فصل: باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلاَةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ لِلصَّلاَةِ:

فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي»، وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَقُمْنَا فَعَدَلْنَا الصُّفُوف قَبْل أَنْ يَخْرُج إِلَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ الصَّلَاة كَانَتْ تُقَام لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْخُذ النَّاس مَصَافّهمْ قَبْل أَنْ يَقُوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامه»، وَفِي رِوَايَة جَابِر بْن سَمُرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «كَانَ بِلَال رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُؤَذِّن إِذَا دَحَضَتْ، وَلَا يُقِيم حَتَّى يَخْرُج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ الصَّلَاة حِين يَرَاهُ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: يُجْمَع بَيْن مُخْتَلَف هَذِهِ الْأَحَادِيث بِأَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يُرَاقِب خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ غَيْره أَوْ إِلَّا الْقَلِيل، فَعِنْد أَوَّل خُرُوجه يُقِيم، وَلَا يَقُوم النَّاس حَتَّى يَرَوْهُ، ثُمَّ لَا يَقُوم مَقَامه حَتَّى يَعْدِلُوا الصُّفُوف.
وَقَوْله فِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «فَيَأْخُذ النَّاس مَصَافّهمْ قَبْل خُرُوجه». لَعَلَّهُ كَانَ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَنَحْوهمَا، لِبَيَانِ الْجَوَاز أَوْ لِعُذْرٍ، وَلَعَلَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» كَانَ بَعْد ذَلِكَ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالنَّهْي عَنْ الْقِيَام قَبْل أَنْ يَرَوْهُ لِئَلَّا يَطُول عَلَيْهِمْ الْقِيَام، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِض لَهُ عَارِض فَيَتَأَخَّر بِسَبَبِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف فَمَنْ بَعْدهمْ مَتَى يَقُوم النَّاس لِلصَّلَاةِ؟ وَمَتَى يُكَبِّر الْإِمَام؟ فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَطَائِفَة: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَلَّا يَقُوم أَحَد حَتَّى يَفْرُغ الْمُؤَذِّن مِنْ الْإِقَامَة، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَعَامَّة الْعُلَمَاء: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَقُومُوا إِذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّن فِي الْإِقَامَة، وَكَانَ أَنَس رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى يَقُوم إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّن: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاة، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالْكُوفِيُّونَ: يَقُومُونَ فِي الصَّفّ إِذَا قَالَ: حَيّ عَلَى الصَّلَاة، فَإِذَا قَالَ: «قَدْ قَامَتْ الصَّلَاة» كَبَّرَ الْإِمَام.
وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: لَا يُكَبِّر الْإِمَام حَتَّى يَفْرُغ الْمُؤَذِّن مِنْ الْإِقَامَة.
950- قَوْله: «قُمْنَا فَعَدَلْنَا الصُّفُوف» إِشَارَة إِلَى أَنَّ هَذِهِ سُنَّة مَعْهُودَة عِنْدهمْ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب تَعْدِيل الصُّفُوف وَالتَّرَاصّ فيها، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه فِي بَابه.
قَوْله: «فَأَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ قَبْل أَنْ يُكَبِّر، ذَكَرَ فَانْصَرَفَ وَقَالَ لَنَا: مَكَانكُمْ فَلَمْ نَزَلَ قِيَامًا نَنْتَظِرهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا وَقَدْ اِغْتَسَلَ» فَقَوْله: «قَبْل أَنْ يُكَبِّر» صَرِيح فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاة، وَمِثْله: قَوْله فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «وَانْتَظَرْنَا تَكْبِيره»، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: «أَنَّهُ كَانَ دَخَلَ فِي الصَّلَاة» فَتُحْمَل هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: «دَخَلَ فِي الصَّلَاة» أَنَّهُ قَامَ فِي مَقَامه لِلصَّلَاةِ، وَتَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ بِهَا، وَيَحْتَمِل أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَهُوَ الْأَظْهَر، وَظَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّهُ لَمَّا اِغْتَسَلَ وَخَرَجَ لَمْ يُجَدِّدُوا إِقَامَة الصَّلَاة، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى قُرْب الزَّمَان، فَإِنْ طَالَ فلابد مِنْ إِعَادَة الْإِقَامَة، وَيَدُلّ عَلَى قُرْب الزَّمَان فِي هَذَا الْحَدِيث قَوْله: صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكَانكُمْ» وَقَوْله: خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسه يَنْطِف. وَفيه جَوَاز النِّسْيَان فِي الْعِبَادَات عَلَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة قَرِيبًا.
951- قَوْله: «فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ» هُوَ مَهْمُوزٌ.
قَوْله: «يَنْطِف» بِكَسْرِ الطَّاء وَضَمّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ أَيْ يَقْطُر. وَفيه دَلِيل عَلَى طَهَارَة الْمَاء الْمُسْتَعْمَل.
953- قَوْله: «كَانَ بِلَال يُؤَذِّن إِذَا دَحَضَتْ» هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَالْحَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة أَيْ زَالَتْ الشَّمْسُ.

.باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلاَةَ:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الصَّلَاة فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاة». وَفِي رِوَايَة: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الصُّبْح قَبْل أَنْ تَطْلُع الشَّمْس فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْح، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الْعَصْر قَبْل أَنْ تَغْرُب الشَّمْس فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْر» أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّهُ لَا يَكُون بِالرَّكْعَةِ مُدْرِكًا لِكُلِّ الصَّلَاة، وَتَكْفيه وَتَحْصُل بَرَاءَته مِنْ الصَّلَاة بِهَذِهِ الرَّكْعَة، بَلْ هُوَ مُتَأَوَّل، وَفيه إِضْمَار تَقْدِيره فَقَدْ أَدْرَكَ حُكْم الصَّلَاة أَوْ وُجُوبهَا أَوْ فَضْلهَا.
قَالَ أَصْحَابنَا: يَدْخُل فيه ثَلَاث مَسَائِل. إِحْدَاهَا: إِذَا أَدْرَكَ مَنْ لَا يَجِب عَلَيْهِ الصَّلَاة رَكْعَة مِنْ وَقْتهَا لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاة، وَذَلِكَ فِي الصَّبِيّ يَبْلُغ، وَالْمَجْنُون وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يُفِيقَانِ، وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء تَطْهُرَانِ، وَالْكَافِر يُسْلِم. فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ رَكْعَة قَبْل خُرُوج وَقْت الصَّلَاة لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاة، وَإِنْ أَدْرَكَ دُون رَكْعَة كَتَكْبِيرَةٍ فَفيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: أَحَدهمَا: لَا تَلْزَمهُ؛ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث، وَأَصَحّهمَا عِنْد أَصْحَابنَا: تَلْزَمهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْهُ فَاسْتَوَى قَلِيله وَكَثِيره، وَلِأَنَّهُ يُشْتَرَط قَدْر الصَّلَاة بِكَمَالِهَا بِالِاتِّفَاقِ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُفَرَّق بَيْن تَكْبِيرَة وَرَكْعَة. وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيث بِأَنَّ التَّقْيِيد بِرَكْعَةٍ خَرَجَ عَلَى الْغَالِب، فَإِنَّ غَالِب مَا يُمْكِن مَعْرِفَة إِدْرَاكه رَكْعَة وَنَحْوهَا، وَأَمَّا التَّكْبِيرَة فَلَا يَكَاد يُحَسّ بِهَا. وَهَلْ يُشْتَرَط مَعَ التَّكْبِيرَة أَوْ الرَّكْعَة إِمْكَان الطَّهَارَة فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحّهمَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاة فِي آخِر وَقْتهَا، فَصَلَّى رَكْعَة ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْت؛ كَانَ مُدْرِكًا لِأَدَائِهَا وَيَكُون كُلّهَا أَدَاء. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَكُون كُلّهَا قَضَاء، وَقَالَ بَعْضهمْ: مَا وَقَعَ فِي الْوَقْت أَدَاء وَمَا بَعْده قَضَاء. وَتَظْهَر فَائِدَة الْخِلَاف فِي مُسَافِر نَوَى الْقَصْر وَصَلَّى رَكْعَة فِي الْوَقْت وَبَاقِيهَا بَعْده، فَإِنْ قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء، فَلَهُ قَصْرهَا، وَإِنْ قُلْنَا: كُلّهَا قَضَاء أَوْ بَعْضهَا؛ وَجَبَ إِتْمَامهَا أَرْبَعًا، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ فَائِتَة السَّفَر إِذَا قَضَاهَا فِي السَّفَر يَجِب إِتْمَامهَا، هَذَا كُلّه إِذَا أَدْرَكَ رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِنْ كَانَ دُون رَكْعَة فَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: هُوَ كَالرَّكْعَةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُور: يَكُون كُلّهَا قَضَاء، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَعَمُّد التَّأْخِير إِلَى هَذَا الْوَقْت، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا أَدَاء وَفيه اِحْتِمَال لِأَبِي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ عَلَى قَوْلنَا: أَدَاء وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوق مَعَ الْإِمَام رَكْعَة كَانَ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَة بِلَا خِلَاف، وَإِنْ لَمْ يُدْرِك رَكْعَة بَلْ أَدْرَكَهُ قَبْل السَّلَام بِحَيْثُ لَا يُحْسَب لَهُ رَكْعَة، فَفيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدهمَا: لَا يَكُون مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ لِمَفْهُومِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الصَّلَاة مَعَ الْإِمَام فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاة»، وَالثَّانِي- وَهُوَ الصَّحِيح وَبِهِ قَالَ جُمْهُور-: أَصْحَابنَا يَكُون مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَة؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْهُ، وَيُجَاب عَنْ مَفْهُوم الْحَدِيث بِمَا سَبَقَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الصُّبْح قَبْل أَنْ تَطْلُع الشَّمْس فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْح، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الْعَصْر قَبْل أَنْ تَغْرُب الشَّمْس فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْر». هَذَا دَلِيل صَرِيح فِي أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَة مِنْ الصُّبْح أَوْ الْعَصْر ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْت قَبْل سَلَامه لَا تَبْطُل صَلَاته بَلْ يُتِمّهَا وَهِيَ صَحِيحَة، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ فِي الْعَصْر.
