فصل: باب مَنْ أَدْرَكَ مَا بَاعَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَفْلَسَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب اسْتِحْبَابِ الْوَضْعِ مِنَ الدَّيْنِ:

2911- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي غَيْر وَاحِد مِنْ أَصْحَابنَا قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أُوَيْس قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَخِي) قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْحُفَّاظ: هَذَا أَحَد الْأَحَادِيث الْمَقْطُوعَة فِي صَحِيح مُسْلِم، وَهِيَ اِثْنَا عَشَر حَدِيثًا سَبَقَ بَيَانهَا فِي الْفُصُول الْمَذْكُورَة فِي مُقَدِّمَة هَذَا الشَّرْح؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يُنْكِر مَنْ سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيث.
قَالَ الْقَاضِي: إِذَا قَالَ الرَّاوِي: حَدَّثَنِي غَيْر وَاحِد، أَوْ حَدَّثَنِي الثِّقَة، أَوْ حَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا، لَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَقْطُوع، وَلَا مِنْ الْمُرْسَل، وَلَا مِنْ الْمُعْضِل عِنْد أَهْل هَذَا الْفَنّ، بَلْ هُوَ مِنْ بَاب الرِّوَايَة عَنْ الْمَجْهُول، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَاب، لَكِنْ كَيْفَ كَانَ فَلَا يُحْتَجّ بِهَذَا الْمَتْن مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَة لَوْ لَمْ يَثْبُت مِنْ طَرِيق آخَر، وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيق آخَر، فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أُوَيْس، وَلَعَلَّ مُسْلِمًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ (غَيْر وَاحِد) الْبُخَارِيّ وَغَيْره، وَقَدْ حَدَّثَ مُسْلِم عَنْ إِسْمَاعِيل هَذَا مِنْ غَيْر وَاسِطَة فِي كِتَاب الْحَجّ، وَفِي آخِر كِتَاب الْجِهَاد، وَرَوَى مُسْلِم أَيْضًا عَنْ أَحْمَد بْن يُوسُف الْأَزْدِيّ عَنْ إِسْمَاعِيل فِي كِتَاب اللِّعَان، وَفِي كِتَاب الْفَضَائِل. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَإِذَا أَحَدهمَا يَسْتَوْضِع الْآخِر وَيَسْتَرْفِقهُ» أَيْ يَطْلُب مِنْهُ أَنْ يَضَع عَنْهُ بَعْض الدَّيْن، وَيَرْفُق بِهِ فِي الِاسْتِيفَاء وَالْمُطَالَبَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْس بِمِثْلِ هَذَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْإِلْحَاح وَإِهَانَة النَّفْس أَوْ الْإِيذَاء وَنَحْو ذَلِكَ إِلَّا مِنْ ضَرُورَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّه لَا يَفْعَل الْمَعْرُوف؟ قَالَ: أَنَا يَا رَسُول اللَّه وَلَهُ أَيْ ذَلِكَ أَحَبّ» الْمُتَأَلِّي: الْحَالِف، وَالْأَلْيَة: الْيَمِين.
وَفِي هَذَا كَرَاهَة الْحَلِف عَلَى تَرْك الْخَيْر، وَإِنْكَار ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَل خَيْرًا أَنْ يَحْنَث فَيُكَفِّر عَنْ يَمِينه.
وَفيه الشَّفَاعَة إِلَى أَصْحَاب الْحُقُوق، وَقَبُول الشَّفَاعَة فِي الْخَيْر.
2912- قَوْله: «تَقَاضَى اِبْن أَبِي حَدْرَد دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمْ» مَعْنَى تَقَاضَاهُ طَالَبَهُ بِهِ، وَأَرَادَ قَضَاءَهُ. وَحَدْرَد بِفَتْحِ الْحَاء وَالرَّاء.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الْمُطَالَبَة بِالدَّيْنِ فِي الْمَسْجِد، وَالشَّفَاعَة إِلَى صَاحِب الْحَقّ، وَالْإِصْلَاح بَيْن الْخُصُوم، وَحُسْن التَّوَسُّط بَيْنهمْ، وَقَبُول الشَّفَاعَة فِي غَيْر مَعْصِيَة، وَجَوَاز الْإِشَارَة وَاعْتِمَادهَا قَوْله: «فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْر» قَوْله: «كَشَفَ سِجْف حُجْرَته» هُوَ بِكَسْرِ السِّين وَفَتْحهَا لُغَتَانِ وَإِسْكَان الْجِيم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَفِي هَذَا الْبَاب قَالَ مُسْلِم بْن الْحَجَّاج: رَوَى اللَّيْث بْن سَعْد قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَر بْن رَبِيعَة) هَذَا أَحَد الْأَحَادِيث الْمَقْطُوعَة فِي صَحِيح مُسْلِم، وَيُسَمَّى مُعَلَّقًا، وَسَبَقَ فِي التَّيَمُّم مِثْله بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهَذَا الْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا مُتَّصِل عَنْ اللَّيْث، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَنْ يَحْيَى بْن بُكَيْر عَنْ اللَّيْث عَنْ جَعْفَر بْن رَبِيعَة بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُور هُنَا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ الرَّبِيع بْن سُلَيْمَان عَنْ شُعَيْب بْن اللَّيْث عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَر بْن رَبِيعَة.

.باب مَنْ أَدْرَكَ مَا بَاعَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ أَفْلَسَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ:

2913- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن يُونُس حَدَّثَنَا زُهَيْر حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم أَنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول) هَذَا الْإِسْنَاد فيه أَرْبَعَة مِنْ التَّابِعِينَ يَرْوِي بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَهُمْ يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ. وَأَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو، وَعُمَر، وَأَبُو بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَلِهَذَا نَظَائِر سَبَقَتْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ مَاله بِعَيْنِهِ عِنْد رَجُل قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْره» وَفِي رِوَايَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُل الَّذِي يُعْدَم إِذَا وُجِدَ عِنْده الْمَتَاع وَلَمْ يُفَرِّقهُ أَنَّهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي بَاعَهُ.
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ اِشْتَرَى سِلْعَة فَأَفْلَسَ، أَوْ مَاتَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّي ثَمَنهَا، وَلَا وَفَاء عِنْده، وَكَانَتْ السِّلْعَة بَاقِيَة بِحَالِهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة: بَائِعهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَضَرَبَ مَعَ الْغُرَمَاء بِثَمَنِهَا، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ فيها بِعَيْنِهَا فِي صُورَة الْإِفْلَاس وَالْمَوْت.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَجُوز لَهُ الرُّجُوع فيه، بَلْ تَتَعَيَّن الْمُضَارَبَة.
