فصل: بَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَأَنَّهُ يَدْخُل فيه الْغَزْو وَغَيْره مِنْ الْأَعْمَال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب حُرْمَةِ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ وَإِثْمِ مَنْ خَانَهُمْ فِيهِنَّ:

3515- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَة نِسَاء الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتهمْ» هَذَا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدهمَا: تَحْرِيم التَّعَرُّض لَهُنَّ بِرِيبَةٍ مِنْ نَظَر مُحَرَّم، وَخَلْوَة، وَحَدِيث مُحَرَّم، وَغَيْر ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: فِي بِرّهنَّ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِنَّ، وَقَضَاء حَوَائِجهنَّ الَّتِي لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَفْسَدَة، وَلَا يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى رِيبَة وَنَحْوهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَخُون الْمُجَاهِد فِي أَهْله: «إِنَّ الْمُجَاهِد يَأْخُذ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ حَسَنَاته مَا شَاءَ فَمَا ظَنّكُمْ؟» مَعْنَاهُ: مَا تَظُنُّونَ فِي رَغْبَته فِي أَخْذ حَسَنَاته، وَالِاسْتِكْثَار مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَام، أَيْ: لَا يُبْقِي مِنْهَا شَيْئًا إِنْ أَمْكَنَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب سُقُوطِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَنِ الْمَعْذُورِينَ:

3516- قَوْله: «فَجَاءَ بِكَتِفٍ يَكْتُبهَا» فيه: جَوَاز كِتَابَة الْقُرْآن فِي الْأَلْوَاح وَالْأَكْتَاف. وَفيه: طَهَارَة عَظْم الْمُذَكَّى وَجَوَاز الِانْتِفَاع بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْر أُولِي الضَّرَر} الْآيَة. فيه: دَلِيل لِسُقُوطِ الْجِهَاد عَنْ الْمَعْذُورِينَ، وَلَكِنْ لَا يَكُون ثَوَابهمْ ثَوَاب الْمُجَاهِدِينَ، بَلْ لَهُمْ ثَوَاب نِيَّاتهمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ نِيَّة صَالِحَة، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة» وَفيه: أَنَّ الْجِهَاد فَرْض كِفَايَة لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْن. وَفيه رَدّ عَلَى مَنْ يَقُول: إِنَّهُ كَانَ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْض عَيْن وَبَعْده فَرْض كِفَايَة، وَالصَّحِيح: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَرْض كِفَايَة مِنْ حِين شُرِعَ، وَهَذِهِ الْآيَة ظَاهِرَة فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّه الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّه الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَوْله تَعَالَى: {غَيْر أُولِي الضَّرَر} قُرِئَ {غَيْر} بِنَصْبِ الرَّاء وَرَفْعهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي السَّبْع، قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ بِنَصْبِهَا، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا،، وَقُرِئَ فِي الشَّاذّ بِجَرِّهَا، فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الِاسْتِثْنَاء، وَمَنْ رَفَعَ فَوَصْفٌ لِلْقَاعِدِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ، وَمَنْ جَرّ فَوَصْف لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَل مِنْهُمْ.
قَوْله: «فَشَكَا إِلَيْهِ اِبْن أُمّ مَكْتُوم ضَرَارَته» أَيْ: عَمَاهُ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا (ضَرَارَته) بِفَتْحِ الضَّاد، وَحَكَى صَاحِب الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع عَنْ بَعْض الرُّوَاة أَنَّهُ ضُبِطَ (ضَرَرًا بِهِ) وَالصَّوَاب الْأَوَّل.

.باب ثُبُوتِ الْجَنَّةِ لِلشَّهِيدِ:

3518- «قَالَ رَجُل: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُول اللَّه إِنْ قُتِلْت؟ قَالَ: فِي الْجَنَّة فَأَلْقَى تَمَرَات كُنَّ فِي يَده ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ» فيه: ثُبُوت الْجَنَّة لِلشَّهِيدِ. وَفيه: الْمُبَادَرَة بِالْخَيْرِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَغَل عَنْهُ بِحُظُوظِ النُّفُوس.
3519- قَوْله: (وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَنَاب المِصِّيصِيّ) بِالْجِيمِ وَالنُّون، وَأَمَّا (المِصِّيصِيّ) فَبِكَسْرِ الْمِيم وَالصَّاد الْمُشَدَّدَة، وَيُقَال: بِفَتْحِ الْمِيم وَتَخْفِيف الصَّاد، وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ الْأَوَّل أَشْهَر، مَنْسُوب إِلَى الْمِصِّيصَة الْمَدِينَة الْمَعْرُوفَة.
قَوْله: (جَاءَ رَجُل مِنْ بَنِي النَّبِيت) هُوَ بِنُونٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ بَاء مَكْسُورَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق، وَهُمْ قَبِيلَة مِنْ الْأَنْصَار كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَاب.
3520- قَوْله: «بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُسَيْسَة عَيْنًا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (بُسَيْسَة) بِبَاءٍ مُوَحَّدَة مَضْمُومَة، وَبِسِينَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنهمَا يَاء مُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة، قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَصْحَاب الْحَدِيث، قَالَ: وَالْمَعْرُوف فِي كُتُب السِّيرَة (بَسْبَسَ) بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنهمَا سِين سَاكِنَة، وَهُوَ بَسْبَس بْن عَمْرو، وَيُقَال: اِبْن بِشْر مِنْ الْأَنْصَار مِنْ الْخَزْرَج، وَيُقَال: حَلِيف لَهُمْ، قُلْت: يَجُوز أَنْ يَكُون أَحَد اللَّفْظَيْنِ اِسْمًا لَهُ وَالْآخَر لَقَبًا.
وَقَوْله: (عَيْنًا) أَيْ مُتَجَسِّسًا وَرَقِيبًا.
قَوْله: (مَا صَنَعَتْ عِير أَبِي سُفْيَان) هِيَ: الدَّوَابّ الَّتِي تَحْمِل الطَّعَام وَغَيْره مِنْ الْأَمْتِعَة، قَالَ فِي الْمَشَارِق: الْعِير هِيَ الْإِبِل وَالدَّوَابّ تَحْمِل الطَّعَام وَغَيْره مِنْ التِّجَارَات، قَالَ: وَلَا تُسَمَّى عِيرًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح: الْعِير: الْإِبِل تَحْمِل الْمِيرَة، وَجَمْعهَا: عِيَرَات، بِكَسْرِ الْعَيْن وَفَتْح الْيَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَنَا طَلِبَة فَمَنْ كَانَ ظَهْره حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ» هِيَ بِفَتْحِ الطَّاء وَكَسْر اللَّام، أَيْ: شَيْئًا نَطْلُبهُ. و(الظَّهْر) الدَّوَابّ الَّتِي تُرْكَب.
قَوْله: «فَجَعَلَ رِجَال يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانهمْ» هُوَ بِضَمِّ الظَّاء وَإِسْكَان الْهَاء، أَيْ: مَرْكُوبَاتهمْ. فِي هَذَا: اِسْتِحْبَاب التَّوْرِيَة فِي الْحَرْب وَأَلَّا يُبَيِّن الْإِمَام جِهَة إِغَارَته وَإِغَارَة سَرَايَاهُ؛ لِئَلَّا يَشِيع ذَلِكَ فَيَحْذَرهُمْ الْعَدُوّ.
قَوْله: (فِي عُلُوّ الْمَدِينَة) بِضَمِّ الْعَيْن وَكَسْرهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَد مِنْكُمْ إِلَى شَيْء حَتَّى أَكُون أَنَا دُونه» أَيْ: قُدَّامه مُتَقَدِّمًا فِي ذَلِكَ الشَّيْء لِئَلَّا يَفُوت شَيْء مِنْ الْمَصَالِح الَّتِي لَا تَعْلَمُونَهَا.
قَوْله: (عُمَيْر بْن الْحُمَام) بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْمِيم.
قَوْله: (بَخٍ بَخٍ) فيه لُغَتَانِ: إِسْكَان الْخَاء وَكَسْرهَا مُنَوَّنًا، وَهِيَ: كَلِمَة تُطْلَق لِتَفْخِيمِ الْأَمْر وَتَعْظِيمه فِي الْخَيْر.
قَوْله: «لَا وَاللَّهُ يَا رَسُول اللَّه إِلَّا رَجَاءَة أَنْ أَكُون مِنْ أَهْلهَا» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة (رَجَاءَة) بِالْمَدِّ وَنَصْب التَّاء، وَفِي بَعْضهَا (رَجَاء) بِلَا تَنْوِينٍ، وَفِي بَعْضهَا بِالتَّنْوِينِ مَمْدُودَانِ بِحَذْفِ التَّاء، وَكُلّه صَحِيح مَعْرُوف فِي اللُّغَة، وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ مَا فَعَلْته لِشَيْءٍ إِلَّا لِرَجَاءِ أَنْ أَكُون مِنْ أَهْلهَا.
قَوْله: (فَأَخْرَجَ تَمَرَات مِنْ قَرَنه) هُوَ بِقَافٍ وَرَاء مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ نُون، أَيْ: جُعْبَة النُّشَّاب، وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ الْمَغَارِبَة فيه تَصْحِيف.