وَأَمَّا فِي الصُّبْح فَقَالَ بِهِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَالْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا أَبَا حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: تَبْطُل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوعِ الشَّمْس فيها؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ وَقْت النَّهْي عَنْ الصَّلَاة بِخِلَافِ غُرُوب الشَّمْس. وَالْحَدِيث حُجَّة عَلَيْهِ.
954- سبق شرحه بالباب.
956- سبق شرحه بالباب.

.باب أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ:

959- قَوْله: «إِنَّ جِبْرِيل نَزَلَ فَصَلَّى إِمَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَوْله: «إِمَام» بِكَسْرِ الْهَمْزَة، وَيُوَضِّحهُ قَوْله فِي الْحَدِيث: «نَزَلَ جِبْرِيل فَأَمَّنِي فَصَلَّيْت مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْت مَعَهُ» ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُقَال: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان أَوْقَات الصَّلَوَات، وَيُجَاب عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْد الْمُخَاطَب، فَأَبْهَمَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة وَبَيَّنَهُ فِي رِوَايَة جَابِر وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ أَصْحَاب السُّنَن.
قَوْله: (إِنَّ جِبْرِيل نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَرَّرَهُ هَكَذَا خَمْس مَرَّات مَعْنَاهُ: أَنَّهُ كُلَّمَا فَعَلَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاء الصَّلَاة فَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْده حَتَّى تَكَامَلَتْ صَلَاته.
960- قَوْله: «بِهَذَا أُمِرْت» رُوِيَ بِضَمِّ التَّاء وَفَتْحهَا وَهُمَا ظَاهِرَانِ.
قَوْله: «أَوَإِنَّ جِبْرِيل» هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْر الْهَمْزَة.
قَوْله: (أَخَّرَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْعَصْر فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُرْوَة، وَأَخَّرَهَا الْمُغِيرَة فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ، وَاحْتَجَّا بِإِمَامَةِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام) أَمَّا تَأْخِيرهمَا فَلِكَوْنِهِمَا لَمْ يَبْلُغهُمَا الْحَدِيث، أَوْ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ جَوَاز التَّأْخِير مَا لَمْ يَخْرُج الْوَقْت كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.
وَأَمَّا اِحْتِجَاج أَبِي مَسْعُود وَعُرْوَة بِالْحَدِيثِ فَقَدْ يُقَال: قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيث فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس وَغَيْره فِي إِمَامَة جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الصَّلَوَات الْخَمْس مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمَيْنِ، فَصَلَّى الْخَمْس فِي الْيَوْم الْأَوَّل فِي أَوَّل الْوَقْت، وَفِي الْيَوْم الثَّانِي فِي آخِر وَقْت الِاخْتِيَار، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْف يَتَوَجَّه الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ؟ وَجَوَابه أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُمَا أَخَّرَا الْعَصْر عَنْ الْوَقْت الثَّانِي، وَهُوَ مَصِير ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قَبْل أَنْ تَظْهَر» وَفِي رِوَايَة: «يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس طَالِعَة فِي حُجْرَتِي لَمْ يَفِيء الْفَيْءُ بَعْدُ». وَفِي رِوَايَة: «وَالشَّمْس وَاقِعَة فِي حُجْرَتِي» مَعْنَاهُ كُلّه: التَّبْكِير بِالْعَصْرِ فِي أَوَّل وَقْتهَا وَهُوَ حِين يَصِير ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، وَكَانَتْ الْحُجْرَة ضَيِّقَة الْعَرْصَة، قَصِيرَة الْجِدَار بِحَيْثُ يَكُون طُول جِدَارهَا أَقَلّ مِنْ مِسَاحَة الْعَرْصَة بِشَيْءٍ يَسِير، فَإِذَا صَارَ ظِلّ الْجِدَار مِثْله دَخَلَ وَقْت الْعَصْر، وَتَكُون الشَّمْس بَعْدُ فِي أَوَاخِر الْعَرْصَة لَمْ يَقَع الْفَيْء فِي الْجِدَار الشَّرْقِيّ. وَكُلّ الرِّوَايَات مَحْمُولَة عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
961- سبق شرحه بالباب.
963- سبق شرحه بالباب.
964- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ الصُّبْح فَإِنَّهُ وَقْت إِلَى أَنْ يَطْلُع قَرْن الشَّمْس الْأَوَّل» مَعْنَاهُ: وَقْت لِأَدَاءِ الصُّبْح، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْس قَالَ: خَرَجَ وَقْت الْأَدَاء وَصَارَتْ قَضَاء، وَيَجُوز قَضَاؤُهَا فِي كُلّ وَقْت. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلْجُمْهُورِ أَنَّ وَقْت الْأَدَاء يَمْتَدّ إِلَى طُلُوع الشَّمْس.