وَقَالَ مَالِك: يَرْجِع فِي صُورَة الْإِفْلَاس، وَيُضَارِب فِي الْمَوْت. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث مَعَ حَدِيثه فِي الْمَوْت فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره، وَتَأَوَّلَهَا أَبُو حَنِيفَة تَأْوِيلَات ضَعِيفَة مَرْدُودَة، وَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُمَا.
2915- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ قَتَادَة عَنْ النَّضْر بْن أَنَس ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي زُهَيْر بْن حَرْب حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا سَعِيد) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، فِي الْإِسْنَاد الْأَوَّل (شُعْبَة) بِضَمِّ الشِّين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ شُعْبَة بْن الْحَجَّاج. وَفِي الثَّانِي (سَعِيد) بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة، وَهُوَ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْجَلُودِيّ.
قَالَ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان فِي الثَّانِي (شُعْبَة) أَيْضًا بِضَمِّ الشِّين الْمُعْجَمَة.
قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
2916- قَوْله: (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَبِي خَلَف وَحَجَّاج بْن الشَّاعِر قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَة الْخُزَاعِيّ قَالَ حَجَّاج مَنْصُور بْن سَلَمَة قَالَ: أَخْبَرْنَا سُلَيْمَان بْن بِلَال) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم نُسَخ بِلَادنَا وَأُصُولهمْ الْمُحَقَّقَة: (قَالَ حَجَّاج مَنْصُور بْن سَلَمَة)، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَة الْخُزَاعِيّ هَذَا اِسْمه مَنْصُور بْن سَلَمَة، فَذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَبِي خَلَف بِكُنْيَتِهِ، وَذَكَرَهُ حَجَّاج بِاسْمِهِ، وَهَذَا صَحِيح. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُعْظِم نُسَخ بِلَادهمْ وَلِعَامَّةِ رُوَاتهمْ: (قَالَ حَجَّاج: حَدَّثَنَا مَنْصُور بْن سَلَمَة)، فَزَادَ لَفْظَة (حَدَّثَنَا) قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّوَاب حَذْف لَفْظَة (حَدَّثَنَا) كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاة.
قَالَ: وَيُمْكِن تَأْوِيل هَذَا الثَّانِي عَلَى مُوَافَقَة الْأَوَّل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ مُحَمَّد بْن أَحْمَد كَنَّاهُ، وَحَجَّاج سَمَّاهُ.

.باب فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ:

2917- قَوْله: «كُنْت أُدَايِن النَّاس، فَآمُر فِتْيَانِي أَنْ يَنْظُرُوا الْمُعْسِر، وَيَتَجَوَّزُوا عَنْ الْمُوسِر. قَالَ اللَّه: تَجَوَّزُوا عَنْهُ» وَفِي رِوَايَة: «كُنْت أَقْبَلَ الْمَيْسُور، وَأَتَجَاوَز عَنْ الْمَعْسُور» وَفِي رِوَايَة: «كُنْت أُنْظِر الْمُعْسِر، وَأَتَجَوَّز فِي السِّكَّة أَوْ فِي النَّقْد» وَفِي رِوَايَة: «وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَاز، فَكُنْت أَتَيَسَّرَ عَلَى الْمُوسِر، وَأُنْظِر الْمُعْسِر» فَقَوْله: «فِتْيَانِي» مَعْنَاهُ غِلْمَانِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَالتَّجَاوُز وَالتَّجَوُّز مَعْنَاهُمَا الْمُسَامَحَة فِي الِاقْتِضَاء وَالِاسْتِيفَاء وَقَبُول مَا فيه نَقْص يَسِير، كَمَا قَالَ: وَأَتَجَوَّز فِي السِّكَّة.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث فَضْل إِنْظَار الْمُعْسِر، وَالْوَضْع عَنْهُ إِمَّا كُلّ الدَّيْن، وَإِمَّا بَعْضه مِنْ كَثِير أَوْ قَلِيل، وَفَضْل الْمُسَامَحَة فِي الِاقْتِضَاء وَفِي الِاسْتِيفَاء؛ سَوَاء اُسْتُوْفِيَ مِنْ مُوسِر أَوْ مُعْسِر، وَفَضْل الْوَضْع مِنْ الدَّيْن، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَقِر شَيْء مِنْ أَفْعَال الْخَيْر؛ فَلَعَلَّهُ سَبَب السَّعَادَة وَالرَّحْمَة.
وَفيه جَوَاز تَوْكِيل الْعَبِيد وَالْإِذْن لَهُمْ فِي التَّصَرُّف، وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول: شَرْع مَنْ قَبْلنَا شَرْع لَنَا.
2918- قَوْلنَا: «الْمَيْسُور وَالْمَعْسُور» أَيْ آخُذ مَا تَيَسَّرَ، وَأُسَامِح بِمَا تَعَسَّرَ.
2920- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْأَشَجّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَنْ سَعْد بْن طَارِق عَنْ رِبْعِيّ بْن حِرَاش عَنْ حُذَيْفَة) ثُمَّ قَالَ فِي آخِر الْحَدِيث: (فَقَالَ عُقْبَة بْن عَامِر الْجُهَنِيّ، وَأَبُو مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: (فَقَالَ عُقْبَة بْن عَامِر وَأَبُو مَسْعُود) قَالَ الْحُفَّاظ: هَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظ لِأَبِي مَسْعُود عُقْبَة بْن عَمْرو الْأَنْصَارِيّ الْبَدْرِيّ وَحْده. وَلَيْسَ لِعُقْبَة بْن عَامِر فيه رِوَايَة قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْوَهْم فِي هَذَا الْإِسْنَاد مِنْ أَبِي خَالِد الْأَحْمَر.
قَالَ: وَصَوَابه عُقْبَة بْن عَمْرو أَبُو مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ، كَذَا رَوَاهُ أَصْحَاب أَبِي مَالِك سَعْد بْن طَارِق، وَتَابَعَهُمْ نُعَيْم بْن أَبِي هِنْد، وَعَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر، وَمَنْصُور، وَغَيْرهمْ عَنْ رِبْعِيّ عَنْ حُذَيْفَة فَقَالُوا فِي آخِر الْحَدِيث: فَقَالَ عُقْبَة بْن عُمَرو وَأَبُو مَسْعُود.
