فصل: باب قَدْرِ مَا يَسْتُرُ الْمُصَلِّيَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب سُتْرَةِ الْمُصَلِّي:

769- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَضَعَ أَحَدكُمْ بَيْن يَدَيْهِ مِثْل مُؤْخِرَة الرَّحْل فَلْيُصَلِّ وَلَا يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاء ذَلِكَ» (الْمُؤْخِرَة) بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر الْخَاء وَهَمْزَة سَاكِنَة، وَيُقَال بِفَتْحِ الْخَاء مَعَ فَتْح الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الْخَاء، وَمَعَ إِسْكَان الْهَمْزَة وَتَخْفِيف الْخَاء، وَيُقَال (آخِرَة الرَّحْل) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة وَكَسْر الْخَاء، فَهَذِهِ أَرْبَع لُغَات وَهِيَ الْعُود الَّذِي فِي آخِر الرَّحْل.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث النَّدْب إِلَى السُّتْرَة بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي وَبَيَان أَنَّ أَقَلّ السُّتْرَة مُؤْخِرَة الرَّحْل وَهِيَ قَدْر عَظْم الذِّرَاع، هُوَ نَحْو ثُلُثَيْ ذِرَاع، وَيَحْصُل بِأَيِّ شَيْء أَقَامَهُ بَيْن يَدَيْهِ هَكَذَا وَشَرَطَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَكُون فِي غِلَظ الرُّمْح.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي السُّتْرَة كَفُّ الْبَصَر عَمَّا وَرَاءَهُ، وَمَنَعَ مَنْ يُجْتَاز بِقُرْبِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْخَطّ بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا يَكْفِي قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ بِهِ حَدِيث وَأَخَذَ بِهِ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ ضَعِيف وَاخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ: يَكُون مُقَوَّسًا كَهَيْئَةِ الْمِحْرَاب، وَقِيلَ قَائِمًا بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَة، وَقِيلَ مِنْ جِهَة يَمِينه إِلَى شِمَاله، قَالَ: وَلَمْ يَرَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَلَا عَامَّة الْفُقَهَاء الْخَطّ. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَحَدِيث الْخَطّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفيه ضَعْف وَاضْطِرَاب، وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فيه فَاسْتَحَبَّهُ فِي سُنَن حَرْمَلَة وَفِي الْقَدِيم، وَنَفَاهُ فِي الْبُوَيْطِيّ، وَقَالَ جُمْهُور أَصْحَابه بِاسْتِحْبَابِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيث مُؤْخِرَة الرَّحْل دَلِيل عَلَى بُطْلَان الْخَطّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ أَصْحَابنَا: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْنُو مِنْ السُّتْرَة، وَلَا يَزِيد مَا بَيْنهمَا عَلَى ثَلَاث أَذْرُع، فَإِنْ لَمْ يَجِد عَصًا وَنَحْوهَا جَمَعَ أَحْجَارًا أَوْ تُرَابًا أَوْ مَتَاعه، إِلَّا فَلْيَبْسُطْ مُصَلًّى، وَإِلَّا فَلْيَخُطَّ الْخَطّ، وَإِذَا صَلَّى إِلَى سُتْرَة مَنَعَ غَيْره مِنْ الْمُرُور بَيْنه وَبَيْنهَا، وَكَذَا يَمْنَع مِنْ الْمُرُور بَيْنه وَبَيْن الْخَطّ، وَيَحْرُم الْمُرُور بَيْنه وَبَيْنهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُتْرَة أَوْ تَبَاعَدَ عَنْهَا فَقِيلَ: لَهُ مَنَعَهُ، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ، وَلَا يَحْرُم حِينَئِذٍ الْمُرُور بَيْن يَدَيْهِ، لَكِنْ يُكْرَه، وَلَوْ وَجَدَ الدَّاخِل فُرْجَة فِي الصَّفّ الْأَوَّل فَلَهُ أَنْ يَمُرّ بَيْن يَدَيْ الصَّفّ الثَّانِي وَيَقِف فيها لِتَقْصِيرِ أَهْل الصَّفّ الثَّانِي بِتَرْكِهَا، وَالْمُسْتَحَبّ أَنْ يَجْعَل السُّتْرَة عَنْ يَمِينه أَوْ شِمَاله وَلَا يَضُمّ لَهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
770- قَوْله: (حَدَّثَنَا الطَّنَافِسِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الطَّاء وَكَسْر الْفَاء.
774- قَوْله: (يَرْكُز الْعَنَزَة) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمِّ الْكَاف وَهُوَ بِمَعْنَى يَغْرِز الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
