فصل: بَاب الدُّعَاء فِي صَلَاة اللَّيْل وَقِيَامه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَالْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ:

1239- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاة اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى» هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح: «صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مَثْنَى مَثْنَى». هَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى بَيَان الْأَفْضَل وَهُوَ أَنْ يُسَلِّم مِنْ كُلّ رَكْعَتَيْنِ، وَسَوَاء نَوَافِل اللَّيْل وَالنَّهَار يُسْتَحَبّ أَنْ يُسَلِّم مِنْ كُلّ رَكْعَتَيْنِ، فَلَوْ جَمَعَ رَكَعَات بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ تَطَوُّع بِرَكْعَةٍ وَاحِدَة جَازَ عِنْدنَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدكُمْ الصُّبْح صَلَّى رَكْعَة تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «أَوْتِرُوا قَبْل الصُّبْح» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ السُّنَّة جَعْل الْوِتْر آخِر صَلَاة اللَّيْل، وَعَلَى أَنَّ وَقْته يَخْرُج بِطُلُوعِ الْفَجْر، وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقِيلَ: يَمْتَدّ بَعْد الْفَجْر حَتَّى يُصَلِّي الْفَرْضَ.
1247- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْر رَكْعَة مِنْ آخِر اللَّيْل» دَلِيل عَلَى صِحَّة الْإِيتَار بِرَكْعَةٍ، وَعَلَى اِسْتِحْبَابه آخِر اللَّيْل.
1251- قَوْله: (إِنَّك لَضَخْم) إِشَارَة إِلَى الْغَبَاوَة وَالْبَلَادَة وَقِلَّة الْأَدَب. قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا الْوَصْف يَكُون لِلضَّخْمِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ عَلَيْهِ الْكَلَام وَأَعْجَلَهُ قَبْل تَمَام حَدِيثه.
قَوْله: (أَسْتَقْرِئ لَك الْحَدِيث) هُوَ بِالْهَمْزَةِ مِنْ الْقِرَاءَة وَمَعْنَاهُ: أَذْكُرهُ وَأَتِي بِهِ عَلَى وَجْهه بِكَمَالِهِ.
قَوْله: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْغَدَاة كَانَ الْأَذَان بِأُذُنَيْهِ» قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد بِالْأَذَانِ هُنَا الْإِقَامَة، هُوَ إِشَارَة إِلَى شِدَّة تَخْفِيفهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: (بَهْ بَهْ) هُوَ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَة وَهَاء سَاكِنَة مُكَرَّرَة، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ (مَهْ مَهْ) زَجْرٌ وَكَفٌّ، وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: هِيَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْر بِمَعْنَى (بَخٍ بَخٍ).
1254- قَوْله: (أَبُو نَضْرَة الْعَوَقِيّ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَة وَوَاو مَفْتُوحَتَيْنِ وَقَاف مَنْسُوب إِلَى الْعَوَقَة بَطْن مِنْ عَبْد الْقَيْس، وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع فَتْح الْوَاو وَإِسْكَانهَا، وَالصَّوَاب الْمَشْهُور الْمَعْرُوف الْفَتْح لَا غَيْر.

.باب مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ:

1256- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث جَابِر: «مَنْ خَافَ أَلَّا يَقُوم مِنْ آخِر اللَّيْل فَلْيُوتِرْ أَوَّله، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُوم آخِره فَلْيُوتِرْ آخِر اللَّيْل» فيه: دَلِيل صَرِيح عَلَى أَنَّ تَأْخِير الْوِتْر إِلَى آخِر اللَّيْل أَفْضَل لِمَنْ وَثِقَ بِالِاسْتِيقَاظِ آخِر اللَّيْل، وَأَنَّ مَنْ لَا يَثِق بِذَلِكَ فَالتَّقْدِيم لَهُ أَفْضَل، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَيُحْمَل بَاقِي الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة عَلَى هَذَا التَّفْصِيل الصَّحِيح الصَّرِيح فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث: «أَوْصَانِي خَلِيلِي أَلَّا أَنَام إِلَّا عَلَى وِتْر»، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ لَا يَثِق بِالِاسْتِيقَاظِ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ صَلَاة آخِر اللَّيْل مَشْهُودَة» وَذَلِكَ أَفْضَل أَنْ يَشْهَدهَا مَلَائِكَة الرَّحْمَة. وَفيه دَلِيلَانِ صَرِيحَانِ عَلَى تَفْضِيل صَلَاة الْوِتْر وَغَيْرهَا آخِر اللَّيْل.

.باب أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ الْقُنُوتِ:

1257- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَل الصَّلَاة طُول الْقُنُوت» الْمُرَاد بِالْقُنُوتِ هُنَا الْقِيَام بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء فِيمَا عَلِمْت، وَفيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ يَقُول كَقَوْلِهِ: إِنَّ تَطْوِيل الْقِيَام أَفْضَل مِنْ كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة قَرِيبًا وَأَيْضًا فِي أَبْوَاب صِفَةِ الصَّلَاةِ.

.باب فِي اللَّيْلِ سَاعَةٌ مُسْتَجَابٌ فيها الدُّعَاءُ:

1259- قَوْله: «إِنَّ فِي اللَّيْل لَسَاعَة لَا يُوَافِقهَا رَجُل مُسْلِم يَسْأَل اللَّه تَعَالَى مِنْ أَمْر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلّ لَيْلَة» فيه: إِثْبَات سَاعَة الْإِجَابَة فِي كُلّ لَيْلَة، وَيَتَضَمَّن الْحَثّ عَلَى الدُّعَاء فِي جَمِيع سَاعَات اللَّيْل رَجَاء مُصَادَفَتهَا.

.باب التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَالإِجَابَةِ فيه:

1261- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِل رَبّنَا كُلّ لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ» هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات، وَفيه مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ سَبَقَ إِيضَاحهمَا فِي كِتَاب الْإِيمَان وَمُخْتَصَرهمَا أَنَّ أَحَدهمَا وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور السَّلَف وَبَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ يُؤْمِن بِأَنَّهَا حَقّ عَلَى مَا يَلِيق بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ظَاهِرهَا الْمُتَعَارَف فِي حَقّنَا غَيْر مُرَاد، وَلَا يَتَكَلَّم فِي تَأْوِيلهَا مَعَ اِعْتِقَاد تَنْزِيه اللَّه تَعَالَى عَنْ صِفَات الْمَخْلُوق، وَعَنْ الِانْتِقَال وَالْحَرَكَات وَسَائِر سِمَات الْخَلْق.