قَوْله: «لَئِنْ أَنَا حَيِيت حَتَّى آكُل تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاة طَوِيلَة فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْر ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ» فيه: جَوَاز الِانْغِمَار فِي الْكُفَّار، وَالتَّعَرُّض لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ جَائِز بِلَا كَرَاهَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء.
3521- قَوْله: «وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوّ» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا ثَلَاثَة لُغَات، وَيُقَال: أَيْضًا (بِحَضَرِ) بِفَتْحِ الْحَاء وَالضَّاد بِحَذْفِ الْهَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة تَحْت ظِلَال السُّيُوف» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: إِنَّ الْجِهَاد وَحُضُور مَعْرَكَة الْقِتَال طَرِيق إِلَى الْجَنَّة وَسَبَب لِدُخُولِهَا.
قَوْله: «كَسَرَ جَفْن سَيْفه» هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْفَاء وَبِالنُّونِ، وَهُوَ: غِمْده.
3522- قَوْله: «وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِد» مَعْنَاهُ: يَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِد مُسَبَّلًا لِمَنْ أَرَادَ اِسْتِعْمَاله لِطَهَارَةٍ أَوْ شُرْب أَوْ غَيْرهمَا. وَفيه: جَوَاز وَضْعه فِي الْمَسْجِد، وَقَدْ كَانُوا يَضَعُونَ أَيْضًا أَعْذَاق التَّمْر لِمَنْ أَرَادَهَا فِي الْمَسْجِد فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا خِلَاف فِي جَوَاز هَذَا وَفَضْله.
قَوْله: «وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَام لِأَهْلِ الصُّفَّة» أَصْحَاب الصُّفَّةِ هُمْ الْفُقَرَاء الْغُرَبَاء الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ لَهُمْ فِي آخِره صُفَّة، وَهُوَ مَكَان مُنْقَطِع مِنْ الْمَسْجِد مُظَلَّل عَلَيْهِ يَبِيتُونَ فيه، قَالَهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْقَاضِي، وَأَصْله مِنْ صُفَّة الْبَيْت، وَهِيَ شَيْء كَالظُّلَّةِ قُدَّامه. فيه: فَضِيلَة الصَّدَقَة، وَفَضِيلَة الِاكْتِسَاب مِنْ الْحَلَال لَهَا. وَفيه: جَوَاز الصُّفَّة فِي الْمَسْجِد، وَجَوَاز الْمَبِيت فيه بِلَا كَرَاهَة، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.
قَوْله: «اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاك فَرَضِينَا عَنْك وَرَضِيت عَنَّا» فيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلشُّهَدَاءِ، وَثُبُوت الرِّضَا مِنْهُمْ وَلَهُمْ، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} قَالَ الْعُلَمَاء: رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ بِطَاعَتِهِمْ، وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَكْرَمهمْ بِهِ وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مِنْ الْخَيْرَات. وَالرِّضَى مِنْ اللَّه تَعَالَى إِفَاضَة الْخَيْر وَالْإِحْسَان وَالرَّحْمَة، فَيَكُون مِنْ صِفَات الْأَفْعَال، وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى إِرَادَته، فَيَكُون مِنْ صِفَات الذَّات.
3523- قَوْله: «لِيَرَانِي اللَّه مَا أَصْنَع» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (لِيَرَانِي) بِالْأَلِفِ، وَهُوَ صَحِيح، وَيَكُون (مَا أَصْنَع) بَدَلًا مِنْ الضَّمِير فِي (أَرَانِي) أَيْ لِيَرَى اللَّه مَا أَصْنَع، وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ (لَيَرَيَنَّ اللَّه) بِيَاءٍ بَعْد الرَّاء ثُمَّ نُون مُشَدَّدَة، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ، وَعَلَى هَذَا ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا (لَيَرَيَنَّ) بِفَتْحِ الْيَاء وَالرَّاء، أَيْ: يَرَاهُ اللَّه وَاقِعًا بَارِزًا. وَالثَّانِي (لَيُرِيَنَّ) بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء، وَمَعْنَاهُ: لَيُرِيَنَّ اللَّه النَّاس مَا صَنَعَهُ وَيُبْرِزهُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ.
قَوْله: «فَهَابَ أَنْ يَقُول غَيْرهَا» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَة الْمُبْهَمَة، أَيْ: قَوْله: «لَيَرَيَنَّ اللَّه مَا أَصْنَع» مَخَافَة أَنْ يُعَاهِد اللَّه عَلَى غَيْرهَا فَيَعْجَز عَنْهُ، أَوْ تَضْعُف بِنْيَته عَنْهُ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ، وَلِيَكُونَ إِبْرَاء لَهُ مِنْ الْحَوْل وَالْقُوَّة.
قَوْله: «وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّة أَجِدهُ دُون أُحُد» قَالَ الْعُلَمَاء: (وَاهًا) كَلِمَة تَحَنُّن وَتَلَهُّف.
قَوْله: «أَجِدهُ دُون أُحُد» مَحْمُول عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَدَهُ رِيحهَا مِنْ مَوْضِع الْمَعْرَكَة، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث أَنَّ رِيحهَا تُوجَد مِنْ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام.

.باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ:

3524- قَوْله: «الرَّجُل يُقَاتِل لِلذِّكْرِ» أَيْ: لِيَذْكُرهُ النَّاس بِالشَّجَاعَةِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّال.
3525- قَوْله: «وَيُقَاتِل حَمِيَّة» هِيَ: الْأَنَفَة وَالْغَيْرَة وَالْمُحَامَاة عَنْ عَشِيرَته.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيل اللَّه» فيه: بَيَان أَنَّ الْأَعْمَال إِنَّمَا تُحْسَب بِالنِّيَّاتِ الصَّالِحَة، وَأَنَّ الْفَضْل الَّذِي وَرَدَ فِي الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّه يَخْتَصّ بِمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا.
قَوْله: «فَرَفَعَ رَأْسه إِلَيْهِ وَمَا رَفَعَ رَأْسه إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا» فيه: أَنَّهُ لَا بَأْس أَنْ يَكُون الْمُسْتَفْتِي وَاقِفًا إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْر مِنْ ضِيق مَكَان أَوْ غَيْره، وَكَذَلِكَ طَالِب الْحَاجَة. وَفيه: إِقْبَال الْمُتَكَلِّم عَلَى مَنْ يُخَاطِبهُ.

.باب مَنَ قَاتَلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ اسْتَحَقَّ النَّارَ:

3527- قَوْله: (تَفَرَّقَ النَّاس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فَقَالَ لَهُ نَاتِل أَهْل الشَّام أَيّهَا الشَّيْخ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فَقَالَ لَهُ: نَاتِل الشَّامِّي) هُوَ بِالنُّونِ فِي أَوَّله، وَبَعْد الْأَلِف تَاء مُثَنَّاة فَوْق، وَهُوَ: نَاتِل بْن قَيْس الْحِزَامِيُّ الشَّامِيّ مِنْ أَهْل فِلَسْطِين، وَهُوَ تَابِعِيّ، وَكَانَ أَبُوهُ صَحَابِيًّا، وَكَانَ نَاتِل كَبِير قَوْمه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَازِي وَالْعَالِم وَالْجَوَاد وَعِقَابهمْ عَلَى فِعْلهمْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّه، وَإِدْخَالهمْ النَّار: دَلِيل عَلَى تَغْلِيط تَحْرِيم الرِّيَاء وَشِدَّة عُقُوبَته، وَعَلَى الْحَثّ عَلَى وُجُوب الْإِخْلَاص فِي الْأَعْمَال، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} وَفيه: أَنَّ الْعُمُومِيَّات الْوَارِدَة فِي فَضْل الْجِهَاد إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ أَرَادَ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ مُخْلِصًا، وَكَذَلِكَ الثَّنَاء عَلَى الْعُلَمَاء وَعَلَى الْمُنْفِقِينَ فِي وُجُوه الْخَيْرَات كُلّه مَحْمُول عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى مُخْلِصًا.
قَوْله: (تَفَرَّجَ النَّاس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة) أَيْ: تَفَرَّقُوا بَعْد اِجْتِمَاعهمْ.

.باب بَيَانِ قَدْرِ ثَوَابِ مَنْ غَزَا فَغَنِمَ وَمَنْ لَمْ يَغْنَمْ:

3528- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ غَازِيَة تَغْزُو فِي سَبِيل اللَّه فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَة إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ مِنْ الْآخِرَة، وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُث، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَة تَمَّ لَهُمْ أَجْرهمْ» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «مَا مِنْ غَازِيَة أَوْ سَرِيَّة تَغْزُو فَتَغْنَم وَتَسْلَم إِلَّا كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أُجُورهمْ وَمَا مِنْ غَازِيَة أَوْ سَرِيَّة تُخْفِق وَتُصَاب إِلَّا تَمَّ أُجُورهمْ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْإِخْفَاق: أَنْ يَغْزُوَا فَلَا يَغْنَمُوا شَيْئًا، وَكَذَلِكَ كُلّ طَالِب حَاجَة إِذَا لَمْ تَحْصُل فَقَدْ أَخْفَقَ، وَمِنْهُ: أَخْفَقَ الصَّائِد، إِذَا لَمْ يَقَع لَهُ صَيْد.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث: فَالصَّوَاب الَّذِي لَا يَجُوز غَيْره، أَنَّ الْغُزَاة إِذَا سَلِمُوا أَوْ غَنِمُوا يَكُون أَجْرهمْ أَقَلّ مِنْ أَجْر مَنْ لَمْ يَسْلَم، أَوْ سَلِمَ وَلَمْ يَغْنَم، وَأَنَّ الْغَنِيمَة هِيَ فِي مُقَابَلَة جُزْء مِنْ أَجْر غَزْوهمْ، فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَقَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ الْمُتَرَتَّب عَلَى الْغَزْو، وَتَكُون هَذِهِ الْغَنِيمَة مِنْ جُمْلَة الْأَجْر، وَهَذَا مُوَافِق لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة عَنْ الصَّحَابَة كَقَوْلِهِ: «مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَته فَهُوَ يَهْدُبُهَا» أَيْ: يَجْتَنِيهَا، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث، وَلَمْ يَأْتِ حَدِيث صَرِيح صَحِيح يُخَالِف هَذَا، فَتَعَيَّنَ حَمْله عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ اِخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاض مَعْنَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَعْد حِكَايَته فِي تَفْسِيره أَقْوَالًا فَاسِدَة؛ مِنْهَا: قَوْل: مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا يَجُوز أَنْ يَنْقُص ثَوَابهمْ بِالْغَنِيمَةِ، كَمَا لَمْ يَنْقُص ثَوَاب أَهْل بَدْر وَهُمْ أَفْضَل الْمُجَاهِدِينَ، وَهِيَ أَفْضَل غَنِيمَة، قَالَ: وَزَعَمَ بَعْض هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبَا هَانِئ حُمَيْدَ بْن هَانِئ رَاوِيه مَجْهُول، وَرَجَّحُوا الْحَدِيث السَّابِق، فِي أَنَّ الْمُجَاهِد يَرْجِع بِمَا نَالَ مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة، فَرَجَّحُوهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيث لِشُهْرَتِهِ وَشُهْرَة رِجَاله، وَلِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا فِي مُسْلِم خَاصَّة، وَهَذَا الْقَوْل بَاطِل مِنْ أَوْجُه، فَإِنَّهُ لَا تَعَارُض بَيْنه وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيث السَّابِق رُجُوعه بِمَا نَالَ مِنْ أَجْر وَغَنِيمَة، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْغَنِيمَة تُنْقِص الْأَجْر أَمْ لَا وَلَا قَالَ: أَجْره كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَم، فَهُوَ مُطْلَق، وَهَذَا مُقَيَّد، فَوَجَبَ حَمْله عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: أَبُو هَانِئ مَجْهُول؛ فَغَلَط فَاحِش، بَلْ هُوَ ثِقَة مَشْهُور، رَوَى عَنْهُ اللَّيْث بْن سَعْد وَحَيْوَة وَابْن وَهْب وَخَلَائِق مِنْ الْأَئِمَّة، وَيَكْفِي فِي تَوْثِيقه اِحْتِجَاج مُسْلِم بِهِ فِي صَحِيحه.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَلَيْسَ لَازِمًا فِي صِحَّة الْحَدِيث كَوْنه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي أَحَدهمَا.
وَأَمَّا قَوْلهمْ: فِي غَنِيمَة بَدْر، فَلَيْسَ فِي غَنِيمَة بَدْر نَصّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ أَجْرهمْ عَلَى قَدْر أَجْرهمْ، وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ، وَكَوْنهمْ مَغْفُورًا لَهُمْ، مَرَضِيًّا عَنْهُمْ، وَمِنْ أَهْل الْجَنَّة، لَا يَلْزَم أَلَّا تَكُون وَرَاء هَذَا مَرْتَبَة أُخْرَى هِيَ أَفْضَل مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ شَدِيد الْفَضْل عَظِيم الْقَدْر. وَمِنْ الْأَقْوَال الْبَاطِلَة مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّ الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْره إِنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَة أُخِذَتْ عَلَى غَيْر وَجْههَا، وَهَذَا غَلَط فَاحِش، إِذْ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَاف وَجْههَا لَمْ يَكُنْ ثُلُث الْأَجْر، وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الَّتِي أَخْفَقَتْ يَكُون لَهَا أَجْر بِالْأَسَفِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ الْغَنِيمَة، فَيُضَاعَف ثَوَابهَا كَمَا يُضَاعَف لِمَنْ أُصِيب فِي مَاله وَأَهْله، وَهَذَا الْقَوْل فَاسِد مُبَايِن لِصَرِيحِ الْحَدِيث، وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْو وَالْغَنِيمَة مَعًا فَنَقَصَ ثَوَابه، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيف. وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3529- سبق شرحه بالباب.

.بَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَأَنَّهُ يَدْخُل فيه الْغَزْو وَغَيْره مِنْ الْأَعْمَال:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ» الْحَدِيث. أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَم مَوْقِع هَذَا الْحَدِيث، وَكَثْرَة فَوَائِده وَصِحَّته، قَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: هُوَ ثُلُث الْإِسْلَام، وَقَالَ الشَّافِعِيّ: يَدْخُل فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْفِقْه، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ رُبْع الْإِسْلَام، وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ وَغَيْره: يَنْبَغِي لِمَنْ صَنَّفَ كِتَابًا أَنْ يَبْدَأ فيه بِهَذَا الْحَدِيث تَنْبِيهًا لِلطَّالِبِ عَلَى تَصْحِيح النِّيَّة. وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا عَنْ الْأَئِمَّة مُطْلَقًا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْبُخَارِيّ وَغَيْره، فَابْتَدَءُوا بِهِ قَبْل كُلّ شَيْء، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي سَبْعَة مَوَاضِع مِنْ كِتَابه، قَالَ الْحُفَّاظ: وَلَمْ يَصِحّ هَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَلَا عَنْ عُمَر إِلَّا مِنْ رِوَايَة عَلْقَمَة بْن وَقَّاص، وَلَا عَنْ عَلْقَمَة إِلَّا مِنْ رِوَايَة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ، وَلَا عَنْ مُحَمَّد إِلَّا مِنْ رِوَايَة يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ، وَعَنْ يَحْيَى اِنْتَشَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَر مِنْ مِائَتَيْ إِنْسَان أَكْثَرهمْ أَئِمَّة، وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّة: لَيْسَ هُوَ مُتَوَاتِرًا، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا عِنْد الْخَاصَّة وَالْعَامَّة؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ شَرْط التَّوَاتُر فِي أَوَّله. وَفيه: طُرْفَة مِنْ طُرَف الْإِسْنَاد، فَإِنَّهُ رَوَاهُ ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، يَحْيَى وَمُحَمَّد وَعَلْقَمَة، قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة وَالْأُصُول وَغَيْرهمْ: لَفْظَة (إِنَّمَا) مَوْضُوعَة لِلْحَصْرِ، تُثْبِت الْمَذْكُور، وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ. فَتَقْدِير هَذَا الْحَدِيث: إِنَّ الْأَعْمَال تُحْسَب بِنِيَّةٍ، وَلَا تُحْسَب إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّة. وَفيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ الطَّهَارَة وَهِيَ الْوُضُوء وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّم لَا تَصِحّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحَجّ وَالِاعْتِكَاف وَسَائِر الْعِبَادَات.
وَأَمَّا إِزَالَة النَّجَاسَة فَالْمَشْهُور عِنْدنَا أَنَّهَا لَا تَفْتَقِر إِلَى نِيَّة؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَاب وَتَدْخُل النِّيَّة فِي الطَّلَاق وَالْعَتَاق وَالْقَذْف، وَمَعْنَى دُخُولهَا أَنَّهَا إِذَا قَارَنَتْ كِنَايَة صَارَتْ كَالصَّرِيحِ، وَإِنْ أَتَى بِصَرِيحِ طَلَاق وَنَوَى طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث وَقَعَ مَا نَوَى، وَإِنْ نَوَى بِصَرِيحٍ غَيْر مُقْتَضَاهُ دِينَ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُقْبَل مِنْهُ فِي الظَّاهِر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» قَالُوا: فَائِدَة ذِكْره بَعْد إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، بَيَان أَنَّ تَعْيِين الْمَنَوِيّ شَرْط، فَلَوْ كَانَ عَلَى إِنْسَان صَلَاة مَقْضِيَّة لَا يَكْفيه أَنْ يَنْوِي الصَّلَاة الْفَائِتَة، بَلْ يُشْتَرَط أَنْ يَنْوِي كَوْنهَا ظُهْرًا أَوْ غَيْرهَا، وَلَوْلَا اللَّفْظ الثَّانِي لَاقْتَضَى الْأَوَّل صِحَّة النِّيَّة بِلَا تَعْيِين أَوْ أَوْهَمَ ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ هِجْرَته إِلَى اللَّه وَرَسُوله فَهِجْرَته إِلَى اللَّه وَرَسُوله» مَعْنَاهُ: مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ وَجْه اللَّه وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه، وَمَنْ قَصَدَ بِهَا دُنْيَا أَوْ اِمْرَأَة فَهِيَ حَظّه وَلَا نَصِيب لَهُ فِي الْآخِرَة بِسَبَبِ هَذِهِ الْهِجْرَة، وَأَصْل الْهِجْرَة التَّرْك، وَالْمُرَاد هُنَا تَرْك الْوَطَن. وَذِكْر الْمَرْأَة مَعَ الدُّنْيَا يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ جَاءَ أَنَّ سَبَب هَذَا الْحَدِيث أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّج اِمْرَأَة يُقَال: لَهَا أُمّ قَيْس، فَقِيلَ لَهُ: مُهَاجِر أُمّ قَيْس.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى زِيَادَة التَّحْذِير مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَاب ذِكْر الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيَّته. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3530- سبق شرحه بالباب.

.باب اسْتِحْبَابِ طَلَبِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى:

3531- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَة صَادِقًا أُعْطِيهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مَنْ سَأَلَ اللَّه الشَّهَادَة بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّه مَنَازِل الشُّهَدَاء وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشه» مَعْنَى الرِّوَايَة الْأُولَى مُفَسَّر مِنْ الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا: أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الشَّهَادَة بِصِدْقِ أُعْطِيَ مِنْ ثَوَاب الشُّهَدَاء، وَإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشه. وَفيه: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الشَّهَادَة، وَاسْتِحْبَاب نِيَّة الْخَيْر.
3532- سبق شرحه بالباب.

.باب ذَمِّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ:

3533- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّث بِهِ نَفْسه مَاتَ عَلَى شُعْبَة مِنْ نِفَاق، قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك: فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَوْله: (نَرَى) بِضَمِّ النُّون، أَيْ: نَظُنّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن الْمُبَارَك مُحْتَمَل، وَقَدْ قَالَ غَيْره: إِنَّهُ عَامّ، وَالْمُرَاد أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَشْبَهَ الْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجِهَاد فِي هَذَا الْوَصْف، فَإِنَّ تَرْك الْجِهَاد أَحَد شُعَب النِّفَاق. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْل عِبَادَة فَمَاتَ قَبْل فِعْلهَا لَا يَتَوَجَّه عَلَيْهِ مِنْ الذَّمّ مَا يُتَوَجَّه عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَنْوِهَا، وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الصَّلَاة فِي أَوَّل وَقْتهَا فَأَخَّرَهَا بِنِيَّةِ أَنْ يَفْعَلهَا فِي أَثْنَائِهِ فَمَاتَ قَبْل فِعْلهَا، أَوْ أَخَّرَ الْحَجّ بَعْد التَّمَكُّن إِلَى سَنَة أُخْرَى فَمَاتَ قَبْل فِعْله هَلْ يَأْثَم أَمْ لَا؟ وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ أَنَّهُ يَأْثَم فِي الْحَجّ دُون الصَّلَاة؛ لِأَنَّ مُدَّة الصَّلَاة قَرِيبَة، فَلَا تُنْسَب إِلَى تَفْرِيط بِالتَّأْخِيرِ، بِخِلَافِ الْحَجّ، وَقِيلَ: يَأْثَم فيهمَا، وَقِيلَ: لَا يَأْثَم فيهمَا، وَقِيلَ يَأْثَم فِي الْحَجّ الشَّيْخ دُون الشَّابّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب ثَوَابِ مَنْ حَبَسَهُ عَنِ الْغَزْوِ مَرَضٌ أَوْ عُذْرٌ آخَرُ:

3534- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْمَرَض» وَفِي رِوَايَة: «إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْر» قَالَ أَهْل اللُّغَة: شَرِكَهُ بِكَسْرِ الرَّاء بِمَعْنَى شَارَكَهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: فَضِيلَة النِّيَّة فِي الْخَيْر، وَأَنَّ مَنْ نَوَى الْغَزْو وَغَيْره مِنْ الطَّاعَات فَعَرَضَ لَهُ عُذْر مَنَعَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَاب نِيَّته، وَأَنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ التَّأَسُّف عَلَى فَوَات ذَلِكَ، وَتَمَنَّى كَوْنه مَعَ الْغُزَاة وَنَحْوهمْ كَثُرَ ثَوَابه. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الْغَزْوِ فِي الْبَحْرِ:

3535- قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُل عَلَى أُمّ حَرَام بِنْت مِلْحَانِ فَتُطْعِمهُ وَتَفْلِي رَأْسه، وَيَنَام عِنْدهَا» اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّة ذَلِكَ فَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره: كَانَتْ إِحْدَى خَالَاته مِنْ الرَّضَاعَة، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ خَالَة لِأَبِيهِ أَوْ لِجَدِّهِ؛ لِأَنَّ عَبْد الْمُطَّلِب كَانَتْ أُمّه مِنْ بَنِي النَّجَّار.
قَوْله: (تَفْلِي) بِفَتْحِ التَّاء وَإِسْكَان الْفَاء، فيه: جَوَاز فَلْي الرَّأْس وَقَتْل الْقَمْل مِنْهُ، وَمِنْ غَيْره، قَالَ أَصْحَابنَا: قَتْل الْقَمْل وَغَيْره مِنْ الْمُؤْذِيَات مُسْتَحَبّ. وَفيه: جَوَاز مُلَامَسَة الْمَحْرَم فِي الرَّأْس وَغَيْره مِمَّا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَجَوَاز الْخَلْوَة بِالْمَحْرَمِ وَالنَّوْم عِنْدهَا، وَهَذَا كُلّه مُجْمَع عَلَيْهِ. وَفيه: جَوَاز أَكْل الضَّيْف عِنْد الْمَرْأَة الْمُزَوَّجَة مِمَّا قَدَّمَتْهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ مِنْ مَال الزَّوْج، وَيَعْلَم أَنَّهُ يَكْرَه أَكْله مِنْ طَعَامه.
قَوْلهَا: «فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَك» هَذَا الضَّحِك فَرَحًا وَسُرُورًا بِكَوْنِ أُمَّته تَبْقَى بَعْده مُتَظَاهِرَة بِأُمُورِ الْإِسْلَام، قَائِمَة بِالْجِهَادِ، حَتَّى فِي الْبَحْر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْكَبُونَ ثَبَج هَذَا الْبَحْر» (الثَّبَج) بِثَاءٍ مُثَلَّثَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ جِيم، وَهُوَ: ظَهْره وَوَسَطه، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَرْكَبُونَ ظَهْر الْبَحْر».
3536- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّة» قِيلَ: هُوَ صِفَة لَهُمْ فِي الْآخِرَة إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّة، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ صِفَة لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: يَرْكَبُونَ مَرَاكِب الْمُلُوك لِسَعَةِ حَالهمْ، وَاسْتِقَامَة أَمْرهمْ. وَكَثْرَة عَدَدهمْ.
قَوْلهَا: فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة: «اُدْعُ اللَّه أَنْ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ وَكَانَ دَعَا لَهَا فِي الْأُولَى قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ رُؤْيَاهُ الثَّانِيَة غَيْر الْأُولَى، وَأَنَّهُ عَرَضَ فيها غَيْر الْأَوَّلِينَ. وَفيه: مُعْجِزَات لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا إِخْبَاره بِبَقَاءِ أُمَّته بَعْده، وَأَنَّهُ تَكُون لَهُمْ شَوْكَة وَقُوَّة وَعَدَد، وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ وَأَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ الْبَحْر، وَأَنَّ أُمّ حَرَام تَعِيش إِلَى ذَلِكَ الزَّمَان، وَأَنَّهَا تَكُون مَعَهُمْ، وَقَدْ وُجِدَ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى كُلّ ذَلِكَ. وَفيه: فَضِيلَة لِتِلْكَ الْجُيُوش، وَأَنَّهُمْ غُزَاة فِي سَبِيل اللَّه. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مَتَى جَرَتْ الْغَزْوَة الَّتِي تُوُفِّيَتْ فيها أُمّ حَرَام فِي الْبَحْر؟ وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فِي مُسْلِم أَنَّهَا رَكِبَتْ الْبَحْر فِي زَمَان مُعَاوِيَة، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتهَا فَهَلَكَتْ، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَكْثَر أَهْل السِّيَر وَالْأَخْبَار: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَة عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَنَّ فيها رَكِبَتْ أُمّ حَرَام وَزَوْجهَا إِلَى قُبْرُص فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتهَا هُنَاكَ، فَتُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُون قَوْله: (فِي زَمَان مُعَاوِيَة) مَعْنَاهُ: فِي زَمَان غَزْوِهِ فِي الْبَحْر لَا فِي أَيَّام خِلَافَته، قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَته، قَالَ: وَهُوَ أَظْهَر فِي دَلَالَة قَوْله فِي زَمَانه، وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز رُكُوب الْبَحْر لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاء، وَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُور، وَكَرِهَ مَالِك رُكُوبه لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُنَّ غَالِبًا التَّسَتُّر فيه، وَلَا غَضّ الْبَصَر عَنْ الْمُتَصَرِّفِينَ فيه، وَلَا يُؤْمَن اِنْكِشَاف عَوْرَاتهنَّ فِي تَصَرُّفهنَّ لاسيما فِيمَا صَغُرَ مِنْ السُّفْيَان، مَعَ ضَرُورَتهنَّ إِلَى قَضَاء الْحَاجَة بِحَضْرَةِ الرِّجَال.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز، رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، مَنْع رُكُوبه، وَقِيلَ: إِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُمَرَانِ لِلتِّجَارَةِ، وَطَلَب الدُّنْيَا، لَا لِلطَّاعَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْي عَنْ رُكُوب الْبَحْر إِلَّا لِحَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِر أَوْ غَازٍ، وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيث، وَقَالَ: رُوَاته مَجْهُولُونَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى وَالْمَوْت فيه سَوَاء فِي الْأَجْر؛ لِأَنَّ أُمّ حَرَام مَاتَتْ وَلَمْ تُقْتَل، وَلَا دَلَالَة فيه لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ شُهَدَاء إِنَّمَا يَغْزُونَ فِي سَبِيل اللَّه، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْد هَذَا بِقَلِيلٍ حَدِيث زُهَيْر بْن حَرْب مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ شَهِيد» وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ شَهِيد. وَهُوَ مُوَافِق لِمَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُج مِنْ بَيْته مُهَاجِرًا إِلَى اللَّه وَرَسُوله ثُمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه} قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «وَكَانَتْ أُمّ حَرَام تَحْت عُبَادَةَ بْن الصَّامِت، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ» وَقَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْن الصَّامِت بَعْد» فَظَاهِر الرِّوَايَة الْأُولَى أَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَة لِعُبَادَة حَالَ دُخُول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّ الرِّوَايَة الثَّانِيَة صَرِيحَة فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَزَوَّجَهَا بَعْد ذَلِكَ، فَتُحْمَل الْأُولَى عَلَى مُوَافَقَة الثَّانِيَة، وَيَكُون قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا صَارَ حَالًا لَهَا بَعْد ذَلِكَ.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رُمْح بْن الْمُهَاجِر أَخْبَرَنَا اللَّيْث عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا، وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ بَعْض نُسَخهمْ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رُمْح وَيَحْيَى اِبْن يَحْيَى أَخْبَرَنَا اللَّيْث فَزَادَ يَحْيَى بْن يَحْيَى مَعَ مُحَمَّد بْن رُمْح.

.باب فَضْلِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

3537- قَوْله: (عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن بَهْرَام) بِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْرهَا.
قَوْله: (شُرَحْبِيل بْن السَّمِط) يُقَال: بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر الْمِيم، وَيُقَال بِكَسْرِ السِّين وَإِسْكَان الْمِيم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خَيْر مِنْ صِيَام شَهْر وَقِيَامه، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَله الَّذِي كَانَ يَعْمَلهُ» هَذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمُرَابِطِ، وَجَرَيَان عَمَله بَعْد مَوْته فَضِيلَة مُخْتَصَّة بِهِ، لَا يُشَارِكهُ فيها أَحَد، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي غَيْر مُسْلِم: «كُلّ مَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله إِلَّا الْمُرَابِط فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقه» مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء: {أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ} وَالْأَحَادِيث السَّابِقَة أَنَّ أَرْوَاح الشُّهَدَاء تَأْكُل مِنْ ثِمَار الْجَنَّة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمِنَ الْفُتَّانَ» ضَبَطُوا (أَمِنَ) بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا (أَمِنَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم مِنْ غَيْر (وَاو) وَالثَّانِي (أُومِن) بِضَمِّ الْهَمْزَة وَبِوَاوٍ.
وَأَمَّا (الْفُتَّان) فَقَالَ الْقَاضِي: رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاء جَمْع (فَاتِن) قَالَ: وَرِوَايَة الطَّبَرِيّ بِالْفَتْحِ، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنه: «أُومن مِنْ فَتَّانِي الْقَبْر».