فصل: باب مَا رُوِيَ فِيمَنْ نَامَ اللَّيْلَ أَجْمَعَ حَتَّى أَصْبَحَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.بَاب اِسْتِحْبَاب تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي صَلَاة اللَّيْل:

فيه حَدِيث حُذَيْفَة وَحَدِيث اِبْن مَسْعُود.
1291- قَوْله: (حَدَّثَنَا الْأَعْمَش عَنْ سَعْد بْن عُبَيْدَة عَنْ الْمُسْتَوْرِد بْن الْأَحْنَف عَنْ صِلَة بْن زُفَر عَنْ حُذَيْفَة) هَذَا الْإِسْنَاد فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض وَهُمْ الْأَعْمَش وَالثَّلَاثَة بَعْده.
قَوْله: «صَلَّيْت وَرَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات لَيْلَة فَافْتَتَحَ الْبَقَرَة فَقُلْت: يَرْكَع عِنْد الْمِائَة، ثُمَّ مَضَى، قُلْت: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَة فَمَضَى، فَقُلْت: يَرْكَع بِهَا، ثُمَّ اِفْتَتَحَ النِّسَاء فَقَرَأَهَا. ثُمَّ اِفْتَتَحَ آلَ عِمْرَان فَقَرَأَهَا يَقْرَأ، مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيح سَبَّحَ» إِلَى آخِره...
قَوْله: «فَقُلْت يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَة» مَعْنَاهُ: ظَنَنْت أَنَّهُ يُسَلِّم بِهَا فَيَقْسِمهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَرَادَ بِالرَّكْعَةِ الصَّلَاة بِكَمَالِهَا وَهِيَ رَكْعَتَانِ، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل فَيَنْتَظِم الْكَلَام بَعْده. وَعَلَى هَذَا فَقَوْله: «ثُمَّ مَضَى» مَعْنَاهُ: قَرَأَ مُعْظَمهَا بِحَيْثُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ لَا يَرْكَع الرَّكْعَة الْأُولَى إِلَّا فِي آخِرَة الْبَقَرَة، فَحِينَئِذٍ قُلْت: يَرْكَع الرَّكْعَة الْأُولَى بِهَا، فَجَاوَزَ وَافْتَتَحَ النِّسَاء.
وَقَوْله: «ثُمَّ اِفْتَتَحَ النِّسَاء فَقَرَأَهَا ثُمَّ اِفْتَتَحَ آلَ عِمْرَان».
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فيه دَلِيل لِمَنْ يَقُول أَنَّ تَرْتِيب السُّوَر اِجْتِهَاد مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِين كَتَبُوا الْمُصْحَف، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تَرْتِيب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَكَّلَهُ إِلَى أُمَّته بَعْده.
قَالَ: وَهَذَا قَوْل مَالِك وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ، قَالَ اِبْن الْبَاقِلَّانِيّ: هُوَ أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ مَعَ اِحْتِمَالهمَا قَالَ: وَاَلَّذِي نَقُولهُ: إِنَّ تَرْتِيب السُّوَر لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْكِتَابَة وَلَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي الدَّرْس وَلَا فِي التَّلْقِين وَالتَّعْلِيم، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، وَلَا حَدٌّ تَحْرُمُ مُخَالَفَته، وَلِذَلِكَ اِخْتَلَفَ تَرْتِيب الْمَصَاحِف قَبْل مُصْحَف عُثْمَان قَالَ: وَاسْتَجَازَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّة بَعْده فِي جَمِيع الْأَعْصَار تَرْك تَرْتِيب السُّوَر فِي الصَّلَاة وَالدَّرْس وَالتَّلْقِين.
قَالَ: وَأَمَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول مِنْ أَهْل الْعِلْم: إِنَّ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّدَهُ لَهُمْ كَمَا اِسْتَقَرَّ فِي مُصْحَف عُثْمَان، وَإِنَّمَا اِخْتِلَاف الْمَصَاحِف قَبْل أَنْ يَبْلُغهُمْ التَّوْقِيف وَالْعَرْض الْأَخِير، فَيَتَأَوَّل قِرَاءَتَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاء أَوَّلًا ثُمَّ آلَ عِمْرَان هُنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْل التَّوْقِيف وَالتَّرْتِيب، وَكَانَتْ هَاتَانِ السُّورَتَانِ هَكَذَا فِي مُصْحَف أُبَيّ، قَالَ: وَلَا خِلَاف أَنَّهُ يَجُوز لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة سُورَة قَبْل الَّتِي قَرَأَهَا فِي الْأُولَى، وَإِنَّمَا يُكْرَه ذَلِكَ فِي رَكْعَة وَلِمِنْ يَتْلُو فِي غَيْر صَلَاة، قَالَ: وَقَدْ أَبَاحَهُ بَعْضهمْ وَتَأْوِيل نَهْي السَّلَف عَنْ قِرَاءَة الْقُرْآن مَنْكُوسًا عَلَى مَنْ يَقْرَأ مِنْ آخِر السُّورَة إِلَى أَوَّلهَا.
قَالَ: وَلَا خِلَاف أَنَّ تَرْتِيب آيَات كُلّ سُورَة بِتَوْقِيفٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصْحَف، وَهَكَذَا نَقَلَتْهُ الْأُمَّة عَنْ نَبِيّهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض، وَاَللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «يَقْرَأ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيح سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ» فيه: اِسْتِحْبَاب هَذِهِ الْأُمُور لِكُلِّ قَارِئ فِي الصَّلَاة وَغَيْرهَا، وَمَذْهَبنَا اِسْتِحْبَابه لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُوم وَالْمُنْفَرِد.
قَوْله: «ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُول سُبْحَان رَبِّي الْعَظِيم وَقَالَ فِي السُّجُود: سُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى» فيه: اِسْتِحْبَاب تَكْرِير سُبْحَان رَبِّي الْعَظِيم فِي الرُّكُوع وَسُبْحَان رَبِّي الْأَعْلَى فِي السُّجُود، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور وَقَالَ مَالِك: لَا يَتَعَيَّن ذِكْر الِاسْتِحْبَاب.