وَالثَّانِي: مَذْهَب أَكْثَر الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَات مِنْ السَّلَف وَهُوَ مَحْكِيّ هُنَا عَنْ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهَا تُتَأَوَّل عَلَى مَا يَلِيق بِهَا بِحَسْب مَوَاطِنهَا. فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث تَأْوِيلَيْنِ أَحَدهمَا: تَأْوِيل مَالِك بْن أَنَس وَغَيْره مَعْنَاهُ: تَنْزِل رَحْمَته وَأَمْره وَمَلَائِكَته كَمَا يُقَال: فَعَلَ السُّلْطَان كَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَتْبَاعه بِأَمْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِعَارَة، وَمَعْنَاهُ: الْإِقْبَال عَلَى الدَّاعِينَ بِالْإِجَابَةِ وَاللُّطْف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
1262- قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: «أَنَا الْمَلِك أَنَا الْمَلِك» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَالرِّوَايَات مُكَرَّر لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّعْظِيم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيء الْفَجْر» فيه: دَلِيل عَلَى اِمْتِدَاد وَقْت الرَّحْمَة وَاللُّطْف التَّامّ إِلَى إِضَاءَة الْفَجْر. وَفيه: الْحَثّ عَلَى الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار فِي جَمِيع الْوَقْت الْمَذْكُور إِلَى إِضَاءَة الْفَجْر. وَفيه: تَنْبِيه عَلَى أَنَّ آخِر اللَّيْل لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار وَغَيْرهَا مِنْ الطَّاعَات أَفْضَل مِنْ أَوَّله. وَاللَّهُ أَعْلَم.
1263- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِل رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلّ لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يَبْقَى ثُلُث اللَّيْل الْآخِر» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «حِين يَمْضِي ثُلُث اللَّيْل الْأَوَّل» وَفِي رِوَايَة: «إِذَا مَضَى شَطْر اللَّيْل أَوْ ثُلُثَاهُ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الصَّحِيح رِوَايَة (حِين يَبْقَى ثُلُث اللَّيْل الْآخِر كَذَا قَالَهُ شُيُوخ الْحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ بِلَفْظِهِ) وَمَعْنَاهُ.
قَالَ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون النُّزُول بِالْمَعْنَى الْمُرَاد بَعْد الثُّلُث الْأَوَّل، وَقَوْله: «مَنْ يَدْعُونِي» بَعْد الثُّلُث الْأَخِير، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، قُلْت: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِي وَقْت فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِالْآخَرِ فِي وَقْت آخَر فَأَعْلَمَ بِهِ، وَسَمِعَ أَبُو هُرَيْرَة الْخَبَرَيْنِ فَنَقَلَهُمَا جَمِيعًا، وَسَمِعَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيِّ خَبَر الثُّلُث الْأَوَّل فَقَطْ فَأَخْبَرَ بِهِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَة، كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة، وَهَذَا ظَاهِر. وَفيه رَدٌّ لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي مِنْ تَضْعِيف رِوَايَة الثُّلُث الْأَوَّل، وَكَيْف يُضَعِّفهَا وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِم فِي صَحِيحه بِإِسْنَادٍ لَا مَطْعَن فيه عَنْ الصَّحَابِيِّينَ أَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
1264- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَاضِر أَبُو الْمُوَرِّع)، هُوَ مُحَاضِر بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَالْمُوَرِّع بِكَسْرِ الرَّاء، هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع النُّسَخ أَبُو الْمُوَرِّع، وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل فِي كُتُب الْحَدِيث اِبْن الْمُوَرِّع وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَهُوَ اِبْن الْمُوَرِّع وَكُنْيَته أَبُو الْمُوَرِّع. قَوْله فِي حَدِيث حَجَّاج بْن الشَّاعِر عَنْ مُحَاضِر: «يَنْزِل اللَّه فِي السَّمَاء» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول فِي السَّمَاء وَهُوَ صَحِيح.
قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى: «مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «غَيْر عَدُوم» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول. فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: (عَدِيم)، وَالثَّانِيَة: (عَدُوم).
وَقَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال أَعْدَم الرَّجُل إِذَا اِفْتَقَرَ فَهُوَ مُعْدِم وَعَدِيم وَعَدُوم، وَالْمُرَاد بِالْقَرْضِ- وَاَللَّه أَعْلَم- عَمَل الطَّاعَة سَوَاء فيه الصَّدَقَة وَالصَّلَاة وَالصَّوْم وَالذِّكْر وَغَيْرهَا مِنْ الطَّاعَات، وَسَمَّاهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى قَرْضًا مُلَاطَفَة لِلْعِبَادِ وَتَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَة إِلَى الطَّاعَة، فَإِنَّ الْقَرْض إِنَّمَا يَكُون مِمَّنْ يَعْرِفهُ الْمُقْتَرِضُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُؤَانَسَةٌ وَمَحَبَّةٌ، فَحِين يَتَعَرَّض لِلْقَرْضِ يُبَادِر الْمَطْلُوب مِنْهُ بِإِجَابَتِهِ لِفَرَحِهِ بِتَأْهِيلِهِ لِلِاقْتِرَاضِ مِنْهُ وَإِدْلَاله عَلَيْهِ وَذِكْره لَهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
قَوْله: «ثُمَّ يَبْسُط يَدَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى» هُوَ إِشَارَة إِلَى نَشْر رَحْمَته وَكَثْرَة عَطَائِهِ وَإِجَابَته وَإِسْبَاغ نِعْمَته.
1265- قَوْله: (عَنْ الْأَغَرّ أَبِي مُسْلِم) الْأَغَرّ لَقَبٌ وَاسْمُهُ سَلْمَان.

.باب التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَهُوَ التَّرَاوِيحُ:

1266- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» مَعْنَى: «إِيمَانًا» تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حَقّ مُقْتَصِد فَضِيلَته، وَمَعْنَى: «اِحْتِسَابًا» أَنْ يُرِيد اللَّه تَعَالَى وَحْده لَا يَقْصِد رُؤْيَة النَّاس، وَلَا غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِف الْإِخْلَاص. وَالْمُرَاد بِقِيَامِ رَمَضَان صَلَاة التَّرَاوِيح، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَابهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَل صَلَاتهَا مُنْفَرِدًا فِي بَيْته أَمْ فِي جَمَاعَة فِي الْمَسْجِد؟ فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَبَعْض الْمَالِكِيَّة وَغَيْرهمْ: الْأَفْضَل صَلَاتهَا جَمَاعَة كَمَا فَعَلَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَالصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَمَل الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّعَائِر الظَّاهِرَة فَأَشْبَهَ صَلَاة الْعِيد.
وَقَالَ مَالِك وَأَبُو يُوسُف وَبَعْض الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ: الْأَفْضَل فُرَادَى فِي الْبَيْت لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْته إِلَّا الْمَكْتُوبَة».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه» الْمَعْرُوف عِنْد الْفُقَهَاء أَنَّ هَذَا مُخْتَصّ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِر دُون الْكَبَائِر قَالَ بَعْضهمْ: وَيَجُوز أَنْ يُخَفِّف مِنْ الْكَبَائِر مَا لَمْ يُصَادِف صَغِيرَة.
1267- قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّب فِي قِيَام رَمَضَان مِنْ غَيْر أَنْ يَأْمُرهُمْ فيه بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُول: مَنْ قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه» قَوْله: «مِنْ غَيْر أَنْ يَأْمُرهُمْ بِعَزِيمَةٍ» مَعْنَاهُ: لَا يَأْمُرهُمْ أَمْر إِيجَاب وَتَحْتِيم، بَلْ أَمْر نَدْب وَتَرْغِيب، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: فَيَقُول: «مَنْ قَامَ رَمَضَان» وَهَذِهِ الصِّيغَة تَقْتَضِي التَّرْغِيب وَالنَّدْب دُون الْإِيجَاب، وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ قِيَام رَمَضَان لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوب.
