فصل: باب كَوْنِ الإِسْلاَمِ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَخَافَةِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ:

170- فيه قِصَّة ثَابِت بْن قَيْس بْن الشَّمَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَخَوْفه حِين نَزَلَتْ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَة، وَكَانَ ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ جَهِير الصَّوْت، وَكَانَ يَرْفَع صَوْته، وَكَانَ خَطِيب الْأَنْصَار وَلِذَلِكَ اِشْتَدَّ حَذَره أَكْثَر مِنْ غَيْره. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَنْقَبَة عَظِيمَة لِثَابِتٍ بْن قَيْس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّة. وَفيه أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ وَكَبِير الْقَوْم أَنْ يَتَفَقَّد أَصْحَابه وَيَسْأَل عَمَّنْ غَابَ مِنْهُمْ.
وَقَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا قَطَن بْن نُسَيْر قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا ثَابِت عَنْ أَنَس) فيه لَطِيفَة وَهُوَ أَنَّهُ إِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ. و(قَطَن) بِفَتْحِ الْقَاف وَالطَّاء الْمُهْمَلَة وَبِالنُّونِ و(نُسَيْر) بَنُونَ مَضْمُومَة ثُمَّ سِين مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ مُثَنَّاة مِنْ تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ رَاء.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (نُسَيْر) غَيْره.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول الْمَذْكُورَة فِي مُقَدِّمَة هَذَا الشَّرْح إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مُسْلِم رِوَايَته عَنْهُ وَجَوَابه. وَفِي الْإِسْنَاد الْآخَر (حَبَّان) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة وَهُوَ اِبْن هِلَال. وَكُلّ هَذَا الْإِسْنَاد أَيْضًا بَصْرِيُّونَ إِلَّا أَحْمَد بْن سَعِيد الدَّارِمِيّ فِي أَوَّله فَإِنَّهُ نَيْسَابُورِيٌّ.
وَقَوْل مُسْلِم: (حَدَّثَنَا هُرَيْم بْن عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعْت أَبِي يَذْكُر عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس) هَذَا الْإِسْنَاد أَيْضًا كُلّه بَصْرِيُّونَ حَقِيقَة. و(هُرَيْم) بِضَمِّ الْهَاء وَفَتْح الرَّاء وَإِسْكَان الْيَاء. وَقَوْله: (فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْن أَظْهُرِنَا رَجُلًا مِنْ أَهْل الْجَنَّة) هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض الْأُصُول رَجُلًا وَفِي بَعْضهَا (رَجُل)، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَكِلَاهُمَا صَحِيح الْأَوَّل عَلَى الْبَدَل مِنْ الْهَاء فِي نَرَاهُ، وَالثَّانِي عَلَى الِاسْتِئْنَاف.

.باب هَلْ يُؤَاخَذُ بِأَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ:

171- قَالَ مُسْلِم: (حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا جَرِير عَنْ مَنْصُور عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: «قَالَ أُنَاس: يَا رَسُول اللَّه أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: أَمَّا مَنْ أَحْسَن مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَام فَلَا يُؤَاخَذ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام») وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَالصَّحِيح فيه مَا قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُرَاد بِالْإِحْسَانِ هُنَا الدُّخُول فِي الْإِسْلَام بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِن جَمِيعًا، وَأَنْ يَكُون مُسْلِمًا حَقِيقِيًّا فَهَذَا يُغْفَر لَهُ مَا سَلَف فِي الْكُفْر بِنَصِّ الْقُرْآن الْعَزِيز وَالْحَدِيث الصَّحِيح: «الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْله» وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمُرَاد بِالْإِسَاءَةِ عَدَم الدُّخُول فِي الْإِسْلَام بِقَلْبِهِ بَلْ يَكُون مُنْقَادًا فِي الظَّاهِر لِلشَّهَادَتَيْنِ غَيْر مُعْتَقِد لِلْإِسْلَامِ بِقَلْبِهِ؛ فَهَذَا مُنَافِق بَاقٍ عَلَى كُفْره بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُؤَاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّة قَبْل إِظْهَار صُورَة الْإِسْلَام وَبِمَا عَمِلَ بَعْد إِظْهَارهَا لِأَنَّهُ مُسْتَمِرّ عَلَى كُفْره، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اِسْتِعْمَال الشَّرْع؛ يَقُولُونَ: حَسُنَ إِسْلَام فُلَان إِذَا دَخَلَ فيه حَقِيقَة بِإِخْلَاصٍ، وَسَاءَ إِسْلَامه أَوْ لَمْ يَحْسُن إِسْلَامه إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