775- قَوْله: (كَانَ يَعْرِض رَاحِلَته وَهُوَ يُصَلِّي إِلَيْهَا) يَعْرِض بِفَتْحِ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء وَرُوِيَ بِضَمِّ الْيَاء وَتَشْدِيد الرَّاء وَمَعْنَاهُ يَجْعَلهَا مُعْتَرِضَة بَيْنه وَبَيْن الْقِبْلَة. فَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الصَّلَاة إِلَى الْحَيَوَان، وَجَوَاز الصَّلَاة بِقُرْبِ الْبَعِير بِخِلَافِ الصَّلَاة فِي عِطَان الْإِبِل فَإِنَّهَا مَكْرُوهَة لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي النَّهْي عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُخَاف هُنَاكَ نُفُورهَا فَيَذْهَب الْخُشُوع بِخِلَافِ هَذَا.
777- قَوْله: (وَهُوَ بِالْأَبْطُحِ) هُوَ الْمَوْضِع الْمَعْرُوف عَلَى بَاب مَكَّة، وَيُقَال لَهَا الْبَطْحَاء أَيْضًا.
قَوْله: «فَمِنْ نَائِل وَنَاضِح» مَعْنَاهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَال مِنْهُ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْضَح عَلَيْهِ غَيْره شَيْئًا مِمَّا نَالَهُ وَيَرُشّ عَلَيْهِ بَلَلًا مِمَّا حَصَلَ لَهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر فَمَنْ لَمْ يُصِبْ أَخَذَ مِنْ يَد صَاحِب.
قَوْله: «فَخَرَجَ بِلَال بِوُضُوءٍ فَمِنْ نَائِل وَنَاضِح فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ» فيه تَقْدِيم وَتَأْخِير تَقْدِيره فَتَوَضَّأَ فَمِنْ نَائِل بَعْد ذَلِكَ وَنَاضِح تَبَرُّكًا بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَرَأَيْت النَّاس يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْل وَضُوئِهِ»، فَفيه التَّبَرُّك بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَاسْتِعْمَال فَضْل طَهُورهمْ وَطَعَامهمْ وَشَرَابهمْ وَلِبَاسهمْ.
قَوْله: (عَلَيْهِ حُلَّة حَمْرَاء) قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْحُلَّة ثَوْبَانِ لَا يَكُون وَاحِدًا، وَهُمَا إِزَار وَرِدَاء وَنَحْوهمَا، وَفيه جَوَاز لِبَاس الْأَحْمَر.
قَوْله: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى بَيَاض سَاقَيْهِ» فيه أَنَّ السَّاق لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.
قَوْله: «فَأَذَّنَ بِلَال» فيه الْأَذَان فِي السَّفَر.
قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَلَا أَكْرَه مِنْ تَرْكه فِي السَّفَر مَا أَكْرَه مِنْ تَرْكه فِي الْحَضَر لِأَنَّ أَمْر الْمُسَافِر مَبْنِيّ عَلَى التَّخْفِيف.
قَوْله: «فَأَذَّنَ بِلَال فَجَعَلْت أَتَتَبَّع فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا يَقُول يَمِينًا وَشِمَالًا حَيَّ عَلَى الصَّلَاة حَيَّ عَلَى الْفَلَاح» فيه أَنَّهُ يُسَنّ لِلْمُؤَذِّنِ الِالْتِفَات فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا بِرَأْسِهِ وَعُنُقه.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا يُحَوِّل قَدَمَيْهِ وَصَدْره عَنْ الْقِبْلَة، وَإِنَّمَا يَلْوِي رَأْسه وَعُنُقه. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّة اِلْتِفَاته عَلَى مَذَاهِب، وَهِيَ ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا أَصَحّهَا وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور أَنَّهُ يَقُول: (حَيَّ عَلَى الصَّلَاة) مَرَّتَيْنِ عَنْ يَمِينه، ثُمَّ يَقُول عَنْ يَسَاره مَرَّتَيْنِ: (حَيَّ عَلَى الْفَلَاح). وَالثَّانِي يَقُول عَنْ يَمِينه حَيَّ عَلَى الصَّلَاة مَرَّة ثُمَّ مَرَّة عَنْ يَسَاره، ثُمَّ يَقُول حَيَّ عَلَى الْفَلَاح مَرَّة عَنْ يَمِينه ثُمَّ مَرَّة عَنْ يَسَاره. وَالثَّالِث يَقُول عَنْ يَمِينه حَيَّ عَلَى الصَّلَاة ثُمَّ يَعُود إِلَى الْقِبْلَة. ثُمَّ يَعُود إِلَى الِالْتِفَات عَنْ يَمِينه فَيَقُول حَيَّ عَلَى الصَّلَاة، ثُمَّ يَلْتَفِت عَنْ يَسَاره فَيَقُول حَيَّ عَلَى الْفَلَاح ثُمَّ يَعُود إِلَى الْقِبْلَة، وَيَلْتَفِت عَنْ يَسَاره فَيَقُول حَيَّ عَلَى الْفَلَاح.
قَوْله: (ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَة) هِيَ عَصَا فِي أَسْفَلهَا حَدِيدَة، وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز اِسْتِعَانَة الْإِمَام بِمَنْ يُرَكِّز لَهُ عَنَزَة وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصَلَّى الظُّهْر رَكْعَتَيْنِ» فيه أَنَّ الْأَفْضَل قَصْر الصَّلَاة فِي السَّفَر، وَإِنْ كَانَ بِقُرْبِ بَلَد مَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام فَصَاعِدًا.
قَوْله: «يَمُرّ بَيْن يَدَيْهِ الْحِمَار وَالْكَلْب لَا يُمْنَع» مَعْنَاهُ يَمُرّ الْحِمَار وَالْكَلْب وَرَاء السُّتْرَة وَقُدَّامهَا إِلَى الْقِبْلَة كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: وَرَأَيْت النَّاس وَالدَّوَابّ يَمُرُّونَ بَيْن يَدَيْ الْعَنَزَة، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر فَيَمُرّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَة وَالْحِمَار، وَفِي الْحَدِيث السَّابِق وَلَا يَضُرّهُ مَنْ مَرَّ وَرَاء ذَلِكَ.
778- قَوْله: «وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُلَّة حَمْرَاء مُشَمِّرًا» يَعْنِي رَافِعهَا إِلَى أَنْصَاف سَاقَيْهِ وَنَحْو ذَلِكَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى بَيَاض سَاقَيْهِ، وَفيه رَفْع الثَّوْب عَنْ الْكَعْبَيْنِ.
779- قَوْله: «خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاء فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى الظُّهْر رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْر رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْن يَدَيْهِ عَنَزَة» فيه دَلِيل عَلَى الْقَصْر وَالْجَمْع فِي السَّفَر، وَفيه أَنَّ الْأَفْضَل لِمَنْ أَرَادَ الْجَمْع وَهُوَ نَازِل فِي وَقْت الْأُولَى أَنْ يُقَدِّم الثَّانِيَة إِلَى الْأُولَى، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي وَقْت الْأُولَى سَائِرًا فَالْأَفْضَل تَأْخِير الْأُولَى إِلَى وَقْت الثَّانِيَة، كَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث، وَلِأَنَّهُ أَرْفَق بِهِ.
780- قَوْله: «أَقْبَلْت رَاكِبًا عَلَى أَتَان» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «عَلَى حِمَار»، وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ: «عَلَى حِمَار أَتَان».
قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْأَتَان) هِيَ الْأُنْثَى مِنْ جِنْس الْحَمِير، وَرِوَايَة مِنْ رَوَى حِمَار مَحْمُولَة عَلَى إِرَادَة الْجِنْس، وَرِوَايَة الْبُخَارِيّ مُبَيِّنَة لِلْجَمِيعِ.
قَوْله: «وَأَنَا يَوْمئِذٍ قَدْ نَاهَزْت الِاحْتِلَام» مَعْنَاهُ قَارَبْته، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سِنّ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عِنْد وَفَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: عَشْر سِنِينَ، وَقِيلَ: ثَلَاث عَشْرَة، وَقِيلَ: خَمْس عَشْرَة، وَهُوَ رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْهُ.
قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَهُوَ الصَّوَاب.
قَوْله: «فَأَرْسَلْت الْأَتَان تَرْتَع» أَيْ تَرْعَى.
781- قَوْله: «يُصَلِّي بِمِنًى» فيها لُغَتَانِ الصَّرْف وَعَدَمه، وَلِهَذَا يُكْتَب بِالْأَلِفِ وَالْيَاء، وَالْأَجْوَد صَرْفهَا وَكِتَابَتهَا بِالْأَلِفِ، سُمِّيَتْ (مِنًى) لِمَا يُمْنَى بِهَا مِنْ الدِّمَاء أَيْ يُرَاق وَمِنْهُ قَوْل اللَّه تَعَالَى: {مِنْ مَنِيّ يُمْنَى} وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ صَلَاة الصَّبِيّ صَحِيحَة، وَأَنَّ سُتْرَة الْإِمَام سُتْرَة لِمَنْ خَلْفه.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَاخْتَلَفُوا هَلْ سُتْرَة الْأَمَام بِنَفْسِهَا سُتْرَة لِمَنْ خَلْفه، أَمْ هِيَ سُتْرَة لَهُ خَاصَّة وَهُوَ سُتْرَة لِمَنْ خَلْفه، مَعَ الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُمْ مُصَلُّونَ إِلَى سُتْرَة؟ قَالَ: وَلَا خِلَاف أَنَّ السُّتْرَة مَشْرُوعَة إِذَا كَانَ فِي مَوْضِع لَا يَأْمَن الْمُرُور بَيْن يَدَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِع يَأْمَن الْمُرُور بَيْن يَدَيْهِ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَب مَالِك. وَمَذْهَبنَا أَنَّهَا مَشْرُوعَة مُطْلَقًا لِعُمُومِ الْأَحَادِيث، وَلِأَنَّهَا تَصُون بَصَره، وَتَمْنَع الشَّيْطَان الْمُرُور وَالتَّعَرُّض لِإِفْسَادِ صَلَاته كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيث.
قَوْله: «وَهُوَ يُصَلِّي بِمِنًى»، وَفِي رِوَايَة: «بِعَرَفَة» هُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ.
قَوْله: «فِي حَجَّة الْوَدَاع» وَفِي رِوَايَة حَجَّة الْوَدَاع، أَوْ يَوْم الْفَتْح، الصَّوَاب فِي حَجَّة الْوَدَاع وَهَذَا الشَّكّ مَحْمُول عَلَيْهِ.