قَوْله: (فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْر عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْر عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَة عُمَر) مَعْنَاهُ: اِسْتَمَرَّ الْأَمْر هَذِهِ الْمُدَّة عَلَى أَنَّ كُلّ وَاحِد يَقُوم رَمَضَان فيه بَيْته مُنْفَرِدًا حَتَّى اِنْقَضَى صَدْر مِنْ خِلَافَة عُمَر، ثُمَّ جَمَعَهُمْ عُمَر عَلَى أُبَيِّ بْن كَعْب فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَة، وَاسْتَمَرَّ الْعَمَل عَلَى فِعْلهَا جَمَاعَة، وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَة فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الصِّيَام.
1268- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَة الْقَدْر إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه» هَذَا مَعَ الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم: «مَنْ قَامَ رَمَضَان» قَدْ يُقَال: إِنَّ أَحَدهمَا يُغْنِي عَنْ الْآخَر، وَجَوَابه أَنْ يُقَال: قِيَام رَمَضَان مِنْ غَيْر مُوَافَقَة لَيْلَة الْقَدْر، وَمَعْرِفَتهَا سَبَب لِغُفْرَانِ الذُّنُوب، وَقِيَام لَيْلَة الْقَدْر لِمَنْ وَافَقَهَا وَعَرَفَهَا سَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرهَا.
1269- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَة الْقَدْر فَيُوَافِقهَا» مَعْنَاهُ: يَعْلَم أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
1270- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِد ذَات لَيْلَة فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاس» وَذَكَرَ الْحَدِيث. فَفيه: جَوَاز النَّافِلَة جَمَاعَة، وَلَكِنَّ الِاخْتِيَار فيها الِانْفِرَاد إِلَّا فِي نَوَافِل مَخْصُوصَة وَهِيَ: الْعِيد وَالْكُسُوف وَالِاسْتِسْقَاء وَكَذَا التَّرَاوِيح عِنْد الْجُمْهُور كَمَا سَبَقَ. وَفيه: جَوَاز النَّافِلَة فِي الْمَسْجِد وَإِنْ كَانَ الْبَيْت أَفْضَل، وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا فَعَلَهَا فِي الْمَسْجِد لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَأَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا. وَفيه: جَوَاز الِاقْتِدَاء بِمَنْ لَمْ يَنْوِ إِمَامَته، وَهَذَا صَحِيح عَلَى الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء، وَلَكِنْ إِنْ نَوَى الْإِمَام إِمَامَتهمْ بَعْد اِقْتِدَائِهِمْ حَصَلَتْ فَضِيلَة الْجَمَاعَة لَهُ وَلَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَضِيلَة الْجَمَاعَة وَلَا يَحْصُل لِلْإِمَامِ عَلَى الْأَصَحّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا وَالْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَقَدْ نَوَوْهَا. وَفيه: إِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَخَوْف مَفْسَدَة أَوْ مَصْلَحَتَانِ اُعْتُبِرَ أَهَمّهمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَأَى الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد مَصْلَحَة لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا عَارَضَهُ خَوْف الِافْتِرَاض عَلَيْهِمْ تَرَكَهُ لِعِظَمِ الْمَفْسَدَة الَّتِي تُخَاف مِنْ عَجْزهمْ وَتَرْكهمْ لِلْفَرْضِ. وَفيه: أَنَّ الْإِمَام وَكَبِير الْقَوْم إِذَا فَعَلَ شَيْئًا خِلَاف مَا يَتَوَقَّعهُ أَتْبَاعه وَكَانَ لَهُ فيه عُذْر يَذْكُرهُ لَهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَإِصْلَاحًا لِذَاتِ الْبَيْن؛ لِئَلَّا يَظُنُّوا خِلَاف هَذَا وَرُبَّمَا ظَنُّوا ظَنَّ السُّوء. وَاللَّهُ أَعْلَم.
1271- قَوْله: «فَلَمَّا قَضَى صَلَاة الْفَجْر أَقْبَلَ عَلَى النَّاس، ثُمَّ تَشَهَّدَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْد فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ اللَّيْلَة» فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ فَوَائِد مِنْهَا: اِسْتِحْبَاب التَّشَهُّد فِي صَدْر الْخُطْبَة وَالْمَوْعِظَة، وَفِي حَدِيث فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ: «الْخُطْبَة الَّتِي لَيْسَ فيها تَشَهُّد كَالْيَدِ الْجَذْمَاء». وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب قَوْل أَمَّا بَعْد فِي الْخُطَب، وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الصَّحِيحَيْنِ مَشْهُورَة، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه بَابًا فِي الْبُدَاءَة فِي الْخُطْبَة بِـ (أَمَّا بَعْد)، وَذَكَرَ فيه جُمْلَة مِنْ الْأَحَادِيث. وَمِنْهَا: أَنَّ السُّنَّة فِي الْخُطْبَة وَالْمَوْعِظَة اِسْتِقْبَال الْجَمَاعَة، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُقَال: جَرَى اللَّيْلَة كَذَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الصُّبْح، وَهَكَذَا يُقَال: اللَّيْلَة إِلَى زَوَال الشَّمْس، وَبَعْد الزَّوَال يُقَال: الْبَارِحَة، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّل الْكِتَاب.
1272- حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ كَانَ يَحْلِف أَنَّهَا لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ، وَهَذَا أَحَد الْمَذَاهِب فيها، وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا لَيْلَة مُبْهَمَة مِنْ الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ رَمَضَان، وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُهَا، وَأَرْجَاهَا لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَثَلَاث وَعِشْرِينَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَكْثَرهمْ أَنَّهَا لَيْلَة مُعَيَّنَة لَا تَنْتَقِل.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهَا تَنْتَقِل فَتَكُون فِي سَنَة: لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ، وَفِي سَنَة: لَيْلَة ثَلَاث، وَسَنَة: لَيْلَة إِحْدَى، وَلَيْلَة أُخْرَى وَهَذَا أَظْهَر. وَفيه جَمْع بَيْن الْأَحَادِيث الْمُخْتَلِفَة فيها، وَسَيَأْتِي زِيَادَة بَسْط فيها إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي آخِر كِتَاب الصِّيَام حَيْثُ ذَكَرَهَا مُسْلِم.
1273- قَوْله: (وَأَكْثَر عِلْمِي) ضَبَطْنَاهُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُثَلَّث أَكْثَر.

.بَاب الدُّعَاء فِي صَلَاة اللَّيْل وَقِيَامه:

فيه: حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمَل مِنْ الْفَوَائِد وَغَيْره.
1274- قَوْله: «قَامَ مِنْ اللَّيْل فَأَتَى حَاجَته» يَعْنِي الْحَدَث.
قَوْله: «ثُمَّ غَسَلَ وَجْهه وَيَدَيْهِ ثُمَّ قَامَ» هَذَا الْغَسْل لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّنْشِيط لِلذِّكْرِ وَغَيْره.