172- قَالَ مُسْلِم: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيع قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُول اللَّه أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟» فَذَكَره. قَالَ مُسْلِم: حَدَّثَنَا مِنْجَاب أَخْبَرَنَا اِبْن مُسْهِر عَنْ الْأَعْمَش بِهَذَا الْإِسْنَاد. هَذِهِ الْأَسَانِيد الثَّلَاثَة كُلّهمْ كُوفِيُّونَ، وَهَذَا مِنْ أَطْرَف النَّفَائِس لِكَوْنِهَا أَسَانِيد مُتَلَاصِقَة مُسَلْسَلَة بِالْكُوفِيِّينَ. وَعَبْد اللَّه هُوَ اِبْن مَسْعُود. وَمِنْجَاب بِكَسْرِ الْمِيم.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَالصَّحِيح فيه مَا قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُرَاد بِالْإِحْسَانِ هُنَا الدُّخُول فِي الْإِسْلَام بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِن جَمِيعًا، وَأَنْ يَكُون مُسْلِمًا حَقِيقِيًّا فَهَذَا يُغْفَر لَهُ مَا سَلَف فِي الْكُفْر بِنَصِّ الْقُرْآن الْعَزِيز وَالْحَدِيث الصَّحِيح: «الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْله» وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمُرَاد بِالْإِسَاءَةِ عَدَم الدُّخُول فِي الْإِسْلَام بِقَلْبِهِ بَلْ يَكُون مُنْقَادًا فِي الظَّاهِر لِلشَّهَادَتَيْنِ غَيْر مُعْتَقِد لِلْإِسْلَامِ بِقَلْبِهِ؛ فَهَذَا مُنَافِق بَاقٍ عَلَى كُفْره بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَيُؤَاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّة قَبْل إِظْهَار صُورَة الْإِسْلَام وَبِمَا عَمِلَ بَعْد إِظْهَارهَا لِأَنَّهُ مُسْتَمِرّ عَلَى كُفْره، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اِسْتِعْمَال الشَّرْع يَقُولُونَ: حَسُنَ إِسْلَام فُلَان إِذَا دَخَلَ فيه حَقِيقَة بِإِخْلَاصٍ، وَسَاءَ إِسْلَامه أَوْ لَمْ يَحْسُن إِسْلَامه إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب كَوْنِ الإِسْلاَمِ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَكَذَا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ:

فيه حَدِيث عَمْرو بْن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقِصَّة وَفَاته، وَفيه حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي سَبَب نُزُول قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وَقَوْله تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}.
173- فَأَمَّا حَدِيث عَمْرو فَنَتَكَلَّم فِي إِسْنَاده وَمَتْنه ثُمَّ نَعُود إِلَى حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
أَمَّا إِسْنَاده فَفيه (مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى الْعَنَزِيّ) بِفَتْحِ الْعَيْن وَالنُّون، و(أَبُو مَعْن الرَّقَاشِيّ) بِفَتْحِ الرَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف اِسْمه زَيْد بْن يَزِيد، و(أَبُو عَاصِم) هُوَ النَّبِيل وَاسْمه الضَّحَّاك بْن مُخَلَّد، و(اِبْن شَمَاسَة الْمَهْرِيّ) وَشَمَاسَة بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة فِي أَوَّله بِفَتْحِهَا وَضَمّهَا ذَكَرهمَا صَاحِب الْمَطَالِع وَالْمِيم مُخَفَّفَة وَآخِره سِين مُهْمَلَة ثُمَّ هَاء وَاسْمه عَبْد الرَّحْمَن بْن شَمَاسَة بْن ذِئْب أَبُو عَمْرو، وَقِيلَ: عَبْد اللَّه و(الْمَهْرِيّ) بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْهَاء وَبِالرَّاءِ.
وَأَمَّا أَلْفَاظ مَتْنه فَقَوْله: (فِي سِيَاقَة الْمَوْت) هُوَ بِكَسْرِ السِّين أَيْ حَال حُضُور الْمَوْت.
قَوْله: (أَفْضَل مَا نُعِدُّ) هُوَ بِضَمِّ النُّون.
قَوْله: «كُنْت عَلَى أَطْبَاق ثَلَاث» أَيْ عَلَى أَحْوَال.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} فَلِهَذَا أَنَّثَ ثَلَاثًا إِرَادَة لِمَعْنَى أَطْبَاق.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَشْتَرِط بِمَاذَا» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِمَا بِإِثْبَاتِ الْبَاء فَيَجُوز أَنْ تَكُون زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ كَمَا فِي نَظَائِرهَا، وَيَجُوز أَنْ تَكُون دَخَلَتْ عَلَى مَعْنَى تَشْتَرِط وَهُوَ تَحْتَاط أَيْ تَحْتَاط بِمَاذَا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَام يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله» أَيْ يُسْقِطهُ وَيَمْحُو أَثَره.
قَوْله: (وَمَا كُنْت أُطِيق أَنْ أَمْلَأ عَيْنَيَّ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاء مِنْ عَيْنَيَّ عَلَى التَّثْنِيَة.
وَفِي قَوْله: (فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَة وَلَا نَار) اِمْتِثَال لِنَهْيِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَرِهَ الْعُلَمَاء ذَلِكَ. فَأَمَّا النِّيَاحَة فَحَرَام.