.باب مَنْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي:

782- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أَحَدكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَع أَحَدًا يَمُرّ بَيْن يَدَيْهِ، وَلْيَدْرَأ مَا اِسْتَطَاعَ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان» مَعْنَى (يَدْرَأ) يَدْفَع، وَهَذَا الْأَمْر بِالدَّفْعِ أَمْر نَدْب، وَهُوَ نَدْب مُتَأَكِّد، وَلَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاء أَوْجَبَهُ، بَلْ صَرَّحَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ بِأَنَّهُ مَنْدُوب غَيْر وَاجِب.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ مُقَاتَلَته بِالسِّلَاحِ، وَلَا مَا يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه، فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا يَحُوز فَهَلَكَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَوَد عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء، وَهَلْ يَجِب دِيَته أَمْ يَكُون هَدَرًا؟ فيه مَذْهَبَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَب مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا كُلّه لِمَنْ لَمْ يُفَرِّط فِي صَلَاته، بَلْ اِحْتَاطَ وَصَلَّى إِلَى سُتْرَة أَوْ فِي مَكَان يَأْمَن الْمُرُور بَيْن يَدَيْهِ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدكُمْ إِلَى شَيْء يَسْتُرهُ، فَأَرَادَ أَحَد أَنْ يَجْتَاز بَيْن يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْره، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ» قَالَ: وَكَذَا اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ الْمَشْي إِلَيْهِ مِنْ مَوْضِعه لِيَرُدّهُ، وَإِنَّمَا يَدْفَعهُ وَيَرُدّهُ مِنْ مَوْقِفه، لِأَنَّ مَفْسَدَة الْمَشْي فِي صَلَاته أَعْظَم مِنْ مُرُوره مِنْ بَعِيد بَيْن يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ قَدْر مَا تَنَالهُ يَده مِنْ مَوْقِفه، وَلِهَذَا أُمِرَ بِالْقُرْبِ مِنْ سُتْرَته، وَإِنَّمَا يَرُدّهُ إِذَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْبِيح.
قَالَ: وَكَذَلِكَ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَرَّ لَا يَرُدّهُ لِئَلَّا يَصِير مُرُورًا ثَانِيًا إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ يَرُدّهُ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ.
هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ كَلَام نَفِيس وَاَلَّذِي قَالَهُ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَرُدّهُ إِذَا أَرَادَ الْمُرُور بَيْنه وَبَيْن سُتْرَته بِأَسْهَل الْوُجُوه، فَإِنْ أَبَى فَبِأَشَدِّهَا، وَإِنْ أَدَّى إِلَى قَتْله فَلَا شَيْء عَلَيْهِ كَالصَّائِلِ عَلَيْهِ لِأَخْذِ نَفْسه أَوْ مَاله، وَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الشَّرْع مُقَاتَلَته، وَالْمُقَاتَلَة الْمُبَاحَة لَا ضَمَان فيها.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مُرُوره وَامْتِنَاعه مِنْ الرُّجُوع الشَّيْطَان، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَفْعَل فِعْل الشَّيْطَان لِأَنَّ الشَّيْطَان بَعِيد مِنْ الْخَيْر وَقَبُول السُّنَّة، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالشَّيْطَانِ الْقَرِين كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِين». وَاَللَّه أَعْلَم.
783- قَوْله: (فَمَثَلَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَبِفَتْحِ الثَّاء وَضَمّهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا صَاحِب الْمَطَالِع وَغَيْره، الْفَتْح أَشْهَر، وَلَمْ يَذْكُر الْجَوْهَرِيّ وَآخَرُونَ غَيْره، وَمَعْنَاهُ اِنْتَصَبَ، وَالْمُضَارِع (يُمَثِّل) بِضَمِّ الثَّاء لَا غَيْر، وَمِنْهُ الْحَدِيث: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُل النَّاس لَهُ قِيَامًا».
785- قَوْله: (أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْم) هُوَ بِضَمِّ الْجِيم وَفَتْح الْهَاء مُصَغَّر، وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ النَّجَّارِي، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي التَّيَمُّم، وَهُوَ غَيْر أَبِي جَهْم الَّذِي قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِذْهَبُوا بِهَذِهِ الْخَمِيصَة إِلَى أَبِي جَهْم» فَإِنَّ صَاحِب الْخَمِيصَة أَبُو جَهْم بِفَتْحِ الْجِيم وَبِغَيْرِ يَاء، وَاسْمه عَامِر بْن حُذَيْفَة الْعَدَوِيُّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَم الْمَارّ بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِف أَرْبَعِينَ خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرّ بَيْن يَدَيْهِ» مَعْنَاهُ لَوْ يَعْلَم مَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْم لَاخْتَارَ الْوُقُوف أَرْبَعِينَ عَلَى اِرْتِكَاب ذَلِكَ الْإِثْم، وَمَعْنَى الْحَدِيث النَّهْي الْأَكِيد وَالْوَعِيد الشَّدِيد فِي ذَلِكَ.

.باب دُنُوِّ الْمُصَلِّي مِنَ السُّتْرَةِ:

786- قَوْله: «كَانَ بَيْن مُصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن الْجِدَار مَمَرّ الشَّاة» يَعْنِي بِالْمُصَلَّى مَوْضِع السُّجُود، وَفيه أَنَّ السُّنَّة قُرْب الْمُصَلَّى مِنْ سُتْرَته.
787- قَوْله: «كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِع مَكَان الْمُصْحَف يُسَبِّح» الْمُرَاد بِالتَّسْبِيحِ صَلَاة النَّافِلَة، وَالسُّجُود صَلَاة النَّافِلَة فِي الْمُصْحَف ثَلَاث لُغَات ضَمُّ الْمِيم وَفَتْحهَا وَكَسْرهَا. وَفِي هَذَا أَنَّهُ لَا بَأْس بِإِدَامَةِ الصَّلَاة فِي مَوْضِع وَاحِد إِذَا كَانَ فيه فَضْل.
وَأَمَّا النَّهْي عَنْ إِيطَان الرَّجُل مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِد يُلَازِمهُ فَهُوَ فِيمَا لَا فَضْل فيه وَلَا حَاجَة إِلَيْهِ، فَأَمَّا مَا فيه فَضْل فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا مَنْ يُحْتَاج إِلَيْهِ لِتَدْرِيسِ عِلْم أَوْ لِلْإِفْتَاءِ أَوْ سَمَاع الْحَدِيث وَنَحْو ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَة فيه، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبّ لِأَنَّهُ مِنْ تَسْهِيل طُرُق الْخَيْر، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خِلَاف السَّلَف فِي كَرَاهَة الْإِيطَان لِغَيْرِ حَاجَة، وَالِاتِّفَاق عَلَيْهِ لِحَاجَةٍ نَحْو مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْله: «كَانَ بَيْن الْمِنْبَر وَالْقِبْلَة قَدْر مَمَرّ الشَّاة» الْمُرَاد بِالْقِبْلَةِ الْجِدَار وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْمِنْبَر عَنْ الْجِدَار لِئَلَّا يَنْقَطِع نَظَر أَهْل الصَّفّ الْأَوَّل بَعْضهمْ عَنْ بَعْض.
788- قَوْله: «كَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاة عِنْد الْأُسْطُوَانَة» فيه مَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا بَأْس بِإِدَامَةِ الصَّلَاة فِي مَكَان وَاحِد إِذَا كَانَ فيه فَضْل وَفيه جَوَاز الصَّلَاة بِحَضْرَةِ الْأَسَاطِين فَأَمَّا الصَّلَاة إِلَيْهَا فَمُسْتَحَبَّة، لَكِنْ الْأَفْضَل أَنْ لَا يَصْمُد إِلَيْهَا بَلْ يَجْعَلهَا عَنْ يَمِينه أَوْ شِمَاله كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا الصَّلَاة بَيْن الْأَسَاطِين فَلَا كَرَاهَة فيها عِنْدنَا، وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِك فِي كَرَاهَتهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر، وَسَبَب الْكَرَاهَة عِنْده أَنَّهُ يَقْطَع الصَّفّ وَلِأَنَّهُ يُصَلِّي إِلَى غَيْر جِدَار قَرِيب.

.باب قَدْرِ مَا يَسْتُرُ الْمُصَلِّيَ:

789- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْطَع صَلَاته الْحِمَار وَالْمَرْأَة وَالْكَلْب الْأَسْوَد» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا فَقَالَ بَعْضهمْ: يَقْطَع هَؤُلَاءِ الصَّلَاة، وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَقْطَعهَا الْكَلْب الْأَسْوَد، وَفِي قَلْبِي مِنْ الْحِمَار وَالْمَرْأَة شَيْء، وَوَجْه قَوْله إِنَّ الْكَلْب لَمْ يَجِيء فِي التَّرْخِيص فيه شَيْء يُعَارِض هَذَا الْحَدِيث، وَأَمَّا الْمَرْأَة فَفيها حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا الْمَذْكُور بَعْد هَذَا، وَفِي الْحِمَار حَدِيث اِبْن عَبَّاس السَّابِق، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: لَا تَبْطُل الصَّلَاة بِمُرُورِ شَيْء مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرهمْ، وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْقَطْعِ نَقْص الصَّلَاة لِشُغْلِ الْقَلْب بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَلَيْسَ الْمُرَاد إِبْطَالهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي نَسْخه بِالْحَدِيثِ الْآخَر لَا يَقْطَع صَلَاة الْمَرْء شَيْء وَادْرَءُوا مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَهَذَا غَيْر مَرْضِيّ لِأَنَّ النَّسْخ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث وَتَأْوِيلهَا وَعِلْمنَا التَّارِيخ، وَلَيْسَ هُنَا تَارِيخ، وَلَا تَعَذَّرَ الْجَمْع وَالتَّأْوِيل، بَلْ يُتَأَوَّل عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مَعَ أَنَّ حَدِيث: «لَا يَقْطَع صَلَاة الْمَرْء شَيْء» ضَعِيف وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (سَمِعْت سَلْم بْن أَبِي الذَّيَّال) سَلْم بِفَتْحِ السِّين وَإِسْكَان اللَّام (وَالذَّيَّال) بِفَتْحِ الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْيَاء.
قَوْله: (يُوسُف بْن حَمَّاد الْمَعْنِيّ) هُوَ بِإِسْكَانِ الْعَيْن وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء مَنْسُوب إِلَى مَعْن.

.باب الاِعْتِرَاضِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي:

791- قَوْله: عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل وَأَنَا مُعْتَرِضَة بَيْنه وَبَيْن الْقِبْلَة كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَة» اِسْتَدَلَّتْ بِهِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَالْعُلَمَاء بَعْدهَا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة لَا تَقْطَع صَلَاة الرَّجُل، وَفيه جَوَاز صَلَاته إِلَيْهَا، وَكَرِهَ الْعُلَمَاء أَوْ جَمَاعَة مِنْهُمْ الصَّلَاة إِلَيْهَا لِغَيْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَوْفِ الْفِتْنَة بِهَا وَتَذَكُّرهَا، وَإِشْغَال الْقَلْب بِهَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمُنَزَّه عَنْ هَذَا كُلّه وَصَلَاته مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي اللَّيْل، وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فيها مَصَابِيح.
792- قَوْلهَا: «فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِر أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْت» فيه اِسْتِحْبَاب تَأْخِير الْوِتْر إِلَى آخِر اللَّيْل، وَفيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ وَثِقَ بِاسْتِيقَاظِهِ مِنْ آخِر اللَّيْل إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِإِيقَاظِ غَيْره أَنْ يُؤَخِّر الْوِتْر، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَهَجُّد، فَإِنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَة، وَأَمَّا مَنْ لَا يَثِق بِاسْتِيقَاظِهِ، وَلَا لَهُ مَنْ يُوقِظهُ فَيُوتِر قَبْل أَنْ يَنَام، وَفيه اِسْتِحْبَاب إِيقَاظ النَّائِم لِلصَّلَاةِ فِي وَقْتهَا، وَقَدْ جَاءَتْ فيه أَحَادِيث أَيْضًا غَيْر هَذَا.
793- قَوْله: «إِنَّ الْمَرْأَة لَدَابَّة سُوء» تُرِيد بِهِ الْإِنْكَار عَلَيْهِمْ فِي قَوْلهمْ: إِنَّ الْمَرْأَة تَقْطَع الصَّلَاة.
795- قَوْلهَا: «فَأَكْرَه أَنْ أَسْنَحه» هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَة الْمَفْتُوحَة وَإِسْكَان السِّين الْمُهْمَلَة وَفَتْح النُّون أَيْ أَظْهَر لَهُ وَأَعْتَرِض، يُقَال: سَنَحَ لِي كَذَا أَيْ عَرَضَ، وَمِنْهُ السَّانِح مِنْ الطَّيْر.
796- قَوْلهَا: «فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلِي» اِسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُول لَمْس النِّسَاء لَا يَنْقُض الْوُضُوء، وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ يَنْقُض وَحَمَلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ غَمَزَهَا فَوْق حَائِل، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ حَال النَّائِم، فَلَا دَلَالَة فيه عَلَى عَدَم النَّقْض.
قَوْلهَا: «وَالْبُيُوت يَوْمئِذٍ لَيْسَ فيها مَصَابِيح» أَرَادَتْ بِهِ الِاعْتِذَار تَقُول: لَوْ كَانَ فيها مَصَابِيح لَقَبَضْت رِجْلِي عِنْد إِرَادَته السُّجُود، وَلَمَا أَحْوَجْتهُ إِلَى غَمْزِي.
798- قَوْلهَا: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل وَأَنَا إِلَى جَنْبه وَأَنَا حَائِض وَعَلَيَّ مِرْط وَعَلَيْهِ بَعْضه إِلَى جَنْبه» الْمِرْط كِسَاء، وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ وُقُوف الْمَرْأَة بِجَنْبِ الْمُصَلِّي لَا يُبْطِل صَلَاته وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَأَبْطَلَهَا أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَفيه أَنَّ ثِيَاب الْحَائِض طَاهِرَة إِلَّا مَوْضِعًا تَرَى عَلَيْهِ دَمًا أَوْ نَجَاسَة أُخْرَى، وَفيه جَوَاز الصَّلَاة بِحَضْرَةِ الْحَائِض، وَجَوَاز الصَّلَاة فِي ثَوْب بَعْضه عَلَى الْمُصَلِّي وَبَعْضه عَلَى حَائِض أَوْ غَيْرهَا.
وَأَمَّا اِسْتِقْبَال الْمُصَلِّي وَجْه غَيْره فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور كَرَاهَته، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ عَامَّة الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى.

.باب الصَّلاَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَصِفَةِ لُبْسِهِ:

799- قَوْله: «سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة فِي ثَوْب وَاحِد فَقَالَ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» فيه جَوَاز الصَّلَاة فِي ثَوْب وَاحِد، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فيه، وَلَا أَعْلَم صِحَّته، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الصَّلَاة فِي ثَوْبَيْنِ أَفْضَل.
وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الثَّوْبَيْنِ لَا يَقْدِر عَلَيْهِمَا كُلّ أَحَد فَلَوْ وَجَبَا لَعَجَزَ مَنْ لَا يَقْدِر عَلَيْهِمَا عَنْ الصَّلَاة، وَفِي ذَلِكَ حَرَج، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج} وَأَمَّا صَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي ثَوْب وَاحِد فَفِي وَقْت كَانَ لِعَدَمِ ثَوْب آخَر، وَفِي وَقْت كَانَ مَعَ وُجُوده لِبَيَانِ الْجَوَاز كَمَا قَالَ جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِيَرَانِي الْجُهَّال وَإِلَّا فَالثَّوْبَانِ أَفْضَل كَمَا سَبَقَ.
801- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدكُمْ فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ عَلَى عَاتِقه مِنْهُ شَيْء» قَالَ الْعُلَمَاء: حِكْمَته أَنَّهُ إِذَا ائْتَزَرَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَاتِقه مِنْهُ شَيْء لَمْ يُؤْمِن أَنْ تَنْكَشِف عَوْرَته بِخِلَافِ مَا إِذَا جَعَلَ بَعْضه عَلَى عَاتِقه، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاج إِلَى إِمْسَاكه بِيَدِهِ أَوْ يَدَيْهِ فَيَشْغَل بِذَلِكَ، وَتَفُوتهُ سُنَّة وُضِعَ الْيَد الْيُمْنَى عَلَى الْبَدَن وَمَوْضِع الْيُسْرَى تَحْت صَدْره، وَرَفْعهمَا حَيْثُ شُرِعَ الرَّفْع، وَغَيْر ذَلِكَ، لِأَنَّ فيه تَرْك سَتْر أَعْلَى الْبَدَن وَمَوْضِع الزِّينَة وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتكُمْ} ثُمَّ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَالْجُمْهُور: هَذَا النَّهْي لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلَوْ صَلَّى فِي ثَوْب وَاحِد سَاتِر لِعَوْرَتِهِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقه مِنْهُ شَيْء صَحَّتْ صَلَاته مَعَ الْكَرَاهَة، سَوَاء قَدَرَ عَلَى شَيْء يَجْعَلهُ عَلَى عَاتِقه أَمْ لَا.
وَقَالَ أَحْمَد وَبَعْض السَّلَف رَحِمَهُمْ اللَّه: لَا تَصِحّ صَلَاته إِذَا قَدَرَ عَلَى وَضْع شَيْء عَلَى عَاتِقه إِلَّا بِوَضْعِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيث. وَعَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى رِوَايَة أَنَّهُ تَصِحّ صَلَاته، وَلَكِنْ يَأْثَم بِتَرْكِهِ، وَحُجَّة الْجُمْهُور قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَأْتَزِرْ بِهِ» رَوَاه الْبُخَارِيّ، وَرَوَاهُ مُسْلِم فِي آخِر الْكِتَاب فِي حَدِيثه الطَّوِيل.
802- قَوْله: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي ثَوْب وَاحِد مُشْتَمِلًا بِهِ وَاضِعًا طَرَفيه عَلَى عَاتِقَيْهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مُخَالِفًا بَيْن طَرَفيه».
وَفِي حَدِيث جَابِر: «مُتَوَشِّحًا بِهِ» الْمُشْتَمِل وَالْمُتَوَشِّح وَالْمُخَالِف بَيْن طَرَفيه مَعْنَاهَا وَاحِد هُنَا.
قَالَ اِبْن السِّكِّيت: التَّوَشُّح أَنْ يَأْخُذ طَرَف الثَّوْب الَّذِي أَلْقَاهُ مَنْكِبه الْأَيْمَن مِنْ تَحْت يَده الْيُسْرَى، وَيَأْخُذ طَرَفه الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى الْأَيْسَر مِنْ تَحْت يَده الْيُمْنَى، ثُمَّ يَعْقِدهَا عَلَى صَدْره. وَفيه جَوَاز الصَّلَاة فِي ثَوْب وَاحِد.
807- قَوْله: «فَرَأَيْته يُصَلِّي عَلَى حَصِير يَسْجُد» فيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الصَّلَاة عَلَى شَيْء يَحُول بَيْنه وَبَيْن الْأَرْض مِنْ ثَوْب وَحَصِير وَصُوف وَشَعْر وَغَيْر ذَلِكَ، وَسَوَاء نَبَتَ مِنْ الْأَرْض أَمْ لَا. وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: أَمَّا مَا نَبَتَ مِنْ الْأَرْض فَلَا كَرَاهَة فيه، وَأَمَّا الْبُسُط وَاللُّبُود وَغَيْرهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ نَبَات الْأَرْض فَتَصِحّ الصَّلَاة فيه بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ الْأَرْض أَفْضَل مِنْهُ إِلَّا لِحَاجَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْد أَوْ نَحْوهمَا، لِأَنَّ الصَّلَاة سِرّهَا التَّوَاضُع وَالْخُضُوع. وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم.