قَوْله: «فَأَتَى الْقِرْبَة فَأَطْلَقَ شِنَاقهَا» بِكَسْرِ الشِّين أَيْ الْخَيْط الَّذِي تُرْبَط بِهِ فِي الْوَتَد قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو عُبَيْد وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: الْوِكَاء.
قَوْله: «فَقُمْت فَتَمَطَّيْت كَرَاهِيَة أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْت أَنْتَبِه لَهُ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهَكَذَا هُوَ فِي أُصُول بِلَادنَا (أَنْتَبِه) بِنُونِ ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق ثُمَّ مُوَحَّدَة، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ (أُبْقِيه) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ قَاف، وَمَعْنَاهُ: أَرْقُبهُ وَهُوَ مَعْنَى أَنْتَبِه لَهُ.
قَوْله: «فَقُمْت عَنْ يَسَاره فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينه» فيه: أَنَّ مَوْقِف الْمَأْمُوم الْوَاحِد عَنْ يَمِين الْإِمَام، وَأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ عَنْ يَسَاره يَتَحَوَّل إِلَى يَمِينه، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَحَوَّل حَوَّلَهُ الْإِمَام، وَأَنَّ الْفِعْل الْقَلِيل لَا يُبْطِل الصَّلَاة، وَأَنَّ صَلَاة الصَّبِيّ صَحِيحَة، وَأَنَّ لَهُ مَوْقِفًا مِنْ الْإِمَام كَالْبَالِغِ، وَأَنَّ الْجَمَاعَة فِي غَيْر الْمَكْتُوبَات صَحِيحَة.
قَوْله: «ثُمَّ اِضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ» هَذَا مِنْ خَصَائِصه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَوْمه مُضْطَجِعًا لَا يَنْقُض الْوُضُوء؛ لِأَنَّ عَيْنَيْهِ تَنَامَانِ وَلَا يَنَام قَلْبه، فَلَوْ خَرَجَ حَدَث لَأَحَسَّ بِهِ بِخِلَافِ غَيْره مِنْ النَّاس.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اِجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا» إِلَى آخِره قَالَ الْعُلَمَاء: سَأَلَ النُّور فِي أَعْضَائِهِ وَجِهَاته، وَالْمُرَاد بِهِ بَيَان الْحَقّ وَضِيَاؤُهُ وَالْهِدَايَة إِلَيْهِ، فَسَأَلَ النُّور فِي جَمِيع أَعْضَائِهِ وَجِسْمه وَتَصَرُّفَاته وَتَقَلُّبَاته وَحَالَاته وَجُمْلَته فِي جِهَاته السِّتّ، حَتَّى لَا يَزِيغ شَيْء مِنْهَا عَنْهُ.
قَوْله: (فِي هَذَا الْحَدِيث عَنْ سَلَمَة بْن كُهَيْل عَنْ كُرَيْب عَنْ اِبْن عَبَّاس) وَذَكَرَ الدُّعَاء: «اللَّهُمَّ اِجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا...» إِلَى آخِره. قَالَ كُرَيْب: (وَسَبْعًا فِي التَّابُوت فَلَقِيت بَعْض وَلَد الْعَبَّاس فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ وَذَكَرَ فِي الدُّعَاء سَبْعًا أَيْ سَبْع كَلِمَات نَسِيتهَا. قَالُوا: وَالْمُرَاد بِالتَّابُوتِ الْأَضْلَاع وَمَا يَحْوِيه مِنْ الْقَلْب وَغَيْره، تَشْبِيهًا بِالتَّابُوتِ الَّذِي كَالصُّنْدُوقِ يُحْرَز فيه الْمَتَاع، أَيْ وَسَبْعًا فِي قَلْبِي وَلَكِنْ نَسِيتهَا. وَقَوْله: (فَلَقِيت بَعْض وَلَد الْعَبَّاس) الْقَائِل (لَقِيت) هُوَ سَلَمَة بْن كُهَيْل.
1275- قَوْله: «فَاضْطَجَعْت فِي عَرْض الْوِسَادَة وَاضْطَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْله فِي طُولهَا» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ (عَرْض) بِفَتْحِ الْعَيْن، وَهَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّاوُدِيّ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْجَانِب، وَالصَّحِيح الْفَتْح، وَالْمُرَاد بِالْوِسَادَةِ الْوِسَادَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تَكُون تَحْت الرُّءُوس. وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ الْبَاجِيّ وَالْأَصِيلِيّ وَغَيْرهمَا أَنَّ الْوِسَادَة هُنَا الْفِرَاش لِقَوْلِهِ: «اِضْطَجَعَ فِي طُولهَا». وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل. وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز نَوْم الرَّجُل مَعَ اِمْرَأَته مِنْ غَيْر مُوَاقَعَة بِحَضْرَةِ بَعْض مَحَارِمهَا وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض رِوَايَات هَذَا الْحَدِيث قَالَ اِبْن عَبَّاس: بِتُّ عِنْد خَالَتِي فِي لَيْلَة فيها حَائِضًا، قَالَ: وَهَذِهِ الْكَلِمَة وَإِنْ لَمْ تَصِحّ طَرِيقًا، فَهِيَ حَسَنَة الْمَعْنَى جِدًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ اِبْن عَبَّاس يَطْلُب الْمَبِيت فِي لَيْلَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها حَاجَة إِلَى أَهْله وَلَا يُرْسِلهُ أَبُوهُ إِلَّا إِذَا عَلِمَ عَدَم حَاجَته إِلَى أَهْله؛ لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّهُ لَا يَفْعَل حَاجَته مَعَ حَضْرَة اِبْن عَبَّاس مَعَهُمَا فِي الْوِسَادَة مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُرَاقِبًا لِأَفْعَالِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنَمْ أَوْ نَامَ قَلِيلًا جِدًّا.
قَوْله: «فَجَعَلَ يَمْسَح النَّوْم عَنْ وَجْهه» مَعْنَاهُ: أَثَر النَّوْم، وَفيه: اِسْتِحْبَاب هَذَا وَاسْتِعْمَال الْمَجَاز.
قَوْله: «ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْر الْآيَات الْخَوَاتِم مِنْ سُورَة آلَ عِمْرَان» فيه جَوَاز الْقِرَاءَة لِلْمُحْدِثِ وَهَذَا إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا تَحْرُم الْقِرَاءَة عَلَى الْجُنُب وَالْحَائِض. وَفيه: اِسْتِحْبَاب قِرَاءَة هَذِهِ الْآيَات عِنْد الْقِيَام مِنْ النَّوْم. وَفيه: جَوَاز قَوْل سُورَة آلَ عِمْرَان وَسُورَة الْبَقَرَة وَسُورَة النِّسَاء وَنَحْوهَا، وَكَرِهَهُ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَال السُّورَة الَّتِي يُذْكَر فيها آلُ عِمْرَان وَاَلَّتِي يُذْكَر فيها الْبَقَرَة، وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَبِهِ قَالَ عَامَّة الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَلَا لَبْس فِي ذَلِكَ.