قَوْله: «ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ» هَذَا فيه دَلِيل لِجَوَازِ تَطْوِيل الِاعْتِدَال عَنْ الرُّكُوع، وَأَصْحَابنَا يَقُولُونَ: وَلَا يَجُوز وَيُبْطِلُونَ بِهِ الصَّلَاة.
1292- قَوْله: (حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة وَإِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَنْ جَرِير عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه يَعْنِي اِبْن مَسْعُود) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ إِلَّا إِسْحَاق.
قَوْله: «صَلَّيْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْت بِأَمْرِ سُوء ثُمَّ قَالَ: هَمَمْت بِأَنْ أَجْلِس وَأَدَعهُ» فيه: أَنَّهُ يَنْبَغِي الْأَدَب مَعَ الْأَئِمَّة وَالْكِبَار، وَأَلَّا يُخَالَفُوا بِفِعْلٍ وَلَا قَوْل مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَقَّ عَلَى الْمُقْتَدِي فِي فَرِيضَة أَوْ نَافِلَة الْقِيَام وَعَجَزَ عَنْهُ جَازَ لَهُ الْقُعُود، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْعُد اِبْن مَسْعُود لِلتَّأَدُّبِ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفيه: جَوَاز الِاقْتِدَاء فِي غَيْر الْمَكْتُوبَات، وَفيه: اِسْتِحْبَاب تَطْوِيل صَلَاة اللَّيْل.

.باب مَا رُوِيَ فِيمَنْ نَامَ اللَّيْلَ أَجْمَعَ حَتَّى أَصْبَحَ:

1293- قَوْله: (حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة وَإِسْحَاق عَنْ جَرِير عَنْ مَنْصُور عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه) يَعْنِي اِبْن مَسْعُود، هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه كُوفِيُّونَ إِلَّا إِسْحَاق.
قَوْله: «ذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل نَامَ لَيْلَة حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ: ذَاكَ رَجُل بَالَ الشَّيْطَان فِي أُذُنه أَوْ قَالَ: فِي أُذُنَيْهِ» اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ: أَفْسَدَهُ، يُقَال: بَالَ فِي كَذَا إِذَا أَفْسَدَهُ، وَقَالَ الْمُهَلَّب وَالطَّحَاوِيُّ وَآخَرُونَ: هُوَ اِسْتِعَارَة وَإِشَارَة إِلَى اِنْقِيَاده لِلشَّيْطَانِ وَتَحَكُّمه فيه وَعَقْده عَلَى قَافِيَة رَأْسه: عَلَيْك لَيْل طَوِيل وَإِذْلَاله، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اِسْتَخَفَّ بِهِ وَاحْتَقَرَهُ وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِ، يُقَال لِمَنْ اِسْتَخَفَّ بِإِنْسَانٍ وَخَدَعَهُ: بَالَ فِي أُذُنه، وَأَصْل ذَلِكَ فِي دَابَّة تَفْعَل ذَلِكَ بِالْأَسَدِ إِذْلَالًا لَهُ، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: مَعْنَاهُ ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَسَخِرَ مِنْهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره قَالَ: وَخَصَّ الْأُذُن؛ لِأَنَّهَا حَاسَّة الِانْتِبَاه.
1294- قَوْله: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَة بْن سَعِيد حَدَّثَنَا ليث عَنْ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن حُسَيْن أَنَّ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ أَنَّ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بِضَمِّ الْحَاء عَلَى التَّصْغِير، وَكَذَا فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا الَّتِي رَأَيْتهَا مَعَ كَثْرَتهَا، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَاب الِاسْتِدْرَاكَات وَقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم أَنَّ الْحَسَن بِفَتْحِ الْحَاء عَلَى التَّكْبِير، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ قُتَيْبَة أَنَّ الْحَسَن بْن عَلِيّ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيم بْن نَصْر النَّهَاوَنْدِيّ وَالْجُعْفِيّ، وَخَالَفَهُمْ النَّسَائِيُّ وَالسَّرَّاج وَمُوسَى بْن هَارُون فَرَوَوْهُ عَنْ قُتَيْبَة أَنَّ الْحُسَيْن يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو صَالِح وَحَمْزَة بْن زِيَاد وَالْوَلِيد بْن صَالِح عَنْ لَيْث فَقَالُوا فيه: (الْحَسَن)، وَقَالَ يُونُس الْمُؤَدِّب وَأَبُو النَّضْر وَغَيْرهمَا: عَنْ لَيْث: (الْحُسَيْن) يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَاب الزُّهْرِيّ مِنْهُمْ: صَالِح بْن كَيْسَانَ وَابْن أَبِي عَقِيق وَابْن جُرَيْجٍ وَإِسْحَاق بْن رَاشِد وَزَيْد بْن أَبِي أُنَيْسَة وَشُعَيْب وَحَكِيم بْن حَكَم وَيَحْيَى بْن أَبِي أُنَيْسَة وَعُقَيْل مِنْ رِوَايَة اِبْن لَهِيعَة عَنْهُ، وَعَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق وَعُبَيْد اللَّه بْن أَبِي زِيَاد وَغَيْرهمْ، وَأَمَّا مَعْمَر فَأَرْسَلَهُ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن حُسَيْن، وَقَوْل مَنْ قَالَ: عَنْ لَيْث: (الْحَسَن بْن عَلِيّ) وَهْمٌ، يَعْنِي مَنْ قَالَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَقَدْ غَلِطَ، هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ، وَحَاصِله أَنَّهُ يَقُول: إِنَّ الصَّوَاب مِنْ رِوَايَة لَيْث (الْحُسَيْن) التَّصْغِير، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْمَوْجُود فِي رِوَايَات بِلَادنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «طَرَقَهُ وَفَاطِمَة» أَيْ أَتَاهُمَا فِي اللَّيْل.