.كتاب المساجد ومواضع الصلاة:

.(باب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاة فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِد»):

808- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاة فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِد» فيه جَوَاز الصَّلَاة فِي جَمِيع الْمَوَاضِع إِلَّا مَا اِسْتَثْنَاهُ الشَّرْع مِنْ الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَغَيْرهَا مِنْ الْمَوَاضِع الَّتِي فيها النَّجَاسَة كَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَة، وَكَذَا مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى آخَر، فَمِنْ ذَلِكَ أَعْطَان الْإِبِل: وَسَيَأْتِي بَيَانهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَمِنْهُ قَارِعَة الطَّرِيق وَالْحَمَّام وَغَيْرهَا لِحَدِيثِ وَرَدَ فيها.
810- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَبُعِثْت إِلَى كُلّ أَحْمَر وَأَسْوَد» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِلَى النَّاس كَافَّة» قِيلَ: الْمُرَاد بِالْأَحْمَرِ: الْبِيض مِنْ الْعُجْم وَغَيْرهمْ، وَبِالْأَسْوَدِ: الْعَرَب؛ لِغَلَبَةِ السُّمْرَة فيهمْ وَغَيْرهمْ مِنْ السُّودَان.
وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْأَسْوَدِ: السُّودَان، وَبِالْأَحْمَرِ: مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْعَرَب وَغَيْرهمْ.
وَقِيلَ: الْأَحْمَر: الْإِنْس، وَالْأَسْوَد: الْجِنّ، وَالْجَمِيع صَحِيح، فَقَدْ بُعِثَ إِلَى جَمِيعهمْ.
811- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاس بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَة، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْض كُلّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتهَا لَنَا طَهُورًا، وَذَكَرَ خَصْلَة أُخْرَى» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمَذْكُور هُنَا خَصْلَتَانِ لِأَنَّ قَضِيَّة الْأَرْض فِي كَوْنهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا خَصْلَة وَاحِدَة، وَأَمَّا الثَّالِثَة فَمَحْذُوفَة هُنَا ذَكَرَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَة أَبِي مَالِك الرَّاوِي هُنَا فِي مُسْلِم قَالَ: «أُوتِيت هَذِهِ الْآيَات مِنْ خَوَاتِم الْبَقَرَة مِنْ كَنْز تَحْت الْعَرْش، وَلَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَد قَبْلِي وَلَا يُعْطَاهُنَّ أَحَد بَعْدِي».
812- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيت جَوَامِع الْكَلِم»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «بُعِثْت بِجَوَامِع الْكَلِم».
قَالَ الْهَرَوِيُّ: يَعْنِي بِهِ الْقُرْآن؛ جَمَعَ اللَّه تَعَالَى فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة مِنْهُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَة، وَكَلَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ بِالْجَوَامِعِ قَلِيل اللَّفْظ كَثِير الْمَعَانِي.
813- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيت بِمَفَاتِيح خَزَائِن الْأَرْض» هَذَا مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة؛ فَإِنَّهُ إِخْبَار بِفَتْحِ هَذِهِ الْبِلَاد لِأُمَّتِهِ، وَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْتُمْ تَنْثِلُونَهَا» يَعْنِي تَسْتَخْرِجُونَ مَا فيها يَعْنِي خَزَائِن الْأَرْض وَمَا فُتِحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدُّنْيَا.
قَوْله: (عَنْ الزُّبَيْدِيّ) هُوَ بِضَمِّ الزَّاي نِسْبَة إِلَى بَنِي زُبَيْد.