قَوْله: «شَنٍّ مُعَلَّقَة» إِنَّمَا أَنَّثَهَا عَلَى إِرَادَة الْقِرْبَة، وَفِي رِوَايَة بَعْد هَذِهِ: «شَنّ مُعَلَّق» عَلَى إِرَادَة السِّقَاء وَالْوِعَاء.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الشَّنّ الْقِرْبَة الْخَلَق وَجَمَعَهُ شِنَان.
قَوْله: «وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلهَا»: قِيلَ إِنَّمَا فَتَلَهَا تَنْبِيهًا لَهُ مِنْ النُّعَاس، وَقِيلَ: لِيَتَنَبَّه لِهَيْئَةِ الصَّلَاة وَمَوْقِف الْمَأْمُوم وَغَيْر ذَلِكَ، وَالْأَوَّل أَظْهَر لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فَجَعَلْت إِذَا أَغْفَيْت يَأْخُذ بِشَحْمَةِ أُذُنِي.
قَوْله: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اِضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّن فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حَتَّى خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْح» فيه: أَنَّ الْأَفْضَل فِي الْوِتْر وَغَيْره مِنْ الصَّلَوَات أَنْ يُسَلِّم مِنْ كُلّ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ أَوْتَرَ يَكُون آخِره رَكْعَة مَفْصُولَة. وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: رَكْعَة مَوْصُولَة بِرَكْعَتَيْنِ كَالْمَغْرِبِ. وَفيه: جَوَاز إِتْيَان الْمُؤَذِّن إِلَى الْإِمَام لِيَخْرُج إِلَى الصَّلَاة وَتَخْفِيف سُنَّة الصُّبْح، وَأَنَّ الْإِيتَار بِثَلَاث عَشْرَة رَكْعَة أَكْمَل. وَفيه خِلَاف لِأَصْحَابِنَا قَالَ بَعْضهمْ: أَكْثَر الْوِتْر ثَلَاث عَشْرَة لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث، وَقَالَ أَكْثَرهمْ: أَكْثَره إِحْدَى عَشْرَة، وَتَأَوَّلُوا حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَتَيْ سُنَّة الْعِشَاء، وَهُوَ تَأْوِيل ضَعِيف مُبَاعِد لِلْحَدِيثِ.
قَوْله: «ثُمَّ عَمَدَ إِلَى شَجْب مِنْ مَاء» هُوَ بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْجِيم، قَالُوا: وَهُوَ السِّقَاء الْخَلَق وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «شَنّ مُعَلَّقَة» وَقِيلَ: الْأَشْجَاب الْأَعْوَاد الَّتِي يُعَلَّق عَلَيْهَا الْقِرْبَة.
1277- قَوْله: «ثُمَّ اِحْتَبَى حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ نَفَسه رَاقِدًا» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ اِحْتَبَى أَوَّلًا ثُمَّ اِضْطَجَعَ كَمَا سَبَقَ فِي الرِّوَايَات الْمَاضِيَة: «فَاحْتَبَى ثُمَّ اِضْطَجَعَ حَتَّى سَمِعَ نَفْخه وَنَفَسه» بِفَتْحِ الْفَاء.
1278- قَوْله: «فَقُمْت عَنْ يَسَاره فَأَخْلَفَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينه» مَعْنَى أَخْلَفَنِي: أَدَارَنِي مِنْ خَلْفِهِ.
1279- قَوْله: «فَبَقِيت كَيْف يُصَلِّي» هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَالْقَاف، أَيْ رَقَبْت وَنَظَرْت. يُقَال: بَقِيت وَبَقَوْت بِمَعْنَى رَقَبْت وَرَمَقْت.
قَوْله: «ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْن الْوُضُوءَيْنِ» يَعْنِي لَمْ يُسْرِف وَلَمْ يَقْتُر وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا.
قَوْله: (عَنْ أَبِي رِشْدِينَ مَوْلَى اِبْن عَبَّاس) هُوَ بِكَسْرِ الرَّاء، وَهُوَ كُرَيْبٌ، وَمَوْلَى اِبْن عَبَّاس كُنِّيَ بِابْنِهِ رِشْدِينَ.
قَوْله: (عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَلْمَان الْحَجْرِيّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ جِيم سَاكِنَة مَنْسُوب إِلَى حَجْر رُعَيْن، وَهِيَ قَبِيلَة مَعْرُوفَة.
قَوْله: «فَتَحَدَّثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْله سَاعَة ثُمَّ نَامَ» فيه جَوَاز الْحَدِيث بَعْد صَلَاة الْعِشَاء لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَة، وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ كَانَ يَكْرَه النَّوْم قَبْلهَا وَالْحَدِيث بَعْدهَا هُوَ فِي حَدِيث لَا حَاجَة إِلَيْهِ وَلَا مَصْلَحَة فيه كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي بَابِهِ.
1280- قَوْله: «ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فيهمَا الْقِيَام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود ثُمَّ اِنْصَرَفَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاث مَرَّات سِتّ رَكَعَات ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ» هَذِهِ الرِّوَايَة فيها مُخَالَفَة لِبَاقِي الرِّوَايَات فِي تَخْلِيل النَّوْم بَيْن الرَّكَعَات، وَفِي عَدَد الرَّكَعَات، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُر فِي بَاقِي الرِّوَايَات تَخَلُّل النَّوْم وَذَكَرَ الرَّكَعَات ثَلَاث عَشْرَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذِهِ الرِّوَايَة وَهِيَ رِوَايَة حُصَيْن عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم لِاضْطِرَابِهَا وَاخْتِلَاف الرُّوَاة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَى سَبْعَة أَوْجُه، وَخَالَفَ فيه الْجُمْهُور، قُلْت: وَلَا يَقْدَح هَذَا فِي مُسْلِم، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُر هَذِهِ الرِّوَايَة مُتَأَصِّلَة مُسْتَقِلَّة إِنَّمَا ذَكَرَهَا مُتَابَعَة، وَالْمُتَابَعَات يَحْتَمِل فيها مَا لَا يَحْتَمِل فِي الْأُصُول كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي مَوَاضِع، قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنَّهُ لَمْ يَعُدّ فِي هَذِهِ الصَّلَاة الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِح صَلَاة اللَّيْل بِهِمَا كَمَا صَرَّحَتْ الْأَحَادِيث بِهَا فِي مُسْلِم وَغَيْره، وَلِهَذَا قَالَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فيهمَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا بَعْد الْخَفِيفَتَيْنِ فَتَكُون الْخَفِيفَتَانِ ثُمَّ الطَّوِيلَتَانِ ثُمَّ السِّتّ الْمَذْكُورَات ثُمَّ ثَلَاث بَعْدهَا كَمَا ذَكَرَ، فَصَارَتْ الْجُمْلَة ثَلَاث عَشْرَة كَمَا فِي بَاقِي الرِّوَايَات وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1284- قَوْله فِي حَدِيث زَيْد بْن خَالِد: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ» هَكَذَا هُوَ مُكَرَّر ثَلَاث مَرَّات.
