فصل: باب قوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب بَرَاءَة حَرَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرِّيبَة):

ذَكَرَ فِي الْبَاب حَدِيث أَنَس أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَم بِأُمِّ وَلَده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَذْهَب يَضْرِب عُنُقه، فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ يَغْتَسِل فِي رَكِيّ، وَهُوَ الْبِئْر، فَرَآهُ مَجْبُوبًا فَتَرَكَهُ، قِيلَ: لَعَلَّهُ كَانَ مُنَافِقًا وَمُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِطَرِيقٍ آخَر، وَجَعَلَ هَذَا مُحَرِّكًا لِقَتْلِهِ بِنِفَاقِهِ وَغَيْره لَا بِالزِّنَا، وَكَفَّ عَنْهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْقَتْل بِالزِّنَا، وَقَدْ عَلِمَ اِنْتِفَاء الزِّنَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
4975- سبق شرحه بالباب.

.كتاب صفات المنافقين وأحكامهم:

.باب قَوْله تعالى: {حَتَّى يَنْفَضُّوا}:

4976- قَوْله: {حَتَّى يَنْفَضُّوا} أَيْ: يَنْفَرِدُوا، قَالَ زُهَيْر: وَهِيَ قِرَاءَة مَنْ خَفَضَ (حَوْله)، يَعْنِي قِرَاءَة مَنْ يَقْرَأ (مِنْ حَوْله) بِكَسْرِ مِيم (مِنْ) وَبِجَرِّ (حَوْله) وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْقِرَاءَة الشَّاذَّة (مَنْ حَوْله) بِالْفَتْحِ.
قَوْله: (لَوَّوْا رُءُوسهمْ) قُرِئَ فِي السَّبْع بِتَشْدِيدِ الْوَاو وَتَخْفِيفهَا، (كَأَنَّهُمْ خُشُب) بِضَمِّ الشِّين وَبِإِسْكَانِهَا الضَّمّ لِلْأَكْثَرِينَ، وَفِي حَدِيث زَيْد بْن أَرْقَمَ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ أَمْرًا يَتَعَلَّق بِالْإِمَامِ أَوْ نَحْوه مِنْ كِبَار وُلَاة الْأُمُور، وَيُخَاف ضَرَره عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يُبَلِّغهُ إِيَّاهُ لِيَحْتَرِز مِنْهُ.
وَفيه: مَنْقَبَة لِزَيْدٍ.
4977- وَأَمَّا حَدِيث صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ الْمُنَافِق وَإِلْبَاسه قَمِيصه، وَاسْتِغْفَاره لَهُ، وَنَفْثه عَلَيْهِ مِنْ رِيقه، فَسَبَقَ شَرْحه، وَالْمُخْتَصَر مِنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ هَذَا كُلّه إِكْرَامًا لِابْنِهِ، وَكَانَ صَالِحًا، وَقَدْ صَرَّحَ مُسْلِم فِي رِوَايَاته بِأَنَّ اِبْنه سَأَلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ مَكَارِم أَخْلَاقه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُسْن مُعَاشَرَته لِمَنْ اِنْتَسَبَ إِلَى صُحْبَته، وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاة قَبْل نُزُول قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره} كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيث، وَقِيلَ: أَلْبَسَهُ الْقَمِيص مُكَافَأَة بِقَمِيصٍ كَانَ أَلْبَسَهُ الْعَبَّاس.
4979- قَوْله: «قَلِيل فِقْه قُلُوبهمْ، كَثِير شَحْم بُطُونهمْ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا فيه تَنْبِيه عَلَى أَنَّ الْفِطْنَة قَلَّمَا تَكُون مَعَ السِّمَن.
4980- قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة: مَعْنَاهُ: أَيّ شَيْء لَكُمْ فِي اِخْتِلَاف فِي أَمْرهمْ، وَفِئَتَيْنِ مَعْنَاهُ فِرْقَتَيْنِ، وَهُوَ مَنْصُوب عِنْد الْبَصْرِيِّينَ عَلَى الْحَال قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِذَا قُلْت مَالَك قَائِمًا؟ مَعْنَاهُ: لِمَ قُمْت، وَنَصَبْته عَلَى تَقْدِير: أَيّ شَيْء يَحْصُل لَك فِي هَذَا الْحَال، وَقَالَ الْفَرَّاء: وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ خَبَر كَانَ مَحْذُوفَة، فَقَوْلك: مَالَك قَائِمًا؟ تَقْدِيره: لِمَ كُنْت قَائِمًا.
4983- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي أَصْحَابِي اِثْنَا عَشَر مُنَافِقًا فيهمْ ثَمَانِيَة لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة حَتَّى يَلِج الْجَمَل فِي سَمِّ الْخِيَاط، ثَمَانِيَة مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمْ الدُّبَيْلَة سِرَاج مِنْ النَّار يَظْهَر فِي أَكْتَافهمْ حَتَّى يَنْجُم مِنْ صُدُورهمْ» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي أَصْحَابِي» فَمَعْنَاهُ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى صُحْبَتِي، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «فِي أُمَّتِي» و«سَمّ الْخِيَاط» بِفَتْحِ السِّين وَضَمّهَا وَكَسْرهَا الْفَتْح أَشْهَر، وَبِهِ قَرَأَ الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَهُوَ ثَقْب الْإِبْرَة، وَمَعْنَاهُ: لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة أَبَدًا كَمَا لَا يَدْخُل الْجَمَل فِي ثَقْب الْإِبْرَة أَبَدًا.
وَأَمَّا: «الدُّبَيْلَة» فَبِدَالٍ مُهْمَلَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيث بِسِرَاجٍ مِنْ نَار، وَمَعْنَى (يَنْجُم) يَظْهَر وَيَعْلُو، وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيم، وَرُوِيَ (تَكْفيهمْ الدُّبَيْلَة) بِحَذْفِ الْكَاف الثَّانِيَة، وَرُوِيَ (تَكْفِتهُمْ) بِتَاءٍ مُثَنَّاة فَوْق بَعْد الْفَاء، مِنْ الْكَفْت، وَهُوَ الْجَمْع وَالسَّتْر، أَيْ: تَجْمَعهُمْ فِي قُبُورهمْ وَتَسْتُرهُمْ.
4984- سبق شرحه بالباب.
4985- قَوْله: «كَانَ بَيْن رَجُل مِنْ أَهْل الْعَقَبَة وَبَيْن حُذَيْفَة بَعْض مَا يَكُون بَيْن النَّاس، فَقَالَ: أَنْشُدك بِاَللَّهِ كَمْ كَانَ أَصْحَاب الْعَقَبَة؟ فَقَالَ لَهُ الْقَوْم: أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَك، قَالَ: كُنَّا نُخْبِر أَنَّهُمْ أَرْبَعَة عَشَر، فَإِنْ كُنْت مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ الْقَوْم خَمْسَة عَشَر، وَأَشْهَد بِاَللَّهِ أَنَّ اِثْنَيْ عَشَر مِنْهُمْ حَرْب لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُوم الْأَشْهَاد» وَهَذِهِ الْعَقَبَة لَيْسَتْ الْعَقَبَة الْمَشْهُورَة بِمِنًى الَّتِي كَانَتْ بِهَا بَيْعَة الْأَنْصَار رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هَذِهِ عَقَبَة عَلَى طَرِيق تَبُوك، اِجْتَمَعَ الْمُنَافِقُونَ فيها لِلْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك فَعَصَمَهُ اللَّه مِنْهُمْ.
4986- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَصْعَد الثَّنِيَّة ثَنِيَّة الْمُرَار» هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى (الْمُرَار) بِضَمِّ الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي الثَّانِيَة (الْمُرَار أَوْ الْمَرَار) بِضَمِّ الْمِيم أَوْ فَتْحهَا عَلَى الشَّكّ، وَفِي بَعْض النُّسَخ بِضَمِّهَا أَوْ كَسْرهَا، وَاَللَّه أَعْلَم. وَالْمُرَار شَجَر مُرّ، وَأَصْل الثَّنِيَّة: الطَّرِيق بَيْن جَبَلَيْنِ، وَهَذِهِ الثَّنِيَّة عِنْد الْحُدَيْبِيَة، قَالَ الْحَازِمِيّ: قَالَ اِبْن إِسْحَاق: هِيَ مَهْبِط الْحُدَيْبِيَة.
قَوْله: (لَأَنْ أَجِد ضَالَّتِي أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِر لِي صَاحِبكُمْ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُل يَنْشُد ضَالَّة لَهُ) (يَنْشُد) بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الشِّين، أَيْ: يَسْأَل عَنْهَا، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ هَذَا الرَّجُل هُوَ الْجَدّ بْن قِيسَ الْمُنَافِق.
4987- وَقَوْله: «قَصَمَ اللَّه عُنُقه» أَيْ: أَهْلَكَهُ.
قَوْله: «فَنَبَذَتْهُ الْأَرْض» أَيْ: طَرَحَتْهُ عَلَى وَجْههَا عِبْرَة لِلنَّاظِرِينَ.
4988- قَوْله: «هَاجَتْ رِيح تَكَاد أَنْ تَدْفِن الرَّاكِب» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (تَدْفِن) بِالْفَاءِ وَالنُّون، أَيْ: تُغَيِّبهُ عَنْ النَّاس، وَتَذْهَب بِهِ لِشِدَّتِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيح لِمَوْتِ مُنَافِق» أَيْ: عُقُوبَة لَهُ، وَعَلَامَة لِمَوْتِهِ وَرَاحَة الْبِلَاد وَالْعِبَاد بِهِ.
4989- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاكِبَيْنِ الْمُقَفِّيَيْنِ» أَيْ: الْمُوَلِّيَيْنِ أَقْفِيَتهمَا مُنْصَرِفَيْنِ.
قَوْله: (لِرَجُلَيْنِ حِينَئِذٍ مِنْ أَصْحَابه) سَمَّاهُمَا مِنْ أَصْحَابه، لِإِظْهَارِهِمَا الْإِسْلَام وَالصُّحْبَة لَا أَنَّهُمَا مِمَّنْ نَالَتْهُ فَضِيلَة الصُّحْبَة.
4990- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَل الْمُنَافِق مَثَل الشَّاة الْعَائِرَة بَيْن الْغَنَمَيْنِ، تُعِير إِلَى هَذِهِ مَرَّة وَإِلَى هَذِهِ مَرَّة» «الْعَائِرَة»: الْمُتَرَدِّدَة الْحَائِرَة لَا تَدْرِي لِأَيِّهِمَا تَتْبَع، وَمَعْنَى تُعِير أَيْ: تُرَدَّد وَتَذْهَب، وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «تَكِرّ فِي هَذِهِ مَرَّة وَفِي هَذِهِ مَرَّة» أَيْ: تَعْطِف عَلَى هَذِهِ وَعَلَى هَذِهِ، وَهُوَ نَحْو: (تُعِير) وَهُوَ بِكَسْرِ الْكَاف.
4991- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِ عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة» أَيْ: لَا يَعْدِلهُ فِي الْقَدْر وَالْمَنْزِلَة، أَيْ: لَا قَدْر لَهُ.
وَفيه: ذَمّ السِّمَن.
4992- (الْحَبْر) بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْرهَا، وَالْفَتْح أَفْصَح وَهُوَ الْعَالِم.
قَوْله: «إِنَّ اللَّه يُمْسِك السَّمَوَات عَلَى أُصْبُع وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُع» إِلَى قَوْله: «ثُمَّ يَهُزّهُنَّ» هَذَا مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات، وَقَدْ سَبَقَ فيها الْمَذْهَبَانِ: التَّأْوِيل وَالْإِمْسَاك عَنْهُ، مَعَ الْإِيمَان بِهَا، مَعَ اِعْتِقَاد أَنَّ الظَّاهِر مِنْهَا غَيْر مُرَاد، فَعَلَى قَوْل الْمُتَأَوِّلِينَ يَتَأَوَّلُونَ الْأَصَابِع هُنَا عَلَى الِاقْتِدَار أَيْ: خَلَقَهَا مَعَ عِظَمهَا بِلَا تَعَب وَلَا مَلَل، وَالنَّاس يَذْكُرُونَ الْإِصْبَع فِي مِثْل هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالِاحْتِقَار، فَيَقُول أَحَدهمْ: بِأُصْبُعِي أَقْتُل زَيْدًا، أَيْ: لَا كُلْفَة عَلَيَّ فِي قَتْله، وَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد أَصَابِع بَعْض مَخْلُوقَاته، وَهَذَا غَيْر مُمْتَنِع، وَالْمَقْصُود: أَنَّ يَد الْجَارِحَة مُسْتَحِيلَة.
قَوْله: «فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْر تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبْضَته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ}» ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَ الْحَبْر فِي قَوْله: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبِض السَّمَوَات وَالْأَرْضِينَ، وَالْمَخْلُوقَات بِالْأَصَابِعِ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَة الَّتِي فيها الْإِشَارَة إِلَى نَحْو مَا يَقُول، قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ: لَيْسَ ضَحِكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَجُّبه وَتِلَاوَته الْآيَة تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ، بَلْ هُوَ رَدّ لِقَوْلِهِ، وَإِنْكَار وَتَعَجُّب مِنْ سُوء اِعْتِقَاده، فَإِنَّ مَذْهَب الْيَهُود التَّجْسِيم، فَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَقَوْله تَصْدِيقًا لَهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَام الرَّاوِي عَلَى مَا فُهِمَ، وَالْأَوَّل أَظْهَر.
4993- قَوْله: «وَالشَّجَر وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَع» الثَّرَى هُوَ التُّرَاب النَّدِيّ.
قَوْله: «بَدَتْ نَوَاجِذه» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، أَيْ: أَنْيَابه.
4995- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطْوِي اللَّه السَّمَوَات يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ يَأْخُذهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ اِبْن مِقْسَم نَظَرَ إِلَى اِبْن عُمر كَيْف يَحْكِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَأْخُذ اللَّه سَمَاوَاته وَأَرْضِيهِ بِيَدَيْهِ، وَيَقُول: أَنَا اللَّه، وَيَقْبِض أَصَابِعه وَيَبْسُطهَا، أَنَا الْمَلِك، حَتَّى نَظَرْت إِلَى الْمِنْبَر يَتَحَرَّك مِنْ أَسْفَل شَيْء مِنْهُ»، قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: «يَقْبِض أَصَابِعه وَيَبْسُطهَا» النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ اِبْن مِقْسَم نَظَرَ إِلَى اِبْن عُمَر كَيْف يَحْكِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَأَمَّا إِطْلَاق الْيَدَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَمُتَأَوَّل عَلَى الْقُدْرَة، وَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالْيَدَيْنِ، لِأَنَّ أَفْعَالنَا تَقَع بِالْيَدَيْنِ، فَخُوطِبْنَا بِمَا نَفْهَمهُ، لِيَكُونَ أَوْضَحَ وَأَوْكَد فِي النُّفُوس، وَذَكَرَ الْيَمِين وَالشِّمَال حَتَّى يَتِمّ الْمِثَال، لِأَنَّا نَتَنَاوَل بِالْيَمِينِ مَا نُكْرِمهُ، وَبِالشِّمَالِ مَا دُونه وَلِأَنَّ الْيَمِين فِي حَقّنَا يَقْوَى لِمَا لَا يَقْوَى لَهُ الشِّمَال، وَمَعْلُوم أَنَّ السَّمَوَات أَعْظَم مِنْ الْأَرْض، فَأَضَافَهَا إِلَى الْيَمِين، وَالْأَرَضِينَ إِلَى الشِّمَال، لِيَظْهَر التَّقْرِيب فِي الِاسْتِعَارَة، وَإِنْ كَانَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَا يُوصَف بِأَنَّ شَيْئًا أَخَفّ عَلَيْهِ مِنْ شَيْء، وَلَا أَثْقَل مِنْ شَيْء، هَذَا مُخْتَصَر كَلَام الْمَازِرِيّ فِي هَذَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث ثَلَاثَة أَلْفَاظ: يَقْبِض، وَيَطْوِي، وَيَأْخُذ كُلّه بِمَعْنَى الْجَمْع لِأَنَّ السَّمَوَات مَبْسُوطَة، وَالْأَرَضِينَ مَدْحُوَّة، وَمَمْدُودَة، ثُمَّ يَرْجِع ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الرَّفْع وَالْإِزَالَة وَتَبْدِيل الْأَرْض غَيْر الْأَرْض وَالسَّمَوَات فَعَادَ كُلّه إِلَى ضَمّ بَعْضهَا إِلَى بَعْض وَرَفْعهَا وَتَبْدِيلهَا بِغَيْرِهَا، قَالَ: وَقَبْض النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعه وَبَسْطهَا تَمْثِيل لِقَبْضِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَات وَجَمْعهَا بَعْد بَسْطهَا، وَحِكَايَة لِلْمَبْسُوطِ وَالْمَقْبُوض، وَهُوَ السَّمَوَات وَالْأَرْضُونَ، لَا إِشَارَة إِلَى الْقَبْض وَالْبَسْط الَّذِي هُوَ صِفَة الْقَابِض وَالْبَاسِط سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَلَا تَمْثِيل لِصِفَةِ اللَّه تَعَالَى السَّمْعِيَّة الْمُسَمَّاة بِالْيَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ.
4996- وَقَوْله فِي الْمِنْبَر: «يَتَحَرَّك مِنْ أَسْفَل شَيْء مِنْهُ» أَيْ: مِنْ أَسْفَله إِلَى أَعْلَاهُ لِأَنَّ بِحَرَكَةِ الْأَسْفَل يَتَحَرَّك الْأَعْلَى وَيُحْتَمَل أَنَّ تَحَرُّكه بِحَرَكَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْإِشَارَة، قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون بِنَفْسِهِ هَيْبَة لَسَمِعَهُ كَمَا حَنَّ الْجِذْع ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّه أَعْلَم بِمُرَادِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ مُشْكِل، وَنَحْنُ نُؤْمِن بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاته، وَلَا نُشَبِّه شَيْئًا بِهِ، وَلَا نُشَبِّههُ بِشَيْءٍ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} وَمَا قَالَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ عَنْهُ، فَهُوَ حَقّ وَصِدْق، فَمَا أَدْرَكْنَا عِلْمه فَبِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى، وَمَا خَفِيَ عَلَيْنَا آمَنَّا بِهِ وَوَكَّلْنَا عِلْمه إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَحَمَلْنَا لَفْظه عَلَى مَا اُحْتُمِلَ فِي لِسَان الْعَرَب الَّذِي خُوطِبْنَا بِهِ، وَلَمْ نَقْطَع عَلَى أَحَد مَعْنَيَيْهِ بَعْد تَنْزِيهه سُبْحَانه عَنْ ظَاهِره الَّذِي لَا يَلِيق بِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.

.كتاب صفة القيامة والجنة والنار:

.باب ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَخَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:

4997- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَ الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء» كَذَا رَوَاهُ ثَابِت بْن قَاسِم، قَالَ: وَهُوَ مَا يَقُوم بِهِ الْمَعَاش، وَيَصْلُح بِهِ التَّدْبِير كَالْحَدِيدِ وَغَيْره مِنْ جَوَاهِر الْأَرْض، وَكُلّ شَيْء يَقُوم بِهِ صَلَاح شَيْء فَهُوَ تِقْنه، وَمِنْهُ إِتْقَان الشَّيْء وَهُوَ إِحْكَامه، قُلْت: وَلَا مُنَافَاة بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ، فَكِلَاهُمَا خُلِقَ يَوْم الثُّلَاثَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَخَلَقَ النُّور يَوْم الْأَرْبِعَاء» كَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسْلِم النُّور بِالرَّاءِ وَرِوَايَات ثَابِت بْن قَاسِم (النُّون) بِالنُّونِ فِي آخِره قَالَ الْقَاضِي: وَكَذَا رَوَاهُ بَعْض رُوَاة صَحِيح مُسْلِم وَهُوَ الْحُوت، وَلَا مُنَافَاة أَيْضًا فَكِلَاهُمَا خُلِقَ يَوْم الْأَرْبِعَاء بِفَتْحِ الْهَمْزَة، وَكَسْر الْبَاء، وَفَتْحهَا وَضَمّهَا ثَلَاث لُغَات، حَكَاهُنَّ صَاحِب الْمُحْكَم، وَجَمْعه أَرْبَعَاوَات وَحُكِيَ أَيْضًا أَرَابِيع.

.باب فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَصِفَةِ الأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:

4998- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة عَلَى أَرْض بَيْضَاء عَفْرَاء كَقُرْصَةِ النَّقِيّ، لَيْسَ فيها عَلَم لِأَحَدٍ» (الْعَفْرَاء): بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَالْمَدّ بَيْضَاء إِلَى حُمْرَة، و(النَّقِيّ) بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْقَاف وَتَشْدِيد الْيَاء هُوَ الدَّقِيق الْحُورِيّ، وَهُوَ الدَّرْمَك، وَهُوَ الْأَرْض الْجَيِّدَة، قَالَ الْقَاضِي: كَأَنَّ النَّار غَيَّرَتْ بَيَاض وَجْه الْأَرْض إِلَى الْحُمْرَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فيها عَلَم لِأَحَدٍ» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَاللَّام، أَيْ: لَيْسَ بِهَا عَلَامَة سُكْنَى أَوْ بِنَاء وَلَا أَثَر.

.باب نُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ:

5000- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَكُون الْأَرْض يَوْم الْقِيَامَة خُبْزَة وَاحِدَة، يَكْفَأهَا الْجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأ أَحَدكُمْ خُبْزَته فِي السَّفَر نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّة» أَمَّا (النُّزُل) فَبِضَمِّ النُّون وَالزَّاي، وَيَجُوز إِسْكَان الزَّاي وَهُوَ مَا يُعَدّ لِلضَّيْفِ عِنْد نُزُوله، وَأَمَّا (الْخُبْزَة) فَبِضَمِّ الْخَاء، قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ الظُّلْمَة الَّتِي تُوضَع فِي الْمِلَّة، (وَيَكْفَأهَا) بِالْهَمْزَةِ وَرُوِيَ فِي غَيْر مُسْلِم (يَتَكَفَّؤُهَا) بِالْهَمْزِ أَيْضًا، وَخُبْزَة الْمُسَافِر هِيَ الَّتِي يَجْعَلهَا فِي الْمَلَّة وَيَتَكَفَّؤُهَا بِيَدَيْهِ، أَيْ: يُمِيلهَا مِنْ يَد إِلَى يَد حَتَّى تَجْتَمِع وَتَسْتَوِي، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْبَسِطَة كَالرُّقَاقَةِ وَنَحْوهَا وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَام فِي الْيَد فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى وَتَأْوِيلهَا قَرِيبًا، مَعَ الْقَطْع بِاسْتِحَالَةِ الْجَارِحَة، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَجْعَل الْأَرْض كَالظُّلْمَةِ وَالرَّغِيف الْعَظِيم وَيَكُون ذَلِكَ طَعَامًا نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّة وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير.
قَوْله: «إِدَامهمْ بِلَامٍ وَنُون، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ. ثَوْر وَنُون يَأْكُل مِنْ زَائِد كَبِدهمَا سَبْعُونَ أَلْفًا» أَمَّا (النُّون) فَهُوَ الْحُوت بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء، وَأَمَّا (بِاللَّامِ) فَبِبَاءٍ مُوَحَّدَة مَفْتُوحَة، وَبِتَخْفِيفِ اللَّام وَمِيم مَرْفُوعَة غَيْر مُنَوَّنَة، وَفِي مَعْنَاهَا أَقْوَال مُضْطَرِبَة الصَّحِيح مِنْهَا: الَّذِي اِخْتَارَهُ الْقَاضِي وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّهَا لَفْظَة عِبْرَانِيَّة مَعْنَاهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: ثَوْر، وَفَسَّرَهُ بِهَذَا، وَلِهَذَا سَأَلُوا الْيَهُودِيّ عَنْ تَفْسِيرهَا وَلَوْ كَانَتْ عَرَبِيَّة لَعَرَفَتْهَا الصَّحَابَة، وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى سُؤَاله عَنْهَا فَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار فِي بَيَان هَذِهِ اللَّفْظَة، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَعَلَّ الْيَهُودِيّ أَرَادَ التَّعْمِيَة عَلَيْهِمْ، فَقَطَعَ الْهِجَاء وَقَدَّمَ أَحَد الْحَرْفَيْنِ عَلَى الْآخَر، وَهِيَ لَامَ أَلِف وَيَاء، يُرِيد (لِأَيِّ) عَلَى وَزْن (لَعَا) وَهُوَ الثَّوْر الْوَحْشِيّ فَصَحَّفَ الرَّاوِي الْيَاء الْمُثَنَّاة فَجَعَلَهَا مُوَحَّدَة، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا أَقْرَب مَا يَقَع فيه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (زَائِدَة الْكَبِد)، وَهِيَ: الْقِطْعَة الْمُنْفَرِدَة الْمُتَعَلِّقَة فِي الْكَبِد، وَهِيَ أَطْيَبهَا.
وَأَمَّا قَوْله: (يَأْكُل مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفًا) فَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَل أَنَّهُمْ السَّبْعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة بِلَا حِسَاب، فَخُصُّوا بِأَطْيَب النُّزُل وَيُحْتَمَل أَنَّهُ عَبَّرَ بِالسَّبْعِينَ أَلْفًا عَنْ الْعَدَد الْكَثِير، وَلَمْ يُرِدْ الْحَصْر فِي ذَلِكَ الْقَدْر، وَهَذَا مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب. وَاَللَّه أَعْلَم.
5001- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ بَايَعَنِي عَشْرَة مِنْ الْيَهُود لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرهَا يَهُودِيّ إِلَّا أَسْلَمَ» قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: الْمُرَاد عَشْرَة مِنْ أَحْبَارهمْ.

.باب سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوح}:

5002- قَوْله: «كُنْت أَمْشِي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْث وَهُوَ مُتَّكِئ عَلَى عَسِيب» فَقَوْله: (فِي حَرْث) بِثَاءٍ مُثَلَّثَة وَهُوَ مَوْضِع الزَّرْع، وَهُوَ مُرَاده بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فِي نَخْل» وَاتَّفَقَتْ نُسَخ صَحِيح مُسْلِم عَلَى أَنَّهُ (حَرْث) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، وَرَوَاهُ فِي أَوَّل الْكِتَاب فِي بَاب (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا) خَرِبَ: بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة جَمْع خَرَاب، قَالَ الْعُلَمَاء: الْأَوَّل أَصْوَب، وَلِلْآخَرِ وَجْه، وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَوْضِع فيه الْوَصْفَانِ.
وَأَمَّا الْعَسِيب: فَهُوَ جَرِيدَة النَّخْل.
وَقَوْله: (مُتَّكِئ عَلَيْهِ) أَيْ: مُعْتَمِد.
قَوْله: «سَلُوهُ عَنْ الرُّوح فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ لَا يَسْتَقْبِلكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ» هَكَذَا فِي جَمِيع النُّسَخ: «مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ» أَيْ: مَا دَعَاكُمْ إِلَى سُؤَاله؟ أَوْ مَا شَكّكُمْ فيه حَتَّى اِحْتَجْتُمْ إِلَى سُؤَاله، أَوْ مَا دَعَاكُمْ إِلَى سُؤَال تَخْشَوْنَ سُوء عُقْبَاهُ.
قَوْله: «فَأَسْكَتَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أَيْ: سَكَتَ، وَقِيلَ: أَطْرَقَ، وَقِيلَ: أَعْرَضَ عَنْهُ.
قَوْله: «فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْي قَالَ: يَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوح» وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي أَكْثَر أَبْوَابه، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ وَهْم وَصَوَابه مَا سَبَقَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان، «فَلَمَّا اِنْجَلَى عَنْهُ»، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع، وَفِي مَوْضِع: «فَلَمَّا صَعِدَ الْوَحْي»، وَقَالَ: هَذَا وَجْه الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ قَبْل ذَلِكَ نُزُول الْوَحْي عَلَيْهِ، قُلْت: وَكُلّ الرِّوَايَات صَحِيحَة، وَمَعْنَى رِوَايَة مُسْلِم أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْوَحْي وَتَمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا} هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ: «أُوتِيتُمْ» عَلَى وَفْق الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة. وَفِي أَكْثَر نُسَخ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم: «وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا» قَالَ الْمَازِرِيّ: الْكَلَام فِي الرُّوح وَالنَّفْس مِمَّا يَغْمُض وَيَدِقّ، وَمَعَ هَذَا فَأَكْثَرَ النَّاس فيه الْكَلَام، وَأَلَّفُوا فيه التَّآلِيف، قَالَ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ: هُوَ النَّفَس الدَّاخِل وَالْخَارِج، وَقَالَ اِبْن الْبَاقِلَانِيّ: هُوَ مُتَرَدِّد بَيْن هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأَشْعَرِيّ وَبَيْن الْحَيَاة، وَقِيلَ: هُوَ جِسْم لَطِيف مُشَارِك لِلْأَجْسَامِ الظَّاهِرَة وَالْأَعْضَاء الظَّاهِرَة، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا يَعْلَم الرُّوح إِلَّا اللَّه تَعَالَى، لِقَوْله تَعَالَى: {قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي} وَقَالَ الْجُمْهُور: هِيَ مَعْلُومَة، وَاخْتَلَفُوا فيها عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَال، وَقِيلَ: هِيَ الدَّم، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّهَا لَا تُعْلَم، وَلَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمهَا، وَإِنَّمَا أَجَابَ بِمَا فِي الْآيَة الْكَرِيمَة لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدهمْ أَنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِتَفْسِيرِ الرُّوح فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَفِي الرُّوح لُغَتَانِ، التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث. وَاَللَّه أَعْلَم.
5003- قَوْله: (كُنْت قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّة) أَيْ: حَدَّادًا.

.باب قوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}:

5005- قَوْله: (هَلْ يُعَفِّر مُحَمَّد وَجْهه؟) أَيْ: يَسْجُد وَيُلْصِق وَجْهه بِالْعَفَرِ وَهُوَ التُّرَاب.
قَوْله: (فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِص عَلَى عَقِبَيْهِ) أَمَّا (فَجِئَهُمْ) فَبِكَسْرِ الْجِيم، وَيُقَال أَيْضًا: (فَجَأَهُمْ) لُغَتَانِ (وَيَنْكِص) بِكَسْرِ الْكَاف: رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ يَمْشِي عَلَى وَرَائِهِ.
قَوْله: «إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنه لَخَنْدَقًا مِنْ نَار وَهَوْلًا وَأَجْنِحَة كَأَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَة» وَلِهَذَا الْحَدِيث أَمْثِلَة كَثِيرَة فِي عِصْمَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِي جَهْل وَغَيْره، مِمَّنْ أَرَادَ بِهِ ضَرَرًا، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس} وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْد الْهِجْرَة. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الدخان:

5006- قَوْله: (إِنَّ قَاصًّا عِنْد أَبْوَاب كِنْدَة) هُوَ بَاب بِالْكُوفَةِ.
قَوْله: «فَأَخَذَتْهُمْ سَنَة حَصَتْ كُلّ شَيْء» السَّنَة الْقَحْط وَالْجَدْب، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} و(حَصَتْ) بِحَاءٍ وَصَاد مُشَدَّدَة مُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: اِسْتَأْصَلَتْهُ.
قَوْله: «أَفَيَكْشِف عَذَاب الْآخِرَة» هَذَا اِسْتِفْهَام إِنْكَار عَلَى مَنْ يَقُول: إِنَّ الدُّخَان يَوْم الْقِيَامَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة، فَقَالَ اِبْن مَسْعُود: هَذَا قَوْل بَاطِل؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} وَمَعْلُوم أَنَّ كَشْف الْعَذَاب ثُمَّ عَوْدهمْ لَا يَكُون فِي الْآخِرَة، إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا.
قَوْله: «مَضَتْ آيَة الدُّخَان وَالْبَطْشَة وَاللِّزَام وَآيَة الرُّوم» وَفَسَّرَهَا كُلّهَا فِي الْكِتَاب إِلَّا اللِّزَام، وَالْمُرَاد بِهِ قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: {فَسَوْفَ يَكُون لِزَامًا} أَيْ: يَكُون عَذَابهمْ لَازِمًا، قَالُوا: وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ يَوْم بَدْر مِنْ الْقَتْل وَالْأَسْر، وَهِيَ الْبَطْشَة الْكُبْرَى.
5007- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَسِنِي يُوسُف» بِتَخْفِيفِ الْيَاء.
قَوْله: «فَأَصَابَهُمْ قَحْط وَجَهْد» بِفَتْحِ الْجِيم، أَيْ: مَشَقَّة شَدِيدَة، وَحُكِيَ ضَمّهَا.
قَوْله: «فَقَالَ: يَا رَسُول اِسْتَغْفِرْ اللَّه لِمُضَرَ» هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم: «اِسْتَغْفِرْ اللَّه لِمُضَرَ» وَفِي الْبُخَارِيّ: «اِسْتَسْقِ اللَّه لِمُضَرَ» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ بَعْضهمْ: «اِسْتَسْقِ» هُوَ الصَّوَاب اللَّائِق بِالْحَالِ؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّار لَا يُدْعَى لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، قُلْت: كِلَاهُمَا صَحِيح، فَمَعْنَى (اِسْتَسْقِ) اُطْلُبْ لَهُمْ الْمَطَر وَالسُّقْيَا، وَمَعْنَى: «اِسْتَغْفِرْ»: اُدْعُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الِاسْتِغْفَار.

.(بَاب اِنْشِقَاق الْقَمَر):

قَالَ الْقَاضِي: اِنْشِقَاق الْقَمَر مِنْ أُمَّهَات مُعْجِزَات نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَاهَا عِدَّة مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مَعَ ظَاهِر الْآيَة الْكَرِيمَة وَسِيَاقهَا، قَالَ الزَّجَّاج: وَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْض الْمُبْتَدِعَة الْمُضَاهِينَ الْمُخَالِفِي الْمِلَّة، وَذَلِكَ لَمَّا أَعْمَى اللَّه قَلْبه، وَلَا إِنْكَار لِلْعَقْلِ فيها؛ لِأَنَّ الْقَمَر مَخْلُوق لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَل فيه مَا يَشَاء، كَمَا يُفْنِيه وَيُكَوِّرهُ فِي آخِر أَمْره.
وَأَمَّا قَوْل بَعْض الْمَلَاحِدَة: لَوْ وَقَعَ هَذَا لَنُقِلَ مُتَوَاتِرًا، وَاشْتَرَكَ أَهْل الْأَرْض كُلّهمْ فِي مَعْرِفَته، وَلَمْ يَخْتَصّ بِهَا أَهْل مَكَّة، فَأَجَابَ الْعُلَمَاء بِأَنَّ هَذَا الِانْشِقَاق حَصَلَ فِي اللَّيْل، وَمُعْظَم النَّاس نِيَام غَافِلُونَ، وَالْأَبْوَاب مُغْلَقَة، وَهُمْ مُتَغَطُّونَ بِثِيَابِهِمْ، فَقَلَّ مَنْ يَتَفَكَّر فِي السَّمَاء أَوْ يَنْظُر إِلَيْهَا إِلَّا الشَّاذّ النَّادِر، وَمِمَّا هُوَ مُشَاهَد مُعْتَاد، أَنْ كُسُوف الْقَمَر وَغَيْره مِنْ الْعَجَائِب وَالْأَنْوَار الطَّوَالِع وَالشُّهُب الْعِظَام وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَحْدُث فِي السَّمَاء فِي اللَّيْل، يَقَع وَلَا يَتَحَدَّث بِهَا إِلَّا الْآحَاد، وَلَا عِلْم عِنْد غَيْرهمْ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ هَذَا الِانْشِقَاق آيَة حَصَلَتْ فِي اللَّيْل لِقَوْمٍ سَأَلُوهَا، وَاقْتَرَحُوا رُؤْيَتهَا، فَلَمْ يَتَنَبَّه غَيْرهمْ لَهَا، قَالُوا: وَقَدْ يَكُون الْقَمَر كَانَ حِينَئِذٍ فِي بَعْض الْمَجَارِي وَالْمَنَازِل الَّتِي تَظْهَر لِبَعْضِ الْآفَاق دُون بَعْض، كَمَا يَكُون ظَاهِرًا لِقَوْمٍ غَائِبًا عَنْ قَوْم، كَمَا يَجِد الْكُسُوف أَهْل بَلَد دُون بَلَد. وَاَللَّه أَعْلَم.
5012- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عَدِيّ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَة بِإِسْنَادِ اِبْن مُعَاذ) هَكَذَا هُوَ فِي عَامَّة النُّسَخ (بِإِسْنَادِ اِبْن مُعَاذ) وَفِي بَعْضهَا (بِإِسْنَادَيْ مُعَاذ) قَالَ الْقَاضِي: وَغَيْر هَذَا أَشْبَه بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِمُعَاذٍ إِسْنَادَيْنِ قَبْل هَذَا، وَالْأَوَّل أَيْضًا صَحِيح؛ لِأَنَّ الْإِسْنَادَيْنِ مِنْ رِوَايَة اِبْن مُعَاذ عَنْ أَبِيهِ.

.باب لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

5016- قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَحَد أَصْبَر عَلَى أَذَى يَسْمَعهُ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؛ إِنَّهُ يُشْرَك بِهِ، وَيُجْعَل لَهُ الْوَلَد ثُمَّ يُعَافيهمْ وَيَرْزُقهُمْ» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَاسِع الْحِلْم حَتَّى عَلَى الْكَافِر الَّذِي يَنْسِب إِلَيْهِ الْوَلَد وَالنِّدّ، قَالَ الْمَازِرِيّ: حَقِيقَة الصَّبْر مَنْع النَّفْس مِنْ الِانْتِقَام أَوْ غَيْره، فَالصَّبْر نَتِيجَة الِامْتِنَاع فَأُطْلِقَ اِسْم الصَّبْر عَلَى الِامْتِنَاع فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى لِذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّبُور مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي لَا يُعَاجِل الْعُصَاة بِالِانْتِقَامِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْحَلِيم فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَالْحَلِيم هُوَ الصَّفُوح مَعَ الْقُدْرَة عَلَى الِانْتِقَام.

.باب طَلَبِ الْكَافِرِ الْفِدَاءَ بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا:

5018- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُول اللَّه تَعَالَى لَأَهْوَن أَهْل النَّار عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَك الدُّنْيَا وَمَا فيها أَكُنْت مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُول: نَعَمْ فَيَقُول: قَدْ أَرَدْت مِنْكُمْ أَهْوَن مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْب آدَم أَلَّا تُشْرِك. إِلَى قَوْله: فَأَبَيْت إِلَّا الشِّرْك» وَفِي رِوَايَة: «فَيُقَال: قَدْ سُئِلْت أَيْسَر مِنْ ذَلِكَ» وَفِي رِوَايَة: «فَيُقَال: كَذَبْت قَدْ سُئِلْت أَيْسَر مِنْ ذَلِكَ» الْمُرَاد أَرَدْت فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: طَلَبْت مِنْك وَأَمَرْتُك، وَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: «قَدْ سُئِلْت أَيْسَر» فَيَتَعَيَّن تَأْوِيل (أَرَدْت) عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْن الرِّوَايَات لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل عِنْد أَهْل الْحَقّ أَنْ يُرِيد اللَّه تَعَالَى شَيْئًا فَلَا يَقَع، وَمَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مُرِيد لِجَمِيعِ الْكَائِنَات، خَيْرهَا وَشَرّهَا، وَمِنْهَا: الْإِيمَان وَالْكُفْر، فَهُوَ سُبْحَانه وَتَعَالَى مُرِيد لِإِيمَانِ الْمُؤْمِن، وَمُرِيد لِكُفْرِ الْكَافِر، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلهمْ: إِنَّهُ أَرَادَ إِيمَان الْكَافِر وَلَمْ يُرِدْ كُفْره، تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْلهمْ الْبَاطِل، فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْ قَوْلهمْ إِثْبَات الْعَجْز فِي حَقّه سُبْحَانه، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي مُلْكه مَا لَمْ يُرِدْهُ.
وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيث فَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيله.
5019- وَأَمَّا قَوْله: «فَيُقَال لَهُ: كَذَبْت» فَالظَّاهِر أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُقَال لَهُ: لَوْ رَدَدْنَاك إِلَى الدُّنْيَا، وَكَانَتْ لَك كُلّهَا أَكُنْت تَفْتَدِي بِهَا؟ فَيَقُول: نَعَمْ، فَيُقَال لَهُ: كَذَبْت، قَدْ سُئِلْت أَيْسَر مِنْ ذَلِكَ فَأَبَيْت، وَيَكُون هَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا وَمِثْله مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} أَيْ: لَوْ كَانَ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا وَمِثْله مَعَهُ وَأَمْكَنَهُمْ الِافْتِدَاء، لَافْتَدَوْا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَقُول: الْإِنْسَان: اللَّه يَقُول، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْض السَّلَف، وَقَالَ: يُكْرَه أَنْ يَقُول: اللَّه يَقُول، وَإِنَّمَا يُقَال: قَالَ اللَّه، وَقَدْ قَدَّمْنَا فَسَاد هَذَا الْمَذْهَب، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَاب جَوَازه، وَبِهِ قَالَ عَامَّة الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن الْعَزِيز، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّه يَقُول الْحَقّ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيث كَثِيرَة مِثْل هَذَا. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب صَبْغِ أَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي النَّارِ وَصَبْغِ أَشَدِّهِمْ بُؤْسًا فِي الْجَنَّةِ:

5021- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُصْبَغ فِي النَّار صَبْغَة» الصَّبْغَة بِفَتْحِ الصَّاد أَيْ: يُغْمَس غَمْسَة، وَالْبُؤْس بِالْهَمْزِ هُوَ: الشِّدَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَتَعْجِيلِ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا:

5022- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مُؤْمِنًا حَسَنَة يُعْطِي بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَة وَأَمَّا الْكَافِر فَيُطْعَم بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَة لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَة يُجْزَى بِهَا» وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ الْكَافِر إِذَا عَمِلَ حَسَنَة أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَة مِنْ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِن فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَدَّخِر لَهُ حَسَنَاته فِي الْآخِرَة، وَيُعْقِبهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَته». أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْكَافِر الَّذِي مَاتَ عَلَى كُفْره لَا ثَوَاب لَهُ فِي الْآخِرَة، وَلَا يُجَازَى فيها بِشَيْءٍ مِنْ عَمَله فِي الدُّنْيَا، مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَصَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّهُ يُطْعَم فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنْ الْحَسَنَات، أَيْ: بِمَا فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِمَّا لَا يَفْتَقِر صِحَّته إِلَى النِّيَّة، كَصِلَةِ الرَّحِم وَالصَّدَقَة وَالْعِتْق وَالضِّيَافَة وَتَسْهِيل الْخَيْرَات وَنَحْوهَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِن فَيُدَّخَر لَهُ حَسَنَاته وَثَوَاب أَعْمَاله إِلَى الْآخِرَة، وَيُجْزَى بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا، وَلَا مَانِع مِنْ جَزَائِهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْع بِهِ فَيَجِب اِعْتِقَاده.
قَوْله: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَظْلِم مُؤْمِنًا حَسَنَة» مَعْنَاهُ: لَا يَتْرُك مُجَازَاته بِشَيْءٍ مِنْ حَسَنَاته، وَالظُّلْم يُطْلَق بِمَعْنَى النَّقْص وَحَقِيقَة الظُّلْم مُسْتَحِيلَة مِنْ اللَّه تَعَالَى، كَمَا سَبَقَ بَيَانه، «وَمَعْنَى أَفْضَى إِلَى الْآخِرَة» صَارَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْكَافِر مِثْل هَذِهِ الْحَسَنَات ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يُثَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الْإِيمَان.
5023- سبق شرحه بالباب.