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث مَنْصُور وَنُعَيْم وَعَبْد الْمَلِك وَاَللَّه أَعْلَم.
2923- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيه اللَّه مِنْ كَرْب يَوْم الْقِيَامَة فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِر» (كُرَب) بِضَمِّ الْكَاف وَفَتْح الرَّاء جَمْع كُرْبَة، وَمَعْنَى: «يُنَفِّس» أَيْ يَمُدّ وَيُؤَخِّر الْمُطَالَبَة، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُفَرِّج عَنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ مَطْلِ الْغَنِيِّ وَصِحَّةِ الْحَوَالَةِ وَاسْتِحْبَابِ قَبُولِهَا إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيٍّ:

2924- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَطْل الْغَنِيّ ظُلْم» قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: الْمَطْل مَنْع قَضَاء مَا اِسْتَحَقَّ أَدَاؤُهُ. فَمَطْل الْغَنِيّ ظُلْم وَحَرَام، وَمَطْل غَيْر الْغَنِيّ لَيْسَ بِظُلْمٍ وَلَا حَرَام لِمَفْهُومِ الْحَدِيث، وَلِأَنَّهُ مَعْذُور، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْأَدَاء لِغِيبَةِ الْمَال أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ التَّأْخِير إِلَى الْإِمْكَان، وَهَذَا مَخْصُوص مِنْ مَطْل الْغَنِيّ. أَوْ يُقَال: الْمُرَاد بِالْغَنِيِّ الْمُتَمَكِّن مِنْ الْأَدَاء، فَلَا يَدْخُل هَذَا فيه.
قَالَ بَعْضهمْ: وَفيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ الْمُعْسِر لَا يَحِلّ حَبْسه، وَلَا مُلَازَمَته، وَلَا مُطَالَبَته حَتَّى يُوسِرَ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْمُفْلِس.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَاب مَالِك وَغَيْرهمْ فِي أَنَّ الْمُمَاطِل هَلْ يَفْسُق وَتُرَدّ شَهَادَته بِمَطْلِهِ مَرَّة وَاحِدَة، أَمْ لَا تُرَدّ شَهَادَته حَتَّى يَتَكَرَّر ذَلِكَ مِنْهُ وَيَصِير عَادَة؟ وَمُقْتَضَى مَذْهَبنَا اِشْتِرَاط التَّكْرَار. وَجَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر فِي غَيْر مُسْلِم. «لَيّ الْوَاجِد يُحِلّ عِرْضه وَعُقُوبَته». (اللَّيّ) بِفَتْحِ اللَّام وَتَشْدِيد الْيَاء وَهُوَ الْمَطْل، (وَالْوَاجِد) بِالْجِيمِ الْمُوسِر.
قَالَ الْعُلَمَاء: يُحِلّ عِرْضه بِأَنْ يَقُول: ظَلَمَنِي وَمَطَلَنِي، وَعُقُوبَته الْحَبْس وَالتَّعْزِيز.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا أُتْبِع أَحَدكُمْ عَلَى مَلِيء فَلْيَتْبَعْ» هُوَ بِإِسْكَانِ التَّاء فِي (أَتْبَع)، وَفِي (فَلْيَتَّبِعْ)، مِثْل أَخْرَجَ فَلْيَخْرُجْ هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات، وَالْمَعْرُوف فِي كُتُب اللُّغَة وَكُتُب غَرِيب الْحَدِيث، وَنَقَلَ الْقَاضِي وَغَيْره عَنْ بَعْض الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُشَدِّدهَا فِي الْكَلِمَة الثَّانِيَة، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَمَعْنَاهُ: وَإِذَا أُحِيلَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى مُوسِر فَلْيَحْتَلْ. يُقَال مِنْهُ: تَبِعْت الرَّجُل لِحَقِّي أَتَّبِعهُ تَبَاعَة فَأَنَا تَبَع وَإِذَا طَلَبْته قَالَ اللَّه تَعَالَى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} ثُمَّ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور أَنَّهُ إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيء اُسْتُحِبَّ لَهُ قَبُول الْحَوَالَة، وَحَمَلُوا الْحَدِيث عَلَى النَّدْب.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: الْقَبُول مُبَاح لَا مَنْدُوب، وَقَالَ بَعْضهمْ: وَاجِب لِظَاهِرِ الْأَمْر، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُدَ الظَّاهِرِيّ وَغَيْره.

.باب تَحْرِيمِ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ الَّذِي يَكُونُ بِالْفَلاَةِ وَيُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِرَعْيِ الْكَلإِ وَتَحْرِيمِ مَنْعِ بَذْلِهِ وَتَحْرِيمِ بَيْعِ ضِرَابِ الْفَحْلِ:

2925- قَوْله: «نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع فَضْل الْمَاء» وَفِي رِوَايَة: «عَنْ بَيْع ضِرَاب الْجَمَل، وَعَنْ بَيْع الْمَاء وَالْأَرْض لِتُحْرَث»، وَفِي رِوَايَة: «لَا يُمْنَع فَضْل الْمَاء لِيُمْنَع بِهِ الْكَلَأ»، وَفِي رِوَايَة: «لَا تُبَاع فَضْل الْمَاء لِيُبَاعَ بِهِ الْكَلَأ» أَمَّا النَّهْي عَنْ بَيْع فَضْل الْمَاء لِيُمْنَع بِهَا الْكَلَأ فَمَعْنَاهُ أَنْ تَكُون لِإِنْسَانٍ بِئْر مَمْلُوكَة لَهُ بِالْفَلَاةِ، وَفيها مَاء فَاضِل عَنْ حَاجَته، وَيَكُون هُنَاكَ كَلَأ لَيْسَ عِنْده مَاء إِلَّا هَذِهِ، فَلَا يُمْكِن أَصْحَاب الْمَوَاشِي رَعْيه إِلَّا إِذَا حَصَلَ لَهُمْ السَّقْي مِنْ هَذِهِ الْبِئْر فَيَحْرُم عَلَيْهِ مَنْع فَضْل هَذَا الْمَاء لِلْمَاشِيَةِ، وَيَجِب بَذْله لَهَا بِلَا عِوَض، لِأَنَّهُ إِذَا مَنْع بَذْله اِمْتَنَعَ النَّاس مِنْ رَعْي ذَلِكَ الْكَلَأ خَوْفًا عَلَى مَوَاشِيهمْ مِنْ الْعَطَش، وَيَكُون بِمَنْعِهِ الْمَاء مَانِعًا مِنْ رَعْي الْكَلَأ.