1285- قَوْله: «فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَشْرَعَة فَقَالَ: أَلَا تُشْرِع يَا جَابِر» الْمَشْرَعَة بِفَتْحِ الرَّاء، وَالشَّرِيعَة هِيَ الطَّرِيق إِلَى عُبُور الْمَاء مِنْ حَافَّة نَهَر أَوْ بَحْر وَغَيْره. قَوْله: «أَلَا تُشْرِع» بِضَمِّ التَّاء وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات الضَّمّ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْده: وَشَرَعْت، قَالَ أَهْل اللُّغَة: شَرَعْت فِي النَّهَر وَأَشْرَعَتْ نَاقَتِي فيه. وَقَوْله: «أَلَا تُشْرِع»؟ مَعْنَاهُ: أَلَا تُشْرِع نَاقَتك أَوْ نَفْسك.
قَوْله: «فَصَلَّى فِي ثَوْب وَاحِد خَالَفَ بَيْن طَرَفيه» فيه صِحَّة الصَّلَاة فِي ثَوْب وَاحِد، وَأَنَّهُ تُسَنّ الْمُخَالَفَة بَيْن طَرَفيه عَلَى عَاتِقَيْهِ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي مَوْضِعهَا.
قَوْله: «فَقُمْت خَلْفه فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينه» هُوَ كَحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه.
1286- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو حُرَّة عَنْ الْحَسَن) هُوَ أَبُو حُرَّة بِضَمِّ الْحَاء، اِسْمه وَاصِل بْن عَبْد الرَّحْمَن، كَانَ يَخْتِم الْقُرْآن فِي كُلّ لَيْلَتَيْنِ.
قَوْلهمَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْل لِيُصَلِّيَ اِفْتَتَحَ صَلَاته بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الْأَمْر بِذَلِكَ، هَذَا دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَابه لِيَنْشَط بِهِمَا لِمَا بَعْدهمَا.
1288- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ نُور السَّمَاوَات وَالْأَرْض» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ مُنَوِّرهمَا وَخَالِق نُورهمَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: مَعْنَاهُ بِنُورِك يَهْتَدِي أَهْل السَّمَاوَات وَالْأَرْض، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَفْسِير اِسْمه سُبْحَانه وَتَعَالَى: النُّور، وَمَعْنَاهُ الَّذِي بِنُورِهِ يُبْصِر ذُو الْعِمَايَة، وَبِهِدَايَتِهِ يَرْشُد ذُو الْغَوَايَة.
قَالَ: وَمِنْهُ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَات} أَيْ مِنْهُ نُورهمَا، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ ذُو النُّور، وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون النُّور صِفَة ذَات اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا هُوَ صِفَة فِعْل أَيْ هُوَ خَالِقه، وَقَالَ غَيْره: مَعْنَى نُور السَّمَاوَات وَالْأَرْض: مُدَبِّر شَمْسهَا وَقَمَرهَا وَنُجُومهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ قِيَام السَّمَاوَات وَالْأَرْض» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (قَيِّم).
قَالَ الْعُلَمَاء: مِنْ صِفَاته الْقِيَام، وَالْقَيِّم كَمَا صَرَّحَ بِهِ هَذَا الْحَدِيث وَالْقَيُّوم بِنَصِّ الْقُرْآن وَقَائِم وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِم عَلَى كُلّ نَفْس} قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيُقَال: قَوَّام، قَالَ اِبْن عَبَّاس: الْقَيُّوم الَّذِي لَا يَزُول، وَقَالَ غَيْره هُوَ الْقَائِم عَلَى كُلّ شَيْء، وَمَعْنَاهُ مُدَبِّر أَمْر خَلْقه، وَهُمَا سَائِغَانِ فِي تَفْسِير الْآيَة وَالْحَدِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ رَبّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَنْ فيهنَّ» قَالَ الْعُلَمَاء: لِلرَّبِّ ثَلَاث مَعَانٍ فِي اللُّغَة: السَّيِّد الْمُطَاع، فَشَرْط الْمَرْبُوب أَنْ يَكُون مِمَّنْ يَعْقِل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْخَطَّابِيُّ بِقَوْلِهِ: لَا يَصِحّ أَنْ يُقَال سَيِّد الْجِبَال وَالشَّجَر، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا الشَّرْط فَاسِد بَلْ الْجَمِيع مُطِيع لَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ الْحَقّ» قَالَ الْعُلَمَاء: الْحَقّ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى مَعْنَاهُ الْمُتَحَقِّق وُجُوده، وَكُلّ شَيْء صَحَّ وُجُوده وَتَحَقَّقَ فَهُوَ حَقٌّ، وَمِنْهُ: الْحَاقَّة أَيْ الْكَائِنَة حَقًّا بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمِثْله قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «وَوَعْدك الْحَقّ وَقَوْلك الْحَقّ وَلِقَاؤُك حَقٌّ وَالْجَنَّة حَقٌّ وَالنَّار حَقٌّ وَالسَّاعَة حَقٌّ» أَيْ كُلّه مُتَحَقِّق لَا شَكَّ فيه، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَبَرك حَقٌّ وَصِدْق، وَقِيلَ: أَنْتَ صَاحِب الْحَقّ، وَقِيلَ: مُحِقّ الْحَقّ، وَقِيلَ: الْإِلَه الْحَقّ دُون مَا يَقُولهُ الْمُلْحِدُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونه الْبَاطِل} وَقِيلَ فِي قَوْله: «وَوَعْدك الْحَقّ» أَيْ صِدْق، وَمَعْنَى: «لِقَاؤُك حَقٌّ» أَيْ الْبَعْث، وَقِيلَ: الْمَوْت. وَهَذَا الْقَوْل بَاطِل فِي هَذَا الْمَوْضِع، وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرّ بِهِ، وَالصَّوَاب الْبَعْث فَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاق الْكَلَام وَمَا بَعْده، وَهُوَ الَّذِي يُرَدّ بِهِ عَلَى الْمُلْحِد لَا بِالْمَوْتِ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَلَك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت فَاغْفِرْ لِي» إِلَى آخِره. مَعْنَى: «أَسْلَمْت» اِسْتَسْلَمْت وَانْقَدْت لِأَمْرِك وَنَهْيك، «وَبِك آمَنْت» أَيْ صَدَّقْت بِك وَبِكُلِّ مَا أَخْبَرْت وَأَمَرْت وَنَهَيْت، «إِلَيْك أَنَبْت» أَيْ أَطَعْت وَرَجَعْت إِلَى عِبَادَتك أَيْ أَقْبَلْت عَلَيْهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَجَعْت إِلَيْك فِي تَدْبِيرِي، أَيْ فَوَّضْت إِلَيْك، «وَبِك خَاصَمْت» أَيْ بِمَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْبَرَاهِين وَالْقُوَّة خَاصَمْت مَنْ عَانَدَ فِيك وَكَفَرَ بِك وَقَمَعْته بِالْحُجَّةِ وَبِالسَّيْفِ: «وَإِلَيْك حَاكَمْت» أَيْ كُلّ مَنْ جَحَدَ الْحَقّ حَاكَمْته إِلَيْك وَجَعَلْتُك الْحَاكِم بَيْنِي وَبَيْنه لَا غَيْرك مِمَّا كَانَتْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة وَغَيْرهمْ مِنْ صَنَم وَكَاهِن وَنَار وَشَيْطَان وَغَيْرهَا، فَلَا أَرْضَى وَلَا أَعْتَمِد غَيْره. وَمَعْنَى سُؤَاله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْفِرَة مَعَ أَنَّهُ مَغْفُور لَهُ: أَنَّهُ يَسْأَل ذَلِكَ تَوَاضُعًا وَخُضُوعًا وَإِشْفَاقًا وَإِجْلَالًا، وَلِيُقْتَدَى بِهِ فِي أَصْل الدُّعَاء وَالْخُضُوع وَحُسْن التَّضَرُّع فِي هَذَا الدُّعَاء الْمُعَيَّن. وَفِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره مُوَاظَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْل عَلَى الذِّكْر وَالدُّعَاء وَالِاعْتِرَاف لِلَّهِ تَعَالَى بِحُقُوقِهِ وَالْإِقْرَار بِصِدْقِهِ وَوَعْده وَوَعِيده وَالْبَعْث وَالْجَنَّة وَالنَّار وَغَيْر ذَلِكَ.