قَوْله: «سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِر يَضْرِب فَخِذه وَيَقُول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» الْمُخْتَار فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مَنْ سُرْعَة جَوَابه وَعَدَم مُوَافَقَته لَهُ عَلَى الِاعْتِذَار بِهَذَا، وَلِهَذَا ضَرَبَ فَخِذه، وَقِيلَ: قَالَهُ تَسْلِيمًا لِعُذْرِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا عَتْبَ عَلَيْهِمَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى صَلَاة اللَّيْل، وَأَمْر الْإِنْسَان صَاحِبه بِهَا، وَتَعَهُّد الْإِمَام وَالْكَبِير رَعِيَّته بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِح دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلنَّاصِحِ إِذَا لَمْ يَقْبَل نَصِيحَته أَوْ اِعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِمَا لَا يَرْتَضِيه أَنْ يَنْكَفّ وَلَا يُعَنِّف إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ.
قَوْله: «طَرَقَهُ وَفَاطِمَة فَقَالَ: أَلَا تُصَلُّونَ» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «تُصَلُّونَ»، وَجَمْع الِاثْنَيْنِ صَحِيح، لَكِنْ هَلْ هُوَ حَقِيقَة أَوْ مَجَاز؟ فيه الْخِلَاف الْمَشْهُور، الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَاز، وَقَالَ آخَرُونَ: حَقِيقَة.
1295- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْقِد الشَّيْطَان عَلَى قَافِيَة رَأْس أَحَدكُمْ ثَلَاث عُقَد» الْقَافِيَة: آخِر الرَّأْس، وَقَافِيَة كُلّ شَيْء آخِرُهُ، وَمِنْهُ قَافِيَة الشَّعْر. قَوْله: «عَلَيْك لَيْلًا طَوِيلًا» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم نُسَخ بِلَادنَا بِصَحِيحِ مُسْلِم، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ: «عَلَيْك لَيْلًا طَوِيلًا» بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاء، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: «عَلَيْك لَيْل طَوِيل» بِالرَّفْعِ أَيْ بَقِيَ عَلَيْك لَيْل طَوِيل، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْعُقَد فَقِيلَ: هُوَ عَقْد حَقِيقِيّ بِمَعْنَى عَقْد السِّحْر لِلْإِنْسَانِ وَمَنْعُهُ مِنْ الْقِيَام قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمِنْ شَرّ النَّفَّاثَات فِي الْعُقَد} فَعَلَى هَذَا هُوَ قَوْل يَقُولهُ يُؤَثِّر فِي تَثْبِيط النَّائِم كَتَأْثِيرِ السِّحْر، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِعْلًا يَفْعَلهُ كَفِعْلِ النَّفَّاثَات فِي الْعُقَد، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَقْد الْقَلْب وَتَصْمِيمه، فَكَأَنَّهُ يُوَسْوِس فِي نَفْسه وَيُحَدِّثهُ بِأَنَّ عَلَيْك لَيْلًا طَوِيلًا فَتَأَخَّرْ عَنْ الْقِيَام، وَقِيلَ: هُوَ مَجَاز، كُنِّيَ لَهُ عَنْ تَثْبِيط الشَّيْطَان عَنْ قِيَام اللَّيْل. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا اِسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِنْحَلَّتْ عُقْدَة، وَإِذَا تَوَضَّأَ اِنْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَتَانِ، فَإِذَا صَلَّى اِنْحَلَّتْ الْعُقَد، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّب النَّفْس، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيث النَّفْس كَسْلَان» فيه فَوَائِد مِنْهَا: الْحَثّ عَلَى ذِكْر اللَّه تَعَالَى عِنْد الِاسْتِيقَاظ، وَجَاءَتْ فيه أَذْكَار مَخْصُوصَة مَشْهُورَة فِي الصَّحِيح، وَقَدْ جَمَعْتهَا وَمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ بَاب مِنْ كِتَاب الْأَذْكَار وَلَا يَتَعَيَّن لِهَذِهِ الْفَضِيلَة ذِكْر، لَكِنَّ الْأَذْكَار الْمَأْثُورَة فيه أَفْضَل. وَمِنْهَا: التَّحْرِيض عَلَى الْوُضُوء حِينَئِذٍ وَعَلَى الصَّلَاة وَإِنْ قَلَّتْ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا تَوَضَّأَ اِنْحَلَّتْ عُقْدَتَانِ» مَعْنَاهُ: تَمَام عُقْدَتَيْنِ، أَيْ اِنْحَلَّتْ عُقْدَة ثَانِيَة، وَتَمَّ بِهَا عُقْدَتَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَيْ فِي تَمَام أَرْبَعَة وَمَعْنَاهُ: فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ تَمَّتْ الْجُمْلَة بِهِمَا أَرْبَعَة أَيَّام، وَمِثْله فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فَلَهُ قِيرَاط، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر فَقِيرَاطَانِ»هَذَا لَفْظ إِحْدَى رِوَايَات مُسْلِم، وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ طُرُق كَثِيرَة بِمَعْنَاهُ، وَالْمُرَاد قِيرَاطَانِ بِالْأَوَّلِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ بِالصَّلَاةِ يَحْصُل قِيرَاط، وَبِالِاتِّبَاعِ قِيرَاط آخَر، يَتِمّ بِهِ الْجُمْلَة قِيرَاطَانِ. وَدَلِيل أَنَّ الْجُمْلَة قِيرَاطَانِ رِوَايَة مُسْلِم فِي صَحِيحه: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جِنَازَة مِنْ بَيْتهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَن كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ الْأَجْر، كُلّ قِيرَاط مِثْل أُحُد، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْر مِثْل أُحُد» وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ فِي أَوَّل صَحِيحه: «مَنْ اِتَّبَعَ جِنَازَة مُسْلِم إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا وَيَفْرُغ مِنْ دَفْنهَا فَإِنَّهُ يَرْجِع مِنْ الْأَجْر بِقِيرَاطَيْنِ، كُلّ قِيرَاط مِثْل أُحُد، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْل أَنْ تُدْفَن فَإِنَّهُ يَرْجِع بِقِيرَاطٍ». وَهَذِهِ الْأَلْفَاظ كُلّهَا مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة، وَمِثْله فِي صَحِيح مُسْلِم: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاء فِي جَمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْف اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْح فِي جَمَاعَة فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلّه».
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي مَوْضِعه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّب النَّفْس» مَعْنَاهُ: لِسُرُورِهِ بِمَا وَفَّقَهُ اللَّه الْكَرِيم لَهُ مِنْ الطَّاعَة، وَوَعَدَهُ بِهِ مِنْ ثَوَابه مَعَ مَا يُبَارِك لَهُ فِي نَفْسه، وَتَصَرُّفه فِي كُلّ أُمُوره، مَعَ مَا زَالَ عَنْهُ مِنْ عُقَد الشَّيْطَان وَتَثْبِيطه، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيث النَّفْس كَسْلَان»، مَعْنَاهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ عُقَد الشَّيْطَان وَآثَار تَثْبِيطه وَاسْتِيلَائِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْمَع بَيْن الْأُمُور الثَّلَاثَة وَهِيَ: الذِّكْر وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة، فَهُوَ دَاخِل فِيمَنْ يُصْبِح خَبِيث النَّفْس كَسْلَان، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث مُخَالَفَة لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي» فَإِنَّ ذَلِكَ نَهْي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُول هَذَا اللَّفْظ عَنْ نَفْسه، وَهَذَا إِخْبَار عَنْ صِفَة غَيْره. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخَارِيّ بَوَّبَ لِهَذَا الْحَدِيث: بَاب عَقْد الشَّيْطَان عَلَى رَأْس مَنْ لَمْ يُصَلِّ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ وَقَالَ: الَّذِي فِي الْحَدِيث أَنَّهُ يَعْقِد قَافِيَة رَأْسه وَإِنْ صَلَّى بَعْده، وَإِنَّمَا يَنْحَلّ عُقَده بِالذِّكْرِ وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة، قَالَ: وَيُتَأَوَّل كَلَام الْبُخَارِيّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اِسْتِدَامَة الْعُقَد إِنَّمَا تَكُون عَلَى مَنْ تَرَكَ الصَّلَاة، وَجَعَلَ مَنْ صَلَّى وَانْحَلَّتْ عُقَدَهُ كَمَنْ لَمْ يَعْقِد عَلَيْهِ لِزَوَالِ أَثَره.

.بَاب: اِسْتِحْبَاب صَلَاة النَّافِلَة فِي بَيْته وَجَوَازهَا فِي الْمَسْجِد:

وَسَوَاء فِي هَذَا الرَّاتِبَة وَغَيْرهَا إِلَّا الشَّعَائِر الظَّاهِرَة وَهِيَ الْعِيد وَالْكُسُوف وَالِاسْتِسْقَاء وَالتَّرَاوِيح وَكَذَا مَا لَا يَتَأَتَّى فِي غَيْر الْمَسْجِد كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِد وَيُنْدَب كَوْنه فِي الْمَسْجِد هِيَ رَكْعَتَا الطَّوَاف.
1296- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِجْعَلُوا مِنْ صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» مَعْنَاهُ: صَلُّوا فيها وَلَا تَجْعَلُوهَا كَالْقُبُورِ مَهْجُورَة مِنْ الصَّلَاة، وَالْمُرَاد لَهُ صَلَاة النَّافِلَة، أَيْ: صَلُّوا النَّوَافِل فِي بُيُوتكُمْ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قِيلَ هَذَا فِي الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اِجْعَلُوا بَعْض فَرَائِضكُمْ فِي بُيُوتكُمْ لِيَقْتَدِيَ بِكُمْ مَنْ لَا يَخْرُج إِلَى الْمَسْجِد مِنْ نِسْوَة وَعَبِيد وَمَرِيض وَنَحْوهمْ، قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُور بَلْ هُوَ فِي النَّافِلَة لِإِخْفَائِهَا وَلِلْحَدِيثِ الْآخَر: «أَفْضَل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة» قُلْت: الصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد النَّافِلَة، وَجَمِيع أَحَادِيث الْبَاب تَقْتَضِيه، وَلَا يَجُوزُ حَمْله عَلَى الْفَرِيضَة وَإِنَّمَا حَثَّ عَلَى النَّافِلَة فِي الْبَيْت لِكَوْنِهِ أَخْفَى وَأَبْعَدَ مِنْ الرِّيَاء، وَأَصْوَنُ مِنْ الْمُحْبِطَات، وَلِيَتَبَرَّك الْبَيْت بِذَلِكَ وَتَنْزِل فيه الرَّحْمَة وَالْمَلَائِكَة وَيَنْفِر مِنْهُ الشَّيْطَان، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَإِنَّ اللَّه جَاعِل فِي بَيْته مِنْ صَلَاته خَيْرًا».
1299- قَوْله: (بُرَيْد عَنْ أَبِي بُرْدَة) قَدْ سَبَقَ مَرَّات أَنَّ بُرَيْدًا بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَل الْبَيْت الَّذِي يُذْكَر اللَّه فيه وَالْبَيْت الَّذِي لَا يُذْكَر اللَّه فيه مَثَل الْحَيّ وَالْمَيِّت» فيه: النَّدْب إِلَى ذِكْر اللَّه تَعَالَى فِي الْبَيْت، وَأَنَّهُ لَا يُخْلَى مِنْ الذِّكْر، وَفيه: جَوَاز التَّمْثِيل. وَفيه: أَنَّ طُول الْعُمْر فِي الطَّاعَة فَضِيلَة، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّت يَنْتَقِل إِلَى خَيْر، لِأَنَّ الْحَيّ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَزِيد عَلَيْهِ بِمَا يَفْعَلهُ مِنْ الطَّاعَات.
1300- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَان يَنْفِر مِنْ الْبَيْت» هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُور (يَنْفِر) وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة مُسْلِم (يَفِرّ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُورَة الْبَقَرَة» دَلِيل عَلَى جَوَازه بِلَا كَرَاهَة.
وَأَمَّا مَنْ كَرِهَ قَوْل سُورَة الْبَقَرَة وَنَحْوهَا فَغَالِطٌ. وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة وَسَنُعِيدُهَا قَرِيبًا- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- فِي أَبْوَاب فَضَائِل الْقُرْآن.
1301- قَوْله: «اِحْتَجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَة بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِير فَصَلَّى فيها» (فَالْحُجَيْرَة) - بِضَمِّ الْحَاء- تَصْغِير حُجْرَة، وَالْخَصَفَة وَالْحَصِير بِمَعْنًى، شَكَّ الرَّاوِي فِي الْمَذْكُورَة مِنْهُمَا، وَمَعْنَى اِحْتَجَرَ حُجْرَة أَيْ: حَوَّطَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَسْجِد بِحَصِيرٍ لِيَسْتُرهُ لِيُصَلِّيَ فيه، وَلَا يَمُرّ بَيْن يَدَيْهِ مَارّ، وَلَا يَتَهَوَّش بِغَيْرِهِ، وَيَتَوَفَّر خُشُوعه وَفَرَاغ قَلْبه. وَفيه: جَوَاز مِثْل هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه تَضْيِيق عَلَى الْمُصَلِّينَ وَنَحْوهمْ، وَلَمْ يَتَّخِذهُ دَائِمًا؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرهَا بِاللَّيْلِ يُصَلِّي فيها، وَيُنَحِّهَا بِالنَّهَارِ وَيَبْسُطهَا. كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَعَادَ إِلَى الصَّلَاة فِي الْبَيْت. وَفيه: جَوَاز النَّافِلَة فِي الْمَسْجِد. وَفيه: جَوَاز الْجَمَاعَة فِي غَيْر الْمَكْتُوبَة، وَجَوَاز الِاقْتِدَاء بِمِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَة. وَفيه: تَرْك بَعْض الْمَصَالِح لِخَوْفِ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْ ذَلِكَ. وَفيه: بَيَان مَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى أُمَّته وَمُرَاعَاة مَصَالِحهمْ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِوُلَاةِ الْأُمُور وَكِبَار النَّاس وَالْمَتْبُوعِينَ- فِي عِلْم وَغَيْره- الِاقْتِدَاء بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ.
قَوْله: «فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَال» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ، وَأَصْل التَّتَبُّع الطَّلَب، وَمَعْنَاهُ هُنَا طَلَبُوا مَوْضِعه وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ.
قَوْله: «وَحَصَبُوا الْبَاب» أَيْ رَمَوْهُ بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَار تَنْبِيهًا لَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُ نَسِيَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ خَيْر صَلَاة الْمَرْء فِي بَيْته إِلَّا الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة» هَذَا عَامّ فِي جَمِيع النَّوَافِل الْمُرَتَّبَة مَعَ الْفَرَائِض وَالْمُطْلَقَة إِلَّا فِي النَّوَافِل الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِر الْإِسْلَام، وَهِيَ الْعِيد وَالْكُسُوف وَالِاسْتِسْقَاء وَكَذَا التَّرَاوِيح عَلَى الْأَصَحّ، فَإِنَّهَا مَشْرُوعَة فِي جَمَاعَة فِي الْمَسْجِد، وَالِاسْتِسْقَاء فِي الصَّحْرَاء، وَكَذَا الْعِيد إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِد. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الدَّائِمِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ:

1302- قَوْله: «وَكَانَ يُحَجِّرهُ مِنْ اللَّيْل وَيَبْسُطهُ بِالنَّهَارِ» وَهَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (يُحَجِّر) بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الْحَاء وَكَسْر الْجِيم الْمُشَدَّدَة أَيْ يَتَّخِذهُ حُجْرَة كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى. وَفيه: إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الزَّهَادَة فِي الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاض عَنْهَا، وَالْإِثْرَاء مِنْ مَتَاعهَا بِمَا لابد مِنْهُ.
قَوْله: «فَثَابُوا ذَات لَيْلَة» أَيْ اِجْتَمَعُوا.
وَقِيلَ: رَجَعُوا لِلصَّلَاةِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَال مَا تُطِيقُونَ» أَيْ تُطِيقُونَ الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا ضَرَر. وَفيه: دَلِيل عَلَى الْحَثّ عَلَى الِاقْتِصَاد فِي الْعِبَادَة وَاجْتِنَاب التَّعَمُّق، وَلَيْسَ الْحَدِيث مُخْتَصًّا بِالصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ عَامّ فِي جَمِيع أَعْمَال الْبِرّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلُّوا» هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم فيهمَا، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَا يَسْأَم حَتَّى تَسْأَمُوا» وَهُمَا بِمَعْنًى قَالَ الْعُلَمَاء: الْمَلَل وَالسَّآمَة بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارَف فِي حَقّنَا مُحَال فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَيَجِب تَأْوِيل الْحَدِيث.
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَعْنَاهُ لَا يُعَامِلكُمْ مُعَامَلَة الْمَالِّ فَيَقْطَع عَنْكُمْ ثَوَابه وَجَزَاءَهُ، وَبَسَطَ فَضْله وَرَحْمَته حَتَّى تَقْطَعُوا عَمَلكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَمَلّ إِذَا مَلَلْتُمْ، وَقَالَهُ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره، وَأَنْشَدُوا فيه شِعْرًا. قَالُوا: وَمِثَاله قَوْلهمْ فِي الْبَلِيغ: فُلَان لَا يَنْقَطِع حَتَّى يَقْطَع خُصُومه. مَعْنَاهُ: لَا يَنْقَطِع إِذَا اِنْقَطَعَ خُصُومه، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ يَنْقَطِع إِذَا اِنْقَطَعَ خُصُومه لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْل عَلَى غَيْره، وَفِي هَذَا الْحَدِيث كَمَال شَفَقَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْفَته بِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يُصْلِحهُمْ وَهُوَ مَا يُمْكِنهُمْ الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّة وَلَا ضَرَر فَتَكُون النَّفْس أَنْشَطَ وَالْقَلْب مُنْشَرِحًا فَتَتِمّ الْعِبَادَة، بِخِلَافِ مَنْ تَعَاطَى مِنْ الْأَعْمَال مَا يَشُقّ فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَتْرُكهُ أَوْ بَعْضه أَوْ يَفْعَلهُ بِكُلْفَةٍ وَبِغَيْرِ اِنْشِرَاح الْقَلْب، فَيَفُوتهُ خَيْر عَظِيم، وَقَدْ ذَمَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَنْ اِعْتَادَ عِبَادَة ثُمَّ أَفْرَطَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّة اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا اِبْتِغَاء رِضْوَان اللَّه فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتهَا} وَقَدْ نَدِمَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ عَلَى تَرْكه قَبُول رُخْصَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخْفِيف الْعِبَادَة وَمُجَانَبَة التَّشْدِيد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَال إِلَى اللَّه مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (دُووِمَ عَلَيْهِ)، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (دُووِمَ) بِوَاوَيْنِ وَوَقَعَ فِي بَعْضهَا (دُوِمَ) بِوَاوٍ وَاحِدَة، وَالصَّوَاب الْأَوَّل. وَفيه: الْحَثّ عَلَى الْمُدَاوَمَة عَلَى الْعَمَل وَأَنَّ قَلِيله الدَّائِم خَيْر مِنْ كَثِير يَنْقَطِع، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَلِيل الدَّائِم خَيْرًا مِنْ الْكَثِير الْمُنْقَطِع؛ لِأَنَّ بِدَوَامِ الْقَلِيل تَدُوم الطَّاعَة وَالذِّكْر وَالْمُرَاقَبَة وَالنِّيَّة وَالْإِخْلَاص وَالْإِقْبَال عَلَى الْخَالِق سُبْحَانه تَعَالَى، وَيُثْمِر الْقَلِيل الدَّائِم بِحَيْثُ يَزِيد عَلَى الْكَثِير الْمُنْقَطِع أَضْعَافًا كَثِيرَة.
قَوْله: (وَكَانَ آلُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ) أَيْ لَازَمُوهُ وَدَاوَمُوا عَلَيْهِ وَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد بِالْآلِ هُنَا أَهْل بَيْته وَخَوَاصّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجه وَقَرَابَته وَنَحْوهمْ.
1304- قَوْلهَا: «كَانَ عَمَله دِيمَة» هُوَ بِكَسْرِ الدَّال وَإِسْكَان الْيَاء أَيْ يَدُوم عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعهُ.

.باب أَمْرِ مَنْ نَعَسَ فِي صَلاَتِهِ أَوِ اسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوِ الذِّكْرُ بِأَنْ يَرْقُدَ أَوْ يَقْعُدَ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ:

1306- قَوْله فِي الْحَبْل الْمَمْدُود بَيْن سَارِيَتَيْنِ لِزَيْنَب: «تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ فَقَالَ: حَلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدكُمْ نَشَاطه» كَسِلَتْ: بِكَسْرِ السِّين، وَفيه: الْحَثّ عَلَى الِاقْتِصَاد فِي الْعِبَادَة وَالنَّهْي عَنْ التَّعَمُّق وَالْأَمْر بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِنَشَاطٍ، وَأَنَّهُ إِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ حَتَّى يَذْهَب الْفُتُور. وَفيه: إِزَالَة الْمُنْكَر بِالْيَدِ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَفيه: جَوَاز التَّنَفُّل فِي الْمَسْجِد فَإِنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي النَّافِلَة فيه فَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهَا.
1307- قَوْله: (الْحَوْلَاء بِنْت تُوَيْت) هُوَ بِتَاءٍ مُثَنَّاة فَوْق فِي أَوَّله وَآخِره.
قَوْله: «وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَام اللَّيْل فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَنَام اللَّيْل!! خُذُوا مِنْ الْعَمَل مَا تُطِيقُونَ» أَرَادَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَا تَنَام اللَّيْل» الْإِنْكَار عَلَيْهَا وَكَرَاهَة فِعْلهَا وَتَشْدِيدهَا عَلَى نَفْسهَا، وَيُوَضِّحهُ أَنَّ فِي مُوَطَّأ مَالِك قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيث: وَكَرِهَ ذَلِكَ حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهَةُ فِي وَجْهه. وَفِي هَذَا دَلِيل لِمَذْهَبِنَا وَمَذْهَب جَمَاعَة أَوْ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ صَلَاة جَمِيع اللَّيْل مَكْرُوهَة، وَعَنْ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف أَنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ رِوَايَة عَنْ مَالِك إِذَا لَمْ يَنَمْ عَنْ الصُّبْح.
1309- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَب عَنْهُ النَّوْم» إِلَى آخِره. نَعَسَ بِفَتْحِ الْعَيْن. وَفيه: الْحَثّ عَلَى الْإِقْبَال عَلَى الصَّلَاة بِخُشُوعٍ وَفَرَاغ قَلْب وَنَشَاط. وَفيه: أَمْر النَّاعِس بِالنَّوْمِ أَوْ نَحْوه مِمَّا يَذْهَب عَنْهُ النُّعَاس، وَهَذَا عَامّ فِي صَلَاة الْفَرْض وَالنَّفْل فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَالْجُمْهُور، لَكِنْ لَا يُخْرِج فَرِيضَة عَنْ وَقْتهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَحَمَلَهُ مَالِك وَجَمَاعَة عَلَى نَفْل اللَّيْل لِأَنَّهُ مَحِلّ النَّوْم غَالِبًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِس لَعَلَّهُ يَذْهَب يَسْتَغْفِر فَيَسُبّ نَفْسه» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى يَسْتَغْفِر هُنَا: يَدْعُو.
1310- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ الْقُرْآن» أَيْ اِسْتَغْلَقَ وَلَمْ يَنْطَلِق بِهِ لِسَانه لِغَلَبَةِ النُّعَاس.

.باب الأَمْرِ بِتَعَهُّدِ الْقُرْآنِ وَكَرَاهَةِ قَوْلِ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا. وَجَوَازِ قَوْلِ أُنْسِيتُهَا:

1311- قَوْله: «سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأ مِنْ اللَّيْل فَقَالَ: يَرْحَمهُ اللَّه لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَة كُنْت أَسْقَطْتهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا» وَفِي رِوَايَة: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِع قِرَاءَة رَجُل فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّه لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَة كُنْت أُنْسِيتهَا»، وَفِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْد هَذَا: «بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ يَقُول نَسِيت آيَة كَيْت وَكَيْت بَلْ هُوَ نُسِّيَ» فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ فَوَائِد مِنْهَا: جَوَاز رَفْع الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ فِي اللَّيْل وَفِي الْمَسْجِد، وَلَا كَرَاهَة فيه إِذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، وَلَا تَعَرَّضَ لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْجَاب وَنَحْو ذَلِكَ. وَفيه: الدُّعَاء لِمَنْ أَصَابَ الْإِنْسَان مِنْ جِهَته خَيْرًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدهُ ذَلِكَ الْإِنْسَان. وَفيه: أَنَّ الِاسْتِمَاع لِلْقِرَاءَةِ سُنَّة. وَفيه جَوَاز قَوْل سُورَة كَذَا كَسُورَةِ الْبَقَرَة وَنَحْوهَا، وَلَا الْتِفَات إِلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى اِسْتِعْمَاله. وَفيه كَرَاهَة قَوْل نَسِيت آيَة كَذَا، وَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه، وَأَنَّهُ لَا يُكْرَه قَوْل أُنْسِيتهَا وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ نَسِيتهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّن التَّسَاهُل فيها وَالتَّغَافُل عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَتَتْك آيَاتُنَا فَنَسِيتهَا} وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: أَوْلَى مَا يُتَأَوَّل عَلَيْهِ الْحَدِيث أَنَّ مَعْنَاهُ ذَمّ الْحَال لَا ذَمّ الْقَوْل أَيْ نَسِيت الْحَالَة، حَالَة مَنْ حَفِظَ الْقُرْآن فَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى نَسِيَهُ.
1312- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْت أُنْسِيتهَا» دَلِيل عَلَى جَوَاز النِّسْيَان عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَدْ بَلَّغَهُ إِلَى الْأُمَّة، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَاب سُجُود السَّهْو الْكَلَام فِيمَا يَجُوز مِنْ السَّهْو عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَا يَجُوز.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: جُمْهُور الْمُحَقِّقِينَ جَوَاز النِّسْيَان عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْتِدَاء فِيمَا لَيْسَ طَرِيقه الْبَلَاغ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا طَرِيقه الْبَلَاغ وَالتَّعْلِيم، وَلَكِنْ مَنْ جَوَّزَ قَالَ: لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ بَلْ لابد أَنْ يَتَذَكَّرهُ أَوْ يَذْكُرهُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِنْ شُرُوط ذَلِكَ الْفَوْر أَمْ يَصِحّ التَّرَاخِي قَبْل وَفَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: وَأَمَّا نِسْيَان مَا بَلَغَهُ فِي هَذَا الْحَدِيث فَيَجُوز، قَالَ: وَقَدْ سَبَقَ بَيَان سَهْوه فِي الصَّلَاة، قَالَ: وَقَالَ بَعْض الصُّوفِيَّة وَمُتَابِعِيهِمْ: لَا يَجُوز السَّهْو عَلَيْهِ أَصْلًا فِي شَيْء، وَإِنَّمَا يَقَع مِنْهُ صُورَته لَيْسَ إِلَّا، وَهَذَا تَنَاقُض مَرْدُود، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَد مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا الْأُسْتَاذ أَبُو الظَّفَر الْإِسْفَرايِينِيّ مِنْ شُيُوخنَا، فَإِنَّهُ مَالَ إِلَيْهِ وَرَجَّحَهُ، وَهُوَ ضَعِيف مُتَنَاقِض.
1313- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَل صَاحِب الْقُرْآن كَمَثَلِ الْإِبِل الْمُعَقَّلَة» إِلَى آخِره. فيه: الْحَثّ عَلَى تَعَاهُد الْقُرْآن وَتِلَاوَته وَالْحَذَر مِنْ تَعْرِيضه لِلنِّسْيَانِ، قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى: «صَاحِب الْقُرْآن» أَيْ الَّذِي أَلِفَهُ. وَالْمُصَاحَبَة: الْمُؤَالَفَة، وَمِنْهُ فُلَان صَاحِب فُلَان، وَأَصْحَاب الْجَنَّة وَأَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْحَدِيث، وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَأَصْحَاب الصُّفَّة، وَأَصْحَاب إِبِل وَغَنَم، وَصَاحِب كَنْز وَصَاحِب عِبَادَة.
1314- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آيَة كَيْت وَكَيْت» أَيْ آيَة كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِفَتْحِ التَّاء عَلَى الْمَشْهُور، وَحَكَى الْجَوْهَرِيّ فَتْحهَا وَكَسْرهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَة.
قَوْله: «اِسْتَذْكِرُوا الْقُرْآن فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُور الرِّجَال مِنْ النَّعَم بِعُقُلِهَا» قَالَ أَهْل اللُّغَة: التَّفَصِّي: الِانْفِصَال، وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَشَدُّ تَفَلُّتًا. النَّعَم: أَصْلهَا الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم، وَالْمُرَاد هُنَا الْإِبِل خَاصَّة؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُعْقَل، وَالْعُقُل بِضَمِّ الْعَيْن وَالْقَاف، وَيَجُوز إِسْكَان الْقَاف وَهُوَ كَنَظَائِرِهِ، وَهُوَ جَمْع عِقَال كَكِتَابٍ وَكُتُب، وَالنَّعَم تُذَكَّر وَتُؤَنَّث، وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَات: (بِعُقُلِهَا). وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (مِنْ عُقُله)، وَفِي الثَّالِثَة: (فِي عُقُلهَا)، وَكُلّه صَحِيح، وَالْمُرَاد بِرِوَايَةِ الْبَاء (مِنْ) كَمَا فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} عَلَى أَحَد الْقَوْلَيْنِ فِي مَعْنَاهَا.
1315- قَوْله فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «عُقُله» بِتَذْكِيرِ النَّعَم وَهُوَ صَحِيح كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ نُسِّيَ» ضَبَطْنَاهُ بِتَشْدِيدِ السِّين، وَقَالَ الْقَاضِي: ضَبَطْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف.

.باب اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ:

1318- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» هُوَ بِكَسْرِ الذَّال، قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى (أَذِنَ) فِي اللُّغَة الِاسْتِمَاع، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} قَالُوا: وَلَا يَجُوز أَنْ تُحْمَل هُنَا عَلَى الِاسْتِمَاع بِمَعْنَى الْإِصْغَاء، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل عَلَى اللَّه تَعَالَى بَلْ هُوَ مَجَاز، وَمَعْنَاهُ الْكِنَايَة عَنْ تَقْرِيبه الْقَارِئ وَإِجْزَال ثَوَابه؛ لِأَنَّ سَمَاع اللَّه تَعَالَى لَا يَخْتَلِف فَوَجَبَ تَأْوِيله.
وَقَوْله: «يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» مَعْنَاهُ عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْ الطَّوَائِف وَأَصْحَاب الْفُنُون: يُحَسِّن صَوْته بِهِ، وَعِنْد سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ يَسْتَغْنِي بِهِ. قِيلَ: يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ النَّاس، وَقِيلَ: عَنْ غَيْره مِنْ الْأَحَادِيث وَالْكُتُب، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الْقَوْلَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ، قَالَ: يُقَال: تَغَنَّيْت وَتَغَانَيْت بِمَعْنَى اِسْتَغْنَيْت، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ: مَعْنَاهُ تَحْزِين الْقِرَاءَة وَتَرْقِيَتهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْآخَر: «زَيِّنُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ» قَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ يَجْهَر بِهِ، وَأَنْكَرَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيُّ تَفْسِير مَنْ قَالَ: يَسْتَغْنِي بِهِ، وَخَطَّأَهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَة وَالْمَعْنَى، وَالْخِلَاف جَارٍ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَالصَّحِيح أَنَّهُ مِنْ تَحْسِين الصَّوْت، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَر بِهِ.
قَوْله فِي رِوَايَة حَرْمَلَة: «كَمَا يَأْذَن لِنَبِيٍّ» هُوَ بِفَتْحِ الذَّال.
1320- قَوْله: (حَدَّثَنَا هِقْل) بِكَسْرِ الْهَاء وَإِسْكَان الْقَاف.
قَوْله: (كَأَذَنِهِ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالذَّال وَهُوَ مَصْدَر (أَذِنَ) يَأْذَن أَذَنًا كَفَرِحَ يَفْرَح فَرَحًا.
قَوْله: (غَيْر أَنَّ اِبْن أَيُّوب قَالَ فِي رِوَايَته: كَإِذْنِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة اِبْن أَيُّوب بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الذَّال، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة بِمَعْنَى الْحَثّ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْر بِهِ.
1321- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: «أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ دَاوُدَ» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِالْمِزْمَارِ هُنَا الصَّوْت الْحَسَن، وَأَصْل الزَّمْر الْغِنَاء، وَآلُ دَاوُدَ هُوَ دَاوُدُ نَفْسه، وَآلُ فُلَان قَدْ يُطْلَق عَلَى نَفْسه، وَكَانَ دَاوُدُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَن الصَّوْت جِدًّا.
1322- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى: «لَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَسْمَع قِرَاءَتك الْبَارِحَة لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ دَاوُدَ» وَفِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْده أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ وَرَجَّعَ فِي قِرَاءَته، قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب تَحْسِين الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيلهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ مَحْمُولَة عَلَى التَّحْزِين وَالتَّشْوِيق.
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَة بِالْأَلْحَانِ فَكَرِهَهَا مَالِك وَالْجُمْهُور لِخُرُوجِهَا عَمَّا جَاءَ الْقُرْآن لَهُ مِنْ الْخُشُوع وَالتَّفَهُّم، وَأَبَاحَهَا أَبُو حَنِيفَة وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف لِلْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَب لِلرِّقَّةِ وَإِثَارَة الْخَشْيَة وَإِقْبَال النُّفُوس عَلَى اِسْتِمَاعه. قُلْت: قَالَ الشَّافِعِيّ فِي مَوْضِع: أَكْرَه الْقِرَاءَة بِالْأَلْحَانِ، وَقَالَ فِي مَوْضِع: لَا أَكْرَههَا.
قَالَ أَصْحَابنَا: لَيْسَ لَهُ فيها خِلَاف، وَإِنَّمَا هُوَ اِخْتِلَاف حَالَيْنِ، فَحَيْثُ كَرِهَهَا أَرَادَ إِذَا مَطَّطَ وَأَخْرَجَ الْكَلَام عَنْ مَوْضِعه بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْص أَوْ مَدّ غَيْر مَمْدُود وَإِدْغَام مَا لَا يَجُوز وَنَحْو ذَلِكَ، وَحَيْثُ أَبَاحَهَا أَرَادَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فيها تَغَيُّر لِمَوْضُوعِ الْكَلَام. وَاَللَّه أَعْلَم.