وَأَمَّا اِتِّبَاع الْمَيِّت بِالنَّارِ فَمَكْرُوهٌ لِلْحَدِيثِ. ثُمَّ قِيلَ: سَبَب الْكَرَاهَة كَوْنه مِنْ شِعَار الْجَاهِلِيَّة.
وَقَالَ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ: كَرِهَ تَفَاؤُلًا بِالنَّارِ.
قَوْله: (فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَاب سَنًّا) ضَبَطْنَاهُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِالْمُعْجَمَةِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَة.
قَالَ: وَهُوَ الصَّبّ، وَقِيلَ: بِالْمُهْمَلَةِ الصَّبّ فِي سُهُولَة، وَبِالْمُعْجَمَةِ التَّفْرِيق. وَفِي قَوْله (فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَاب) اِسْتِحْبَاب صَبّ التُّرَاب فِي الْقَبْر، وَأَنَّهُ لَا يُقْعَد عَلَى الْقَبْر بِخِلَافِ مَا يُعْمَل فِي بَعْض الْبِلَاد.
وَقَوْله: (قَدْر مَا يُنْحَر جَزُور) هِيَ بِفَتْحِ الْجِيم وَهِيَ مِنْ الْإِبِل.
أَمَّا أَحْكَامه فَفيه عِظَمُ مَوْقِع الْإِسْلَام وَالْهِجْرَة وَالْحَجّ، وَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهَا يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله مِنْ الْمَعَاصِي، وَفيه اِسْتِحْبَاب تَنْبِيه الْمُحْتَضَر عَلَى إِحْسَان ظَنّه بِاَللَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَذِكْر آيَات الرَّجَاء وَأَحَادِيث الْعَفْو عِنْده، وَتَبْشِيره بِمَا أَعَدَّهُ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ وَذِكْر حُسْن أَعْمَاله عِنْده لِيَحْسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَمُوت عَلَيْهِ. وَهَذَا الْأَدَب مُسْتَحَبّ بِالِاتِّفَاقِ. وَمَوْضِع الدَّلَالَة لَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيث قَوْل اِبْن عَمْرو لِأَبِيهِ: أَمَا بَشَّرَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ وَفيه مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِير رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَاله.
وَقَوْله: (ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْر مَا يُنْحَر جَزُور وَيُقْسَم لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِس بِكُمْ وَأَنْظُر مَاذَا أُرَاجِع بِهِ رُسُل رَبِّي) فيه فَوَائِد مِنْهَا إِثْبَات فِتْنَة الْقَبْر وَسُؤَال الْمَلَكَيْنِ وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ، وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب الْمُكْث عِنْد الْقَبْر بَعْد الدَّفْن لَحْظَة نَحْو مَا ذَكَر لِمَا ذَكَر. وَفيه أَنَّ الْمَيِّت يَسْمَع حِينَئِذٍ مَنْ حَوْلَ الْقَبْر، وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ لِجَوَازِ قِسْمَة اللَّحْم الْمُشْتَرَك وَنَحْوه مِنْ الْأَشْيَاء الرَّطْبَة كَالْعِنَبِ. وَفِي هَذَا خِلَاف لِأَصْحَابِنَا مَعْرُوف. قَالُوا: إِنْ قُلْنَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْقِسْمَة تَمْيِيز حَقٍّ لَيْسَتْ بِبَيْعٍ جَازَ، وَإِنْ قُلْنَا: بَيْعٌ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَجُوز لِلْجَهْلِ بِتَمَاثُلِهِ فِي حَال الْكَمَال فَيُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، وَالثَّانِي يَجُوز لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحَال، فَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوز فَطَرِيقهَا أَنْ يُجْعَل اللَّحْم وَشِبْهه قِسْمَيْنِ ثُمَّ يَبِيع أَحَدهمَا صَاحِبه نَصِيبه مِنْ أَحَد الْقِسْمَيْنِ بِدِرْهَمٍ مِثْلًا، ثُمَّ يَبِيع الْآخَر نَصِيبه مِنْ الْقِسْم الْآخَر لِصَاحِبِهِ بِذَلِكَ الدِّرْهَم الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَيَحْصُل لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِسْمٌ بِكَمَالِهِ. وَلَهَا طُرُق غَيْر هَذَا لَا حَاجَة إِلَى الْإِطَالَة بِهَا هُنَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
174- وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَمُرَاد مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآن الْعَزِيز جَاءَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّة مِنْ كَوْن الْإِسْلَام يَهْدِم مَا قَبْله.
وَقَوْله فيه: (وَلَوْ تُخْبِرُنَا بِأَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَة فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}) الْآيَة فيه مَحْذُوف وَهُوَ جَوَاب (لَوْ) أَيْ لَوْ تُخْبِرُنَا لَأَسْلَمْنَا وَحَذْفهَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآن الْعَزِيز وَكَلَام الْعَرَب كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} وَأَشْبَاهه وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {يَلْقَ أَثَامًا} فَقِيلَ: مَعْنَاهُ عُقُوبَة، وَقِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّم، وَقِيلَ: بِئْر فيها، وَقِيلَ: جَزَاء إِثْمه.