1289- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ رَبّ جِبْرِيل وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيل فَاطِر السَّمَاوَات وَالْأَرْض» قَالَ الْعُلَمَاء: خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى رَبّ كُلّ الْمَخْلُوقَات كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة مِنْ نَظَائِره مِنْ الْإِضَافَة إِلَى كُلّ عَظِيم الْمَرْتَبَة وَكَبِير الشَّأْن دُون مَا يُسْتَحْقَر وَيُسْتَصْغَر، فَيُقَال لَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى: رَبّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض رَبّ الْعَرْش الْكَرِيم، وَرَبّ الْمَلَائِكَة وَالرُّوح، رَبّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبّ الْمَغْرِبَيْنِ، رَبّ النَّاس، مَالِك النَّاس، إِلَه النَّاس، رَبّ الْعَالَمِينَ، رَبّ كُلّ شَيْء، رَبّ النَّبِيِّينَ، خَالِق السَّمَاوَات وَالْأَرْض؛ فَاطِر السَّمَاوَات وَالْأَرْض، جَاعِل الْمَلَائِكَة رُسُلًا. فَكُلّ ذَلِكَ وَشَبَهه وَصْف لَهُ سُبْحَانه بِدَلَائِل الْعَظَمَة وَعَظِيم الْقُدْرَة وَالْمُلْك، وَلَمْ يُسْتَعْمَل ذَلِكَ فِيمَا يُحْتَقَر وَيُسْتَصْغَر فَلَا يُقَال: رَبّ الْحَشَرَات وَخَالِق الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير وَشِبْه ذَلِكَ عَلَى الْإِفْرَاد، وَإِنَّمَا يُقَال: خَالِق الْمَخْلُوقَات وَخَالِق كُلّ شَيْء، وَحِينَئِذٍ تَدْخُل هَذِهِ فِي الْعُمُوم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فيه مِنْ الْحَقّ» مَعْنَاهُ: ثَبِّتْنِي عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم}.
1290- قَوْله: (حَدَّثَنَا يُوسُف الْمَاجِشُونُ) هُوَ بِكَسْرِ الْجِيم وَضَمِّ الشِّين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ أَبْيَض الْوَجْه مُوَرّده، لَفْظ أَعْجَمِيّ.
قَوْله: «وَجَّهْت وَجْهِي» أَيْ قَصَدْت بِعِبَادَتِي: «لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض» أَيْ اِبْتَدَأَ خَلْقهمَا.
قَوْله: «حَنِيفًا» قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَاهُ: مَائِلًا إِلَى الدِّين الْحَقّ وَهُوَ الْإِسْلَام. وَأَصْل الْحَنَف الْمَيْل وَيَكُون فِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَيَتَصَرَّف إِلَى مَا تَقْتَضِيه الْقَرِينَة، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْحَنِيفِ هُنَا الْمُسْتَقِيم قَالَهُ الْأَزْهَرِيّ وَآخَرُونَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: الْحَنِيف عِنْد الْعَرَب مَنْ كَانَ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَصَبَ حَنِيفًا عَلَى الْحَال أَيْ وَجَّهْت وَجْهِي فِي حَال حَنِيفِيَّتِي.
وَقَوْله: «وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ» بَيَان لِلْحَنِيفِ وَإِيضَاح لِمَعْنَاهُ، وَالْمُشْرِك يُطْلَق عَلَى كُلّ كَافِر مِنْ عَابِد وَثَن وَصَنَم وَيَهُودِيّ وَنَصْرَانِيّ وَمَجُوسِيّ وَمُرْتَدّ وَزِنْدِيق وَغَيْرهمْ.
قَوْله: «إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي» قَالَ أَهْل اللُّغَة: النُّسُك الْعِبَادَة، وَأَصْله مِنْ النَّسِيكَة وَهِيَ الْفِضَّة الْمُذَابَة الْمُصَفَّاة مِنْ كُلّ خَلْط. وَالنَّسِيكَة أَيْضًا كُلّ مَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: «وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي» أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي، وَيَجُوز فَتْح الْيَاء فيهمَا وَإِسْكَانهَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى فَتْح يَاء: «مَحْيَايَ» وَإِسْكَان: «مَمَاتِي».
قَوْله: (لِلَّهِ) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ لَام الْإِضَافَة وَلَهَا مَعْنَيَانِ الْمِلْك وَالِاخْتِصَاص وَكِلَاهُمَا مُرَاد.
قَوْله: (رَبّ الْعَالَمِينَ) فِي مَعْنَى (رَبّ) أَرْبَعَة أَقْوَال حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْره: الْمَالِك، وَالسَّيِّد وَالْمُدَبِّر وَالْمُرَبِّي. فَإِنْ وُصِفَ اللَّه تَعَالَى بِرَبٍّ لِأَنَّهُ مَالِك أَوْ سَيِّد فَهُوَ مِنْ صِفَات الذَّات، وَإِنْ وُصِفَ لِأَنَّهُ مُدَبِّر خَلْقه وَمُرَبِّيهمْ فَهُوَ مِنْ صِفَات فِعْله، وَمَتَى دَخَلَتْهُ الْأَلِف وَاللَّام فَقِيلَ: (الرَّبّ) اُخْتُصَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا حُذِفَتَا جَازَ إِطْلَاقه عَلَى غَيْره، فَيُقَال: رَبّ الْمَال، وَرَبّ الدَّار وَنَحْو ذَلِكَ. وَالْعَالَمُونَ جَمْع عَالَم وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ وَاحِد مِنْ لَفْظه، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حَقِيقَته فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ وَجَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرهمْ: الْعَالَم كُلّ الْمَخْلُوقَات، وَقَالَ جَمَاعَة: هُمْ الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس، وَزَادَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْفَرَّاء: الشَّيَاطِين، وَقِيلَ: بَنُو آدَم خَاصَّة، قَالَهُ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل وَأَبُو مُعَاذ النَّحْوِيّ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ الدُّنْيَا وَمَا فيها. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْعَلَامَة لِأَنَّ كُلّ مَخْلُوق عَلَامَة عَلَى وُجُود صَانِعه، وَقِيلَ: مِنْ الْعِلْم فَعَلَى هَذَا يَخْتَصّ بِالْعُقَلَاءِ.