وَأَمَّا الرِّوَايَة الْأُولَى: «نَهَى عَنْ بَيْع فَضْل الْمَاء»، فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى هَذِهِ الثَّانِيَة الَّتِي فيها لِيَمْنَع بِهِ الْكَلَأ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ فِي غَيْره، وَيَكُون نَهْي تَنْزِيه.
قَالَ أَصْحَابنَا: يَجِب بَذْل فَضْل الْمَاء بِالْفَلَاةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بِشُرُوطٍ: أَحَدهَا أَنْ لَا يَكُون مَاء آخَر يُسْتَغْنَى بِهِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُون الْبَذْل لِحَاجَةِ الْمَاشِيَة لَا لِسَقْيِ الزَّرْع.
وَالثَّالِث أَنْ لَا يَكُون مَالِكه مُحْتَاجًا إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح أَنَّ مَنْ نَبَعَ فِي مِلْكه مَاء صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: لَا يَمْلِكهُ. أَمَّا إِذَا أَخْذ الْمَاء فِي إِنَاء مِنْ الْمَاء الْمُبَاح فَإِنَّهُ يَمْلِكهُ، هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضهمْ الْإِجْمَاع عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: لَا يَمْلِكهُ، بَلْ يَكُون أَخَصّ بِهِ، وَهَذَا غَلَط ظَاهِر.
2926- قَوْله: «نَهَى عَنْ ضِرَاب الْجَمَل» مَعْنَاهُ عَنْ أُجْرَة ضِرَابه، وَهُوَ عَسْب الْفَحْل الْمَذْكُور فِي حَدِيث آخَر، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَإِسْكَان السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِجَارَة الْفَحْل وَغَيْره مِنْ الدَّوَابّ لِلضِّرَابِ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَبُو ثَوْر وَآخَرُونَ: اِسْتِئْجَاره لِذَلِكَ بَاطِل وَحَرَام، وَلَا يَسْتَحِقّ فيه عِوَض، وَلَوْ أَنَزَاهُ الْمُسْتَأْجِر لَا يَلْزَمهُ الْمُسَمَّى مِنْ أُجْرَة، وَلَا أُجْرَة مِثْل، وَلَا شَيْء مِنْ الْأَمْوَال.
قَالُوا: لِأَنَّهُ غَرَر مَجْهُول، وَغَيْر مَقْدُور عَلَى تَسْلِيمه، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَالِك وَآخَرُونَ: يَجُوز اِسْتِئْجَاره لِضِرَابِ مُدَّة مَعْلُومَة، أَوْ لِضَرَبَاتٍ مَعْلُومَة، لِأَنَّ الْحَاجَة تَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ مَنْفَعَة مَقْصُودَة، وَحَمَلُوا النَّهْي عَلَى التَّنْزِيه وَالْحَثّ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ مَا قَرَنَهُ بِهِ مِنْ النَّهْي عَنْ إِجَارَة الْأَرْض وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «نَهَى عَنْ بَيْع الْأَرْض لِتُحْرَث» مَعْنَاهُ نَهَى عَنْ إِجَارَتهَا لِلزَّرْعِ، وَقَدْ سُبِقَتْ الْمَسْأَلَة وَاضِحَة فِي بَاب كِرَاء الْأَرْض، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْجُمْهُور يُجَوِّزُونَ إِجَارَتهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالثِّيَاب وَنَحْوهَا، وَيَتَأَوَّلُونَ النَّهْي تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ نَهْي تَنْزِيه لِيَعْتَادُوا إِعَارَتهَا وَإِرْفَاق بَعْضهمْ بَعْضًا، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى إِجَارَتهَا عَلَى أَنْ يَكُون لِمَالِكِهَا قِطْعَة مُعَيَّنَة مِنْ الزَّرْع. وَحَمَلَهُ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ الْمُزَارَعَة عَلَى إِجَارَتهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُج مِنْهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
2929- قَوْله: «لَا يُبَاع فَضْل الْمَاء لِيُبَاعَ بِهِ الْكَلَأ» - فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فَضْل مَاء بِالْفَلَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا وَهُنَاكَ كَلَأ لَا يُمْكِن رَعْيه إِلَّا إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ سَقْي الْمَاشِيَة مِنْ هَذَا الْمَاء، فَيَجِب عَلَيْهِ بَذْل هَذَا الْمَاء لِلْمَاشِيَةِ بِلَا عِوَض، وَيَحْرُم عَلَيْهِ بَيْعه؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ كَأَنَّهُ بَاعَ الْكَلَأ الْمُبَاح لِلنَّاسِ كُلّهمْ الَّذِي لَيْسَ مَمْلُوكًا لِهَذَا الْبَائِع؛ وَسَبَب ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَاب الْمَاشِيَة لَمْ يَبْذُلُوا الثَّمَن فِي الْمَاء لِمُجَرَّدِ إِرَادَة الْمَاء، بَلْ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى رَعْي الْكَلَأ، فَمَقْصُودهمْ تَحْصِيل الْكَلَأ، فَصَارَ بِبَيْعِ الْمَاء كَأَنَّهُ بَاعَ الْكَلَأ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ أَهْل اللُّغَة (الْكَلَأ) مَهْمُوز مَقْصُور هُوَ النَّبَات سَوَاء كَانَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، وَأَمَّا (الْحَشِيش) وَالْهَشِيم فَهُوَ مُخْتَصّ بِالْيَابِسِ، وَأَمَّا (الْخَلَى) فَمَقْصُور غَيْر مَهْمُوز، وَالْعُشْب مُخْتَصّ بِالرَّطْبِ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا الرُّطْب بِضَمِّ الرَّاء وَإِسْكَان الطَّاء.

.باب تَحْرِيمِ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ:

قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَن الْكَلْب وَمَهْر الْبَغِيّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِن»، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «شَرّ الْكَسْب مَهْر الْبَغِيّ، وَثَمَن الْكَلْب، وَكَسْب الْحَجَّام» وَفِي رِوَايَة: «ثَمَن الْكَلْب خَبِيث، وَمَهْر الْبَغِيّ خَبِيث، وَكَسْب الْحَجَّام خَبِيث» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «سَأَلْت جَابِرًا عَنْ ثَمَن الْكَلْب وَالسِّنَّوْر فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ».
