فصل: بَاب صَلَاة الْخَوْف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ:

1384- سبق شرحه بالباب.

.بَاب صَلَاة الْخَوْف:

ذَكَرَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه فِي الْبَاب أَرْبَعَة أَحَادِيث. أَحَدهَا: حَدِيث أَبِي عُمَر: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة وَالْأُخْرَى مُوَاجِهَة لِلْعَدُوِّ، ثُمَّ اِنْصَرَفُوا فَقَامُوا مَقَام أَصْحَابهمْ وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَة، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَة وَهَؤُلَاءِ رَكْعَة» وَبِهَذَا الْحَدِيث أَخَذَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَشْهَب الْمَالِكِيّ وَهُوَ جَائِز عِنْد الشَّافِعِيّ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَضَوْا رَكْعَتهمْ الْبَاقِيَة مَعًا، وَقِيلَ: مُتَفَرِّقِينَ وَهُوَ الصَّحِيح.
الثَّانِي: حَدِيث اِبْن أَبِي حَثْمَة بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَة وَثَبَتَ قَائِمًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ اِنْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاه الْعَدُوّ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَة ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا حَتَّى أَتَمُّوا رَكْعَتهمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ. وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَغَيْرهمْ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه صِفَة أُخْرَى أَنَّهُ صَفَّهُمْ صَفَّيْنِ فَصَلَّى بِمَنْ يَلِيه رَكْعَة ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفه رَكْعَة، ثُمَّ تَقَدَّمُوا وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ كَانُوا قُدَّامهمْ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَة ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَة ثُمَّ سَلَّمَ. وَفِي رِوَايَة: «سَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا». الْحَدِيث الثَّالِث: حَدِيث جَابِر: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّهُمْ صَفَّيْنِ خَلْفه وَالْعَدُوّ بَيْنهمْ وَبَيْن الْقِبْلَة وَرَكَعَ بِالْجَمِيعِ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفّ الْمُؤَخَّر، وَقَامُوا ثُمَّ تَقَدَّمُوا وَتَأَخَّرَ الَّذِي يَلِيه وَقَامَ الْمُؤَخَّر فِي نَحْر الْعَدُوّ، فَلَمَّا قَضَى السُّجُود سَجَدَ الصَّفّ الْمُقَدَّم» وَذَكَرَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة نَحْوه، وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس نَحْو حَدِيث جَابِر لَكِنْ لَيْسَ فيه تَقَدُّم الصَّفّ وَتَأَخُّر الْآخَر، وَبِهَذَا الْحَدِيث قَالَ الشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف إِذَا كَانَ الْعَدُوّ فِي جِهَة الْقِبْلَة، وَيَجُوز عِنْد الشَّافِعِيّ تَقَدُّم الصَّفّ الثَّانِي وَتَأَخُّر الْأَوَّل كَمَا فِي رِوَايَة جَابِر، وَيَجُوز بَقَاؤُهُمَا عَلَى حَالهمَا كَمَا هُوَ ظَاهِر حَدِيث اِبْن عَبَّاس. الْحَدِيث الرَّابِع: حَدِيث جَابِر: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَة رَكْعَتَيْنِ» وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره مِنْ رِوَايَة أَبِي بَكْرَة أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَة رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ الطَّائِفَة الثَّانِيَة مُفْتَرِضِينَ خَلْف مُتَنَفِّل، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَحَكَوْهُ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخ. وَلَا تُقْبَل دَعْوَاهُ إِذْ لَا دَلِيل لِنَسْخِهِ فَهَذِهِ سِتَّة أَوْجُه فِي صَلَاة الْخَوْف. وَرَوَى اِبْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَجْهًا سَابِعًا: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَة وَانْصَرَفُوا وَلَمْ يُسَلِّمُوا وَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوّ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَة ثُمَّ سَلَّمَ فَقَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَتهمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا وَذَهَبُوا، فَقَامُوا مَقَام أُولَئِكَ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ فَصَلُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَة ثُمَّ سَلَّمَ. وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَة.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره وُجُوهًا أُخَر فِي صَلَاة الْخَوْف بِحَيْثُ يَبْلُغ مَجْمُوعهَا سِتَّة عَشَرَ وَجْهًا. وَذَكَرَ اِبْن الْقَصَّار الْمَالِكِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا فِي عَشْرَة مَوَاطِن. وَالْمُخْتَار أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُه كُلّهَا جَائِزَة بِحَسَبِ مَوَاطِنهَا. وَفيها تَفْصِيل وَتَفْرِيع مَشْهُور فِي كُتُب الْفِقْه.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَلَاة الْخَوْف أَنْوَاع صَلَّاهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّام مُخْتَلِفَة وَأَشْكَال مُتَبَايِنَة يَتَحَرَّى فِي كُلّهَا مَا هُوَ أَحْوَط لِلصَّلَاةِ وَأَبْلَغ فِي الْحِرَاسَة، فَهِيَ عَلَى اِخْتِلَاف صُوَرهَا مُتَّفِقَة الْمَعْنَى، ثُمَّ مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة أَنَّ صَلَاة الْخَوْف مَشْرُوعَة الْيَوْم كَمَا كَانَتْ إِلَّا أَبَا يُوسُف وَالْمُزَنِيَّ فَقَالَا: لَا تُشْرَع بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فيهمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاة} وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَنَّ الصَّحَابَة لَمْ يَزَالُوا عَلَى فِعْلهَا بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ الْمُرَاد بِالْآيَةِ تَخْصِيصه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
1385- سبق شرحه بالباب.
1386- سبق شرحه بالباب.
1387- سبق شرحه بالباب.
1388- قَوْله فِي رِوَايَة أَبِي الزُّبَيْر عَنْ جَابِر: «ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفّ الْأَوَّل» هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ: «الصَّفّ الْأَوَّل» وَلَمْ يَقَع فِي أَكْثَرهَا ذِكْر الْأَوَّل وَالْمُرَاد الصَّفّ الْمُقَدَّم الْآن.
1389- قَوْله: (صَالِح بْن خَوَّات) هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْوَاو.
1390- قَوْله: (ذَات الرِّقَاع) هِيَ غَزْوَة مَعْرُوفَة كَانَتْ سَنَة خَمْس مِنْ الْهِجْرَة بِأَرْضِ غَطَفَانَ مِنْ نَجْد، سُمِّيَتْ ذَات الرِّقَاع لِأَنَّ أَقْدَام الْمُسْلِمِينَ نُقِّبَتْ مِنْ الْحَفَاء فَلَفُّوا عَلَيْهَا الْخِرَق، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي سَبَب تَسْمِيَتهَا، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي الصَّحِيح عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ لِجَبَلٍ هُنَاكَ يُقَال لَهُ الرِّقَاع، لِأَنَّ فيه بَيَاضًا وَحُمْرَة وَسَوَادًا.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِشَجَرَةٍ هُنَاكَ يُقَال لَهَا ذَات الرِّقَاع، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ رَقَعُوا رَايَاتهمْ وَيَحْتَمِل أَنَّ هَذِهِ الْأُمُور كُلّهَا وُجِدَتْ مَعَهَا، وَشُرِعَتْ صَلَاة الْخَوْف فِي غَزْوَة خِلَاف الرِّقَاع، وَقِيلَ: فِي غَزْوَة بَنِي النَّضْر.
قَوْله فِي حَدِيث يَحْيَى بْن يَحْيَى: «أَنَّ طَائِفَة صَفَّتْ مَعَهُ» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ وَفِي بَعْضهَا: «صَلَّتْ مَعَهُ» وَهُمَا صَحِيحَانِ.
قَوْله: «وَطَائِفَة وِجَاه الْعَدُوّ» هُوَ بِكَسْرِ الْوَاو وَضَمّهَا: يُقَال: وِجَاهه وَتُجَاهه أَيْ قُبَالَته، وَالطَّائِفَة الْفِرْقَة وَالْقِطْعَة مِنْ الشَّيْء تَقَع عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيّ: أَكْرَه أَنْ تَكُون الطَّائِفَة فِي صَلَاة الْخَوْف أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَة فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُون الطَّائِفَة الَّتِي مَعَ الْإِمَام ثَلَاثَة فَأَكْثَر، وَاَلَّذِينَ فِي وَجْه الْعَدُوّ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتهمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا} إِلَى آخِر الْآيَة. فَأَعَادَ عَلَى كُلّ طَائِفَة ضَمِير الْجَمْع، وَأَقَلُّ الْجَمْع ثَلَاثَة عَلَى الْمَشْهُور.
1391- قَوْله: «شَجَرَة ظَلِيلَة» أَيْ ذَات ظِلّ.
قَوْله: «فَأَخَذَ السَّيْف فَاخْتَرَطَهُ» أَيْ سَلَّهُ.
قَوْله: «فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَع رَكَعَات وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ» مَعْنَاهُ: صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا، وَبِالثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَنَفِّلًا فِي الثَّانِيَة وَهُمْ مُفْتَرِضُونَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه عَلَى جَوَاز صَلَاة الْمُفْتَرِض خَلْف الْمُتَنَفِّل. وَاَللَّه أَعْلَم.