قَوْله: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِك» أَيْ الْقَادِر عَلَى كُلّ شَيْء، الْمَالِك الْحَقِيقِيّ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَات.
قَوْله: «وَأَنَا عَبْدك» أَيْ مُعْتَرِف بِأَنَّك مَالِكِيّ وَمُدَبِّرِي وَحُكْمك نَافِذ فِيَّ.
قَوْله: «ظَلَمْت نَفْسِي» أَيْ اِعْتَرَفْت بِالتَّقْصِيرِ قَدَّمَهُ عَلَى سُؤَال الْمَغْفِرَة أَدَبًا كَمَا قَالَ آدَم وَحَوَّاء: {رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
قَوْله: «اِهْدِنِي لِأَحْسَن الْأَخْلَاق» أَيْ أَرْشِدْنِي لِصَوَابِهَا وَوَفِّقْنِي لِلتَّخَلُّقِ بِهِ.
قَوْله: «وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا» أَيْ قَبِيحهَا.
قَوْله: «لَبَّيْكَ» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك إِقَامَة بَعْد إِقَامَة، يُقَال: لَبَّ بِالْمَكَانِ لَبًّا، وَأَلَبَّ إِلْبَابًا أَيْ أَقَامَ بِهِ، وَأَصْل: «لَبَّيْكَ» لَبَّيْنَ فَحُذِفَتْ النُّون لِلْإِضَافَةِ.
قَوْله: «وَسَعْدَيْك» قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ مُسَاعَدَة لِأَمْرِك بَعْد مُسَاعَدَة وَمُتَابَعَة لِدِينِك بَعْد مُتَابَعَة.
قَوْله: «وَالْخَيْر كُلّه فِي يَدَيْك وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك» قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: فيه الْإِرْشَاد إِلَى الْأَدَب فِي الثَّنَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَمَدْحه بِأَنْ يُضَاف إِلَيْهِ مَحَاسِن الْأُمُور دُون مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَة الْأَدَب.
وَأَمَّا قَوْله: «وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك» فَمِمَّا يَجِب تَأْوِيله لِأَنَّ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ كُلّ الْمُحْدَثَات فِعْل اللَّه تَعَالَى وَخَلْقه، سَوَاء خَيْرهَا وَشَرّهَا، وَحِينَئِذٍ يَجِب تَأْوِيله وَفيه خَمْسَة أَقْوَال. أَحَدهَا: مَعْنَاهُ: لَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَيْك، قَالَهُ الْخَلِيل بْن أَحْمَد وَالنَّضْر بْن شُمَيْلٍ وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَيَحْيَى بْن مَعِين وَأَبُو بَكْر بْن خُزَيْمَةَ وَالْأَزْهَرِيّ وَغَيْرهمْ.
وَالثَّانِي: حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد عَنْ الْمُزَنِيِّ وَقَالَهُ غَيْره أَيْضًا مَعْنَاهُ: لَا يُضَاف إِلَيْك عَلَى اِنْفِرَاده، لَا يُقَال: يَا خَالِق الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير، وَيَا رَبّ الشَّرّ وَنَحْو هَذَا، وَإِنْ كَانَ خَالِق كُلّ شَيْء وَرَبّ كُلّ شَيْء وَحِينَئِذٍ يَدْخُل الشَّرّ فِي الْعُمُوم.
وَالثَّالِث: مَعْنَاهُ وَالشَّرّ لَا يَصْعَد إِلَيْك إِنَّمَا يَصْعَد الْكَلِم الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح.
وَالرَّابِع: مَعْنَاهُ وَالشَّرّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك فَإِنَّك خَلَقْته بِحِكْمَةٍ بَالِغَة، وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ.
وَالْخَامِس: حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ كَقَوْلِك فُلَان إِلَى بَنِي فُلَان إِذَا كَانَ عِدَاده فيهمْ أَوْ صَفُّوهُ إِلَيْهِمْ.
قَوْله: «أَنَا بِك وَإِلَيْك» أَيْ اِلْتِجَائِي وَانْتِمَائِي إِلَيْك وَتَوْفِيقِي بِك.
قَوْله: «تَبَارَكْت» أَيْ اِسْتَحْقَقْت الثَّنَاء وَقِيلَ: ثَبَتَ الْخَيْرُ عِنْدك، وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ تَبَارَكَ الْعِبَاد بِتَوْحِيدِك. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «مِلْء السَّمَاوَات وَمِلْء الْأَرْض» هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَبِنَصْبِ الْهَمْزَة بَعْد اللَّام وَرَفْعهَا وَاخْتُلِفَ فِي الرَّاجِح مِنْهُمَا، وَالْأَشْهَر النَّصْب، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات بِدَلَائِلِهِ مُضَافًا إِلَى قَائِلِيهِ، وَمَعْنَاهُ: حَمْدًا لَوْ كَانَ أَجْسَامًا لَمَلَأَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض لِعِظَمِهِ.
قَوْله: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعه» فيه دَلِيل لِمَذْهَبِ الزُّهْرِيّ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الْوَجْه، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: هُمَا مِنْ الرَّأْس، وَآخَرُونَ أَعْلَاهُمَا مِنْ الرَّأْس وَأَسْفَلهمَا مِنْ الْوَجْه، وَقَالَ آخَرُونَ: مَا أَقْبَلَ عَلَى الْوَجْه فَمِنْ الْوَجْه وَمَا أَدْبَرَ فَمِنْ الرَّأْس، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُور: هُمَا عُضْوَانِ مُسْتَقِلَّانِ لَا مِنْ الرَّأْس وَلَا مِنْ الْوَجْه بَلْ يَطْهُرَانِ بِمَاءٍ مُسْتَقِلّ، وَمَسْحهمَا سُنَّة خِلَافًا لِلشِّيعَةِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ اِحْتِجَاج الزُّهْرِيّ بِجَوَابَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّ الْمُرَاد بِالْوَجْهِ جُمْلَة الذَّات كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلّ شَيْء هَالِك إِلَّا وَجْهه} وَيُؤَيِّد هَذَا أَنَّ السُّجُود يَقَع بِأَعْضَاءٍ أُخَر مَعَ الْوَجْه.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْء يُضَاف إِلَى مَا يُجَاوِرهُ كَمَا يُقَال بَسَاتِين الْبَلَد. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: «أَحْسَن الْخَالِقِينَ» أَيْ الْمُقَدِّرِينَ وَالْمُصَوِّرِينَ.
قَوْله: «أَنْتَ الْمُقَدِّم وَأَنْتَ الْمُؤَخِّر» مَعْنَاهُ: تُقَدِّم مَنْ شِئْت بِطَاعَتِك وَغَيْرهَا، وَتُؤَخِّر مَنْ شِئْت عَنْ ذَلِكَ كَمَا تَقْتَضِيه حِكْمَتك، وَتُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء. وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب دُعَاء الِافْتِتَاح بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيث إِلَّا أَنْ يَكُون إِمَامًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيل. وَفيه اِسْتِحْبَاب الذِّكْر فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالِاعْتِدَال وَالدُّعَاء قَبْل السَّلَام.
قَوْله: «وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ» أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ».