجهَا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّه إِلَّا وَحْيًا} الْآيَة، فَالْجَوَاب عَنْهُ مِنْ أَوْجُه: أَحَدهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ الرُّؤْيَة وُجُود الْكَلَام حَال الرُّؤْيَة فَيَجُوز وُجُود الرُّؤْيَة مِنْ غَيْر كَلَام.
الثَّانِي أَنَّهُ عَامّ مَخْصُوص بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّة.
الثَّالِث مَا قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ الْمُرَاد بِالْوَحْيِ الْكَلَام مِنْ غَيْر وَاسِطَة، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِل وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا وَلَكِنَّ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْوَحْيِ هُنَا الْإِلْهَام وَالرُّؤْيَة فِي الْمَنَام وَكِلَاهُمَا يُسَمَّى وَحْيًا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب} فَقَالَ الْوَاحِدِيّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ غَيْر مُجَاهِر لَهُمْ بِالْكَلَامِ بَلْ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ هُنَاكَ حِجَابًا يَفْصِل مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِع وَيَدُلُّ عَلَى تَحْدِيد الْمَحْجُوب فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُسْمَع مِنْ وَرَاء الْحِجَاب حَيْثُ لَمْ يُرَ الْمُتَكَلِّم. وَاَللَّه أَعْلَم.
256- قَوْله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قَالَ: رَأَى جِبْرِيل) وَهَكَذَا قَالَهُ أَيْضًا أَكْثَر الْعُلَمَاء، قَالَ الْوَاحِدِيّ: قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء: الْمُرَاد رَأَى جِبْرِيل فِي صُورَته الَّتِي خَلَقَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهَا، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى: {نَزْلَة أُخْرَى} صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُود إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ عَرَجَات فِي تِلْكَ اللَّيْلَة لِاسْتِحْطَاطِ عَدَد الصَّلَوَات فَكُلّ عَرْجَة نَزْلَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
258- قَوْله: (عَنْ الْأَعْمَش عَنْ زِيَاد بْن الْحُصَيْن أَبِي جَهْمَة عَنْ أَبِي الْعَالِيَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَاد مَا رَأَى}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَة أُخْرَى} قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ) هَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَرَّتَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْآيَتَيْنِ وَأَنَّ الرُّؤْيَة عِنْد مَنْ أَثْبَتَهَا بِالْفُؤَادِ أَمْ بِالْعَيْنِ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ الْأَعْمَش وَزِيَاد وَأَبُو الْعَالِيَة بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَاسْم الْأَعْمَش (سُلَيْمَان بْن مِهْرَانَ) تَقَدَّمَ بَيَانه مَرَّات، و(جَهْمَة) بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْهَاء، وَاسْم أَبِي الْعَالِيَة (رُفَيْعٌ) بِضَمِّ الرَّاء وَفَتْح الْفَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
259- قَوْله: (أَعْظَم الْفِرْيَة) هِيَ بِكَسْرِ الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَهِيَ الْكَذِب، يُقَال: فَرِيَ الشَّيْء يَفْرِيه فَرْيًا وَافْتَرَاهُ يَفْتَرِيه اِفْتِرَاء إِذَا اِخْتَلَقَهُ، وَجَمْع الْفِرْيَة فِرًى.
قَوْله: «أَنْظِرِينِي» أَيْ: أَمْهِلِينِي. قَوْله: عَنْ مَسْرُوق أَلَمْ يَقُلْ اللَّه تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِين} وَقَوْل عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَوَ لَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أَوَ لَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا}» ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَة أَيْضًا: «وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ}» ثُمَّ قَالَتْ: «وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}» هَذَا كُلّه تَصْرِيح مِنْ عَائِشَة وَمَسْرُوق رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِجَوَازِ قَوْل الْمُسْتَدِلّ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآن: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُول، وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه بْن الشِّخِّير التَّابِعِيّ. فَرَوَى اِبْن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا إِنَّ اللَّه يَقُول، وَلَكِنْ قُولُوا: إِنَّ اللَّه قَالَ، وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ مُطَرِّف رَحِمَهُ اللَّه خِلَاف مَا فَعَلَتْهُ الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ، فَالصَّحِيح الْمُخْتَار جَوَاز الْأَمْرَيْنِ كَمَا اِسْتَعْمَلَتْهُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَمَنْ فِي عَصْرهَا وَبَعْدهَا مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف وَلَيْسَ لِمَنْ أَنْكَرَهُ حُجَّة، وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى جَوَازه مِنْ النُّصُوص قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} وَفِي صَحِيح مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه عَنْ أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالهَا}» وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْلهَا: (أَوَ لَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ}) فَهَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول (مَا كَانَ) بِحَذْفِ الْوَاو وَالتِّلَاوَة وَمَا كَانَ بِإِثْبَاتِ الْوَاو؛ وَلَكِنْ لَا يَضُرّ هَذَا فِي الرِّوَايَة وَالِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلّ لَيْسَ مَقْصُوده التِّلَاوَة عَلَى وَجْههَا. وَإِنَّمَا مَقْصُوده بَيَان مَوْضِع الدَّلَالَة، وَلَا يُؤَثِّر حَذْف الْوَاو فِي ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة فِي الْحَدِيث مِنْهَا قَوْله فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاة طَرَفَيْ النَّهَار} وَقَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاة لِذِكْرِي} هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَات الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّلَاوَة بِالْوَاوِ فيهمَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (مَسْرُوق) فَقَالَ أَبُو سَعِيد السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب: سُمِّيَ مَسْرُوقًا؛ لِأَنَّهُ سَرَقَهُ إِنْسَان فِي صِغَره ثُمَّ وُجِدَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْته مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاء سَادًّا عِظَم خَلْقه مَا بَيْنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْض» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (مَا بَيْن السَّمَاء إِلَى الْأَرْض) وَهُوَ صَحِيح وَأَمَّا (عِظَم خَلْقه) فَضُبِطَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا: بِضَمِّ الْعَيْن وَإِسْكَان الظَّاء، وَالثَّانِي: بِكَسْرِ الْعَيْن وَفَتْح الظَّاء وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله: (سَأَلْت عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا هَلْ رَأَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى؟ فَقَالَتْ: سُبْحَان اللَّه، لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْت) أَمَّا قَوْلهَا: (سُبْحَان اللَّه)، فَمَعْنَاهُ التَّعَجُّب مِنْ جَهْل مِثْل هَذَا، وَكَأَنَّهَا تَقُول كَيْف يَخْفَى عَلَيْك مِثْل هَذَا؟ وَلَفْظَة (سُبْحَان اللَّه) لِإِرَادَةِ التَّعَجُّب كَثِيرَة فِي الْحَدِيث وَكَلَام الْعَرَب، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَان اللَّه تَطَهَّرِي بِهَا»، «وَسُبْحَان اللَّه الْمُسْلِم لَا يَنْجُس»، وَقَوْل الصَّحَابَة: سُبْحَان اللَّه، يَا رَسُول اللَّه، وَمِمَّنْ ذَكَرَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظ التَّعَجُّب أَبُو بَكْر بْن السَّرَّاج وَغَيْره، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي التَّعَجُّب: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْلهَا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: (قَفَّ شَعَرِي) فَمَعْنَاهُ: قَامَ شَعَرِي مِنْ الْفَزَع لِكَوْنِي سَمِعْت مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَال، قَالَ اِبْن الْأَعَرَابِيّ. تَقُول الْعَرَب عِنْد إِنْكَار الشَّيْء: قَفَّ شَعَرِي، وَاقْشَعَرَّ جِلْدِي، وَاشْمَأَزَّتْ نَفْسِي، قَالَ النَّضْر بْن شُمَيْلٍ: الْقَفّ كَهَيْئَةِ الْقُشَعْرِيرَة، وَأَصْله التَّقَبُّض وَالِاجْتِمَاع؛ لِأَنَّ الْجِلْد يَنْقَبِض عِنْد الْفَزَع وَالِاسْتِهْوَال، فَيَقُوم الشَّعْر لِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْقُفَّة الَّتِي هِيَ الزِّنْبِيل لِاجْتِمَاعِهَا وَلِمَا يَجْتَمِع فيها. وَاَللَّه أَعْلَم.
260- قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا اِبْن نُمَيْر حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ اِبْن أَشْوَع عَنْ عَامِر عَنْ مَسْرُوق) هَؤُلَاءِ كُلّهمْ كُوفِيُّونَ وَابْن نُمَيْر اِسْمه مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر، وَأَبُو أُسَامَة اِسْمه حَمَّاد بْن أُسَامَة، وَزَكَرِيَّا هُوَ اِبْن أَبِي زَائِدَة. وَاسْم أَبِي زَائِدَة خَالِد بْن مَيْمُون،، وَقِيلَ: هُبَيْرَة: وَابْن أَشْوَع هُوَ سَعْد بْن عَمْرو بْن أَشْوَع بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْوَاو وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة.
قَوْله: (قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فَأَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَاب قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبَدَة مَا أَوْحَى} فَقَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام) قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْوَاحِدِيّ: مَعْنَى التَّدَلِّي الِامْتِدَاد إِلَى جِهَة السُّفْل هَكَذَا هُوَ الْأَصْل، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْب مِنْ الْعُلُوّ، هَذَا قَوْل الْفَرَّاء، وَقَالَ صَاحِب النَّظْم: هَذَا عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا لِأَنَّ التَّدَلِّي سَبَب الدُّنُوّ، قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: تَدَلَّى إِذَا قَرُبَ بَعْد عُلُوّ، قَالَ الْكَلْبِيّ: الْمَعْنَى دَنَا جِبْرِيل مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرُبَ مِنْهُ، وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَةُ: ثُمَّ دَنَا جِبْرِيل بَعْد اِسْتِوَائِهِ فِي الْأُفُق الْأَعْلَى مِنْ الْأَرْض فَنَزَلَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَكَانَ قَاب قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فَالْقَاب مَا بَيْن الْقَبْضَة وَالسِّيَة وَلِكُلِّ قَوْس قَابَانِ، وَالْقَاب فِي اللُّغَة أَيْضًا: الْقَدْر، وَهَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْآيَةِ عِنْد جَمِيع الْمُفَسِّرِينَ، وَالْمُرَاد الْقَوْس الَّتِي يُرْمَى عَنْهَا وَهِيَ الْقَوْس الْعَرَبِيَّة، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَتهمْ، وَذَهَبَ جَمَاعَة إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْقَوْسِ الذِّرَاع، هَذَا قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَشَقِيق بْن سَلَمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبِي إِسْحَاق السَّبِيعِيِّ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْقَوْس مَا يُقَاسَ بِهِ الشَّيْء، أَيْ: يُذْرَع.
قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَةُ وَغَيْرهمْ: هَذِهِ الْمَسَافَة كَانَتْ بَيْن جِبْرِيل وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْل اللَّه تَعَالَى: {أَوْ أَدْنَى} مَعْنَاهُ أَوْ أَقْرَب، قَالَ مُقَاتِل: بَلْ أَقْرَب، وَقَالَ الزَّجَّاج: خَاطَبَ اللَّه تَعَالَى الْعِبَاد عَلَى لُغَتهمْ وَمِقْدَار فَهْمهمْ الْمَعْنَى: أَوْ أَدْنَى فِيمَا تُقَدِّرُونَ أَنْتُمْ، وَاَللَّه تَعَالَى عَالِم بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاء مِنْ غَيْر شَكّ، وَلَكِنَّهُ خَاطَبَنَا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتنَا، وَمَعْنَى الْآيَة: أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ عِظَم خَلْقه وَكَثْرَة أَجْزَائِهِ دَنَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الدُّنُوّ. وَاَللَّه أَعْلَم.