.باب ابْتِنَاءِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

816- قَوْله: (فَنَزَلَ فِي عُلْو الْمَدِينَة) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَوْله: (ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ) ضَبَطْنَاهُ أَمَرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْمِيم، وَأُمِرَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله: (أَرْسَلَ إِلَى مَلَأ بَنِي النَّجَّار) يَعْنِي أَشْرَافهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي النَّجَّار ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ» أَيْ بَايِعُونِي.
قَوْله: (قَالُوا: لَا، وَاَللَّه مَا نَطْلُب ثَمَنه إِلَّا إِلَى اللَّه) هَذَا الْحَدِيث كَذَا هُوَ مَشْهُور فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا، وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن سَعْد فِي الطَّبَقَات عَنْ الْوَاقِدِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَرَاهُ مِنْهُمْ بِعَشَرَةِ دَنَانِير، دَفَعَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله: «كَانَ فيه نَخْل وَقُبُور الْمُشْرِكِينَ وَخَرِب» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكَسْر الرَّاء، قَالَ الْقَاضِي: رُوِّينَاهُ هَكَذَا، وَرُوِّينَاهُ بِكَسْرِ الْخَاء وَفَتْح الرَّاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَهُوَ مَا تَخَرَّبَ مِنْ الْبِنَاء، قَالَ الْخَطَّابِيّ: لَعَلَّ صَوَابه (خُرَب) بِضَمِّ الْخَاء جَمْع خُرْبَة بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْخُرُوق فِي الْأَرْض، أَوْ لَعَلَّهُ حَرْف، قَالَ الْقَاضِي: لَا أَدْرِي مَا اِضْطَرَّهُ إِلَى هَذَا، يَعْنِي أَنَّ هَذَا تَكَلُّف لَا حَاجَة إِلَيْهِ، فَإِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي الرِّوَايَة صَحِيح الْمَعَانِي لَا حَاجَة إِلَى تَغْيِيره؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْل لِتَسْوِيَةِ الْأَرْض، أَمَرَ بِالْخُرَبِ فَرُفِعَتْ رُسُومهَا، وَسُوِّيَتْ مَوَاضِعهَا لِتَصِيرَ جَمِيع الْأَرْض مُسْتَوِيَة مَبْسُوطَة لِلْمُصَلِّينَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالْقُبُورِ.
قَوْله: «فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ» فيه: جَوَاز قَطْع الْأَشْجَار الْمُثْمِرَة لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَة لِاسْتِعْمَالِ خَشَبهَا، أَوْ لِيَغْرِس مَوْضِعهَا غَيْرهَا، أَوْ لِخَوْفِ سُقُوطهَا عَلَى شَيْء تُتْلِفهُ، أَوْ لِاِتِّخَاذِ مَوْضِعهَا مَسْجِدًا، أَوْ قَطْعهَا فِي بِلَاد الْكُفَّار إِذَا لَمْ يُرْجَ فَتْحهَا؛ لِأَنَّ فيه نِكَايَة وَغَيْظًا لَهُمْ، وَإِضْعَافًا وَإِرْغَامًا.
قَوْله: «وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ» فيه: جَوَاز نَبْش الْقُبُور الدَّارِسَة، وَأَنَّهُ إِذَا أُزِيلَ تُرَابهَا الْمُخْتَلَط بِصَدِيدِهِمْ وَدِمَائِهِمْ جَازَتْ الصَّلَاة فِي تِلْكَ الْأَرْض، وَجَوَاز اِتِّخَاذ مَوْضِعهَا مَسْجِدًا إِذَا طُيِّبَتْ أَرْضه. وَفيه أَنَّ الْأَرْض الَّتِي دُفِنَ فيها الْمَوْتَى وَدُرِسَتْ يَجُوز بَيْعهَا، وَأَنَّهَا بَاقِيَة عَلَى مِلْك صَاحِبهَا وَوَرَثَته مِنْ بَعْده إِذَا لَمْ تُوقَف.
قَوْله: «وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَة» الْعِضَادَة بِكَسْرِ الْعَيْن هِيَ جَانِب الْبَاب.
قَوْله: «وَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ» فيه جَوَاز الِارْتِجَاز وَقَوْل الْأَشْعَار فِي حَال الْأَعْمَال وَالْأَسْفَار وَنَحْوهَا؛ لِتَنْشِيطِ النُّفُوس وَتَسْهِيل الْأَعْمَال وَالْمَشْي عَلَيْهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعَرُوض وَالْأَدَب فِي الرَّجَز هَلْ هُوَ شِعْر أَمْ لَا؟ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشِّعْر لَا يَكُون شِعْرًا إِلَّا بِالْقَصْدِ، أَمَّا إِذَا جَرَى كَلَام مَوْزُون بِغَيْرِ قَصْد فَلَا يَكُون شِعْرًا. وَعَلَيْهِ يُحْمَل مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشِّعْر حَرَام عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
817- قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِض الْغَنَم» قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ مَبَارِكهَا وَمَوَاضِع مَبِيتهَا وَوَضْعهَا أَجْسَادهَا عَلَى الْأَرْض لِلِاسْتِرَاحَةِ قَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: وَيُقَال ذَلِكَ أَيْضًا لِكُلِّ دَابَّة مِنْ ذَوَات الْحَوَافِر وَالسِّبَاع. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث مَالِك وَأَحْمَد- رَحِمَهُمَا اللَّه- وَغَيْرهمَا مِمَّنْ يَقُول بِطَهَارَةِ بَوْل الْمَأْكُول وَرَوْثه، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْمَسْأَلَة فِي آخِر كِتَاب الطَّهَارَة، وَفيه: أَنَّهُ لَا كَرَاهَة فِي الصَّلَاة فِي مُرَاح الْغَنَم بِخِلَافِ أَعْطَان الْإِبِل وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة هُنَاكَ أَيْضًا.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد- يَعْنِي اِبْن الْحَارِث- حَدَّثَنَا شُعْبَة) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ يَحْيَى بْن يَحْيَى، وَفِي بَعْضهَا يَحْيَى فَقَطْ غَيْر مَنْسُوب، وَاَلَّذِي فِي الْأَطْرَاف لِخَلَفٍ أَنَّهُ يَحْيَى بْن حَبِيب، قِيلَ: وَهُوَ الصَّوَاب.