قَالَ أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: إِذَا أَسْفَرَ الْفَجْر صَارَتْ قَضَاء بَعْده؛ لِأَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى فِي الْيَوْم الثَّانِي حِين أَسْفَرَ، وَقَالَ: الْوَقْت مَا بَيْن هَذَيْنِ. وَدَلِيل الْجُمْهُور هَذَا الْحَدِيث قَالُوا: وَحَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِبَيَانِ وَقْت الِاخْتِيَار، لَا لِاسْتِيعَابِ وَقْت الْجَوَاز لِلْجَمْعِ بَيْنه وَبَيْن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي اِمْتِدَاد الْوَقْت إِلَى أَنْ يَدْخُل وَقْت الصَّلَاة الْأُخْرَى إِلَّا الصُّبْح. وَهَذَا التَّأْوِيل أَوْلَى مِنْ قَوْل مَنْ يَقُول: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيث نَاسِخَة لِحَدِيثِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّ النَّسْخ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا عَجَزْنَا عَنْ التَّأْوِيل، وَلَمْ نَعْجِز فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ الظُّهْر فَإِنَّهُ وَقْت إِلَى أَنْ يَحْضُر الْعَصْر» مَعْنَاهُ: وَقْت لِأَدَاءِ الظُّهْر. وَفيه: دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَلِلْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا اِشْتَرَاك بَيْن وَقْت الظُّهْر وَوَقْت الْعَصْر، بَلْ مَتَى خَرَجَ وَقْت الظُّهْر بِمَصِيرِ ظِلّ الشَّيْء مِثْله غَيْر الظِّلّ الَّذِي يَكُون عِنْد الزَّوَال، دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْر، وَإِذَا دَخَلَ وَقْت الْعَصْر لَمْ يَبْقَ شَيْء مِنْ وَقْت الظُّهْر.
وَقَالَ مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَطَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء: إِذَا صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله دَخَلَ وَقْت الْعَصْر وَلَمْ يَخْرُج وَقْت الظُّهْر، بَلْ يَبْقَى بَعْد ذَلِكَ قَدْر أَرْبَع رَكَعَات صَالِح لِلظُّهْرِ وَالْعَصْر أَدَاء، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: «صَلَّى بِي الظُّهْر فِي الْيَوْم الثَّانِي حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، وَصَلَّى بِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الْأَوَّل حِين صَارَ كُلّ شَيْء مِثْله». فَظَاهِره اِشْتِرَاكهمَا فِي قَدْر أَرْبَع رَكَعَات. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث الَّذِي نَحْنُ فيه، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّ مَعْنَاهُ: فَرَغَ مِنْ الظُّهْر حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، وَشَرَعَ فِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الْأَوَّل حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله، فَلَا اِشْتِرَاكَ بَيْنهمَا. فَهَذَا التَّأْوِيل مُتَعَيِّن لِلْجَمْعِ بَيْن الْأَحَادِيث، وَأَنَّهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى الِاشْتِرَاك يَكُون آخِر وَقْت الظُّهْر مَجْهُولًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا اِبْتَدَأَ بِهَا حِين صَارَ ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْله لَمْ يَعْلَم مَتَى فَرَغَ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُون آخِر وَقْت الظُّهْر مَجْهُولًا، وَلَا يَحْصُل بَيَان حُدُود الْأَوْقَات. وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَا تَأَوَّلْنَاهُ حَصَلَ مَعْرِفَة آخِر الْوَقْت وَانْتَظَمَتْ الْأَحَادِيث عَلَى اِتِّفَاق. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ الْعَصْر فَإِنَّهُ وَقْت إِلَى أَنْ تَصْفَرّ الشَّمْس» مَعْنَاهُ: فَإِنَّهُ وَقْت لِأَدَائِهَا بِلَا كَرَاهَة، فَإِذَا اِصْفَرَّتْ صَارَ وَقْت كَرَاهَة، وَتَكُون أَيْضًا أَدَاء حَتَّى تَغْرُب الشَّمْس، لِلْحَدِيثِ السَّابِق: وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنْ الْعَصْر قَبْل أَنْ تَغْرُب الشَّمْس فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث رَدّ عَلَى أَبِي سَعِيد الْإِصْطَخْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْله: إِذَا صَارَ ظِلّ الشَّيْء مِثْلَيْهِ صَارَتْ الْعَصْر قَضَاء.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ.
قَالَ أَصْحَابنَا- رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى قَوْله تَعَالَى-: لِلْعَصْرِ خَمْسَة أَوْقَات: وَقْت فَضِيلَة، وَاخْتِيَار، وَجَوَاز بِلَا كَرَاهَة، وَجَوَاز مَعَ كَرَاهَة وَوَقْت عُذْر. فَأَمَّا وَقْت الْفَضِيلَة: فَأَوَّل وَقْتهَا، وَوَقْت الِاخْتِيَار يَمْتَدّ إِلَى أَنْ يَصِير ظِلّ كُلّ شَيْء مِثْلَيْهِ، وَوَقْت الْجَوَاز إِلَى الِاصْفِرَار، وَوَقْت الْجَوَاز مَعَ الْكَرَاهَة حَالَة الِاصْفِرَار إِلَى الْغُرُوب، وَوَقْت الْعُذْر وَهُوَ وَقْت الظُّهْر فِي حَقّ مَنْ يَجْمَع بَيْن الظُّهْر وَالْعَصْر لِسَفَرٍ أَوْ مَطَر، وَيَكُون الْعَصْر فِي هَذِهِ الْأَوْقَات الْخَمْسَة أَدَاء، فَإِذَا فَاتَتْ كُلّهَا بِغُرُوبِ الشَّمْس صَارَتْ قَضَاء. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ الْمَغْرِب فَإِنَّهُ وَقْت إِلَى أَنْ يَسْقُط الشَّفَق»، وَفِي رِوَايَة: «وَقْت الْمَغْرِب مَا لَمْ يَسْقُط ثَوْر الشَّفَق»، وَفِي رِوَايَة: «مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَق»، وَفِي رِوَايَة: «مَا لَمْ يَسْقُط الشَّفَق» هَذَا الْحَدِيث وَمَا بَعْده مِنْ الْأَحَادِيث صَرَائِح فِي أَنَّ وَقْت الْمَغْرِب يَمْتَدّ إِلَى غُرُوب الشَّفَق، وَهَذَا أَحَد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبنَا، وَهُوَ ضَعِيف عِنْد جُمْهُور نَقَلَة مَذْهَبنَا، وَقَالُوا: الصَّحِيح أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْت وَاحِد، وَهُوَ عَقِب غُرُوب الشَّمْس وَقَدْر مَا يَتَطَهَّر وَيَسْتُر عَوْرَته وَيُؤَذِّن وَيُقِيم، فَإِنْ أَخَّرَ الدُّخُول فِي الصَّلَاة عَنْ هَذَا الْوَقْت أَثِمَ وَصَارَتْ قَضَاء. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابنَا إِلَى تَرْجِيح الْقَوْل بِجَوَازِ تَأْخِيرهَا مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَق، وَأَنَّهُ يَجُوز اِبْتِدَاؤُهَا فِي كُلّ وَقْت مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَأْثَم بِتَأْخِيرِهَا عَنْ أَوَّل الْوَقْت، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح أَوْ الصَّوَاب الَّذِي لَا يَجُوز غَيْره. وَالْجَوَاب عَنْ حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين صَلَّى الْمَغْرِب فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْت وَاحِد حِين غَرَبَتْ الشَّمْس مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه: أَحَدهَا: أَنَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى بَيَان وَقْت الِاخْتِيَار وَلَمْ يَسْتَوْعِب وَقْت الْجَوَاز، وَهَذَا جَارٍ فِي كُلّ الصَّلَوَات سِوَى الظُّهْر، وَالثَّانِي أَنَّهُ مُتَقَدِّم فِي أَوَّل الْأَمْر بِمَكَّة، وَهَذِهِ الْأَحَادِيث بِامْتِدَادِ وَقْت الْمَغْرِب إِلَى غُرُوب الشَّفَق مُتَأَخِّرَة فِي أَوَاخِر الْأَمْر بِالْمَدِينَةِ فَوَجَبَ اِعْتِمَادهَا.
وَالثَّالِث: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيث أَصَحّ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيث بَيَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَوَجَبَ تَقْدِيمهَا، فَهَذَا مُخْتَصَر مَا يَتَعَلَّق بِوَقْتِ الْمَغْرِب، وَقَدْ بَسَطْت فِي شَرْح الْمُهَذَّب دَلَائِله، وَالْجَوَاب عَنْ مَا يُوهِمُ خِلَاف الصَّحِيح. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا صَلَّيْتُمْ الْعِشَاء فَإِنَّهُ وَقْت إِلَى نِصْف اللَّيْل» مَعْنَاهُ: وَقْت لِأَدَائِهَا اِخْتِيَارًا وَأَمَّا وَقْت الْجَوَاز فَيَمْتَدّ إِلَى طُلُوع الْفَجْر الثَّانِي لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْد هَذَا فِي بَاب مَنْ نَسِيَ صَلَاة أَوْ نَامَ عَنْهَا: «أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْم تَفْرِيط وَإِنَّمَا التَّفْرِيط عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاة حَتَّى يَجِيء وَقْت الصَّلَاة الْأُخْرَى»، وَسَنُوَضِّحُ شَرْحه فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا ذَهَبَ نِصْف اللَّيْل صَارَتْ قَضَاء. وَدَلِيل الْجُمْهُور حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
965- قَوْله: (الْمَرَاغ حَيّ مِنْ الْأَزْدِ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (مَا لَمْ يَسْقُط ثَوْر الشَّفَق) هُوَ الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَيْ ثَوَرَانه وَانْتِشَاره، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: (فَوْر الشَّفَق) بِالْفَاءِ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَالْمُرَاد بِالشَّفَقِ: الْأَحْمَر، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَجُمْهُور الْفُقَهَاء وَأَهْل اللُّغَة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْمُزَنِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَطَائِفَة مِنْ الْفُقَهَاء وَأَهْل اللُّغَة: الْمُرَاد الْأَبْيَض، وَالْأَوَّل هُوَ الرَّاجِح الْمُخْتَار، وَقَدْ بَسَطْت دَلَائِله فِي تَهْذِيب اللُّغَات وَفِي شَرْح الْمُهَذَّب.
966- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهَا تَطْلُع بَيْن قَرْنَيْ الشَّيْطَان» قِيلَ: الْمُرَاد بِقَرْنِهِ: أُمَّته وَشِيعَته، وَقِيلَ: قَرْنه: جَانِب رَأْسه، وَهَذَا ظَاهِر الْحَدِيث فَهُوَ أَوْلَى، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُدْنِي رَأْسه إِلَى الشَّمْس فِي هَذَا الْوَقْت لِيَكُونَ السَّاجِدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ الْكُفَّار فِي هَذَا الْوَقْت كَالسَّاجِدِينَ لَهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُون لَهُ وَلِشِيعَتِهِ تَسَلُّط وَتَمَكُّن مِنْ أَنْ يُلَبِّسُوا عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاته؛ فَكُرِهَتْ الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت لِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا كُرِهَتْ فِي مَأْوَى الشَّيْطَان.
967- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَوَقْت صَلَاة الْعَصْر مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْس وَيَسْقُط قَرْنهَا الْأَوَّل» فيه: دَلِيل لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور أَنَّ وَقْت الْعَصْر يَمْتَدّ إِلَى غُرُوب الشَّمْس، وَالْمُرَاد بِقَرْنِهَا: جَانِبهَا. فيه: أَنَّ الْعَصْر يَكُون أَدَاء مَا لَمْ تَغِبْ الشَّمْس، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا هَذَا كُلُّهُ.
968- قَوْله: (عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير قَالَ: لَا يُسْتَطَاع الْعِلْم بِرَاحَةِ الْجِسْم) جَرَتْ عَادَة الْفُضَلَاء بِالسُّؤَالِ عَنْ إِدْخَال مُسْلِم هَذِهِ الْحِكَايَة عَنْ يَحْيَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَذْكُر فِي كِتَابه إِلَّا أَحَادِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْضَة، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَة لَا تَتَعَلَّق بِأَحَادِيث مَوَاقِيت الصَّلَاة، فَكَيْفَ أَدْخَلَهَا بَيْنهَا؟ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ بَعْض الْأَئِمَّة أَنَّهُ قَالَ: سَبَبه أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَعْجَبَهُ حُسْن سِيَاق هَذِهِ الطُّرُق الَّتِي ذَكَرَهَا لِحَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، وَكَثْرَة فَوَائِدهَا، وَتَلْخِيص مَقَاصِدهَا، وَمَا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِد فِي الْأَحْكَام وَغَيْرهَا، وَلَا نَعْلَم أَحَدًا شَارَكَهُ فيها، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّه مَنْ رَغِبَ فِي تَحْصِيل الرُّتْبَة الَّتِي يَنَال بِهَا مَعْرِفَة مِثْل هَذَا فَقَالَ: طَرِيقه أَنْ يُكْثِر اِشْتِغَاله وَإِتْعَابه جِسْمه فِي الِاعْتِنَاء بِتَحْصِيلِ الْعِلْم، هَذَا شَرْح مَا حَكَاهُ الْقَاضِي.
969- قَوْله فِي حَدِيث بُرَيْدَةَ: عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ وَقْت الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ: صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ- يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ- وَذَكَرَ الصَّلَوَات فِي الْيَوْمَيْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ» فيه: بَيَان أَنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْت فَضِيلَة، وَوَقْت اِخْتِيَار. وَفيه أَنَّ وَقْت الْمَغْرِب مُمْتَدٌّ وَفيه الْبَيَان بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ أَبْلَغ فِي الْإِيضَاح، وَالْفِعْل تَعُمُّ فَائِدَتُهُ السَّائِلَ وَغَيْرَهُ. وَفيه: تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقْت الْحَاجَة، وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ. وَفيه اِحْتِمَال تَأْخِير الصَّلَاة عَنْ أَوَّل وَقْتهَا، وَتَرْك فَضِيلَة أَوَّل الْوَقْت لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَة.
قَوْل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقْت صَلَاتكُمْ بَيْن مَا رَأَيْتُمْ» هَذَا خِطَاب لِلسَّائِلِ وَغَيْره، وَتَقْدِيره: وَقْت صَلَاتكُمْ فِي الطَّرَفَيْنِ اللَّذَيْنِ صَلَّيْت فيهمَا وَفِيمَا بَيْنهمَا. وَتَرَكَ ذِكْر الطَّرَفَيْنِ بِحُصُولِ عِلْمهمَا بِالْفِعْلِ، أَوْ يَكُون الْمُرَاد مَا بَيْن الْإِحْرَام بِالْأُولَى وَالسَّلَام مِنْ الثَّانِيَة.
970- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرْعَرَة السَّامِيّ) (عَرْعَرَة) بِفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَان الرَّاء بَيْنهمَا. و(السَّامِيّ) السِّين الْمُهْمَلَة مَنْسُوب إِلَى سَامَة بْن لُؤَيّ بْن غَالِب وَهُوَ مِنْ نَسْله قُرَشِيّ سَامِيّ.
قَوْله: «حِين وَجَبَتْ الشَّمْس» أَيْ غَابَتْ.
وَقَوْله: «وَقَعَ الشَّفَق» أَيْ غَابَ.
قَوْله: «فَنَوَّرَ بِالصُّبْحِ» أَيْ أَسْفَرَ مِنْ النُّور وَهُوَ الْإِضَاءَة.
971- قَوْله فِي حَدِيث أَبِي مُوسَى: «عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِل يَسْأَلهُ عَنْ مَوَاقِيت الصَّلَاة فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَأَقَامَ الْفَجْر حِين اِنْشَقَّ الْفَجْر» مَعْنَى قَوْله: «لَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا» أَيْ لَمْ يَرُدّ جَوَابًا بِبَيَانِ الْأَوْقَات بِاللَّفْظِ، بَلْ قَالَ لَهُ: صَلِّ مَعَنَا لِتَعْرِف ذَلِكَ، وَيَحْصُل لَك الْبَيَان بِالْفِعْلِ. وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ لِنَجْمَع بَيْنه وَبَيْن حَدِيث بُرَيْدَةَ، وَلِأَنَّ الْمَعْلُوم مِنْ أَحْوَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيب إِذَا سُئِلَ عَمَّا يُحْتَاج إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله فِي حَدِيث بُرَيْدَةَ وَحَدِيث أَبِي مُوسَى: «أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاء بَعْد ثُلُث اللَّيْل» وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ: «وَوَقْت الْعِشَاء إِلَى نِصْف اللَّيْل». هَذِهِ الْأَحَادِيث لِبَيَانِ آخِر وَقْت الِاخْتِيَار، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّاجِح مِنْهُمَا، وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَوْلَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّ وَقْت الِاخْتِيَار يَمْتَدّ إِلَى ثُلُث اللَّيْل، وَالثَّانِي: إِلَى نِصْفه، وَهُوَ الْأَصَحّ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن شُرَيْحٍ: لَا اِخْتِلَاف بَيْن الرِّوَايَات، وَلَا عَنْ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، بَلْ الْمُرَاد بِثُلُثِ اللَّيْل أَنَّهُ أَوَّل اِبْتِدَائِهَا وَبِنِصْفِهِ آخِر اِنْتِهَاؤُهَا. وَيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيث بِهَذَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُوَافِق ظَاهِر أَلْفَاظ هَذِهِ الْأَحَادِيث لِأَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقْت الْعِشَاء إِلَى نِصْف اللَّيْل» ظَاهِره أَنَّهُ آخِر وَقْتهَا الْمُخْتَار، وَأَمَّا حَدِيث بُرَيْدَةَ وَأَبِي مُوسَى فَفيهمَا أَنَّهُ شَرَعَ بَعْد ثُلُث اللَّيْل، وَحِينَئِذٍ يَمْتَدّ إِلَى قَرِيب مِنْ النِّصْف، فَتَتَّفِقُ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِمَنْ يَمْضِي إِلَى جَمَاعَةٍ وَيَنَالُهُ الْحَرُّ فِي طَرِيقِهِ:

972- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اِشْتَدَّ الْحَرّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» وَذَكَرَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى بَعْد هَذَا حَدِيث خَبَّاب: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّ الرَّمْضَاء فَلَمْ يَشْكُنَا، قَالَ زُهَيْر: قُلْت لِأَبِي إِسْحَاق أَفِي الظُّهْر؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَفِي تَعْجِيلهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»، اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْجَمْع بَيْن هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، فَقَالَ بَعْضهمْ: الْإِبْرَاد رُخْصَة، وَالتَّقْدِيم أَفْضَل، وَاعْتَمَدُوا حَدِيث خَبَّاب، وَحَمَلُوا حَدِيث الْإِبْرَاد عَلَى التَّرْخِيص وَالتَّخْفِيف فِي التَّأْخِير، وَبِهَذَا قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ وَقَالَ جَمَاعَة: حَدِيث خَبَّاب مَنْسُوخ بِأَحَادِيث الْإِبْرَاد، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُخْتَار اِسْتِحْبَاب الْإِبْرَاد لِأَحَادِيثِهِ.
وَأَمَّا حَدِيث خَبَّاب فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْخِيرًا زَائِدًا عَلَى قَدْر الْإِبْرَاد، يُؤَخِّر بِحَيْثُ يَحْصُل لِلْحِيطَانِ فَيْء يَمْشُونَ فيه وَيَتَنَاقَص الْحَرّ. وَالصَّحِيح اِسْتِحْبَاب الْإِبْرَاد، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء وَهُوَ الْمَنْصُوص لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الصَّحَابَة لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فيه، الْمُشْتَمِلَة عَلَى فِعْلِهِ وَالْأَمْر بِهِ فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَمِنْ جِهَة جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
973- قَوْله: (عَنْ بُسْر بْن سَعِيد) هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ شِدَّة الْحَرّ مِنْ فَيْح جَهَنَّم» هُوَ بِفَاءِ مَفْتُوحَة ثُمَّ مُثَنَّاة مِنْ تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة أَيْ سُطُوع حَرّهَا وَانْتِشَاره وَغَلَيَانهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاة» هُمَا بِمَعْنًى، و(عَنْ) تُطْلَق بِمَعْنَى الْبَاء كَمَا يُقَال: رَمَيْت عَنْ الْقَوْس، أَيْ بِهَا.
975- قَوْله: «أَبْرِدُوا عَنْ الْحَرّ فِي الصَّلَاة» أَيْ أَخِّرُوهَا إِلَى الْبَرْد وَاطْلُبُوا الْبَرْد لَهَا.
976- قَوْله: «حَتَّى رَأَيْنَا فَيْء التَّلُول» هِيَ جَمْع تَلّ وَهُوَ مَعْرُوف، وَالْفَيْء لَا يَكُون إِلَّا بَعْد الزَّوَال، وَأَمَّا (الظِّلّ) فَيُطْلَق عَلَى مَا قَبْل الزَّوَال وَبَعْده، هَذَا قَوْل أَهْل اللُّغَة. وَمَعْنَى قَوْله: (رَأَيْنَا فَيْء التُّلُول) أَنَّهُ أُخِّرَتْ تَأْخِيرًا كَثِيرًا حَتَّى صَارَ لِلتُّلُولِ فَيْء، وَالتُّلُول مُنْبَطِحَة غَيْر مُنْتَصِبَة، وَلَا يَصِير لَهَا فَيْء فِي الْعَادَة إِلَّا بَعْد زَوَال الشَّمْس بِكَثِيرٍ.
977- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِشْتَكَتْ النَّار إِلَى رَبّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَس فِي الشِّتَاء وَنَفَس فِي الصَّيْف» قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضهمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَاشْتَكَتْ حَقِيقَة، وَشِدَّة الْحَرّ مِنْ وَهَجهَا وَفَيْحهَا وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى فيها إِدْرَاكًا وَتَمْيِيزًا بِحَيْثُ تَكَلَّمَتْ بِهَذَا. وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة، أَنَّ النَّار مَخْلُوقَة قَالَ: وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِره، بَلْ هُوَ عَلَى وَجْه التَّشْبِيه وَالِاسْتِعَارَة وَالتَّقْرِيب، وَتَقْدِيره: أَنَّ شِدَّة الْحَرّ يُشْبِه نَار جَهَنَّم فَاحْذَرُوهُ وَاجْتَنِبُوا حُرُوره.
قَالَ: وَالْأَوَّل أَظْهَر. قُلْت: وَالصَّوَاب الْأَوَّل؛ لِأَنَّهُ ظَاهِر الْحَدِيث، وَلَا مَانِع مِنْ حَمْله عَلَى حَقِيقَته، فَوَجَبَ الْحُكْم بِأَنَّهُ عَلَى ظَاهِره. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِبْرَاد إِنَّمَا يُشْرَع فِي الظُّهْر، وَلَا يُشْرَع فِي الْعَصْر عِنْد أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء إِلَّا أَشْهَب الْمَالِكِيّ، وَلَا يُشْرَع فِي صَلَاة الْجُمُعَة عِنْد الْجُمْهُور.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يُشْرَع فيها. وَاللَّهُ أَعْلَم.
979- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِير فَمِنْ نَفَس جَهَنَّم، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرّ أَوْ حُرُور فَمِنْ نَفَس جَهَنَّم» قَالَ الْعُلَمَاء الزَّمْهَرِير: شِدَّة الْبَرْد، وَالْحُرُور: شِدَّة الْحَرّ. قَالُوا: وَقَوْله: (أَوْ) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون شَكًّا مِنْ الرَّاوِي، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِلتَّقْسِيمِ.

.باب اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْحَرِّ:

980- قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْر إِذَا دَحَضَتْ الشَّمْس» هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَالْحَاء أَيْ إِذَا زَالَتْ. وَفيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْدِيمهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ.
982- قَوْله: «حَرّ الرَّمْضَاء» أَيْ الرَّمَل الَّذِي اِشْتَدَّتْ حَرَارَته.
قَوْله: «فَلَمْ يُشْكِنَا». أَيْ لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَام فِي حَدِيث خَبَّاب فِي الْبَاب السَّابِق.
983- قَوْله: «فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَته مِنْ الْأَرْض بَسَطَ ثَوْبه فَسَجَدَ عَلَيْهِ» فيه: دَلِيل لِمَنْ أَجَازَ السُّجُود عَلَى طَرَف ثَوْبه الْمُتَّصِل بِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْجُمْهُور، وَلَمْ يُجَوِّزْهُ الشَّافِعِيّ وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيث وَشَبَهه عَلَى السُّجُود عَلَى ثَوْب مُنْفَصِل.