فصل: باب قَدْرِ الطَّرِيقِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ:

3014- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ»، وَفِي رِوَايَة: «إِيَّاكُمْ وَكَثْرَة الْحَلِف فِي الْبَيْع فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَق». الْمَنْفَقَة وَالْمَمْحَقَة بِفَتْحِ أَوَّلهمَا وَثَالِثهمَا وَإِسْكَان ثَانِيهمَا. وَفيه النَّهْي عَنْ كَثْرَة الْحَلِف فِي الْبَيْع، فَإِنَّ الْحَلِف مِنْ غَيْر حَاجَة مَكْرُوه، وَيَنْضَمّ إِلَيْهِ تَرْوِيج السِّلْعَة، وَرُبَّمَا اِغْتَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3015- سبق شرحه بالباب.

.باب الشُّفْعَةِ:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيك فِي رَبْعَة أَوْ نَخْل فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيع حَتَّى يُؤْذِن شَرِيكه فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ»، وَفِي رِوَايَة: «قَضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلّ شَرِكَة لَمْ تُقَسَّم رَبْعَة أَوْ حَائِط لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَبِيع حَتَّى يُؤْذِن شَرِيكه فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ». وَفِي رِوَايَة: «قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشُّفْعَة فِي كُلّ شِرْك فِي أَرْض أَوْ رَبْع أَوْ حَائِط لَا يَصْلُح أَنْ يَبِيع حَتَّى يَعْرِض عَلَى شَرِيكه فَيَأْخُذ أَوْ يَدَع، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكه أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنهُ».
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الشُّفْعَة مِنْ شَفَعْت الشَّيْء إِذَا ضَمَمْته وَثَنَيْته، وَمِنْهُ شَفَعَ الْأَذَان، وَسُمِّيَتْ شُفْعَة لِضَمِّ نَصِيب إِلَى نَصِيب. وَالرَّبْعَة وَالرَّبْع بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَان الْبَاء، وَالرَّبْع الدَّار الْمَسْكَن وَمُطْلَق الْأَرْض، وَأَصْله الْمَنْزِل الَّذِي كَانُوا يَرْتَبِعُونَ فيه، وَالرَّبْعَة تَأْنِيث الرَّبْع، وَقِيلَ وَاحِدَة وَالْجَمْع الَّذِي هُوَ اِسْم الْجِنْس رَبَع كَثَمَرَةٍ وَثَمَر، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوت الشُّفْعَة لِلشَّرِيكِ فِي الْعَقَار مَا لَمْ يُقَسَّم، قَالَ الْعُلَمَاء: الْحِكْمَة فِي ثُبُوت الشُّفْعَة إِزَالَة الضَّرَر عَنْ الشَّرِيك، وَخُصَّتْ بِالْعَقَارِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَر الْأَنْوَاع ضَرَرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا شُفْعَة فِي الْحَيَوَان وَالثِّيَاب وَالْأَمْتِعَة وَسَائِر الْمَنْقُول، قَالَ الْقَاضِي: وَشَذَّ بَعْض النَّاس فَأَثْبَتَ الشُّفْعَة فِي الْعُرُوض، وَهِيَ رِوَايَة عَنْ عَطَاء، وَتَثْبُت فِي كُلّ شَيْء حَتَّى فِي الثَّوْب، وَكَذَا حَكَاهَا عَنْهُ اِبْن الْمُنْذِر. وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَة: أَنَّهَا تَثْبُت فِي الْحَيَوَان وَالْبِنَاء الْمُنْفَرِد، وَأَمَّا الْمَقْسُوم فَهَلْ تَثْبُتُ فيه الشُّفْعَة بِالْجِوَارِ؟ فيه خِلَاف. مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء لَا تَثْبُت بِالْجِوَارِ، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَسُلَيْمَان بْن يَسَار وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالزُّهْرِيّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيّ، وَأَبِي الزِّنَاد، وَرَبِيعَة، وَمَالِك وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَأَبِي ثَوْر.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ: تَثْبُتُ بِالْجِوَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الشُّفْعَة لَا تَثْبُت إِلَّا فِي عَقَار مُحْتَمِل لِلْقِسْمَةِ، بِخِلَافِ الْحَمَّام الصَّغِير، وَالرَّحَى وَنَحْو ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا مَنْ يَقُول بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَحْتَمِل الْقِسْمَة.
3016- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ لَهُ شَرِيك» فَهُوَ عَامّ يَتَنَاوَل الْمُسْلِم وَالْكَافِر وَالذِّمِّيّ فَتَثْبُت لِلذِّمِّيِّ الشُّفْعَة عَلَى الْمُسْلِم كَمَا تَثْبُت لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيّ، هَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالْجُمْهُور، وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالْحَسَن وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: لَا شُفْعَة لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِم.
وَفيه ثُبُوت الشُّفْعَة لِلْأَعْرَابِيِّ كَثُبُوتِهَا لِلْمُقِيمِ فِي الْبَلَد. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذِر وَالْجُمْهُور.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ: لَا شُفْعَة لِمَنْ لَا يَسْكُن بِالْمِصْرِ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيع حَتَّى يُؤْذِن شَرِيكه فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَبِيع حَتَّى يُؤْذِن شَرِيكه» فَهُوَ مَحْمُول عِنْد أَصْحَابنَا عَلَى النَّدْب إِلَى إِعْلَامه، وَكَرَاهَة بَيْعه قَبْل إِعْلَامه كَرَاهَة تَنْزِيه، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا، وَيَصْدُق عَلَى الْمَكْرُوه أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ، وَيَكُون الْحَلَال بِمَعْنَى الْمُبَاح، وَهُوَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ. وَالْمَكْرُوه لَيْسَ بِمُبَاحٍ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بَلْ هُوَ رَاجِحُ التَّرْك، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا لَوْ أَعْلَمَ الشَّرِيك بِالْبَيْعِ فَأَذِنَ فيه فَبَاعَ ثُمَّ أَرَادَ الشَّرِيك أَنْ يَأْخُذ بِالشُّفْعَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمْ وَعُثْمَان الْبَتِّيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرهمْ: لَهُ أَنْ يَأْخُذ بِالشُّفْعَةِ، وَقَالَ الْحَكَم وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْد وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ، وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب غَرْزِ الْخَشَبِ فِي جِدَارِ الْجَارِ:

3019- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمْنَع أَحَدُكُمْ جَاره أَنْ يَغْرِز خَشَبَة فِي جِدَاره، ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْن أَكْتَافكُمْ» قَالَ الْقَاضِي: رُوِّينَا قَوْله: (خَشَبَة) فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره مِنْ الْأُصُول وَالْمُصَنَّفَات (خَشَبَة) بِالْإِفْرَادِ و(خَشَبه) بِالْجَمْعِ.
قَالَ: وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ رَوْح بْن الْفَرَج: سَأَلْت أَبَا زَيْد وَالْحَارِث بْن مِسْكِين وَيُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى عَنْهُ فَقَالُوا كُلّهمْ: (خَشَبَة) بِالتَّنْوِينِ عَلَى الْإِفْرَاد، قَالَ عَبْد الْغَنِيّ بْنُ سَعِيد: كُلّ النَّاس يَقُولُونَهُ بِالْجَمْعِ إِلَّا الطَّحَاوِيَّ.
وَقَوْله: (بَيْن أَكْتَافكُمْ) هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق، أَيْ: بَيْنكُمْ، قَالَ الْقَاضِي: قَدْ رَوَاهُ بَعْض رُوَاة الْمُوَطَّأ (أَكْنَافكُمْ) بِالنُّونِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا: بَيْنكُمْ، وَالْكَنَف الْجَانِب، وَمَعْنَى الْأَوَّل: أَنِّي أُصَرِّحُ بِهَا بَيْنكُمْ وَأُوجِعكُمْ بِالتَّقْرِيعِ بِهَا، كَمَا يُضْرَب الْإِنْسَان بِالشَّيْءِ بَيْن كَتِفيه.
قَوْله: «مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ» أَيْ عَنْ هَذِهِ السُّنَّة وَالْخَصْلَة وَالْمَوْعِظَة أَوْ الْكَلِمَات، وَجَاءَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: «فَنَكَّسُوا رُءُوسهمْ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ أَعْرَضْتُمْ». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث، هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْب إِلَى تَمْكِين الْجَار مِنْ وَضْع الْخَشَب عَلَى جِدَار جَاره؟ أَمْ عَلَى الْإِيجَاب؟ وَفيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَصْحَاب مَالِك: أَصَحّهمَا فِي الْمَذْهَبَيْنِ: النَّدْب، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ.
وَالثَّانِي: الْإِيجَاب، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الْحَدِيث، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث. وَمَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ قَالَ: ظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنْ الْعَمَل، فَلِهَذَا قَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْب لَا الْإِيجَاب، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَغَصْبِ الأَرْضِ وَغَيْرِهَا:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْض ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّه إِيَّاهُ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ سَبْع أَرَضِينَ» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْض بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ فِي سَبْع أَرَضِينَ يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْأَرَضُونَ بِفَتْحِ الرَّاء، وَفيها لُغَة قَلِيلَة بِإِسْكَانِهَا حَكَاهَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره، قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ الْأَرِضِينَ سَبْع طَبَقَات، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {سَبْع سَمَاوَات وَمِنْ الْأَرْض مِثْلهنَّ} وَأَمَّا تَأْوِيل الْمُمَاثَلَة عَلَى الْهَيْئَة وَالشَّكْل، فَخِلَاف الظَّاهِر، وَكَذَا قَوْل مَنْ قَالَ: الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ سَبْع أَرَضِينَ مِنْ سَبْع أَقَالِيم؛ لِأَنَّ الْأَرِضِينَ سَبْع طِبَاق، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل أَبْطَلَهُ الْعُلَمَاء بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُطَوَّق الظَّالِم بِشِبْرٍ مِنْ هَذَا الْإِقْلِيم شَيْئًا مِنْ إِقْلِيم آخَر، بِخِلَافِ طِبَاق الْأَرْض فَإِنَّهَا تَابِعَة لِهَذَا الشِّبْر فِي الْمِلْك، فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْض مَلَكَهُ وَمَا تَحْته مِنْ الطِّبَاق، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ فِي غِلَظ الْأَرِضِينَ وَطِبَاقهنَّ وَمَا بَيْنهنَّ حَدِيث لَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَأَمَّا التَّطْوِيق الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث فَقَالُوا: يَحْتَمِل أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَحْمِل مِثْله مِنْ سَبْع أَرْضِينَ، وَيُكَلَّف إِطَاقَة ذَلِكَ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون يُجْعَل لَهُ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقه كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُطَوَّق إِثْم ذَلِكَ وَيَلْزَمهُ كَلُزُومِ الطَّوْق بِعُنُقِهِ، وَعَلَى تَقْدِير التَّطْوِيق فِي عُنُقه يَقُول اللَّه تَعَالَى عُنُقه كَمَا جَاءَ فِي غِلَظ جِلْد الْكَافِر وَعِظَم ضِرْسه.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث تَحْرِيم الظُّلْم وَتَحْرِيم الْغَصْب وَتَغْلِيظ عُقُوبَته، وَفيه إِمْكَان غَصْب الْأَرْض، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يُتَصَوَّر غَصْب الْأَرْض.
3020- سبق شرحه بالباب.
3021- سبق شرحه بالباب.
3022- سبق شرحه بالباب.
3025- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ظُلِمَ قِيدَ شِبْر مِنْ الْأَرْض» هُوَ بِكَسْرِ الْقَاف وَإِسْكَان الْيَاء أَيْ: قَدْر شِبْر مِنْ الْأَرْض، يُقَال: قِيدَ وَقَادَ وَقِيسَ وَقَاسَ بِمَعْنًى وَاحِد. وَفِي الْبَاب: حَبَّان بْن هِلَال بِفَتْحِ الْحَاء وَفِي حَدِيث سَعِيد بْن زَيْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مَنْقَبَة لَهُ وَقَبُول دُعَائِهِ، وَجَوَاز الدُّعَاء عَلَى الظَّالِمِ وَمُسْتَذِلِّ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب قَدْرِ الطَّرِيقِ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ:

3026- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اِخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيق جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْع أَذْرُع» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «سَبْع أَذْرُع»، وَفِي بَعْضهَا: «سَبْعَة أَذْرُع» وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَالذِّرَاع يُذَكَّر وَيُؤَنَّث، وَالتَّأْنِيث أَفْصَح، وَأَمَّا قَدْر الطَّرِيق فَإِنْ جَعَلَ الرَّجُل بَعْض أَرْضه الْمَمْلُوك طَرِيقًا مُسَبَّلَة لِلْمَارِّينَ فَقَدْرهَا إِلَى خِيرَته، وَالْأَفْضَل تَوْسِيعهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَة مُرَادَة الْحَدِيث، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيق بَيْن أَرْض لِقَوْمٍ وَأَرَادُوا إِحْيَاءَهَا، فَإِنْ اِتَّفَقُوا عَلَى شَيْء فَذَاكَ، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي قَدْره جُعِلَ سَبْع أَذْرُع، وَهَذَا مُرَاد الْحَدِيث، أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرِيقًا مَسْلُوكًا وَهُوَ أَكْثَر مِنْ سَبْعَة أَذْرُع، فَلَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْء مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ، لَكِنْ لَهُ عِمَارَة مَا حَوَالَيْهِ مِنْ الْمَوَات، وَيَمْلِكهُ بِالْإِحْيَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَضُرّ الْمَارِّينَ، قَالَ أَصْحَابنَا: وَمَتَى وَجَدْنَا جَادَّة مُسْتَطْرَقَة، وَمَسْلَكًا مَشْرُوعًا نَافِذًا، حَكَمَنَا بِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِطْرَاق فيه بِظَاهِرِ الْحَال، وَلَا يُعْتَبَر مُبْتَدَأ مَصِيره شَارِعًا، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيْره: وَلَا يَحْتَاج مَا يَجْعَلهُ شَارِعًا إِلَى لَفْظ فِي مَصِيره شَارِعًا وَمُسَبَّلًا. هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابنَا فِيمَا يَتَعَلَّق بِهَذَا الْحَدِيث، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا فِي الْأَفْنِيَة إِذَا أَرَادَ أَهْلهَا الْبُنْيَان، فَيُجْعَل طَرِيقهمْ عَرْضه سَبْعَة أَذْرُع لِدُخُولِ الْأَحْمَال وَالْأَثْقَال وَمَخْرَجهَا وَتَلَاقِيهَا.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا كُلّه عِنْد الِاخْتِلَاف كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيث، فَإِذَا اِتَّفَقَ أَهْل الْأَرْض عَلَى قِسْمَتهَا، وَإِخْرَاج طَرِيق مِنْهَا كَيْف شَاءُوا فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا اِعْتِرَاض عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا مِلْكهمْ، وَاللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِع وَالْمَآب.

.كتاب الفرائض:

هِيَ جَمْع فَرِيضَة مِنْ الْفَرْض وَهُوَ التَّقْدِير لِأَنَّ سُهْمَان الْفُرُوض مُقَدَّرَة، وَيُقَال لِلْعَالِمِ بِالْفَرَائِضِ: فَرْضِيّ وَفَارِض وَفَرِيض، كَعَالِمٍ وَعَلِيم، حَكَاهُ الْمُبَرِّد.
وَأَمَّا الْإِرْث فِي الْمِيرَاث، فَقَالَ الْمُبَرِّد: أَصْله الْعَاقِبَة، وَمَعْنَاهُ: الِانْتِقَال مِنْ وَاحِد إِلَى آخَر.

.باب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرِث الْمُسْلِم الْكَافِر وَلَا يَرِث الْكَافِر الْمُسْلِم»:

3027- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرِث الْمُسْلِم الْكَافِر وَلَا يَرِث الْكَافِر الْمُسْلِم» وَفِي بَعْض النُّسَخ: «وَلَا الْكَافِر الْمُسْلِم» بِحَذْفِ لَفْظَة: يَرِث، أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِر لَا يَرِث الْمُسْلِم، وَأَمَّا الْمُسْلِم فَلَا يَرِث الْكَافِر أَيْضًا عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ، وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى تَوْرِيث الْمُسْلِم مِنْ الْكَافِر، وَهُوَ مَذْهَب مُعَاذ بْن جَبَل وَمُعَاوِيَة وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَسْرُوق وَغَيْرهمْ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء وَالشَّعْبِيّ وَالزُّهْرِيّ وَالنَّخَعِيِّ نَحْوه عَلَى خِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيح عَنْ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِ الْجُمْهُور. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث: «الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ». وَحُجَّة الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح، وَلَا حُجَّة فِي حَدِيث: «الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» لِأَنَّ الْمُرَاد بِهِ فَضْل الْإِسْلَام عَلَى غَيْره، وَلَمْ يَتَعَرَّض فيه لِمِيرَاثٍ، فَكَيْفَ يُتْرَك بِهِ نَصُّ حَدِيث: «لَا يَرِث الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» وَلَعَلَّ هَذِهِ الطَّائِفَة لَمْ يَبْلُغهَا هَذَا الْحَدِيث.
وَأَمَّا الْمُرْتَدّ فَلَا يَرِث الْمُسْلِم بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْمُسْلِم فَلَا يَرِث الْمُرْتَدّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَرَبِيعَة وَابْن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرهمْ، بَلْ يَكُون مَاله فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاق: يَرِثهُ وَرَثَته مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف، لَكِنْ قَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة: مَا كَسَبَهُ فِي رِدَّته فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْجَمِيع لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا تَوْرِيث الْكُفَّار بَعْضهمْ مِنْ بَعْض كَالْيَهُودِيِّ مِنْ النَّصْرَانِيّ وَعَكْسه وَالْمَجُوسِيّ مِنْهُمَا، وَهُمَا مِنْهُ، فَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَآخَرُونَ، وَمَنَعَهُ مَالِك.
قَالَ الشَّافِعِيّ: لَكِنْ لَا يَرِث حَرْبِيّ مِنْ ذِمِّيّ، وَلَا ذِمِّيّ مِنْ حَرْبِيّ، قَالَ أَصْحَابنَا، وَكَذَا لَوْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي بَلَدَيْنِ مُتَحَارِبَيْنِ لَمْ يَتَوَارَثَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ:

3028- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُل ذَكَر»، وَفِي رِوَايَة: «فَمَا تَرَكَتْ الْفَرَائِض فَلِأَوْلَى رَجُل ذَكَر» وَفِي رِوَايَة: «اِقْسِمُوا الْمَال بَيْن أَهْل الْفَرَائِض عَلَى كِتَاب اللَّه فَمَا تَرَكَتْ الْفَرَائِض فَلِأَوْلَى رَجُل ذَكَر» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِأَوْلَى رَجُل: أَقْرَب رَجُل، مَأْخُوذ مِنْ الْوَلْي بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى وَزْن الرَّمْي، وَهُوَ الْقُرْب، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِأَوْلَى هُنَا أَحَقَّ، بِخِلَافِ قَوْلهمْ: الرَّجُل أَوْلَى بِمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ هُنَا عَلَى (أَحَقَّ) لَخَلَى عَنْ الْفَائِدَة، لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ الْأَحَقّ.
3029- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجُل ذَكَر» وَصْف الرَّجُل بِأَنَّهُ ذَكَر تَنْبِيهًا عَلَى سَبَب اِسْتِحْقَاقه وَهُوَ الذُّكُورَة الَّتِي هِيَ سَبَب الْعُصُوبَة وَسَبَب التَّرْجِيح فِي الْإِرْث، وَلِهَذَا جَعَلَ الذَّكَر مِثْل حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَحِكْمَته أَنَّ الرِّجَال تَلْحَقهُمْ مُؤَن كَثِيرَة بِالْقِيَامِ بِالْعِيَالِ وَالضِّيفَان، وَالْأَرِقَّاء وَالْقَاصِدِينَ، وَمُوَاسَاة السَّائِلِينَ وَتَحَمُّل الْغَرَامَات وَغَيْر ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَهَذَا الْحَدِيث فِي تَوْرِيث الْعَصَبَات وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْد الْفُرُوض فَهُوَ لِلْعَصَبَاتِ يُقَدَّم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، فَلَا يَرِث عَاصِب بَعِيد مَعَ وُجُود قَرِيب، فَإِذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأَخًا وَعَمًّا، فَلِلْبِنْتِ النِّصْف فَرْضًا، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ، وَلَا شَيْء لِلْعَمِّ، قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْعَصَبَة ثَلَاثَة أَقْسَام: عَصَبَة بِنَفْسِهِ كَالِابْنِ وَابْنه وَالْأَخ وَابْنه وَالْعَمّ وَابْنه وَعَمّ الْأَب وَالْجَدّ وَابْنهمَا وَنَحْوهمْ؛ وَقَدْ يَكُون الْأَب وَالْجَدّ عَصَبَة، وَقَدْ يَكُون لَهُمَا فَرْض، فَمَتَى كَانَ لِلْمَيِّتِ اِبْن أَوْ اِبْن اِبْن لَمْ يَرِث الْأَب إِلَّا السُّدُس فَرْضًا، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ وَلَد وَلَا وَلَد اِبْن وَرِثَ بِالتَّعْصِيبِ فَقَطْ، وَمَتَى كَانَتْ بِنْت أَوْ بِنْت اِبْن أَوْ بِنْتَانِ اِبْن أَخَذَ الْبَنَات فَرْضهنَّ وَلِلْأَبِ مِنْ الْبَاقِي السُّدُس فَرْضًا، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، هَذَا أَحَد الْأَقْسَام، وَهُوَ الْعَصَبَة بِنَفْسِهِ.
الْقِسْم الثَّانِي الْعَصَبَة بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْبَنَات بِالْبَنِينَ، وَبَنَات الِابْن بِبَنِي الِابْن، وَالْأَخَوَات بِالْإِخْوَةِ.
وَالثَّالِث: الْعَصَبَة مَعَ غَيْره، وَهُوَ الْأَخَوَات لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ مَعَ الْبَنَات وَبَنَات الِابْن فَإِذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْف فَرْضًا وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالتَّعْصِيبِ، وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا وَبِنْت اِبْن وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ أُخْتًا لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْف وَلِبِنْتِ الِابْن السُّدُس، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ. وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ وَبِنْتَيْ اِبْن وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ، وَلَا شَيْء لِبِنْتَيْ الِابْن؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْء مِنْ فَرْض جِنْس الْبَنَات وَهُوَ الثُّلُثَانِ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْعَصَبَة فَالْمُرَاد بِهِ الْعَصَبَة بِنَفْسِهِ، وَهُوَ كُلّ ذَكَر يُدْلِي بِنَفْسِهِ بِالْقَرَابَةِ لَيْسَ بَيْنه وَبَيْن الْمَيِّت أُنْثَى، وَمَتَى اِنْفَرَدَ الْعَصَبَة أَخَذَ جَمِيع الْمَال، وَمَتَى كَانَ مَعَ أَصْحَاب فُرُوض مُسْتَغْرِقَة فَلَا شَيْء لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقُوا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بَعْد فُرُوضهمْ.
وَأَقْرَب الْعَصَبَات الْبَنُونَ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ الْأَب ثُمَّ الْجَدّ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخ، وَالْأَخ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ. فَإِنْ كَانَ جَدٌّ وَأَخ فَفيها خِلَاف مَشْهُور، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَة، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَعْمَام الْأَب، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَعْمَام الْجَدّ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَام جَدّ الْأَب ثُمَّ بَنُوهُمْ، وَهَكَذَا.
وَمَنْ أَدْلَى بِأَبَوَيْنِ يُقَدَّم عَلَى مَنْ يُدْلِي بِأَبٍ، فَيُقَدَّم أَخ مِنْ أَبَوَيْنِ عَلَى أَخ مِنْ أَب، وَيُقَدَّم عَمٌّ لِأَبَوَيْنِ عَلَى عَمٍّ بِأَبٍ، وَكَذَا الْبَاقِي، وَيُقَدَّم الْأَخ مِنْ الْأَب عَلَى اِبْن الْأَخ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّ جِهَة الْأُخُوَّة أَقْوَى وَأَقْرَب، وَيُقَدَّم اِبْن أَخ لِأَبٍ عَلَى عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ، وَيُقَدَّم عَمٌّ لِأَبٍ عَلَى اِبْن عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَكَذَا الْبَاقِي. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ وَأَخًا لِأَبٍ فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْف، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَا شَيْء لِلْأَخِ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لِلْبِنْتِ النِّصْف، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ دُون الْأُخْت، وَهَذَا الْحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب ظَاهِر فِي الدَّلَالَة لِمَذْهَبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب مِيرَاثِ الْكَلاَلَةِ:

3031- قَوْله: «عَنْ جَابِر: مَرِضْت فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر يَعُودَانِي مَاشِيَانِ» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «مَاشِيَانِ»، وَفِي بَعْضهَا: «مَاشِيَيْنِ» وَهَذَا ظَاهِر، وَالْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا وَتَقْدِيره: وَهُمَا مَاشِيَانِ.
وَفيه فَضِيلَة عِيَادَة الْمَرِيض، وَاسْتِحْبَاب الْمَشْي فيها.
قَوْله: «فَأُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْت» الْوَضُوء هُنَا بِفَتْحِ الْوَاو الْمَاء الَّذِي يُتَوَضَّأ بِهِ، وَفيه التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَفَضْل طَعَامهمْ وَشَرَابهمْ وَنَحْوهمَا، وَفَضْل مُؤَاكَلَتهمْ وَمُشَارَبَتهمْ وَنَحْو ذَلِكَ.
وَفيه: ظُهُور آثَار بَرَكَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى طَهَارَة الْمَاء الْمُسْتَعْمَل فِي الْوُضُوء وَالْغُسْل، رَدًّا عَلَى أَبِي يُوسُف الْقَائِل بِنَجَاسَتِهِ، وَهِيَ رِوَايَة عَنْ أَبِي حَنِيفَة، وَفِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نَظَر؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُ صَبَّ مِنْ الْمَاء الْبَاقِي فِي الْإِنَاء، وَلَكِنْ قَدْ يُقَال: الْبَرَكَة الْعُظْمَى فِيمَا لَاقَى أَعْضَاءَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوء. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «قُلْت: يَا رَسُول اللَّه كَيْف أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَة الْمِيرَاث: {يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة}» وَفِي رِوَايَة: فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَفِي رِوَايَة: «نَزَلَتْ آيَة الْمِيرَاث». فيه: جَوَاز وَصِيَّة الْمَرِيض وَإِنْ كَانَ يَذْهَب عَقْله فِي بَعْض أَوْقَاته بِشَرْطِ أَنْ تَكُون الْوَصِيَّة فِي حَال إِفَاقَته وَحُضُور عَقْله، وَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهَذَا الْحَدِيث مَنْ لَا يُجَوِّز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْجُمْهُور عَلَى جَوَازه، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا الْحَدِيث وَشَبَهه عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَر لَهُ بِالِاجْتِهَادِ شَيْء، فَلِهَذَا لَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا رَجَاء أَنْ يَنْزِل الْوَحْي.
3035- قَوْله: «أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ إِنِّي لَا أَدَع بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنْ الْكَلَالَة مَا رَاجَعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْء مَا رَاجَعْته فِي الْكَلَالَة، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْء مَا أَغْلَظَ لِي فيه حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعَيْهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: يَا عُمَر أَلَا يَكْفِيك آيَة الصَّيْف الَّتِي فِي آخِر سُورَة النِّسَاء؟ وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فيها بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأ الْقُرْآن وَمَنْ لَا يَقْرَأ الْقُرْآن». أَمَّا آيَة الصَّيْف فَلِأَنَّهَا فِي الصَّيْف، وَأَمَّا قَوْله: «وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ إِلَى آخِره» هَذَا مِنْ كَلَام عُمَر لَا مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْقَضَاء فيها؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَر لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْت ظُهُورًا يَحْكُم بِهِ، فَأَخَّرَهُ حَتَّى يَتِمّ اِجْتِهَاده فيه، وَيَسْتَوْفِي نَظَره، وَيَتَقَرَّر عِنْده حُكْمه، ثُمَّ يَقْضِي بِهِ، وَيُشِيعهُ بَيْن النَّاس، وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَغْلَظَ لَهُ لِخَوْفِهِ مِنْ اِتِّكَاله وَاتِّكَال غَيْره عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا، وَتَرْكهمْ الِاسْتِنْبَاط مِنْ النُّصُوص، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي الْأَمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فَالِاعْتِنَاء بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ آكَد الْوَاجِبَات الْمَطْلُوبَة، بِأَنَّ النُّصُوص الصَّرِيحَة لَا تَفِي إِلَّا بِيَسِيرٍ مِنْ الْمَسَائِل الْحَادِثَة، فَإِذَا أَهْمَلَ الِاسْتِنْبَاط، فَاتَ الْقَضَاء فِي مُعْظَم الْأَحْكَام النَّازِلَة أَوْ فِي بَعْضهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَاخْتَلَفُوا فِي اِشْتِقَاق الْكَلَالَة، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: مُشْتَقَّة مِنْ التَّكَلُّل، وَهُوَ التَّطَرُّف، فَابْن الْعَمّ مَثَلًا يُقَال لَهُ: كَلَالَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عَمُود النَّسَب بَلْ عَلَى طَرَفه، وَقِيلَ: مِنْ الْإِحَاطَة، وَمِنْهُ الْإِكْلِيل وَهُوَ شِبْه عِصَابَة تُزَيَّن بِالْجَوْهَرِ، فَسُمُّوا كَلَالَة لِإِحَاطَتِهِمْ بِالْمَيِّتِ مِنْ جَوَانِبه، وَقِيلَ: مُشْتَقَّة مِنْ كَلَّ الشَّيْء إِذَا بَعُدَ وَانْقَطَعَ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: كَلَّتْ الرَّحِم إِذَا بَعُدَتْ، وَطَالَ اِنْتِسَابهَا، وَمِنْهُ كَلَّ فِي مَشْيه إِذَا اِنْقَطَعَ لِبُعْدِ مَسَافَته. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْكَلَالَةِ فِي الْآيَة عَلَى أَقْوَال: أَحَدهَا: الْمُرَاد الْوِرَاثَة إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَد وَلَا وَالِد، وَتَكُون الْكَلَالَة مَنْصُوبَة عَلَى تَقْدِير: يُورَث وِرَاثَة كَلَالَة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اِسْم لِلْمَيِّتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَلَد وَلَا وَالِد ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّت أَوْ أُنْثَى، كَمَا يُقَال: رَجُل عَقِيم، وَامْرَأَة عَقِيم، وَتَقْدِيره: يُورَث كَمَا يُورَث فِي حَال كَوْنه كَلَالَة، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَعُمَر وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَزَيْد بْن ثَابِت وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ اِسْم لِلْوَرَثَةِ الَّذِينَ لَيْسَ فيهمْ وَلَد وَلَا وَالِد، اِحْتَجُّوا بِقَوْلِ جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّمَا يَرِثنِي كَلَالَة، وَلَمْ يَكُنْ وَلَد وَلَا وَالِد.
وَالرَّابِع: أَنَّهُ اِسْم لِلْمَالِ الْمَوْرُوث، قَالَ الشِّيعَة: الْكَلَالَة مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَد، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَب أَوْ جَدٌّ، فَوَرَّثُوا الْإِخْوَة مَعَ الْأَب، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس، قَالَ: وَهِيَ رِوَايَة بَاطِلَة لَا تَصِحّ عَنْهُ، بَلْ الصَّحِيح عَنْهُ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَة الْعُلَمَاء، قَالَ: وَذَكَرَ بَعْض الْعُلَمَاء الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْكَلَالَة مَنْ لَا وَلَد لَهُ وَلَا وَالِد، قَالَ: وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي الْوَرَثَة إِذَا كَانَ فيهمْ جَدّ هَلْ الْوَرَثَة كَلَالَة أَوْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ الْجَدّ أَبًا جَعَلَهَا كَلَالَة، وَمَنْ جَعَلَهُ أَبًا لَمْ يَجْعَلهَا كَلَالَة، قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَة بِنْت فَالْوَرَثَة كَلَالَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء؛ لِأَنَّ الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات وَغَيْرهمْ مِنْ الْعَصَبَات يَرِثُونَ مَعَ الْبِنْت، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَا تَرِث الْأُخْت مَعَ الْبِنْت شَيْئًا؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُ وَلَد وَلَهُ أُخْت} وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَقَالَتْ الشِّيعَة: الْبِنْت تَمْنَع كَوْن الْوَرَثَة كَلَالَة لِأَنَّهُمْ لَا يُوَرِّثُونَ الْأَخ وَالْأُخْت مَعَ الْبِنْت شَيْئًا، وَيُعْطُونَ الْبِنْت كُلّ الْمَال، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَد وَلَهُ أُخْت فَلَهَا نِصْف مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثهَا} وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّ مَعْنَى الْآيَة الْكَرِيمَة أَنَّ تَوْرِيث النِّصْف لِلْأُخْتِ بِالْفَرْضِ لَا يَكُون إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَد، فَعَدَمُ الْوَلَد شَرْطٌ لِتَوْرِيثِهَا النِّصْف فَرْضًا، لَا لِأَجْلِ تَوْرِيثهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر عَدَم الْأَب فِي الْآيَة كَمَا ذَكَرَ عَدَم الْوَلَد، مَعَ أَنَّ الْأَخ وَالْأُخْت لَا يَرِثَانِ مَعَ الْأَب؛ لِأَنَّهُ مَعْلُوم مِنْ قَاعِدَة أَصْل الْفَرَائِض أَنَّ مَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لَا يَرِث مَعَ وُجُوده إِلَّا أَوْلَاد الْأُمّ فَيَرِثُونَ مَعَهَا.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَات فِي الْآيَة الَّتِي فِي آخِر سُورَة النِّسَاء مَنْ كَانَ مِنْ أَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَب عِنْد عَدَم الَّذِينَ مِنْ أَبَوَيْنِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِاَلَّذِينَ فِي أَوَّلهَا الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات مِنْ الْأُمّ. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}.