2930- أَمَّا: «مَهْر الْبَغِيّ» فَهُوَ مَا تَأْخُذهُ الزَّانِيَة عَلَى الزِّنَا، وَسَمَّاهُ مَهْرًا لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَته، وَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا: «حُلْوَانِ الْكَاهِن» فَهُوَ مَا يُعْطَاهُ عَلَى كِهَانَته. يُقَال مِنْهُ: حَلَوْته حُلْوَانًا إِذَا أَعْطَيْته.
قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: أَصْله مِنْ الْحَلَاوَة شُبِّهَ بِالشَّيْءِ الْحُلْو مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَأْخُذهُ سَهْلًا بِلَا كُلْفَة، وَلَا فِي مُقَابَلَة مَشَقَّة. يُقَال: حَلَوْته إِذَا أَطْعَمْته الْحُلْو، كَمَا يُقَال: عَسَلْته إِذَا أَطْعَمْته الْعَسَل.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَيُطْلَق الْحُلْوَان أَيْضًا عَلَى غَيْر هَذَا. وَهُوَ أَنْ يَأْخُذ الرَّجُل مَهْر اِبْنَته لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ عَيْب عِنْد النِّسَاء.
قَالَتْ اِمْرَأَة تَمْدَح زَوْجهَا: لَا يَأْخُذ الْحُلْوَان عَنْ بَنَاتنَا.
قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي عِيَاض: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم حُلْوَانِ الْكَاهِن؛ لِأَنَّهُ عِوَض عَنْ مُحَرَّم، وَلِأَنَّهُ أَكَلَ الْمَال بِالْبَاطِلِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيم أُجْرَة الْمُغَنِّيَة لِلْغِنَاءِ، وَالنَّائِحَة لِلنَّوْحِ.
وَأَمَّا الَّذِي جَاءَ فِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم مِنْ النَّهْي عَنْ كَسْب الْإِمَاء فَالْمُرَاد بِهِ كَسْبهنَّ بِالزِّنَا وَشِبْهِهِ لَا بِالْغَزْلِ وَالْخِيَاطَة وَنَحْوهمَا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: وَيُقَال حُلْوَانِ الْكَاهِن الشنع والصهميم.
قَالَ الْخَطَّابِيّ: وَحُلْوَان الْعَرَّاف أَيْضًا حَرَام.
قَالَ: وَالْفَرْق بَيْن الْكَاهِن وَالْعَرَّاف أَنَّ الْكَاهِن إِنَّمَا يَتَعَاطَى الْأَخْبَار عَنْ الْكَائِنَات فِي مُسْتَقْبَل الزَّمَان، وَيَدَّعِي مَعْرِفَة الْأَسْرَار، وَالْعَرَّاف هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَة الشَّيْء الْمَسْرُوق وَمَكَان الضَّالَّة وَنَحْوهمَا مِنْ الْأُمُور. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيّ فِي مَعَالِم السُّنَن فِي كِتَاب الْبُيُوع، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي آخِر الْكِتَاب أَبْسَط مِنْ هَذَا فَقَالَ: إِنَّ الْكَاهِن هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مُطَالَعَة عِلْم الْغَيْب، وَيُخْبِر النَّاس عَنْ الْكَوَائِن.
قَالَ: وَكَانَ فِي الْعَرَب كَهَنَة يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُور؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُم أَنَّ لَهُ رُفَقَاء مِنْ الْجِنّ وَتَابِعَة تُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَار، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَدِرْك الْأُمُور بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمَّى عَرَّافًا وَهُوَ الَّذِي يَزْعُم أَنَّهُ يَعْرِف الْأُمُور بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَاب يُسْتَدَلّ بِهَا عَلَى مَوَاقِعهَا كَالشَّيْءِ يُسْرَق فَيَعْرِف الْمَظْنُون بِهِ السَّرِقَة، وَتَتَّهِم الْمَرْأَة بِالرِّيبَةِ فَيُعْرَف مِنْ صَاحِبهَا وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُسَمِّي الْمُنَجِّم كَاهِنًا قَالَ: وَحَدِيث النَّهْي عَنْ إِتْيَان الْكُهَّان يَشْتَمِل عَلَى النَّهْي عَنْ هَؤُلَاءِ كُلّهمْ، وَعَلَى النَّهْي عَنْ تَصْدِيقهمْ وَالرُّجُوع إِلَى قَوْلهمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْعُو الطَّبِيب كَاهِنًا، وَرُبَّمَا سَمُّوهُ عَرَّافًا؛ فَهَذَا غَيْر دَاخِل فِي النَّهْي. هَذَا آخِر كَلَام الْخَطَّابِيّ.
قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي آخِر كِتَابه الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة: وَيَمْنَع الْمُحْتَسَب مَنْ يَكْتَسِب بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْو، وَيُؤَدِّب عَلَيْهِ الْآخِذ وَالْمُعْطِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا النَّهْي عَنْ ثَمَن الْكَلْب وَكَوْنه مِنْ شَرّ الْكَسْب وَكَوْنه خَبِيثًا فَيَدُلّ عَلَى تَحْرِيم بَيْعه، وَأَنَّهُ لَا يَصِحّ بَيْعه، وَلَا يَحِلّ ثَمَنه، وَلَا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه سَوَاء كَانَ مُعَلَّمًا أَمْ لَا، وَسَوَاء كَانَ مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر وَغَيْرهمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَصِحّ بَيْع الْكِلَاب الَّتِي فيها مَنْفَعَة، وَتَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفهَا. وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر عَنْ جَابِر وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ جَوَاز بَيْع كَلْب الصَّيْد دُون غَيْره. وَعَنْ مَالِك رِوَايَات إِحْدَاهَا لَا يَجُوز بَيْعه، وَلَكِنْ تَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفه. وَالثَّانِيَة يَصِحّ بَيْعه، وَتَجِب الْقِيمَة. وَالثَّالِثَة لَا يَصِحّ، وَلَا تَجِب الْقِيمَة عَلَى مُتْلِفه.
دَلِيل الْجُمْهُور هَذِهِ الْأَحَادِيث.
وَأَمَّا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَنْ ثَمَن الْكَلْب إِلَّا كَلْب صَيْد وَفِي رِوَايَة: «إِلَّا كَلْبًا ضَارِيًا»، وَأَنَّ عُثْمَان غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَن كَلْب قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَعَنْ اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ التَّغْرِيم فِي إِتْلَافه فَكُلّهَا ضَعِيفَة بِاتِّفَاقِ أَئِمَّة الْحَدِيث، وَقَدْ أَوْضَحْتهَا فِي شَرْح الْمُهَذَّب فِي بَاب مَا يَجُوز بَيْعه.
2932- أَمَّا: «كَسْب الْحَجَّام» وَكَوْنه خَبِيثًا وَمِنْ شَرّ الْكَسْب فَفيه دَلِيل لِمَنْ يَقُول بِتَحْرِيمِهِ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَسْب الْحَجَّام فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: لَا يَحْرُم كَسْب الْحَجَّام، وَلَا يَحْرُم أَكَلَهُ لَا عَلَى الْحُرّ وَلَا عَلَى الْعَبْد، وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب أَحْمَد، وَقَالَ فِي رِوَايَة عَنْهُ قَالَ بِهَا فُقَهَاء الْمُحَدِّثِينَ يَحْرُم عَلَى الْحُرّ دُون الْعَبْد، وَاعْتَمَدُوا هَذِهِ الْأَحَادِيث وَشِبْههَا، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّام أَجْره. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.
وَحَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي فِي النَّهْي عَلَى التَّنْزِيه وَالِارْتِفَاع عَنْ دَنِيء الْأَكْسَاب، وَالْحَثّ عَلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق وَمَعَالِي الْأُمُور. وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُفَرِّق فيه بَيْن الْحُرّ وَالْعَبْد فَإِنَّهُ لَا يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يُطْعِم عَبْده مَا لَا يَحِلّ.
2933- وَأَمَّا النَّهْي عَنْ ثَمَن السِّنَّوْر فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَع، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَهْي تَنْزِيه حَتَّى يَعْتَاد النَّاس هِبَته وَإِعَارَته وَالسَّمَاحَة بِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِب. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَع وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْع، وَكَانَ ثَمَنه حَلَالًا هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَى اِبْن الْمُنْذِر. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِد وَجَابِر بْن زَيْد أَنَّهُ لَا يَجُوز بَيْعه، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَاب الْمُعْتَمَد.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيّ وَأَبُو عَمْرو بْن عَبْد الْبَرّ مِنْ أَنَّ الْحَدِيث فِي النَّهْي عَنْهُ ضَعِيف فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ الْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسْلِم وَغَيْره. وَقَوْل اِبْن عَبْد الْبَرّ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر غَيْر حَمَّاد بْن سَلَمَة غَلَط مِنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَاهُ فِي صَحِيحه كَمَا يُرْوَى مِنْ رِوَايَة مَعْقِل بْن عُبَيْد اللَّه عَنْ أَبِي الزُّبَيْر؛ فَهَذَانِ ثِقَتَانِ رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، وَهُوَ ثِقَة أَيْضًا. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ وَبَيَانِ نَسْخِهِ وَبَيَانِ تَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا إِلاَّ لِصَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ:

2934- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَاب»، وَفِي رِوَايَة: «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَاب، فَأَرْسَلَ فِي أَقْطَار الْمَدِينَة أَنْ تُقْتَل» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّهُ كَانَ يَأْمُر بِقَتْلِ الْكِلَاب، فَتَتَبَّعَتْ فِي الْمَدِينَة وَأَطْرَافهَا، فَلَا نَدَع كَلْبًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ، حَتَّى إِنَّا لَنَقْتُل كَلْب الْمِرْيَة مِنْ أَهْل الْبَادِيَة يَتْبَعهَا» وَفِي رِوَايَة: «أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَاب إِلَّا كَلْب صَيْد أَوْ كَلْب غَنَم أَوْ مَاشِيَة، فَقِيلَ لِابْنِ عُمَر: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: أَوْ كَلْب زَرْع، فَقَالَ اِبْن عُمَر: إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَة زَرْعًا»، وَفِي رِوَايَة جَابِر: «أَمَرَنَا رَسُول اللَّه بِقَتْلِ الْكِلَاب حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَة تَقْدَم مِنْ الْبَادِيَة بِكَلْبِهَا فَتَقْتُلهُ، ثُمَّ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيم ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَان» وَفِي رِوَايَة اِبْن الْمُغَفَّل قَالَ: «أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَاب، ثُمَّ قَالَ مَا بَالهمْ وَبَال الْكِلَاب؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْب الصَّيْد وَكَلْب الْغَنَم»، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فِي كَلْب الْغَنَم» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «فِي كَلْب الْغَنَم وَالصَّيْد وَالزَّرْع»، وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر: «مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْب مَاشِيَة أَوْ ضَارّ نَقَصَ مِنْ عَمَله كُلّ يَوْم قِيرَاطَانِ» وَفِي رِوَايَة: «يَنْقُص مِنْ أَجْره كُلّ يَوْم قِيرَاطًا» وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْد وَلَا مَاشِيَة وَلَا أَرْض فَإِنَّهُ يَنْقُص مِنْ أَجْره قِيرَاطَانِ كُلّ يَوْم» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «اُنْتُقِصَ مِنْ أَجْره كُلّ يَوْم قِيرَاط» وَفِي رِوَايَة سُفْيَان بْن أَبِي زُهَيْر: «مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَله كُلّ يَوْم قِيرَاط» أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى قَتْل الْكَلْب، وَالْكَلْب الْعَقُور.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْل مَا لَا ضَرَر فيه؛ فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابنَا: أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِقَتْلِهَا كُلّهَا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَنُهِيَ عَنْ قَتْلهَا إِلَّا الْأَسْوَد الْبَهِيم، ثُمَّ اِسْتَقَرَّ الشَّرْع عَلَى النَّهْي عَنْ قَتْل جَمِيع الْكِلَاب الَّتِي لَا ضَرَر فيها سَوَاء الْأَسْوَد وَغَيْره، وَيُسْتَدَلّ لِمَا ذَكَرَهُ بِحَدِيثِ اِبْن الْمُغَفَّل.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: ذَهَبَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ فِي قَتْل الْكِلَاب إِلَّا مَا اِسْتَثْنَى مِنْ كَلْب الصَّيْد وَغَيْره.
قَالَ: وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه.
قَالَ: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا هَلْ كَلْب الصَّيْد وَنَحْوه مَنْسُوخ مِنْ الْعُمُوم الْأَوَّل فِي الْحُكْم بِقَتْلِ الْكِلَاب وَأَنَّ الْقَتْل كَانَ عَامًّا فِي الْجَمِيع أَمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى ذَلِكَ؟ قَالَ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَاز اِتِّخَاذ جَمِيعهَا، وَنُسِخَ الْأَمْر بِقَتْلِهَا، وَالنَّهْي عَنْ اِقْتِنَائِهَا إِلَّا الْأَسْوَد الْبَهِيم.
قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدِي أَنَّ النَّهْي أَوَّلًا كَانَ نَهْيًا عَامًّا عَنْ اِقْتِنَاء جَمِيعهَا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ جَمِيعهَا، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلهَا مَا سِوَى الْأَسْوَد، وَمَنَعَ الِاقْتِنَاء فِي جَمِيعهَا إِلَّا كَلْب صَيْد أَوْ زَرْع أَوْ مَاشِيَة. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ ظَاهِر الْأَحَادِيث، وَيَكُون حَدِيث اِبْن الْمُغَفَّل مَخْصُوصًا بِمَا سِوَى الْأَسْوَد لِأَنَّهُ عَامّ فَيَخُصّ مِنْهُ الْأَسْوَد بِالْحَدِيثِ الْآخَر.
وَأَمَّا اِقْتِنَاء الْكِلَاب فَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يَحْرُم اِقْتِنَاء الْكَلْب بِغَيْرِ حَاجَة، وَيَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ لِلصَّيْدِ وَلِلزَّرْعِ وَلِلْمَاشِيَةِ.
وَهَلْ يَجُوز لِحِفْظِ الدُّور وَالدُّرُوب وَنَحْوهَا؟ فيه وَجْهَانِ:
أَحَدهمَا لَا يَجُوز لِظَوَاهِر الْأَحَادِيث فَإِنَّهَا مُصَرِّحَة بِالنَّهْيِ إِلَّا لِزَرْعٍ أَوْ صَيْد أَوْ مَاشِيَة، وَأَصَحّهَا يَجُوز قِيَاسًا عَلَى الثَّلَاثَة عَمَلًا بِالْعِلَّةِ الْمَفْهُومَة مِنْ الْأَحَادِيث وَهِيَ الْحَاجَة.
وَهَلْ يَجُوز اِقْتِنَاء الْجَرْو وَتَرْبِيَته لِلصَّيْدِ أَوْ الزَّرْع أَوْ الْمَاشِيَة؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا جَوَازه.
2937- قَوْله: (قَالَ اِبْن عُمَر إِنَّ لِأَبِي هُرَيْرَة زَرْعًا) وَقَالَ سَالِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: أَوْ كَلْب حَرْث، وَكَانَ صَاحِب حَرْث» قَالَ الْعُلَمَاء: لَيْسَ هَذَا تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَة، وَلَا شَكًّا فيها، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِب زَرْع وَحَرْث اِعْتَنَى بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَهُ، وَالْعَادَة أَنَّ الْمُبْتَلَى بِشَيْءٍ يُتْقِنهُ مَا لَا يُتْقِنهُ غَيْره، وَيَتَعَرَّف مِنْ أَحْكَامه مَا لَا يَعْرِفهُ غَيْره، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم هَذِهِ الزِّيَادَة وَهِيَ اِتِّخَاذه لِلزَّرْعِ مِنْ رِوَايَة اِبْن الْمُغَفَّل، وَمَنْ رِوَايَة سُفْيَان بْن أَبِي زُهَيْر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَهَا أَيْضًا مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن الْحَكَم، وَاسْمه عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي نُعْم الْبَجَلِيّ عَنْ اِبْن عُمَر، فَيَحْتَمِل أَنَّ اِبْن عُمَر لَمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَتَحَقَّقَهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهَا عَنْهُ بَعْد ذَلِكَ، وَزَادَهَا فِي حَدِيثه الَّذِي كَانَ يَرْوِيه بِدُونِهَا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ تَذَكَّرَ فِي وَقْت أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَوَاهَا، وَنَسِيَهَا فِي وَقْت فَتَرَكَهَا. وَالْحَاصِل أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة لَيْسَ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الزِّيَادَة، بَلْ وَافَقَهُ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة فِي رِوَايَتهَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ اِنْفَرَدَ بِهَا لَكَانَتْ مَقْبُولَة مَرْضِيَّة مُكَرَّمَة.
2938- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيم ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَان» مَعْنَى الْبَهِيم الْخَالِص السَّوَاد، وَأَمَّا النُّقْطَتَانِ فُهِّمَا نُقْطَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بَيْضَاوَانِ فَوْق عَيْنَيْهِ وَهَذَا مُشَاهَد مَعْرُوف.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ شَيْطَان» اِحْتَجَّ بِهِ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَبَعْض أَصْحَابنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز صَيْد الْكَلْب الْأَسْوَد الْبَهِيم، وَلَا يَحِلّ إِذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ شَيْطَان، إِنَّمَا حَلَّ صَيْد الْكَلْب.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: يَحِلّ صَيْد الْكَلْب الْأَسْوَد كَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ إِخْرَاجه عَنْ جِنْس الْكِلَاب، وَلِهَذَا لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاء وَغَيْره وَجَبَ غَسْله كَمَا يُغْسَل مِنْ وُلُوغ الْكَلْب الْأَبْيَض.
2939- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالهمْ وَبَال الْكِلَاب؟» أَيْ مَا شَأْنهمْ؟ أَيْ لِيَتْرُكُوهَا.
2940- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْب مَاشِيَة أَوْ ضَارِي» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (ضَارِي بِالْيَاءِ)، وَفِي بَعْضهَا: «ضَارِيًا» بِالْأَلِفِ بَعْد الْيَاء مَنْصُوبًا، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْب ضَارِيَة» وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوَّل رُوِيَ (ضَارِي) بِالْيَاءِ، (وَضَارٍ) بِحَذْفِهَا، (وَضَارِيًا) فَأَمَّا (ضَارِيًا) فَهُوَ ظَاهِر الْإِعْرَاب، وَأَمَّا (ضَارِي وَضَارٍ) فَهُمَا مَجْرُورَانِ عَلَى الْعَطْف عَلَى مَاشِيَة وَيَكُون مِنْ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته كَمَاءِ الْبَارِد، وَمَسْجِد الْجَامِع، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} {وَلَدَار الْآخِرَة} وَسَبَقَ بَيَان هَذَا مَرَّات وَيَكُون ثُبُوت الْيَاء فِي (ضَارِي) عَلَى اللُّغَة الْقَلِيلَة فِي إِثْبَاتهَا فِي الْمَنْقُوص مِنْ غَيْر أَلِف وَلَام، وَالْمَشْهُور حَذْفهَا، وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَة (ضَارٍ) هُنَا صِفَة لِلرَّجُلِ الصَّائِد صَاحِب الْكِلَاب الْمُعْتَاد لِلصَّيْدِ فَسَمَّاهُ ضَارِيًا اِسْتِعَارَة كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِلَّا كَلْب مَاشِيَة أَوْ كَلْب صَائِد» وَأَمَّا رِوَايَة: «إِلَّا كَلْب ضَارِيَة» فَقَالُوا: تَقْدِيره إِلَّا كَلْب ذِي كِلَاب ضَارِيَة. وَالضَّارِي هُوَ الْمُعَلَّم الصَّيْد الْمُعْتَاد لَهُ، يُقَال مِنْهُ ضَرِيَ الْكَلْب يَضْرِي كَشَرِيَ يَشْرِي ضَرًّا وَضَرَاوَة، وَأَضْرَاهُ أَيْ عَوَّدَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ ضَرِيَ بِالصَّيْدِ إِذَا لَهِجَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ لِلَّحْمِ ضَرَاوَة كَضَرَاوَةِ الْخَمْر.
قَالَ جَمَاعَة: مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ عَادَة يَنْزِع إِلَيْهَا كَعَادَةِ الْخَمْر.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّ لِأَهْلِهِ عَادَة فِي أَكْله كَعَادَةِ شَارِب الْخَمْر فِي مُلَازَمَته، وَكَمَا أَنَّ مَنْ اِعْتَادَ الْخَمْر لَا يَكَاد يَصْبِر عَنْهَا كَذَا مَنْ اِعْتَادَ اللَّحْم.
2941- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَقَصَ مِنْ أَجْره» وَفِي رِوَايَة: «مِنْ عَمَله كُلّ يَوْم قِيرَاطَانِ» وَفِي رِوَايَة (قِيرَاط) فَأَمَّا رِوَايَة (عَمَله) فَمَعْنَاهُ مِنْ أَجْر عَمَله.
وَأَمَّا الْقِيرَاط هُنَا فَهُوَ مِقْدَار مَعْلُوم عِنْد اللَّه تَعَالَى. وَالْمُرَاد نَقَصَ جُزْء مِنْ أَجْر عَمَله.
وَأَمَّا اِخْتِلَاف الرِّوَايَة فِي قِيرَاط وَقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّهُ فِي نَوْعَيْنِ مِنْ الْكِلَاب أَحَدهمَا أَشَدّ أَذًى مِنْ الْآخَر، وَلِمَعْنًى فيهمَا أَوْ يَكُون ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِع، فَيَكُون الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدِينَة خَاصَّة لِزِيَادَةِ فَضْلهَا، وَالْقِيرَاط فِي غَيْرهَا. أَوْ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدَائِن وَنَحْوهَا مِنْ الْقُرَى، وَالْقِيرَاط فِي الْبَوَادِي، أَوْ يَكُون ذَلِكَ فِي زَمَنَيْنِ فَذَكَرَ الْقِيرَاط أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ التَّغْلِيظ فَذَكَرَ الْقِيرَاطَيْنِ.
قَالَ الرُّويَانِيّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي كِتَابه الْبَحْر: اِخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِمَا يَنْقُص مِنْهُ فَقِيلَ: يَنْقُص مِمَّا مَضَى مِنْ عَمَله، وَقِيلَ مِنْ مُسْتَقْبَله.
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلّ نَقْص الْقِيرَاطَيْنِ، فَقِيلَ: يَنْقُص قِيرَاط مِنْ عَمَل النَّهَار، وَقِيرَاط مِنْ عَمَل اللَّيْل، أَوْ قِيرَاط مِنْ عَمَل الْفَرْض، وَقِيرَاط مِنْ عَمَل النَّفْل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب نُقْصَان الْأَجْر بِاقْتِنَاءِ الْكَلْب، فَقِيلَ: لِامْتِنَاعِ الْمَلَائِكَة مِنْ دُخُول بَيْته بِسَبَبِهِ.
وَقِيلَ: لِمَا يَلْحَق الْمَارِّينَ مِنْ الْأَذَى مِنْ تَرْوِيع الْكَلْب لَهُمْ وَقَصْده إِيَّاهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عُقُوبَة لَهُ لِاِتِّخَاذِهِ مَا نُهِيَ عَنْ اِتِّخَاذه، وَعِصْيَانه فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: لِمَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ وُلُوغه فِي غَفْلَة صَاحِبه وَلَا يَغْسِلهُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَاب. وَاَللَّه أَعْلَم.
2942- سبق شرحه بالباب.
2943- سبق شرحه بالباب.
2944- سبق شرحه بالباب.
2945- سبق شرحه بالباب.
2946- سبق شرحه بالباب.
2947- سبق شرحه بالباب.
2948- سبق شرحه بالباب.
2949- سبق شرحه بالباب.
2950- سبق شرحه بالباب.
2951- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا» الْمُرَاد بِالضَّرْعِ الْمَاشِيَة كَمَا فِي سَائِر الرِّوَايَات، وَمَعْنَاهُ مَنْ اِقْتَنَى كَلْبًا لِغَيْرِ زَرْع وَمَاشِيَة.
قَوْله: (وَفَدَ عَلَيْهِمْ سُفْيَان بْن أَبِي زُهَيْر الشَّنَئِيّ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ بِشِينٍ مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون مَفْتُوحَة ثُمَّ هَمْزَة مَكْسُورَة مَنْسُوب إِلَى أَزْد شَنُوءَة بِشِينٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون مَضْمُومَة ثُمَّ هَمْزَة مَمْدُودَة ثُمَّ هَاء. وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة (الشَّنَوِيّ) بِالْوَاوِ، وَهُوَ صَحِيح عَلَى إِرَادَة التَّسْهِيل، وَرُوَاة بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ شَنُوِيّ بِضَمِّ النُّون عَلَى الْأَصْل.