.كتاب الجمعة:

.بَاب صَلَاة الْجُمُعَة وَمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ أَحْكَام:

يُقَال بِضَمِّ الْمِيم، وَإِسْكَانهَا وَفَتْحهَا، حَكَاهُنَّ الْفَرَّاء وَالْوَاحِدِيّ وَغَيْرهمَا، وَوَجَّهُوا الْفَتْح بِأَنَّهَا تَجْمَع النَّاس وَيَكْثُرُونَ فيها، كَمَا يُقَال: هُمَزَة وَلُمَزَة لِكَثْرَةِ الْهَمْز وَاللَّمْز وَنَحْو ذَلِكَ سُمِّيَتْ جُمْعَة لِاجْتِمَاعِ النَّاس فيها، وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة فِي الْجَاهِلِيَّة يُسَمَّى الْعَرُوبَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يَأْتِي الْجُمُعَة فَلْيَغْتَسِلْ» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَة فَلْيَغْتَسِلْ» وَهَذِهِ الثَّانِيَة مَحْمُولَة عَلَى الْأَوَّل مَعْنَاهَا مَنْ أَرَادَ الْمَجِيء فَلْيَغْتَسِلْ، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر بَعْده: «غُسْل الْجُمُعَة وَاجِب عَلَى كُلّ مُحْتَلِم» وَالْمُرَاد بِالْمُحْتَلِمِ الْبَالِغ. وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: حَقُّ لِلَّهِ عَلَى كُلّ مُسْلِم أَنْ يَغْتَسِل فِي كُلّ سَبْعَة أَيَّام يَغْسِل رَأْسه وَجَسَده. وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا» وَفِي رِوَايَة: «لَوْ اِغْتَسَلْتُمْ يَوْم الْجُمُعَة» وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي غُسْل الْجُمُعَة فَحُكِيَ وُجُوبه عَنْ طَائِفَة مِنْ السَّلَف حَكَوْهُ عَنْ بَعْض الصَّحَابَة، وَبِهِ قَالَ أَهْل الظَّاهِر، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ مَالِك، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمَالِك، وَذَهَبَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف وَفُقَهَاء الْأَمْصَار إِلَى أَنَّهُ سُنَّة مُسْتَحَبَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ الْمَعْرُوف مِنْ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَابه، وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَحَادِيث صَحِيحَة مِنْهَا: حَدِيث الرَّجُل الَّذِي دَخَلَ وَعُمَر يَخْطُب وَقَدْ تَرَكَ الْغُسْل، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم، وَهَذَا الرَّجُل هُوَ عُثْمَان بْن عَفَّانَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَوَجْه الدَّلَالَة أَنَّ عُثْمَان فَعَلَهُ وَأَقَرَّهُ عُمَر وَحَاضِرُوا وَالْجُمْعَة وَهُمْ أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ وَلَأَلْزَمُوهُ، وَمِنْهَا: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اِغْتَسَلَ فَالْغُسْل أَفْضَل» حَدِيث حَسَن فِي السُّنَن مَشْهُور، وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَمِنْهَا: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ اِغْتَسَلْتُمْ يَوْم الْجُمُعَة» وَهَذَا اللَّفْظ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيره لَكَانَ أَفْضَل وَأَكْمَلَ وَنَحْو هَذَا مِنْ الْعِبَادَات، وَأَجَابُوا عَنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْأَمْر بِهِ أَنَّهَا مَحْمُولَة عَلَى النَّدْب جَمْعًا بَيْن الْأَحَادِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدكُمْ أَنْ يَأْتِي الْجُمُعَة فَلْيَغْتَسِلْ» و«غُسْل الْجُمُعَة وَاجِب عَلَى كُلّ مُحْتَلِم» فَالْحَدِيث الْأَوَّل ظَاهِر فِي أَنَّ الْغُسْل مَشْرُوع لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْجُمُعَة مِنْ الرِّجَال سَوَاء الْبَالِغ وَالصَّبِيّ الْمُمَيِّز. وَالثَّانِي صَرِيح فِي الْبَالِغ، وَفِي أَحَادِيث أُخَر أَلْفَاظ تَقْتَضِي دُخُول النِّسَاء كَحَدِيثِ: «وَمَنْ اِغْتَسَلَ فَالْغُسْل أَفْضَل». فَيُقَال فِي الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث: أَنَّ الْغُسْل يُسْتَحَبّ لِكُلِّ مُرِيد الْجُمُعَة، وَمُتَأَكِّد فِي حَقّ الذُّكُور أَكْثَر مِنْ النِّسَاء؛ لِأَنَّهُ فِي حَقّهنَّ قَرِيب مِنْ الطِّيب، وَمُتَأَكِّد فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ أَكْثَر مِنْ الصِّبْيَان، وَمَذْهَبنَا الْمَشْهُور أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِكُلِّ مُرِيد لَهَا. وَفِي وَجْه لِأَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبّ لِلذُّكُورِ خَاصَّة. وَفِي وَجْه: يُسْتَحَبّ لِمَنْ يَلْزَمهُ الْجُمُعَة دُون النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَالْعَبِيد وَالْمُسَافِرِينَ، وَوَجْه يُسْتَحَبّ لِكُلِّ أَحَد يَوْم الْجُمُعَة سَوَاء أَرَادَ حُضُور الْجُمُعَة أَمْ لَا كَغُسْلِ يَوْم الْعِيد يُسْتَحَبّ لِكُلِّ أَحَد، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1393- سبق شرحه بالباب.
1394- قَوْله: «وَهُوَ قَائِم عَلَى الْمِنْبَر» فيه اِسْتِحْبَاب الْمِنْبَر لِلْخُطْبَةِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَلْيَكُنْ عَلَى مَوْضِع عَالٍ؛ لِيَبْلُغ صَوْته جَمِيعهمْ، وَلْيَنْفَرِدْ فَيَكُون أَوْقَعَ فِي النُّفُوس. وَفيه أَنَّ الْخَطِيب يَكُون قَائِمًا. وَسُمِّيَ مِنْبَرًا لِارْتِفَاعِهِ، مِنْ النَّبْر وَهُوَ الِارْتِفَاع.
1395- قَوْله: «أَيَّة سَاعَة هَذِهِ»؟ قَالَهُ تَوْبِيخًا لَهُ وَإِنْكَارًا لِتَأَخُّرِهِ إِلَى هَذَا الْوَقْت. فيه: تَفَقُّد الْإِمَام رَعِيَّته وَأَمْرهمْ بِمَصَالِح دِينهمْ وَالْإِنْكَار عَلَى مُخَالِف السُّنَّة وَإِنْ كَانَ كَبِير الْقَدْر، وَفيه: جَوَاز الْإِنْكَار عَلَى الْكِبَار فِي مَجْمَع مِنْ النَّاس، وَفيه: جَوَاز الْكَلَام فِي الْخُطْبَة.
قَوْله: «شُغِلْت الْيَوْم فَلَمْ أَنْقَلِب إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْت النِّدَاء فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ» فيه: الِاعْتِذَار إِلَى وُلَاة الْأُمُور وَغَيْرهمْ. وَفيه: إِبَاحَة الشُّغْل وَالتَّصَرُّف يَوْم الْجُمُعَة قَبْل النِّدَاء. وَفيه: إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَ الْغُسْل لِأَنَّهُ يُسْتَحَبّ، فَرَأَى اِشْتِغَاله بِقَصْدِ الْجُمُعَة أَوْلَى مِنْ أَنْ يَجْلِس لِلْغُسْلِ بَعْد النِّدَاء، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرهُ عُمَر بِالرُّجُوعِ لِلْغُسْلِ.
قَوْله: «سَمِعْت النِّدَاء» هُوَ بِكَسْرِ النُّون وَضَمّهَا وَالْكَسْر أَشْهَر.
قَوْله: «وَالْوُضُوء أَيْضًا» هُوَ مَنْصُوب أَيْ وَتَوَضَّأْت الْوُضُوء فَقَطْ، قَالَهُ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره.
1396- سبق شرحه بالباب.

.باب وُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ مِنَ الرِّجَالِ وَبَيَانِ مَا أُمِرُوا بِهِ:

1397- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاجِب عَلَى كُلّ مُحْتَلِم» أَيْ مُتَأَكِّد فِي حَقّه كَمَا يَقُول الرَّجُل لِصَاحِبِهِ: حَقُّك وَاجِبٌ عَلَيَّ أَيْ مُتَأَكِّد، لَا أَنَّ الْمُرَاد الْوَاجِب الْمُحَتَّم الْمُعَاقَب عَلَيْهِ.
1398- قَوْله: «يَنْتَابُونَ الْجُمُعَة» أَيْ يَأْتُونَهَا قَوْله: «مِنْ الْعَوَالِي» هِيَ الْقُرَى الَّتِي حَوْل الْمَدِينَة.
قَوْله: «فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاء» هُوَ بِالْمَدِّ، جَمْع عَبَاءَة بِالْمَدِّ وَعَبَايَة بِزِيَادَةِ يَاء لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
1399- قَوْله: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُفَاة» هُوَ بِضَمِّ الْكَاف جَمْع كَافٍ كَقَاضٍ وَقُضَاة وَهُمْ الْخَدَم الَّذِينَ يَكْفُونَهُمْ الْعَمَل.
قَوْله: «لَهُمْ تَفَل» هُوَ بِتَاءٍ مُثَنَّاة فَوْق ثُمَّ فَاء مَفْتُوحَتَيْنِ أَيْ رَائِحَة كَرِيهَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ جَاءُوا وَلَهُمْ الرِّيح الْكَرِيهَة: «لَوْ اِغْتَسَلْتُمْ» فيه أَنَّهُ يُنْدَب لِمَنْ أَرَادَ الْمَسْجِد أَوْ مُجَالَسَة النَّاس أَنْ يَجْتَنِب الرِّيح الْكَرِيهَة فِي بَدَنه وَثَوْبه.

.باب الطِّيبِ وَالسِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:

1400- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث عَمْرو بْن سَوَاد: «غُسْل يَوْم الْجُمُعَة عَلَى كُلّ مُحْتَلِم وَسِوَاك وَيَمَسّ مِنْ الطِّيب مَا قَدَرَ عَلَيْهِ» هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع الْأُصُول: «غُسْل يَوْم الْجُمُعَة عَلَى كُلّ مُحْتَلِم» وَلَيْسَ فيه ذِكْر وَاجِب.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَسِوَاك وَيَمَسّ مِنْ الطِّيب» مَعْنَاهُ: وَيُسَنّ السِّوَاك وَمَسُّ الطِّيب، وَيَجُوز: «يَمَسّ» بِفَتْحِ الْمِيم وَضَمّهَا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا قَدَرَ عَلَيْهِ».
قَالَ الْقَاضِي: مُحْتَمِل لِتَكْثِيرِهِ وَمُحْتَمِل لِتَأْكِيدِهِ حَتَّى يَفْعَلهُ بِمَا أَمْكَنَهُ وَيُؤَيِّدهُ. قَوْله: «وَلَوْ مِنْ طِيب الْمَرْأَة» وَهُوَ الْمَكْرُوه لِلرِّجَالِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ لَوْنه وَخَفِيَ رِيحه فَأَبَاحَهُ لِلرَّجُلِ هُنَا لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ غَيْره، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَأْكِيده، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1403- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِغْتَسَلَ يَوْم الْجُمُعَة غُسْل الْجَنَابَة» مَعْنَاهُ: غُسْلًا كَغُسْلِ الْجَنَابَة فِي الصِّفَات. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي تَفْسِيره، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا فِي كُتُب الْفِقْه: الْمُرَاد غُسْل الْجَنَابَة حَقِيقَة، قَالُوا: وَيُسْتَحَبّ لَهُ مُوَاقَعَة زَوْجَته لِيَكُونَ أَغَضَّ لِلْبَصَرِ وَأَسْكَنَ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَة، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَة» الْمُرَاد بِالرَّوَاحِ الذَّهَاب أَوَّل النَّهَار. وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف مَشْهُور. مَذْهَب مَالِك وَكَثِير مِنْ أَصْحَابه وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابنَا أَنَّ الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ هُنَا لَحَظَات لَطِيفَة بَعْد زَوَال الشَّمْس، وَالرَّوَاح عِنْدهمْ بَعْد الزَّوَال وَادَّعَوْا أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير أَصْحَابه وَابْن حَبِيب الْمَالِكِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء اِسْتِحْبَاب التَّبْكِير إِلَيْهَا أَوَّل النَّهَار، وَالسَّاعَات عِنْدهمْ مِنْ أَوَّل النَّهَار، وَالرَّوَاح يَكُون أَوَّل النَّهَار وَآخِره، قَالَ الْأَزْهَرِيّ: لُغَة الْعَرَب الرَّوَاح الذَّهَاب سَوَاء كَانَ أَوَّل النَّهَار أَوْ آخِره أَوْ فِي اللَّيْل. وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَقْتَضِيه الْحَدِيث وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَة تَكْتُب مَنْ جَاءَ فِي السَّاعَة الْأُولَى وَهُوَ كَالْمُهْدِي بَدَنَة، وَمَنْ جَاءَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة ثُمَّ الثَّالِثَة ثُمَّ الرَّابِعَة ثُمَّ الْخَامِسَة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ السَّادِسَة، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَام طَوَوْا الصُّحُف، وَلَمْ يَكْتُبُوا بَعْد ذَلِكَ أَحَدًا، وَمَعْلُوم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُج إِلَى الْجُمُعَة مُتَّصِلًا بِالزَّوَالِ وَهُوَ بَعْد اِنْفِصَال السَّادِسَة، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْء مِنْ الْهَدْي وَالْفَضِيلَة لِمَنْ جَاءَ بَعْد الزَّوَال، وَلِأَنَّ ذِكْر السَّاعَات إِنَّمَا كَانَ لِلْحَثِّ فِي التَّبْكِير إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيب فِي فَضِيلَة السَّبَق وَتَحْصِيل الصَّفّ الْأَوَّل وَانْتِظَارهَا وَالِاشْتِغَال بِالتَّنَفُّلِ وَالذِّكْر وَنَحْوه، وَهَذَا كُلّه لَا يَحْصُل بِالذَّهَابِ بَعْد الزَّوَال، وَلَا فَضِيلَة لِمَنْ أَتَى بَعْد الزَّوَال؛ لِأَنَّ النِّدَاء يَكُون حِينَئِذٍ وَيَحْرُم التَّخَلُّف بَعْد النِّدَاء، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا هَلْ تَعْيِين السَّاعَات مِنْ طُلُوع الْفَجْر أَمْ مِنْ طُلُوع الشَّمْس؟ وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ مِنْ طُلُوع الْفَجْر، ثُمَّ إِنَّ مَنْ جَاءَ فِي أَوَّل سَاعَة مِنْ هَذِهِ السَّاعَات وَمَنْ جَاءَ فِي آخِرهَا مُشْتَرَكَانِ فِي تَحْصِيل أَصْل الْبَدَنَة وَالْبَقَرَة وَالْكَبْش، وَلَكِنْ بَدَنَة الْأَوَّل أَكْمَل مِنْ بَدَنَة مَنْ جَاءَ فِي آخِر السَّاعَة، وَبَدَنَة الْمُتَوَسِّط مُتَوَسِّطَة، وَهَذَا كَمَا أَنَّ صَلَاة الْجَمَاعَة تَزِيد عَلَى صَلَاة الْمُنْفَرِد بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة، وَمَعْلُوم أَنَّ الْجَمَاعَة تُطْلَق عَلَى اِثْنَيْنِ وَعَلَى أُلُوف، فَمَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَة هُمْ عَشْرَة آلَاف لَهُ سَبْع وَعِشْرُونَ دَرَجَة، وَمَنْ صَلَّى مَعَ اِثْنَيْنِ لَهُ سَبْع وَعِشْرُونَ، لَكِنْ دَرَجَات الْأَوَّل أَكْمَل، وَأَشْبَاه هَذَا كَثِير مَعْرُوفَة وَفِيمَا ذَكَرْته جَوَاب عَنْ اِعْتِرَاض ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اِغْتَسَلَ يَوْم الْجُمُعَة ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَة، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَة، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الرَّابِعَة فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَة وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الْخَامِسَة فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَة، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَام حَضَرَتْ الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُونَ الذِّكْر» أَمَّا لُغَات هَذَا الْفَصْل فَمَعْنَى: «قَرَّبَ» تَصَدَّقَ.
وَأَمَّا: «الْبَدَنَة» فَقَالَ جُمْهُور أَهْل اللُّغَة وَجَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء: يَقَع عَلَى الْوَاحِدَة مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ بَدَنهَا، وَخَصَّهَا جَمَاعَة بِالْإِبِلِ، وَالْمُرَاد هُنَا الْإِبِل بِالِاتِّفَاقِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيث بِذَلِكَ. وَالْبَدَنَة وَالْبَقَرَة يَقَعَانِ عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى بِاتِّفَاقِهِمْ، وَالْهَاء فيها لِلْوَاحِدَةِ كَقَمْحَةٍ وَشَعِيرَة وَنَحْوهمَا مِنْ أَفْرَاد الْجِنْس. وَسُمِّيَتْ بَقَرَة لِأَنَّهَا تَبْقُر الْأَرْض أَيْ تَشُقّهَا بِالْحِرَاثَةِ. وَالْبَقْر: الشَّقّ وَمِنْهُ قَوْلهمْ: بَقَرَ بَطْنه، وَمِنْهُ سُمِّيَ مُحَمَّد الْبَاقِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْم وَدَخَلَ فيه مَدْخَلًا بَلِيغًا، وَوَصَلَ مِنْهُ غَايَة مَرْضِيَّة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَبْشًا أَقْرَنَ». وَصَفَهُ بِالْأَقْرَنِ لِأَنَّهُ أَكْمَل وَأَحْسَن صُورَة وَلِأَنَّ قَرْنه يُنْتَفَع بِهِ. وَالدَّجَاجَة بِكَسْرِ الدَّال وَفَتْحهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَيَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى، وَيُقَال: حَضَرَتْ الْمَلَائِكَة وَغَيْرهمْ بِفَتْحِ الضَّاد وَكَسَرَهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة} وَأَمَّا فِقْه الْفَصْل فَفيه: الْحَثّ عَلَى التَّبْكِير إِلَى الْجُمُعَة وَأَنَّ مَرَاتِب النَّاس فِي الْفَضِيلَة فيها وَفِي غَيْرهَا بِحَسَبِ أَعْمَالهمْ، وَهُوَ مِنْ بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمكُمْ عِنْد اللَّه أَتْقَاكُمْ} وَفيه: أَنَّ الْقُرْبَان وَالصَّدَقَة يَقَع عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ بَعْد الْكَبْش: «بَطَّة ثُمَّ دَجَاجَة ثُمَّ بَيْضَة» وَفِي رِوَايَة بَعْد الْكَبْش: «دَجَاجَة ثُمَّ عُصْفُور ثُمَّ بَيْضَة» وَإِسْنَادَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَانِ. وَفيه: أَنَّ التَّضْحِيَة بِالْإِبِلِ أَفْضَل مِنْ الْبَقَرَة؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْإِبِل وَجَعَلَ الْبَقَرَة فِي الدَّرَجَة الثَّانِيَة، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْإِبِل أَفْضَل مِنْ الْبَقَر فِي الْهَدَايَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُضْحِيَّة فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْجُمْهُور أَنَّ الْإِبِل، أَفْضَل ثُمَّ الْبَقَر ثُمَّ الْغَنَم كَمَا فِي الْهَدَايَا، وَمَذْهَب مَالِك أَنَّ أَفْضَل الْأُضْحِيَّة الْغَنَم ثُمَّ الْبَقَر ثُمَّ الْإِبِل قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ، وَحُجَّة الْجُمْهُور ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث وَالْقِيَاس عَلَى الْهَدَايَا، وَأَمَّا تَضْحِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَلْزَم مِنْهَا تَرْجِيح الْغَنَم؛ لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَمَكَّن ذَلِكَ الْوَقْت إِلَّا مِنْ الْغَنَم أَوْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَضَرَتْ الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُونَ» قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة غَيْر الْحَفَظَة وَظِيفَتهمْ كِتَابَة حَاضِرِي الْجُمُعَة.

.باب فِي الإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْخُطْبَةِ:

1404- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يَخْطُب فَقَدْ لَغَوْت» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَقَدْ لَغَيْت».
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: هِيَ لُغَة أَبِي هُرَيْرَة وَإِنَّمَا هُوَ: «فَقَدْ لَغَوْت».
قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: لَغَا يَلْغُو كَغَزَا يَغْزُو، وَيُقَال: لَغِيَ يَلْغَى كَعَمِيَ يَعْمَى، لُغَتَانِ الْأُولَى أَفْصَح، وَظَاهِر الْقُرْآن يَقْتَضِي هَذِهِ الثَّانِيَة الَّتِي هِيَ لُغَة أَبِي هُرَيْرَة.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْا فيه} وَهَذَا مِنْ لَغِيَ يَلْغَى، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَوَّل لَقَالَ: وَالْغُوا بِضَمِّ الْغَيْن، قَالَ اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره: مَصْدَر الْأَوَّل اللَّغْو، وَمَصْدَر الثَّانِي اللَّغْي، وَمَعْنَى: «فَقَدْ لَغَوْت» أَيْ قُلْت اللَّغْو، وَهُوَ الْكَلَام الْمَلْغِيّ السَّاقِط الْبَاطِل الْمَرْدُود، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قُلْت غَيْر الصَّوَاب، وَقِيلَ: تَكَلَّمْت بِمَا لَا يَنْبَغِي. فَفِي الْحَدِيث النَّهْي عَنْ جَمِيع أَنْوَاع الْكَلَام حَال الْخُطْبَة، وَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ أَنْصِتْ وَهُوَ فِي الْأَصْل أَمْر بِمَعْرُوفٍ، وَسَمَّاهُ لَغْوًا فَيَسِيره مِنْ الْكَلَام أَوْلَى، وَإِنَّمَا طَرِيقه إِذَا أَرَادَ نَهْي غَيْره عَنْ الْكَلَام أَنْ يُشِير إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ إِنْ فَهِمَهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَهْمه فَلْيَنْهَهُ بِكَلَامٍ مُخْتَصَر وَلَا يَزِيد عَلَى أَقَلّ مُمْكِن. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْكَلَام هَلْ هُوَ حَرَام أَوْ مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه؟ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعَيِّ، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَعَامَّة الْعُلَمَاء: يَجِب الْإِنْصَات لِلْخُطْبَةِ، وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيّ وَبَعْض السَّلَف: أَنَّهُ لَا يَجِب إِلَّا إِذَا تَلَا فيها الْقُرْآن.
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يَسْمَع الْإِمَام هَلْ يَلْزَمهُ الْإِنْصَات كَمَا لَوْ سَمِعَهُ؟ فَقَالَ الْجُمْهُور: يَلْزَمهُ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَأَحْمَد وَأَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ: لَا يَلْزَمهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْإِمَام يَخْطُب» دَلِيل عَلَى أَنَّ وُجُوب الْإِنْصَات وَالنَّهْي عَنْ الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي حَال الْخُطْبَة، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَجِب الْإِنْصَات بِخُرُوجِ الْإِمَام.
1405- سبق شرحه بالباب.

.باب فِي السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ:

1406- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْم الْجُمُعَة: «فيه سَاعَة لَا يُوَافِقهَا عَبْد مُسْلِم وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَل اللَّه شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَفِي رِوَايَة: «قَائِم يُصَلِّي»، وَفِي رِوَايَة: «وَهِيَ سَاعَة خَفِيفَة»، وَفِي رِوَايَة وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلهَا، وَفِي رِوَايَة أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: هِيَ مَا بَيْن أَنْ يَجْلِس الْإِمَام إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاة».
1409- قَوْله: «إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاة» هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق الْمَضْمُومَة، قَالَ الْقَاضِي: اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي وَقْت هَذِهِ السَّاعَة وَفِي مَعْنَى قَائِم يُصَلِّي، فَقَالَ بَعْضهمْ: هِيَ مِنْ بَعْد الْعَصْر إِلَى الْغُرُوب، قَالُوا: وَمَعْنَى يُصَلِّي يَدْعُو، وَمَعْنَى قَائِم: مُلَازِم وَمُوَاظِب كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا} وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِنْ حِين خُرُوج الْإِمَام إِلَى فَرَاغ الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ حِين تُقَام الصَّلَاة حَتَّى يَفْرُغ، وَالصَّلَاة عِنْدهمْ عَلَى ظَاهِرهَا، وَقِيلَ: مِنْ حِين يَجْلِس الْإِمَام عَلَى الْمِنْبَر حَتَّى يَفْرُغ مِنْ الصَّلَاة، وَقِيلَ: آخِر سَاعَة مِنْ يَوْم الْجُمُعَة، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلّ هَذَا آثَار مُفَسِّرَة لِهَذِهِ الْأَقْوَال، قَالَ: وَقِيلَ: عِنْد الزَّوَال، وَقِيلَ: مِنْ الزَّوَال إِلَى أَنْ يَصِير الظِّلّ نَحْو ذِرَاع، وَقِيلَ: هِيَ مَخْفِيَّة فِي الْيَوْم كُلّه كَلَيْلَةِ الْقَدْر.
وَقِيلَ: مِنْ طُلُوع الْفَجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَال أَنَّ هَذَا كُلّه وَقْت لَهَا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَكُون فِي أَثْنَاء ذَلِكَ الْوَقْت لِقَوْلِهِ: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلهَا) هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالصَّحِيح بَلْ الصَّوَاب مَا رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا مَا بَيْن أَنْ يَجْلِس الْإِمَام إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاة.
قَوْله: (عَنْ مَخْرَمَةَ بْن بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدهُ غَيْر مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَة، وَرَوَاهُ جَمَاعَة عَنْ أَبِي بُرْدَة مِنْ قَوْله، وَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَ بِهِ أَبَاهُ مُوسَى وَلَمْ يَرْفَعهُ قَالَ: وَالصَّوَاب أَنَّهُ مِنْ قَوْل أَبِي بُرْدَة، كَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّان عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة، وَتَابَعَهُ وَاصِل الْأَحْدَب وَمُجَالِد رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي بُرْدَة مِنْ قَوْله، وَقَالَ النُّعْمَان بْن عَبْد السَّلَام عَنْ الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوف، وَلَا يَثْبُت قَوْله عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ حَمَّاد بْن خَالِد قُلْت لِمَخْرَمَةَ: سَمِعْت مِنْ أَبِيك شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. هَذَا كَلَام الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهَذَا الَّذِي اِسْتَدْرَكَهُ بَنَاهُ عَلَى الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة لَهُ وَلِأَكْثَر الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ فِي رِوَايَة الْحَدِيث وَقْف وَرَفْع أَوْ إِرْسَال وَاتِّصَال حَكَمُوا بِالْوَقْفِ وَالْإِرْسَال، وَهِيَ قَاعِدَة ضَعِيفَة مَمْنُوعَة، وَالصَّحِيح طَرِيقَة الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء وَالْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَمُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُحْكَم بِالرَّفْعِ وَالِاتِّصَال لِأَنَّهَا؛ زِيَادَة ثِقَة.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَاضِحًا فِي الْفُصُول السَّابِقَة فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب، وَسَبَقَ التَّنْبِيه عَلَى مِثْل هَذَا فِي مَوَاضِع أُخَر بَعْدهَا، وَقَدْ رُوِّيْنَا فِي سُنَن الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَحْمَد بْن سَلَمَة قَالَ: ذَاكَرْت مُسْلِم بْن الْحَجَّاج حَدِيث مَخْرَمَةَ هَذَا فَقَالَ مُسْلِم: هُوَ أَجْوَد حَدِيث وَأَصَحّه فِي بَيَان سَاعَة الْجُمُعَة.

.باب فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ:

1411- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْر يَوْم طَلَعَتْ فيه الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة فيه خُلِقَ آدَم وَفيه أُدْخِلَ الْجَنَّة وَفيه أُخْرِجَ مِنْهَا وَلَا تَقُوم السَّاعَة إِلَّا فِي يَوْم الْجُمُعَة» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الظَّاهِر أَنَّ هَذِهِ الْفَضَائِل الْمَعْدُودَة لَيْسَتْ لِذِكْرِ فَضِيلَته لِأَنَّ إِخْرَاج آدَم وَقِيَام السَّاعَة لَا يُعَدّ فَضِيلَة وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان لِمَا وَقَعَ فيه مِنْ الْأُمُور الْعِظَام وَمَا سَيَقَعُ، لِيَتَأَهَّب الْعَبْد فيه بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة لِنَيْلِ رَحْمَة اللَّه وَدَفْع نِقْمَته، هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه الْأَحْوَذِيّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ: الْجَمِيع مِنْ الْفَضَائِل، وَخُرُوج آدَم مِنْ الْجَنَّة هُوَ سَبَب وُجُود الذُّرِّيَّة وَهَذَا النَّسْل الْعَظِيم وَوُجُود الرُّسُل وَالْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَالْأَوْلِيَاء، وَلَمْ يَخْرُج مِنْهَا طَرْدًا بَلْ لِقَضَاءِ أَوْطَار ثُمَّ يَعُود إِلَيْهَا.
وَأَمَّا قِيَام السَّاعَة فَسَبَب لِتَعْجِيلِ جَزَاء الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقِينَ وَالْأَوْلِيَاء وَغَيْرهمْ، وَإِظْهَار كَرَامَتهمْ وَشَرَفهمْ، وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضِيلَة يَوْم الْجُمُعَة وَمَزِيَّته عَلَى سَائِر الْأَيَّام. وَفيه دَلِيل لِمَسْأَلَةٍ غَرِيبَة حَسَنَة وَهِيَ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتَ طَالِق فِي أَفْضَل الْأَيَّام. وَفيها وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحّهمَا: تَطْلُق يَوْم عَرَفَة.
وَالثَّانِي: يَوْم الْجُمُعَة لِهَذَا الْحَدِيث، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّة، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَفْضَل أَيَّام السَّنَة فَيَتَعَيَّن يَوْم عَرَفَة، وَإِنْ أَرَادَ أَفْضَل أَيَّام الْأُسْبُوع فَيَتَعَيَّن الْجُمُعَة، وَلَوْ قَالَ أَفْضَل لَيْلَة تَعَيَّنَتْ لَيْلَة الْقَدْر وَهِيَ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور مُنْحَصِرَة فِي الْعَشْر الْأَوَاخِر مِنْ شَهْر رَمَضَان، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْل قَبْل مُضِيّ أَوَّل لَيْلَة مِنْ الْعَشْر فِي أَوَّل جُزْء مِنْ اللَّيْلَة الْأَخِيرَة مِنْ الشَّهْر، وَإِنْ كَانَ بَعْد مُضِيّ لَيْلَة مِنْ الْعَشْر أَوْ أَكْثَر لَمْ تَطْلُق إِلَّا فِي أَوَّل جُزْء مِنْ مِثْل تِلْكَ اللَّيْلَة فِي السَّنَة الثَّانِيَة، وَعَلَى قَوْل مَنْ يَقُول هِيَ مُنْتَقِلَة لَا تَطْلُق إِلَّا فِي أَوَّل جُزْء مِنْ اللَّيْلَة الْأَخِيرَة مِنْ الشَّهْر. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب هِدَايَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ:

1412- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ الْآخِرُونَ فِي الزَّمَان وَالْوُجُود، السَّابِقُونَ بِالْفَضْلِ وَدُخُول الْجَنَّة، فَتَدْخُل هَذِهِ الْأُمَّة الْجَنَّة قَبْل سَائِر الْأُمَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْد أَنَّ كُلّ أُمَّة أُوتِيَتْ الْكِتَاب مِنْ قَبْلنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدهمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة تَحْت، قَالَ أَبُو عُبَيْد: لَفْظَة (بَيْد) تَكُون بِمَعْنَى غَيْر، وَبِمَعْنَى (عَلَى) وَبِمَعْنَى (مِنْ أَجْل) وَكُلّه صَحِيح هُنَا، قَالَ أَهْل اللُّغَة: وَيُقَال (مَيْد) بِمَعْنَى (بَيْد).
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا الْيَوْم الَّذِي كَتَبَهُ اللَّه عَلَيْنَا هَدَانَا اللَّه لَهُ» فيه دَلِيل لِوُجُوبِ الْجُمُعَة، وَفيه فَضِيلَة هَذِهِ الْأُمَّة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَهُود غَدًا» أَيْ عِيد الْيَهُود غَدًا؛ لِأَنَّ ظُرُوف الزَّمَان لَا تَكُون أَخْبَارًا عَنْ الْجُثَث فَيُقَدَّر فيه مَعْنًى يُمْكِن تَقْدِيره خَبَرًا.
1413- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَذَا يَوْمهمْ- أَيْ- الَّذِي اِخْتَلَفُوا فيه هَدَانَا اللَّه لَهُ» قَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِر أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيم يَوْم الْجُمُعَة بِغَيْرِ تَعْيِين وَوُكِّلَ إِلَى اِجْتِهَادهمْ، لِإِقَامَةِ شَرَائِعهمْ فيه، فَاخْتَلَفَ اِجْتِهَادهمْ فِي تَعْيِينه وَلَمْ يَهْدِهِمْ اللَّه لَهُ، وَفَرَضَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّة مُبَيَّنًا، وَلَمْ يَكِلهُ إِلَى اِجْتِهَادهمْ فَفَازُوا بِتَفْضِيلِهِ.
قَالَ: وَقَدْ جَاءَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَمَرَهُمْ بِالْجُمْعَةِ وَأَعْلَمَهُمْ بِفَضْلِهَا فَنَاظَرُوهُ أَنَّ السَّبْت أَفْضَل، فَقِيلَ لَهُ: دَعْهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ كَانَ مَنْصُوصًا لَمْ يَصِحّ اِخْتِلَافهمْ فيه، بَلْ كَانَ يَقُول: خَالِفُوا فيه، قُلْت: وَيُمْكِن أَنْ يَكُون أُمِرُوا بِهِ صَرِيحًا وَنُصَّ عَلَى عَيْنه فَاخْتَلَفُوا فيه هَلْ يَلْزَم تَعْيِينه أَمْ لَهُمْ إِبْدَاله؟ وَأَبْدَلُوهُ وَغَلِطُوا فِي إِبْدَاله.
1415- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَضَلَّ اللَّه عَنْ الْجُمُعَة مَنْ كَانَ قَبْلنَا» فِي دَلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَال وَالْخَيْر وَالشَّرّ كُلّه بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ فِعْله خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.