.باب آخِرِ آيَةٍ أُنْزِلَتْ آيَةُ الْكَلاَلَةِ:

3039- قَوْله: (عَنْ مَالِك بْن مِغْوَل) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (عَنْ أَبِي السَّفَر) هُوَ بِفَتْحِ الْفَاء عَلَى الْمَشْهُور، وَقِيلَ بِإِسْكَانِهَا، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَر شُيُوخهمْ.

.باب مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ:

3040- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر لَا يُصَلِّي عَلَى مَيِّت عَلَيْهِ دَيْن لَا وَفَاء لَهُ» إِنَّمَا كَانَ يَتْرُك الصَّلَاة عَلَيْهِ لِيُحَرِّضَ النَّاس عَلَى قَضَاء الدَّيْن فِي حَيَاتهمْ، وَالتَّوَصُّل إِلَى الْبَرَاءَة مِنْهَا، لِئَلَّا تَفُوتهُمْ صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ عَادَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَقْضِي دَيْن مَنْ لَمْ يُخَلِّف وَفَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبكُمْ» فيه الْأَمْر بِصَلَاةِ الْجِنَازَة وَهِيَ فَرْض كِفَايَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْن فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» قِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْضِيه مِنْ مَال مَصَالِح الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: مِنْ خَالِص مَال نَفْسه، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْقَضَاء وَاجِبًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: تَبَرُّع مِنْهُ، وَالْخِلَاف وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرهمْ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي قَضَاء دَيْن مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن، فَقِيلَ: يَجِب قَضَاؤُهُ مِنْ بَيْت الْمَال، وَقِيلَ: لَا يَجِب.
وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا قَائِم بِمَصَالِحِكُمْ فِي حَيَاة أَحَدكُمْ وَمَوْته». وَأَنَا وَلِيّه فِي الْحَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن قَضَيْته مِنْ عِنْدِي إِنْ لَمْ يُخَلِّف وَفَاء، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَال فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ لَا آخُذ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ خَلَّفَ عِيَالًا مُحْتَاجِينَ ضَائِعِينَ فَلْيَأْتُوا إِلَيَّ، فَعَلَيَّ نَفَقَتهمْ وَمُؤْنَتهمْ.
3042- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلَاهُ، وَأَيّكُمْ تَرَكَ مَالًا فَإِلَى الْعَصَبَة مَنْ كَانَ» وَفِي رِوَايَة: «دَيْنًا أَوْ ضَيْعَة» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا» أَمَّا الضَّيَاع وَالضَّيْعَة فَبِفَتْحِ الضَّاد وَالْمُرَاد عِيَال مُحْتَاجُونَ ضَائِعُونَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الضَّيَاع وَالضَّيْعَة هُنَا وَصْف لِوَرَثَةِ الْمَيِّت بِالْمَصْدَرِ، أَيْ تَرَكَ أَوْلَادًا أَوْ عِيَالًا ذَوِي ضَيَاع، أَيْ لَا شَيْء لَهُمْ، وَالضَّيَاع فِي الْأَصْل مَصْدَر مَا ضَاعَ، ثُمَّ جُعِلَ اِسْمًا لِكُلِّ مَا يَعْرِض لِلضَّيَاعِ.
وَأَمَّا الْكَلّ فَبِفَتْحِ الْكَاف قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره الْمُرَاد بِهِ هَا هُنَا الْعِيَال، وَأَصْله الثِّقَل. وَمَعْنَى أَنَا مَوْلَاهُ أَيْ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.كتاب الهبات:

.باب كَرَاهَةِ شِرَاءِ الإِنْسَانِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِمَّنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ:

3044- قَوْله: «حَمَلْت عَلَى فَرَس عَتِيق فِي سَبِيل اللَّه» مَعْنَاهُ: تَصَدَّقْت بِهِ وَوَهَبْته لِمَنْ يُقَاتِل عَلَيْهِ فِي سَبِيل اللَّه.
وَالْعَتِيق: الْفَرَس النَّفِيس الْجَوَاد السَّابِق.
قَوْله: «فَأَضَاعَهُ صَاحِبه» أَيْ قَصَّرَ فِي الْقِيَام بِعَلَفِهِ وَمُؤْنَته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبْتَعْهُ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتك» هَذَا نَهْي تَنْزِيه لَا تَحْرِيم فَيُكْرَه لِمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ أَوْ أَخْرَجَهُ فِي زَكَاة أَوْ كَفَّارَة أَوْ نَذْر وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَات أَنْ يَشْتَرِيه مِمَّنْ دَفَعَهُ هُوَ إِلَيْهِ أَوْ يَهَبهُ، أَوْ يَتَمَلَّكهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْهُ. فَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ مِنْهُ فَلَا كَرَاهَة فيه، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الزَّكَاة، وَكَذَا لَوْ اِنْتَقَلَ إِلَى ثَالِث ثُمَّ اِشْتَرَاهُ مِنْهُ الْمُتَصَدِّق فَلَا كَرَاهَة، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: النَّهْي عَنْ شِرَاء صَدَقَته لِلتَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3045- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَل الَّذِي يَرْجِع فِي صَدَقَته كَمَثَلِ الْكَلْب يَقِيء ثُمَّ يَعُود فِي قَيْئِهِ فَيَأْكُلهُ» هَذَا ظَاهِر فِي تَحْرِيم الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَالصَّدَقَة بَعْد إِقْبَاضهمَا، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى هِبَة الْأَجْنَبِيّ. أَمَّا إِذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، فَلَهُ الرُّجُوع فيه كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيث النُّعْمَان بْن بَشِير، وَلَا رُجُوع فِي هِبَة الْإِخْوَة وَالْأَعْمَام وَغَيْرهمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ: يَرْجِع كُلّ وَاهِب إِلَّا الْوَلَد وَكُلّ ذِي رَحِم مَحْرَم.