.باب بَيَانِ حُكْمِ عَمَلِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَهُ:

175- فيه حَدِيث حَكِيم بْن حِزَام رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْت أُمُورًا كُنْت أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة هَلْ لِي فيها مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْر» أَمَّا التَّحَنُّتُ فَهُوَ التَّعَبُّد كَمَا فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيث وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى بِالتَّبَرُّرِ وَهُوَ فِعْل الْبِرّ وَهُوَ الطَّاعَة.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: أَصْل التَّحَنُّثِ أَنْ يَفْعَل فِعْلًا يَخْرُج بِهِ مِنْ الْحِنْث وَهُوَ الْإِثْم، وَكَذَا تَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ وَتَهَجَّد أَيْ فَعَلَ فِعْلًا يَخْرُج بِهِ عَنْ الْإِثْم وَالْحَرَج وَالْهُجُود.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْر» فَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: ظَاهِره خِلَاف مَا تَقْتَضِيه الْأُصُول لِأَنَّ الْكَافِر لَا يَصِحّ مِنْهُ التَّقَرُّب فَلَا يُثَاب عَلَى طَاعَته، وَيَصِحّ أَنْ يَكُون مُطِيعًا غَيْر مُتَقَرِّب كَنَظِيرِهِ فِي الْإِيمَان فَإِنَّهُ مُطِيع فيه مِنْ حَيْثُ كَانَ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ، وَالطَّاعَة عِنْدنَا مُوَافَقَة الْأَمْر، وَلَكِنَّهُ لَا يَكُون مُتَقَرِّبًا لِأَنَّ مِنْ شَرْط الْمُتَقَرِّب أَنْ يَكُون عَارِفًا بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي حِين نَظَرِهِ لَمْ يَحْصُل لَهُ الْعِلْم بِاَللَّهِ تَعَالَى بَعْدُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث مُتَأَوَّل وَهُوَ يَحْتَمِل وُجُوهًا أَحَدهَا أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ اِكْتَسَبْت طِبَاعًا جَمِيلَة وَأَنْتَ تَنْتَفِع بِتِلْكَ الطِّبَاع فِي الْإِسْلَام وَتَكُون تِلْك الْعَادَة تَمْهِيدًا لَك وَمَعُونَة عَلَى فِعْل الْخَيْر. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ اِكْتَسَبْت بِذَلِكَ ثَنَاء جَمِيلًا فَهُوَ بَاقٍ عَلَيْك فِي الْإِسْلَام، وَالثَّالِث أَنَّهُ لَا يَبْعُد أَنْ يَزْدَاد فِي حَسَنَاته الَّتِي يَفْعَلهَا فِي الْإِسْلَام وَيَكْثُر أَجْره لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ الْأَفْعَال الْجَمِيلَة.
وَقَدْ قَالُوا فِي الْكَافِر إِذَا كَانَ يَفْعَل الْخَيْر فَإِنَّهُ يُخَفَّف عَنْهُ بِهِ، فَلَا يَبْعُد أَنْ يُزَاد هَذَا فِي الْأُجُور. هَذَا آخِر كَلَام الْمَازِرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِبَرَكَةِ مَا سَبَقَ لَك مِنْ خَيْر هَدَاك اللَّه تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَام، وَأَنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَيْر فِي أَوَّل أَمْره فَهُوَ دَلِيل عَلَى سَعَادَة آخِره، وَحُسْن عَاقِبَته. هَذَا كَلَام الْقَاضِي وَذَهَبَ اِبْن بَطَّالٍ وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ الْحَدِيث عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِر وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَام يُثَاب عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْر فِي حَال الْكُفْر، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِر فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّه تَعَالَى لَهُ كُلّ حَسَنَة زَلَفهَا، وَمَحَا عَنْهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْف، وَالسَّيِّئَة بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَز اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرِيب حَدِيث مَالِك، وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ تِسْع طُرُق، وَثَبَتَ فيها كُلّهَا أَنَّ الْكَافِر إِذَا حَسُنَ إِسْلَامه يُكْتَب لَهُ فِي الْإِسْلَام كُلّ حَسَنَة عَمِلَهَا فِي الشِّرْك.
قَالَ اِبْن بَطَّال رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى بَعْد ذِكْره الْحَدِيث: وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَفَضَّل عَلَى عِبَاده بِمَا شَاءَ لَا اِعْتِرَاض لِأَحَدٍ عَلَيْهِ قَالَ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْن حِزَام رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْر». وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل الْفُقَهَاء: «لَا يَصِحّ مِنْ الْكَافِر عِبَادَة، وَلَوْ أَسْلَمَ لَمْ يُعْتَدّ بِهَا»: فَمُرَادهمْ أَنَّهُ لَا يُعْتَدّ لَهُ بِهَا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فيه تَعَرُّض لِثَوَابِ الْآخِرَة. فَإِنْ أَقْدَمَ قَائِل عَلَى التَّصْرِيح بِأَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ لَا يُثَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة رُدَّ قَوْله بِهَذِهِ السُّنَّة الصَّحِيحَة، وَقَدْ يُعْتَدّ بِبَعْضِ أَفْعَال الْكُفَّار فِي أَحْكَام الدُّنْيَا؛ فَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاء: إِذَا وَجَبَ عَلَى الْكَافِر كَفَّارَة ظِهَار أَوْ غَيْرهَا فَكَفَّرَ فِي حَال كُفْره أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَجِب عَلَيْهِ إِعَادَتهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه فِيمَا إِذَا أَجْنَبَ وَاغْتَسَلَ فِي حَال كُفْره ثُمَّ أَسْلَمَ هَلْ تَجِب عَلَيْهِ إِعَادَة الْغُسْل أَمْ لَا؟ وَبَالَغَ بَعْض أَصْحَابنَا فَقَالَ يَصِحّ مِنْ كُلّ كَافِر كُلّ طَهَارَة مِنْ غُسْل وَوُضُوء وَتَيَمُّم، وَإِذَا أَسْلَمَ صَلَّى بِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
176- فيه صَالِح عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُرْوَة وَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ رَوَى بَعْضهمْ عَنْ بَعْض.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثَال ذَلِكَ.
وَفيه حَكِيم بْن حِزَام الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمِنْ مَنَاقِبه أَنَّهُ وُلِدَ فِي الْكَعْبَة.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَلَا يُعْرَف أَحَد شَارَكَهُ فِي هَذَا.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَمِنْ طُرَف أَخْبَاره أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ سَنَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَام، وَأَسْلَمَ عَام الْفَتْح، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَة أَرْبَع وَخَمْسِينَ، فَيَكُون الْمُرَاد بِالْإِسْلَامِ مِنْ حِين ظُهُوره وَانْتِشَاره. وَاَللَّه أَعْلَم.
177- قَوْله: «أَعْتَقَ مِائَة رَقَبَة وَحَمَلَ عَلَى مِائَة بَعِيرٍ» مَعْنَاهُ تَصَدَّقَ بِهَا.

.باب صِدْقِ الإِيمَانِ وَإِخْلاَصِهِ:

178- فيه قَوْل عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}» هَكَذَا وَقَعَ الْحَدِيث هُنَا فِي صَحِيح مُسْلِم. وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَة قَالَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}». فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا تُبَيِّن الْأُخْرَى فَيَكُون لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَأَعْلَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الظُّلْم الْمُطْلَق هُنَاكَ الْمُرَاد بِهِ هَذَا الْمُقَيَّد، وَهُوَ الشِّرْك، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَيْسَ الظُّلْم عَلَى إِطْلَاقه وَعُمُومه كَمَا ظَنَنْتُمْ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْك كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ. فَالصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ حَمَلُوا الظُّلْم عَلَى عُمُومه، وَالْمُتَبَادَر إِلَى الْأَفْهَام مِنْهُ وَهُوَ وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه، وَهُوَ مُخَالَفَة الشَّرْع، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ أَعْلَمَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُرَادِ بِهَذَا الظُّلْم.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا شَقَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ظَاهِر الظُّلْم الِافْتِيَات بِحُقُوقِ النَّاس، وَمَا ظَلَمُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ اِرْتِكَاب الْمَعَاصِي، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَاد مَعْنَاهُ الظَّاهِر، وَأَصْل الظُّلْم وَضْع الشَّيْء فِي غَيْر مَوْضِعه. وَمَنْ جَعَلَ الْعِبَادَة لِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ أَظْلَم الظَّالِمِينَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جُمَل مِنْ الْعِلْم مِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَكُون كُفْرًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِالْإِسْنَادِ فَقَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس وَأَبُو مُعَاوِيَة وَوَكِيع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ عَبْد اللَّه) هَذَا إِسْنَاد رِجَاله كُوفِيُّونَ كُلّهمْ وَحُفَّاظ مُتْقِنُونَ فِي نِهَايَة الْجَلَالَة، وَفيهمْ ثَلَاثَة أَئِمَّة جِلَّة فُقَهَاء تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَعَلْقَمَة بْن قَيْس، وَقَلَّ اِجْتِمَاع مِثْل هَذَا الَّذِي اِجْتَمَعَ فِي هَذَا الْإِسْنَاد. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفيه وَفيه (عَلِيّ بْن خَشْرَم) بِفَتْحِ الْخَاء وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَتَيْنِ وَفَتْح الرَّاء وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْمُقَدِّمَة.
وَفيه (مِنْجَاب) بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان النُّون وَبِالْجِيمِ وَآخِره بَاء مُوَحَّدَة.
وَفيه (قَالَ اِبْن إِدْرِيس حَدَّثَنِيهِ أَوَّلًا أَبِي عَنْ أَبَانِ بْن تَغْلِب عَنْ الْأَعْمَش ثُمَّ سَمِعْته مِنْهُ) هَذَا تَنْبِيه مِنْهُ عَلَى عُلُوِّ إِسْنَادِهِ هُنَا فَإِنَّهُ نَقَصَ عَنْهُ رَجُلَانِ وَسَمِعَهُ، مِنْ الْأَعْمَش وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْل هَذَا فِي بَاب الدِّين النَّصِيحَة، وَتَقَدَّمَ الْخِلَاف فِي صَرْف (أَبَانٍ) فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب وَأَنَّ الْمُخْتَار عِنْد الْمُحَقِّقِينَ صَرْفه. و(تَغْلِب) بِكَسْرِ اللَّام غَيْر مَصْرُوف.
وَفيه لُقْمَان الْحَكِيم وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي نُبُوَّته قَالَ الْإِمَام أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إِلَّا عِكْرِمَة فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَانَ نَبِيًّا وَتَفَرَّدَ بِهَذَا الْقَوْل.
وَأَمَّا اِبْن لُقْمَان الَّذِي قَالَ لَهُ: لَا تُشْرِك بِاَللَّهِ فَقِيلَ: اِسْمه أَنْعَم، وَيُقَال مِشْكَم. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}:

أَمَّا فِقْه أَحَادِيث الْبَاب وَمَعَانِيهَا فَكَثِيرَة وَأَنَا أَخْتَصِر مَقَاصِدهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فَقَوْله: لَمَّا نَزَلَتْ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَالُوا: لَا نُطِيقهَا.
قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُحْتَمَل أَنْ يَكُون إِشْفَاقهمْ وَقَوْلهمْ: لَا نُطِيقهَا لِكَوْنِهِمْ اِعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمَا لَا قُدْرَة لَهُمْ عَلَى دَفْعه مِنْ الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تُكْتَسَب، فَلِهَذَا رَأَوْهُ مِنْ قِبَل مَا لَا يُطَاق. وَعِنْدَنَا أَنَّ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عَقْلًا، وَاخْتُلِفَ هَلْ وَقَعَ التَّعَبُّد بِهِ فِي الشَّرِيعَة أَمْ لَا؟ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّه تَعَالَى) فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فَقَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: فِي تَسْمِيَة هَذَا نَسْخًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون نَسْخًا إِذَا تَعَذَّرَ الْبِنَاء، وَلَمْ يُمْكِن رَدّ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى.
وَقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} عُمُوم يَصِحّ أَنْ يَشْتَمِل عَلَى مَا يُمْلَك مِنْ الْخَوَاطِر دُونَ مَا لَا يُمْلَك فَتَكُون الْآيَة الْأُخْرَى مُخَصِّصَة إِلَّا أَنْ يَكُون قَدْ فَهِمَتْ الصَّحَابَة بِقَرِينَةِ الْحَال أَنَّهُ تَقَرَّرَ تَعَبُّدهمْ بِمَا لَا يُمْلَك مِنْ الْخَوَاطِر، فَيَكُون حِينَئِذٍ نَسْخًا لِأَنَّهُ رَفْع ثَابِت مُسْتَقِرّ هَذَا كَلَام الْمَازِرِيِّ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: لَا وَجْه لِإِبْعَادِ النَّسْخ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة فَإِنَّ رَاوِيَهَا قَدْ رَوَى فيها النَّسْخ، وَنَصَّ عَلَيْهِ لَفْظًا، وَمَعْنًى، بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالسَّمْع وَالطَّاعَة لَمَّا أَعْلَمَهُمْ اللَّه تَعَالَى مِنْ مُؤَاخَذَته إِيَّاهُمْ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ وَأَلْقَى اللَّه تَعَالَى الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ وَذَلَّتْ بِالِاسْتِسْلَامِ لِذَلِكَ أَلْسِنَتهمْ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيث، رَفَعَ الْحَرَج عَنْهُمْ، وَنَسَخَ هَذَا التَّكْلِيف. وَطَرِيق عِلْم النَّسْخ إِنَّمَا هُوَ بِالْخَبَرِ عَنْهُ، أَوْ بِالتَّارِيخِ؛ وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ فِي هَذِهِ الْآيَة.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَوْل الْمَازِرِيِّ إِنَّمَا يَكُون نَسْخًا إِذَا تَعَذَّرَ الْبِنَاء كَلَام صَحِيح فِيمَا لَمْ يَرِد فيه النَّصّ بِالنَّسْخِ، فَإِنْ وَرَدَ وَقَفْنَا عِنْده. لَكِنْ اِخْتَلَفَ أَصْحَاب الْأُصُول فِي قَوْل الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (نُسِخَ كَذَا بِكَذَا) هَلْ يَكُون حُجَّة يَثْبُت بِهَا النَّسْخ أَمْ لَا يَثْبُت بِمُجَرَّدِ قَوْله؟ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْر وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون قَوْلُهُ هَذَا عَنْ اِجْتِهَادِهِ وَتَأْوِيلِهِ، فَلَا يَكُون نَسْخًا حَتَّى يُنْقَل ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة فَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَمَنْ بَعْدهمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فيها مِنْ النَّسْخ، وَأَنْكَرَهُ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ: لِأَنَّهُ خَبَر وَلَا يَدْخُل النَّسْخ الْأَخْبَار، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ هَذَا الْمُتَأَخِّر؛ فَإِنَّهُ- وَإِنْ كَانَ خَبَرًا- فَهُوَ خَبَر عَنْ تَكْلِيف وَمُؤَاخَذَة بِمَا تُكِنّ النُّفُوس وَالتَّعَبُّد بِمَا أَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث بِذَلِكَ، وَأَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَهَذِهِ أَقْوَال وَأَعْمَال اللِّسَان وَالْقَلْب، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِرَفْعِ الْحَرَج وَالْمُؤَاخَذَة. وَرُوِيَ عَنْ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى النَّسْخ هُنَا إِزَالَة مَا وَقَعَ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الشِّدَّة وَالْفَرَق مِنْ هَذَا الْأَمْر فَأُزِيلَ عَنْهُمْ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسهمْ. وَهَذَا الْقَائِل يَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُلْزَمُوا مَا لَا يُطِيقُونَ، لَكِنْ مَا يَشُقّ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّحَفُّظ مِنْ خَوَاطِر النَّفْس، وَإِخْلَاص الْبَاطِن، فَأَشْفَقُوا أَنْ يُكَلَّفُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَأُزِيلَ عَنْهُمْ الْإِشْفَاق، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا إِلَّا وُسْعهمْ، عَلَى هَذَا لَا حُجَّة فيه لِجَوَازِ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق؛ إِذْ لَيْسَ فيه نَصّ عَلَى تَكْلِيفه، وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ بِاسْتِعَاذَتِهِمْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وَلَا يَسْتَعِيذُونَ إِلَّا مِمَّا يَجُوز التَّكْلِيف بِهِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضهمْ بِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مَا لَا نُطِيقهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ. وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة فِي إِخْفَاء الْيَقِين وَالشَّكّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَيَغْفِر لِلْمُؤْمِنَيْنِ، وَيُعَذِّب الْكَافِرِينَ. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه.
وَذَكَرَ الْإِمَام الْوَاحِدِيّ رَحِمَهُ اللَّه الِاخْتِلَاف فِي نَسْخ الْآيَة ثُمَّ قَالَ: وَالْمُحَقِّقُونَ يَخْتَارُونَ أَنْ تَكُون الْآيَة مُحْكَمَة غَيْر مَنْسُوخَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي أَحَادِيث الْبَاب بَيَان مَا أَكْرَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة زَادَهَا اللَّه شَرَفًا وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ مِمَّا كَانَ عَلَى غَيْرهمْ مِنْ الْإِصْر وَهُوَ الثِّقْل وَالْمَشَاقّ، وَبَيَان مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسَارَعَة إِلَى الِانْقِيَاد لِأَحْكَامِ الشَّرْع.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج: هَذَا الدُّعَاء الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إِلَى آخِر السُّورَة أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُ فِي كِتَابه لِيَكُونَ دُعَاء مَنْ يَأْتِي بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، فَهُوَ مِنْ الدُّعَاء الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظ، وَيُدْعَى بِهِ كَثِيرًا.
قَالَ الزَّجَّاج: وَقَوْله تَعَالَى: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافِرِينَ} أَيْ أَظْهِرْنَا عَلَيْهِمْ فِي الْحُجَّة وَالْحَرْب وَإِظْهَار الدِّين. وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب الصَّلَاة مِنْ هَذَا الْكِتَاب الصَّحِيح أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِر سُورَة الْبَقَرَة فِي لَيْلَة كَفَتَاهُ» قِيلَ: كَفَتَاهُ مِنْ قِيَام تِلْكَ اللَّيْلَة.
وَقِيلَ: كَفَتَاهُ الْمَكْرُوه فيها. وَاَللَّه أَعْلَم.
179- أَمَّا أَسَانِيد الْبَاب وَلُغَاتُه فَفيه (أُمَيَّة بْن بِسْطَام الْعَيْشِيّ) فَبِسْطَام بِكَسْرِ الْبَاء عَلَى الْمَشْهُور وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع أَيْضًا فَتْحهَا، وَالْعَيْشِيّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَقَدْ قَدَّمْت ضَبْط هَذَا كُلّه مَعَ بَيَان الْخِلَاف فِي صَرْف بِسْطَام.
وَفيه قَوْله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ» إِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَة قَالَ لِطُولِ الْكَلَام فَإِنَّ أَصْل الْكَلَام لَمَّا نَزَلَتْ اِشْتَدَّ فَلَمَّا طَالَ حَسُنَ إِعَادَة لَفْظَة قَالَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْل هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذَا الْكِتَاب وَذَكَرْت ذَلِكَ مُبَيَّنًا وَأَنَّهُ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآن الْعَزِيز فِي قَوْله تَعَالَى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فَأَعَادَ (أَنَّكُمْ) وَقَوْله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} إِلَى قَوْله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفيه قَوْله تَعَالَى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} لَا نُفَرِّق بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَان فَنُؤْمِن بِبَعْضِهِمْ، وَنَكْفُر بِبَعْضٍ كَمَا فَعَلَهُ أَهْل الْكِتَابَيْنِ، بَلْ نُؤْمِن بِجَمِيعِهِمْ. و(أَحَد) فِي هَذَا الْمَوْضِع بِمَعْنَى الْجَمْع وَلِهَذَا دَخَلَتْ فيه (بَيْنَ). وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وَفيه قَوْله: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِثْرِهَا) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالثَّاء وَبِكَسْرِ الْهَمْزَة مَعَ إِسْكَان الثَّاء لُغَتَانِ.
180- سبق شرحه بالباب.

.باب تَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرِ بِالْقَلْبِ إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ:

181- وَفيه (مُحَمَّد بْن عُبَيْد الْغُبَرِيّ) بِضَمِّ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْبَاء الْمُوَحَّدَة مَنْسُوب إِلَى بَنِي غُبَر وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانه فِي الْمُقَدِّمَة.
وَفيه (أَبُو عَوَانَة) وَاسْمه الْوَضَّاح بْن عَبْد اللَّه.
وَفيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا» ضَبَطَ الْعُلَمَاء أَنْفُسهَا بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع وَهُمَا ظَاهِرَانِ إِلَّا أَنَّ النَّصْب أَظْهَر وَأَشْهَر.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض أَنْفُسهَا بِالنَّصْبِ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله: (إِنَّ أَحَدنَا يُحَدِّث نَفْسه) قَالَ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَأَهْل اللُّغَة، يَقُولُونَ أَنْفُسهَا بِالرَّفْعِ يُرِيدُونَ بِغَيْرِ اِخْتِيَارهَا، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَنَعْلَم مَا تُوَسْوِس بِهِ نَفْسُه}. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَة، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَة فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «فِي الْحَسَنَة إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْف» وَفِي الْآخَر: «فِي السَّيِّئَة إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» فَقَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَذْهَب الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الطَّيِّب أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَة بِقَلْبِهِ، وَوَطَّنَ نَفْسه عَلَيْهَا، أَثِمَ فِي اِعْتِقَاده وَعَزْمه، وَيُحْمَل مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث وَأَمْثَالهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُوَطِّن نَفْسه عَلَى الْمَعْصِيَة، وَإِنَّمَا مَرَّ ذَلِكَ بِفِكْرِهِ مِنْ غَيْر اِسْتِقْرَار، وَيُسَمَّى هَذَا هَمًّا وَيُفَرَّق بَيْنَ الْهَمّ وَالْعَزْم.
هَذَا مَذْهَب الْقَاضِي أَبِي بَكْر، وَخَالَفَهُ كَثِير مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيث.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: عَامَّة السَّلَف وَأَهْل الْعِلْم مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْر لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّة عَلَى الْمُؤَاخَذَة بِأَعْمَالِ الْقُلُوب، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْعَزْم يُكْتَب سَيِّئَة وَلَيْسَتْ السَّيِّئَة الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْر خَوْف اللَّه تَعَالَى وَالْإِنَابَة. لَكِنَّ نَفْس الْإِصْرَار وَالْعَزْم مَعْصِيَة فَتُكْتَب مَعْصِيَة فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَة ثَانِيَة، فَإِنْ تَرَكَهَا خَشْيَة لِلَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ حَسَنَة كَمَا فِي الْحَدِيث: «إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» فَصَارَ تَرْكه لَهَا لِخَوْفِ اللَّه تَعَالَى وَمُجَاهَدَته نَفْسه الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانه هَوَاهُ حَسَنَة. فَأَمَّا الْهَمّ الَّذِي لَا يُكْتَب فَهِيَ الْخَوَاطِر الَّتِي لَا تُوَطَّن النَّفْس عَلَيْهَا، وَلَا يَصْحَبهَا عَقْد وَلَا نِيَّة وَعَزْم.
وَذَكَرَ بَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْف اللَّه تَعَالَى، بَلْ لِخَوْفِ النَّاس. هَلْ تُكْتَب حَسَنَة؟ قَالَ: لَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكهَا الْحَيَاء. وَهَذَا ضَعِيف لَا وَجْه لَهُ. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِر حَسَن لَا مَزِيد عَلَيْهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوص الشَّرْع بِالْمُؤَاخَذَةِ بِعَزْمِ الْقَلْب الْمُسْتَقِرّ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى: {اِجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَالْآيَات فِي هَذَا كَثِيرَة.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوص الشَّرْع وَإِجْمَاع الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الْحَسَد وَاحْتِقَار الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَة الْمَكْرُوه بِهِمْ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال الْقُلُوب وَعَزْمهَا وَاَللَّه أَعْلَم.