فصل: كتاب اللقطة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب بَيَانِ اخْتِلاَفِ الْمُجْتَهِدِينَ:

3245- فيه حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي قَضَاء دَاوُدَ وَسُلَيْمَان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فِي الْوَلَدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخَذَ الذِّئْب أَحَدهمَا فَتَنَازَعَتْهُ أُمَّاهُمَا، فَقَضَى بِهِ دَاوُدُ لِلْكُبْرَى، فَلَمَّا مَرَّتَا بِسُلَيْمَان قَالَ: أَقْطَعهُ بَيْنكُمَا نِصْفَيْنِ فَاعْتَرَفَتْ بِهِ الصُّغْرَى لِلْكُبْرَى بَعْد أَنْ قَالَتْ الْكُبْرَى: اِقْطَعْهُ، فَاسْتَدَلَّ سُلَيْمَان بِشَفَقَةِ الصُّغْرَى عَلَى أَنَّهَا أُمّه، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَمَا كَرِهَتْ ذَلِكَ؛ بَلْ أَرَادَتْهُ لِتُشَارِكهَا صَاحِبَتهَا فِي الْمُصِيبَة بِفَقْدِ وَلَدهَا.
قَالَ الْعُلَمَاء: يَحْتَمِل أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فيها، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَته التَّرْجِيح بِالْكَبِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعه.
وَأَمَّا سُلَيْمَان فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنْ الْحِيلَة وَالْمُلَاطَفَة إِلَى مَعْرِفَة بَاطِن الْقَضِيَّة، فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيد قَطْعه لِيَعْرِف مَنْ يَشُقّ عَلَيْهَا قَطْعه فَتَكُون هِيَ أُمّه، فَلَمَّا أَرَادَتْ الْكُبْرَى قَطْعه، عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمّه، فَلَمَّا قَالَتْ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمّه، وَلَمْ يَكُنْ مُرَاده أَنَّهُ يَقْطَعهُ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ اِخْتِبَار شَفَقَتهمَا؛ لِتَتَمَيَّز لَهُ الْأُمّ، فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْت عَرَفَهَا، وَلَعَلَّهُ اِسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْد ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى، فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَة الْمَذْكُورَة، قَالَ الْعُلَمَاء: وَمِثْل هَذَا يَفْعَلهُ الْحُكَّام لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَة الصَّوَاب، بِحَيْثُ إِذَا اِنْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف حَكَمَ سُلَيْمَان بَعْد حُكْم دَاوُدَ فِي الْقِصَّة الْوَاحِدَة وَنَقَضَ حُكْمه، وَالْمُجْتَهِد لَا يَنْقُض حُكْم الْمُجْتَهِد؟ فَالْجَوَاب مِنْ أَوْجُه مَذْكُورَة: أَحَدهَا: أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُون ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا.
وَالثَّالِث: لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعهمْ فَسْخ الْحُكْم إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْم إِلَى حَاكِم آخَر يَرَى خِلَافه.
وَالرَّابِع: أَنَّ سُلَيْمَان فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَة إِلَى إِظْهَار الْحَقّ وَظُهُور الصِّدْق، فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْد الْحُكْم كَمَا إِذَا اِعْتَرَفَ الْمَحْكُوم لَهُ بَعْد الْحُكْم أَنَّ الْحَقّ هُنَا لِخَصْمِهِ.
قَوْله: «فَقَالَتْ الصُّغْرَى: لَا- يَرْحَمك اللَّه- هُوَ اِبْنهَا» مَعْنَاهُ: لَا تَشُقّهُ، وَتَمَّ الْكَلَام، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَتْ فَقَالَتْ: يَرْحَمك اللَّه هُوَ اِبْنهَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَيُسْتَحَبّ أَنْ يُقَال فِي مِثْل هَذَا بِالْوَاوِ فَيُقَال: لَا وَيَرْحَمك اللَّه.
قَوْله: (السِّكِّين وَالْمُدْيَة) أَمَّا (الْمُدْيَة) بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تَقْطَع مَدَى حَيَاة الْحَيَوَان، وَالسِّكِّين تُذَكَّر وَتُؤَنَّث لُغَتَانِ، وَيُقَال أَيْضًا: سِكِّينَة لِأَنَّهَا تُسَكِّن حَرَكَة الْحَيَوَان.

.باب اسْتِحْبَابِ إِصْلاَحِ الْحَاكِمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ:

ذَكَرَ فِي الْبَاب حَدِيث الرَّجُل الَّذِي بَاعَ الْعَقَار فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي فيه جَرَّة ذَهَب فَتَنَاكَرَاهُ، فَأَصْلَحَ بَيْنهمَا رَجُل عَلَى أَنْ يُزَوِّج أَحَدهمَا بِنْته اِبْن الْآخَر، وَيُنْفِقَا وَيَتَصَدَّقَا مِنْهُ.
فيه: فَضْل الْإِصْلَاح بَيْن الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَأَنَّ الْقَاضِي يُسْتَحَبّ لَهُ الْإِصْلَاح بَيْن الْمُتَنَازِعَيْنِ كَمَا يُسْتَحَبّ لِغَيْرِهِ.
3246- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِشْتَرَى رَجُل عَقَارًا» هُوَ الْأَرْض وَمَا يَتَّصِل بِهَا، وَحَقِيقَة الْعَقَار الْأَصْل، سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ الْعُقْر- بِضَمِّ الْعَيْن وَفَتْحهَا- وَهُوَ: الْأَصْل، وَمِنْهُ: عُقْر الدَّار بِالضَّمِّ وَالْفَتْح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْض إِنَّمَا بِعْتُك الْأَرْض وَمَا فيها» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (شَرَى) بِغَيْرِ أَلِف، وَفِي بَعْضهَا (اِشْتَرَى) بِالْأَلِفِ، قَالَ الْعُلَمَاء: الْأَوَّل أَصَحّ، وَشَرَى هُنَا بِمَعْنَى بَاعَ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْس}، وَلِهَذَا قَالَ: فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْض إِنَّمَا بِعْتُك. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.كتاب اللقطة:

هِيَ بِفَتْحِ الْقَاف عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة الَّتِي قَالَهَا الْجُمْهُور، وَاللُّغَة الثَّانِيَة لُقْطَة بِإِسْكَانِهَا، وَالثَّالِثَة لُقَاطَة بِضَمِّ اللَّام، وَالرَّابِعَة: لَقَطَة بِفَتْحِ اللَّام وَالْقَاف.

.قَوْله: «اِعْرِفْ عِفَاصهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَة»:

3247- قَوْله: «جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَة فَقَالَ: اِعْرِفْ عِفَاصهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَة، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا، وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا.
قَالَ: فَضَالَّة الْغَنَم؟ قَالَ: لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ فَضَالَّة الْإِبِل؟ قَالَ: مَا لَك وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِد الْمَاء وَتَأْكُل الشَّجَر حَتَّى يَلْقَاهَا رَبّهَا»
وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «عَرِّفْهَا سَنَة ثُمَّ اِعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصهَا ثُمَّ اِسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره: لَا يَقَع اِسْم الضَّالَّة إِلَّا عَلَى الْحَيَوَان، يُقَال: ضَلَّ الْإِنْسَان وَالْبَعِير وَغَيْرهمَا مِنْ الْحَيَوَان، وَهِيَ الضَّوَالّ، وَأَمَّا الْأَمْتِعَة وَمَا سِوَى الْحَيَوَان فَيُقَال لَهَا: لُقَطَة، وَلَا يُقَال ضَالَّة، قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره: يُقَال لِلضَّوَالِّ الْهَوَامِي وَالْهَوَافِي، وَاحِدَتهَا: هَامِيَة وَهَافِيَة، وَهَمَتْ وَهَفَتْ وَهَمَلَتْ إِذَا ذَهَبَتْ عَلَى وَجْههَا بِلَا رَاعٍ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِعْرِفْ عِفَاصهَا» مَعْنَاهُ: تَعْرِف لِتَعْلَمَ صِدْق وَاصِفهَا مِنْ كَذِبه، وَلِئَلَّا يَخْتَلِط بِمَالِهِ وَيَشْتَبِه، وَأَمَّا (الْعِفَاص) فَبِكَسْرِ الْعَيْن وَبِالْفَاءِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَة، وَهُوَ: الْوِعَاء الَّتِي تَكُون فيه النَّفَقَة جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْره، وَيُطْلِقَا الْعِفَاص أَيْضًا عَلَى الْجِلْد الَّذِي يَكُون عَلَى رَأْس الْقَارُورَة؛ لِأَنَّهُ كَالْوِعَاءِ لَهُ، فَأَمَّا الَّذِي يَدْخُل فِي فَم الْقَارُورَة مِنْ خَشَب أَوْ جِلْد أَوْ خِرْقَة مَجْمُوعَة وَنَحْو ذَلِكَ فَهُوَ الصِّمَام بِكَسْرِ الصَّاد، يُقَال: عَفْصَتهَا عَفْصًا إِذَا شَدَدْت الْعِفَاص عَلَيْهَا، وَأَعْصَفْتُهَا إِعْفَاصًا إِذَا جَعَلْت لَهَا عِفَاصًا، وَأَمَّا (الْوِكَاء) فَهُوَ الْخَيْط الَّذِي يُشَدّ بِهِ الْوِعَاء، يُقَال: أَوَكَيَّته إِيكَاء فَهُوَ مُوكًى بِلَا هَمْز.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَشَأْنك بِهَا» هُوَ بِنَصْبِ النُّون.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَهَا سِقَاؤُهَا» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا تَقْوَى عَلَى وُرُود الْمِيَاه، وَتَشْرَب فِي الْيَوْم الْوَاحِد وَتَمْلَأ كِرْشهَا، بِحَيْثُ يَكْفيها الْأَيَّام.
وَأَمَّا: «حِذَاؤُهَا» فَبِالْمَدِّ، وَهُوَ: أَخْفَافهَا؛ لِأَنَّهَا تَقْوَى بِهَا عَلَى السَّيْر وَقَطْع الْمَفَاوِز.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز قَوْل: رَبّ الْمَال، وَرَبّ الْمَتَاع، وَرَبّ الْمَاشِيَة، بِمَعْنَى صَاحِبهَا الْآدَمِيّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ إِضَافَته إِلَى مَا لَهُ رُوح دُون الْمَال وَالدَّار وَنَحْوه، وَهَذَا غَلَط لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ جَاءَ رَبّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، وَحَتَّى يَلْقَاهَا رَبّهَا». وَفِي حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «وَإِدْخَال رَبّ الصُّرَيْمَة وَالْغُنَيْمَة» وَنَظَائِر ذَلِكَ كَثِيرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَة» فَمَعْنَاهُ إِذَا أَخَذْتهَا فَعَرِّفْهَا سَنَة، فَأَمَّا الْأَخْذ فَهَلْ هُوَ وَاجِب أَمْ مُسْتَحَبّ؟ فيه مَذَاهِب، وَمُخْتَصَر مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابنَا ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحّهَا عِنْدهمْ: يُسْتَحَبّ وَلَا يَجِب، وَالثَّانِي: يَجِب، وَالثَّالِث إِنْ كَانَتْ اللُّقَطَة فِي مَوْضِع يَأْمَن عَلَيْهَا إِذَا تَرَكَهَا اُسْتُحِبَّ الْأَخْذ، وَإِلَّا وَجَبَ.
وَأَمَّا (تَعْرِيف سَنَة) فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبه إِذَا كَانَتْ اللُّقَطَة لَيْسَتْ تَافِهَة، وَلَا فِي مَعْنَى التَّافِهَة، وَلَمْ يُرِدْ حِفْظهَا عَلَى صَاحِبهَا؛ بَلْ أَرَادَ تَمَلُّكهَا. ولابد مِنْ تَعْرِيفهَا سَنَة بِالْإِجْمَاعِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُرِدْ تَمَلُّكهَا، بَلْ أَرَادَ حِفْظهَا عَلَى صَاحِبهَا فَهَلْ يَلْزَمهُ التَّعْرِيف؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدهمَا: لَا يَلْزَمهُ؛ بَلْ إِنْ جَاءَ صَاحِبهَا وَأَثْبَتَهَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا دَامَ حِفْظهَا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحّ، أَنَّهُ يَلْزَمهُ التَّعْرِيف لِئَلَّا تَضِيع عَلَى صَاحِبهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَم أَيْنَ هِيَ حَتَّى يَطْلُبهَا، فَوَجَبَ تَعْرِيفهَا.
وَأَمَّا الشَّيْء الْحَقِير فَيَجِب تَعْرِيفه زَمَنًا يَظُنّ أَنَّ فَاقِده لَا يَطْلُبهُ فِي الْعَادَة أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ الزَّمَان، قَالَ أَصْحَابنَا: وَالتَّعْرِيف أَنْ يَنْشُدهَا فِي الْمَوْضِع الَّذِي وَجَدَهَا فيه، وَفِي الْأَسْوَاق، وَأَبْوَاب الْمَسَاجِد، وَمَوَاضِع اِجْتِمَاع النَّاس، فَيَقُول: مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْء؟ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ حَيَوَان؟ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ دَرَاهِم؟ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيُكَرِّر ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَة، قَالَ أَصْحَابنَا: فَيُعَرِّفهَا أَوَّلًا فِي كُلّ يَوْم، ثُمَّ فِي الْأُسْبُوع، ثُمَّ فِي أَكْثَر مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا وَإِلَّا فَشَأْنك بِهَا» مَعْنَاهُ: إِنْ جَاءَهَا صَاحِبهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجُوز لَك أَنْ تَتَمَلَّكهَا، قَالَ أَصْحَابنَا: إِذَا عَرَّفَهَا فَجَاءَ صَاحِبهَا فِي أَثْنَاء مُدَّة التَّعْرِيف أَوْ بَعْد اِنْقِضَائِهَا وَقَبْل أَنْ يَتَمَلَّكهَا الْمُلْتَقِط، فَأَثْبَتَ أَنَّهُ صَاحِبهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَة وَالْمُنْفَصِلَة، فَالْمُتَّصِلَة كَالسِّمَنِ فِي الْحَيَوَان، وَتَعْلِيم صَنْعَة، وَنَحْو ذَلِكَ، وَالْمُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ وَاللَّبَن وَالصُّوف وَاكْتِسَاب الْعَبْد، وَنَحْو ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِنْ جَاءَ مَنْ يَدَّعِيهَا وَلَمْ يَثْبُت ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقهُ الْمُلْتَقِط لَمْ يَجُزْ لَهُ دَفْعهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ جَازَ لَهُ الدَّفْع إِلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمهُ حَتَّى يُقِيم الْبَيِّنَة، هَذَا كُلّه إِذَا جَاءَ قَبْل أَنْ يَتَمَلَّكهَا الْمُلْتَقِط، فَأَمَّا إِذَا عَرَّفَهَا سَنَة وَلَمْ يَجِد صَاحِبهَا، فَلَهُ أَنْ يُدِيم حِفْظهَا صَاحِبِهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكهَا، سَوَاء كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فَإِنْ أَرَادَ تَمَلُّكهَا فَمَتَى يَمْلِكهَا؟ فيه أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهَا: لَا يَمْلِكهَا حَتَّى يَتَلَفَّظ بِالتَّمَلُّكِ بِأَنْ يَقُول: تَمَلَّكْتهَا، أَوْ اِخْتَرْت تَمَلُّكهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَمْلِكهَا إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فيها بِالْبَيْعِ وَنَحْوه.
وَالثَّالِث يَكْفيه نِيَّة التَّمَلُّك وَلَا يَحْتَاج إِلَى لَفْظ.
وَالرَّابِع يَمْلِك بِمُجَرَّدِ مُضِيّ السَّنَة.
فَإِذَا تَمَلَّكَهَا، وَلَمْ يَظْهَر لَهَا صَاحِب فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَسْب مِنْ أَكْسَابه لَا مُطَالَبَة عَلَيْهِ بِهِ فِي الْآخِرَة، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا بَعْد تَمَلُّكهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَة دُون الْمُنْفَصِلَة، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَلِفَتْ بَعْد التَّمَلُّك لَزِمَ الْمُلْتَقِطَ بَدَلُهَا عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَلْزَمهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «فَضَالَّة الْغَنَم، قَالَ: لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ» مَعْنَاهُ الْإِذْن فِي أَخْذهَا، بِخِلَافِ الْإِبِل. وَفَرَّقَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا، وَبَيَّنَ الْفَرْق بِأَنَّ الْإِبِل مُسْتَغْنِيَة عَنْ مَنْ يَحْفَظهَا لِاسْتِقْلَالِهَا بِحِذَائِهَا وَسِقَائِهَا وَوُرُودهَا الْمَاء وَالشَّجَر، وَامْتِنَاعهَا مِنْ الذِّئَاب وَغَيْرهَا مِنْ صِغَار السِّبَاع، وَالْغَنَم بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَك أَنْ تَأْخُذهَا أَنْتَ أَوْ صَاحِبهَا، أَوْ أَخُوك الْمُسْلِم الَّذِي يَمُرّ بِهَا أَوْ الذِّئْب فَلِهَذَا جَازَ أَخْذهَا دُون الْإِبِل. ثُمَّ إِذَا أَخَذَهَا وَعَرَّفَهَا سَنَة، وَأَكَلَهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبهَا لَزِمَتْهُ غَرَامَتهَا عِنْدنَا وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِك: لَا تَلْزَمهُ غَرَامَتهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُر لَهُ غَرَامَة. وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ» وَأَجَابُوا عَنْ دَلِيل مَالِك بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُر فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْغَرَامَة وَلَا نَفَاهَا، وَقَدْ عَرَّفَ وُجُوبهَا بِدَلِيلٍ آخَر.
3248- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَرِّفْهَا سَنَة ثُمَّ اِعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصهَا ثُمَّ اِسْتَنْفِقْ بِهَا» هَذَا رُبَّمَا أَوْهَمَ أَنَّ مَعْرِفَة الْوِكَاء وَالْعِفَاص تَتَأَخَّر عَلَى تَعْرِيفهَا سَنَة، وَبَاقِي الرِّوَايَات صَرِيحَة فِي تَقْدِيم الْمَعْرِفَة عَلَى التَّعْرِيف فَيُجَاب عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّ هَذِهِ مَعْرِفَة أُخْرَى، وَيَكُون مَأْمُورًا بِمَعْرِفَتَيْنِ، فَيَتَعَرَّفهَا أَوَّل مَا يَلْتَقِطهَا حَتَّى يَعْلَم صِدْق وَاصِفهَا إِذَا وَصَفَهَا، وَلِئَلَّا تَخْتَلِط وَتَشْتَبِه، فَإِذَا عَرَّفَهَا سَنَة وَأَرَادَ تَمَلُّكهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّفهَا أَيْضًا مَرَّة أُخْرَى تَعَرُّفًا وَافِيًا مُحَقَّقًا، لِيَعْلَم قَدْرهَا وَصِفَتهَا فَيَرُدّهَا إِلَى صَاحِبهَا إِذَا جَاءَ بَعْد تَمَلُّكهَا وَتَلَفهَا، وَمَعْنَى اِسْتَنْفِقْ بِهَا: تَمَلَّكْهَا ثُمَّ أَنْفِقْهَا عَلَى نَفْسك.
قَوْله: «فَغَضِبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اِحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ اِحْمَرَّ وَجْهه ثُمَّ قَالَ: مَا لَك وَلَهَا؟» (الْوَجْنَة) بِفَتْحِ الْوَاو وَضَمّهَا وَكَسْرهَا وَفيها لُغَة رَابِعَة (أُجْنَة) بِضَمِّ الْهَمْزَة، وَهِيَ: اللَّحْم الْمُرْتَفِع مِنْ الْخَدَّيْنِ، وَيُقَال: رَجُل مُوجِن وَوَاجِن، أَيْ: عَظِيم الْوَجْنَة، وَجَمْعهَا: وَجَنَات، وَيَجِيء فيها اللُّغَات الْمَعْرُوفَة فِي جَمْع قَصْعَة وَحُجْرَة وَكِسْرَة.
وَفيه: جَوَاز الْفَتْوَى وَالْحُكْم فِي حَال الْغَضَب، وَأَنَّهُ نَافِذ، لَكِنْ يُكْرَه ذَلِكَ فِي حَقّنَا، وَلَا يُكْرَه فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَاف عَلَيْهِ فِي الْغَضَب مَا يُخَاف عَلَيْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَة فَإِنْ لَمْ يَجِيء صَاحِبهَا كَانَتْ وَدِيعَة عِنْدك» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَة فَإِنْ لَمْ تُعْرَف فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَة عِنْدك، فَإِنْ جَاءَ طَالِبهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْر فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» مَعْنَاهُ: تَكُون أَمَانَة عِنْدك بَعْد السَّنَة، مَا لَمْ تَتَمَلَّكهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيط فَلَا ضَمَان عَلَيْك، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَنْعه مِنْ تَمَلُّكهَا، بَلْ لَهُ تَمَلُّكهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِلْأَحَادِيثِ الْبَاقِيَة الصَّرِيحَة، وَهِيَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ اِسْتَنْفِقْ بِهَا فَاسْتَنْفِقْهَا» وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ لَمْ تَعْرِف فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَة عِنْدك» أَيْ: لَا يَنْقَطِع حَقُّ صَاحِبهَا، بَلْ مَتَى جَاءَهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَة، وَإِلَّا فَبَدَلهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْر فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» وَالْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَنْقَطِع حَقُّ صَاحِبهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي وَغَيْره إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَاءَ صَاحِبهَا بَعْد التَّمْلِيك ضَمِنَهَا الْمُتَمَلِّك إِلَّا دَاوُدَ فَأَسْقَطَ الضَّمَان. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3249- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا فَعَرَفَ عِفَاصهَا وَعَدَدهَا وَوِكَاءَهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَك» فِي هَذَا دَلَالَة لِمَالِكٍ وَغَيْره مِمَّنْ يَقُول: إِذَا جَاءَ مَنْ وَصَفَ اللُّقَطَة بِصِفَاتِهَا وَجَبَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ بِلَا بَيِّنَة، وَأَصْحَابنَا يَقُولُونَ: لَا يَجِب دَفْعهَا إِلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ إِذَا صَدَّقَهُ جَازَ لَهُ الدَّفْع إِلَيْهِ وَلَا يَجِب، فَالْأَمْر بِدَفْعِهَا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقه لَيْسَ لِلْوُجُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَات حَدِيث زَيْد بْن خَالِد: «عَرِّفْهَا سَنَة» وَفِي حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا: «ثَلَاث سِنِينَ». وَفِي رِوَايَة: «سَنَة وَاحِدَة» وَفِي رِوَايَة: أَنَّ الرَّاوِي شَكَّ قَالَ: «لَا أَدْرِي قَالَ حَوْل أَوْ ثَلَاثَة أَحْوَال» وَفِي رِوَايَة: «عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قِيلَ فِي الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَات قَوْلَانِ أَحَدهمَا: أَنْ يُطْرَح الشَّكّ، وَالزِّيَادَة، وَيَكُون الْمُرَاد سَنَة فِي رِوَايَة الشَّكّ، وَتُرَدّ الزِّيَادَة لِمُخَالَفَتِهَا بَاقِي الْأَحَادِيث، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، فَرِوَايَة زَيْد فِي التَّعْرِيف سَنَة مَحْمُولَة عَلَى أَقَلّ مَا يَجْزِي، وَرِوَايَة أُبَيّ بْن كَعْب فِي التَّعْرِيف ثَلَاث سِنِينَ مَحْمُولَة عَلَى الْوَرَع وَزِيَادَة الْفَضِيلَة، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى الِاكْتِفَاء بِتَعْرِيفِ سَنَة، وَلَمْ يَشْتَرِط أَحَد تَعْرِيف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُت عَنْهُ.

.باب فِي لُقَطَةِ الْحَاجِّ:

3252- قَوْله: «نَهَى عَنْ لُقَطَة الْحَاجّ» يَعْنِي: عَنْ اِلْتِقَاطهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَأَمَّا اِلْتِقَاطهَا لِلْحِفْظِ فَقَطْ فَلَا مَنْع مِنْهُ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «وَلَا يَحِلّ لُقَطَتهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ» وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مَبْسُوطَة فِي آخِر كِتَاب الْحَجّ.
3253- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آوَى ضَالَّة فَهُوَ ضَالّ مَا لَمْ يُعَرِّفهَا» هَذَا دَلِيل لِلْمَذْهَبِ الْمُخْتَار أَنَّهُ يَلْزَمهُ تَعْرِيف اللُّقَطَة مُطْلَقًا، سَوَاء أَرَادَ تَمَلُّكهَا أَوْ حِفْظهَا عَلَى صَاحِبهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْخِلَاف فيه، وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالضَّالَّةِ هُنَا ضَالَّة الْإِبِل وَنَحْوهَا مِمَّا لَا يَجُوز اِلْتِقَاطهَا لِلتَّمَلُّكِ، بَلْ أَنَّهَا تُلْتَقَط لِلْحِفْظِ عَلَى صَاحِبهَا، فَيَكُون مَعْنَاهُ: مَنْ آوَى ضَالَّة فَهُوَ ضَالّ مَا لَمْ يُعَرِّفهَا أَبَدًا، وَلَا يَتَمَلَّكهَا، وَالْمُرَاد بِالضَّالِّ الْمُفَارِق لِلصَّوَابِ، وَفِي جَمِيع أَحَادِيث الْبَاب: دَلِيل عَلَى أَنَّ اِلْتِقَاط اللُّقَطَة وَتَمَلُّكهَا لَا يَفْتَقِر إِلَى حُكْم حَاكِم، وَلَا إِلَى إِذْن سُلْطَان، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، وَفيها: أَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن الْغَنِيّ وَالْفَقِير، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ حَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا:

3254- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحْلُبَنَّ أَحَد مَاشِيَة أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَته فَتُكْسَر خِزَانَته فَيُنْتَقَل طَعَامه فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوع مَوَاشِيهمْ أَطْعِمَتهمْ فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَد مَاشِيَة أَحَد إِلَّا بِإِذْنِهِ» وَفِي رِوَايَات: «فَيَنْتَثِل» بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة فِي آخِره بَدَل الْقَاف، وَمَعْنَى (يَنْتَثِل) يَنْثُر كُلّه وَيُرْمَى. (الْمَشْرُبَة) بِفَتْحِ الْمِيم وَفِي الرَّاء لُغَتَانِ الضَّمّ وَالْفَتْح، وَهِيَ كَالْغُرْفَةِ يُخْزَن فيها الطَّعَام وَغَيْره.
وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ اللَّبَن فِي الضَّرْع بِالطَّعَامِ الْمَخْزُون الْمَحْفُوظ فِي الْخِزَانَة فِي أَنَّهُ لَا يَحِلّ أَخْذه بِغَيْرِ إِذْنه.
وَفِي الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: تَحْرِيم أَخْذ مَال الْإِنْسَان بِغَيْرِ إِذْنه، وَالْأَكْل مِنْهُ وَالصَّرْف فيه، وَأَنَّهُ لَا فَرْق بَيْن اللَّبَن وَغَيْره، وَسَوَاء الْمُحْتَاج وَغَيْره، إِلَّا الْمُضْطَرّ الَّذِي لَا يَجِد مَيْتَة، وَيَجِد طَعَامًا لِغَيْرِهِ فَيَأْكُل الطَّعَام لِلضَّرُورَةِ، وَيَلْزَمهُ بَدَله لِمَالِكِهِ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ بَعْض السَّلَف وَبَعْض الْمُحَدِّثِينَ: لَا يَلْزَمهُ، وَهَذَا ضَعِيف، فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَة وَطَعَامًا لِغَيْرِهِ فَفيه خِلَاف مَشْهُور لِلْعُلَمَاءِ، وَفِي مَذْهَبنَا الْأَصَحّ عِنْدنَا أَكْل الْمَيْتَة، أَمَّا غَيْر الْمُضْطَرّ إِذَا كَانَ لَهُ إِدْلَال عَلَى صَاحِب اللَّبَن أَوْ غَيْره مِنْ الطَّعَام بِحَيْثُ يَعْلَم أَوْ يَظُنّ أَنَّ نَفْسه تَطِيب بِأَكْلِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنه فَلَهُ الْأَكْل بِغَيْرِ إِذْنه، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان هَذَا مَرَّات.
وَأَمَّا شُرْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَهُمَا قَاصِدَانِ الْمَدِينَة فِي الْهِجْرَة مِنْ لَبَن غَنَم الرَّاعِي فَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان وَجْهه، وَأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُمَا شَرِبَاهُ إِدْلَالًا عَلَى صَاحِبه، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعْرِفَانِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَذِنَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِي مِنْهُ مَنْ مَرَّ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ عَرَّفَهُمْ إِبَاحَة ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ مَال حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا: إِثْبَات الْقِيَاس وَالتَّمْثِيل فِي الْمَسَائِل. وَفيه أَنَّ اللَّبَن يُسَمَّى طَعَامًا فَيَحْنَثُ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَنَاوَل طَعَامًا إِلَّا أَنْ تَكُون لَهُ نِيَّة تُخْرِج اللَّبَن.
وَفيه: أَنَّ بَيْع لَبَن الشَّاة بِشَاةٍ فِي ضَرْعهَا لَبَن بَاطِل، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور، وَجَوَّزَهُ الْأَوْزَاعِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الضِّيَافَةِ وَنَحْوِهَا:

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفه جَائِزَته، قَالُوا: وَمَا جَائِزَته يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: يَوْمه وَلَيْلَته، وَالضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام، فَمَا كَانَ وَرَاء ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَة عَلَيْهِ» وَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت» وَفِي رِوَايَة: «الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام وَجَائِزَته يَوْم وَلَيْلَة، وَلَا يَحِلّ لِرَجُلٍ مُسْلِم أَنْ يُقِيم عِنْد أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمهُ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه وَكَيْف يُؤْثِمهُ؟ قَالَ: يُقِيم عِنْده وَلَا شَيْء لَهُ يَقْرِيه بِهِ» وَفِي رِوَايَة: «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْف الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ».
هَذِهِ الْأَحَادِيث مُتَظَاهِرَة عَلَى الْأَمْر بِالضِّيَافَةِ وَالِاهْتِمَام بِهَا وَعَظِيم مَوْقِعهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الضِّيَافَة، وَأَنَّهَا مِنْ مُتَأَكِّدَات الْإِسْلَام، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَالْجُمْهُور: هِيَ سُنَّة لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَقَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد: هِيَ وَاجِبَة يَوْمًا وَلَيْلَة، وَقَالَ أَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هِيَ وَاجِبَة يَوْمًا وَلَيْلَة عَلَى أَهْل الْبَادِيَة وَأَهْل الْقُرَى دُون أَهْل الْمُدُن، وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُور هَذِهِ الْأَحَادِيث وَأَشْبَاههَا عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَتَأَكُّد حَقِّ الضَّيْف كَحَدِيث: «غُسْل الْجُمُعَة وَاجِب عَلَى كُلّ مُحْتَلِم» أَيْ مُتَأَكِّد الِاسْتِحْبَاب، وَتَأَوَّلَهَا الْخَطَّابِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره عَلَى الْمُضْطَرّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3255- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُكْرِمْ ضَيْفه جَائِزَته يَوْمًا وَلَيْلَة، وَالضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ الِاهْتِمَام بِهِ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة وَإِتْحَافه بِمَا يُمْكِن مِنْ بِرّ وَإِلْطَاف، وَأَمَّا فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث فَيُطْعِمهُ مَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَزِيد عَلَى عَادَته، وَأَمَّا مَا كَانَ بَعْد الثَّلَاثَة فَهُوَ صَدَقَة وَمَعْرُوف إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، قَالُوا: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يُقِيم عِنْده حَتَّى يُؤْثِمهُ» مَعْنَاهُ: لَا يَحِلّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيم عِنْده بَعْد الثَّلَاث حَتَّى يُوقِعهُ فِي الْإِثْم؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْتَابهُ طُول مَقَامه، أَوْ يُعَرِّض بِمَا يُؤْذِيه، أَوْ يَظُنّ بِهِ مَا لَا يَجُوز، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {اِجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وَهَذَا كُلّه مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا أَقَامَ بَعْد الثَّلَاث مِنْ غَيْر اِسْتِدْعَاء مِنْ الْمُضِيف، أَمَّا إِذَا اِسْتَدْعَاهُ وَطَلَبَ زِيَادَة إِقَامَته، أَوْ عِلْم أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُكْرَه إِقَامَته فَلَا بَأْس بِالزِّيَادَةِ، لِأَنَّ النَّهْي إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ يُؤْثِمهُ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْحَالَة هَذِهِ فَلَوْ شَكَّ فِي حَال الْمُضِيف هَلْ تُكْرَه الزِّيَادَة وَيَلْحَقهُ بِهَا حَرَج أَمْ لَا تَحِلّ الزِّيَادَة إِلَّا بِإِذْنِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيث. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت». فَقَدْ سَبَقَ شَرْحه مَبْسُوطًا فِي كِتَاب الْإِيمَان، وَفيه: التَّصْرِيح بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ الْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ فيه خَيْر وَلَا شَرّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَعْنِيه، وَمِنْ حُسْن إِسْلَام الْمَرْء تَرْكه مَا لَا يَعْنِيه، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرّ الْكَلَام الْمُبَاح إِلَى حَرَام. وَهَذَا مَوْجُود فِي الْعَادَة وَكَثِير. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3256- قَوْله: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ) وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ) هُوَ وَاحِد يُقَال لَهُ: الْعَدَوِيُّ وَالْخُزَاعِيّ وَالْكَعْبِيّ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا شَيْء لَهُ يَقْرِيه» هُوَ بِفَتْحِ أَوَّله، وَكَذَا قَوْله فِي الرِوَايَة: «فَلَا يَقْرُونَنَا» بِفَتْحِ أَوَّله يُقَال: قَرَيْت الضَّيْف أَقْرِيه قِرًى.
3257- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقّ الضَّيْف الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» فَقَدْ حَمَلَهُ اللَّيْث وَأَحْمَد عَلَى ظَاهِره، وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُور عَلَى أَوْجُه.
أَحَدهَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْمُضْطَرِّينَ، فَإِنَّ ضِيَافَتهمْ وَاجِبَة، فَإِذَا لَمْ يُضِيفُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا حَاجَتهمْ مِنْ مَال الْمُمْتَنِعِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ أَعْرَاضهمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَذْكُرُونَ لِلنَّاسِ لُؤْمهمْ وَبُخْلهمْ، وَالْعَيْب عَلَيْهِمْ وَذَمّهمْ.
وَالثَّالِث: أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام وَكَانَتْ الْمُوَاسَاة وَاجِبَة، فَلَمَّا اِتَّسَعَ الْإِسْلَام نُسِخَ ذَلِكَ هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ تَأْوِيل ضَعِيف أَوْ بَاطِل؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي اِدَّعَاهُ قَائِله لَا يُعْرَف.
وَالرَّابِع: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ مَرَّ بِأَهْلِ الذِّمَّة الَّذِينَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَة مَنْ يَمُرّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيف، وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا فِي زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.

.باب اسْتِحْبَابِ الْمُؤَاسَاةِ بِفُضُولِ الْمَالِ:

3258- قَوْله: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَر إِذْ جَاءَ رَجُل عَلَى رَاحِلَته فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْل ظَهْر فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْر لَهُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْل زَاد فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَاف الْمَال كَمَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْل» أَمَّا قَوْله: «فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره» فَهَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا: «يَصْرِف» فَقَطْ بِحَذْفِ بَصَره، وَفِي بَعْضهَا: «يَضْرِب» بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة وَالْبَاء، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره: «يَصْرِف رَاحِلَته».
فِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْجُود وَالْمُوَاسَاة وَالْإِحْسَان إِلَى الرُّفْقَة وَالْأَصْحَاب، وَالِاعْتِنَاء بِمَصَالِح الْأَصْحَاب، وَأَمْر كَبِير الْقَوْم أَصْحَابه بِمُوَاسَاتِ الْمُحْتَاج، وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَة الْمُحْتَاج بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ، وَتَعْرِيضه مِنْ غَيْر سُؤَال، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله: «فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره» أَيْ: مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَع بِهِ حَاجَته.
وَفيه: مُوَاسَاة اِبْن السَّبِيل، وَالصَّدَقَة عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَة، وَعَلَيْهِ ثِيَاب، أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنه، وَلِهَذَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْحَال. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ خَلْطِ الأَزْوَادِ إِذَا قَلَّتْ وَالْمُؤَاسَاةِ فِيهَا:

3259- قَوْله: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة فَأَصَابَنَا جَهْد حَتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَر بَعْض ظَهْرنَا، فَأَمَرَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعْنَا مَزَاوِدنَا فَبَسَطْنَا لَهُ نِطَعًا فَاجْتَمَعَ زَادَ الْقَوْم عَلَى النِّطَع، قَالَ: فَتَطَاوَلَتْ لِأَحْزُرَهُ كَمْ هُوَ؟ فَحَزَرْته كَرَبْضَة الْعَنْز، وَنَحْنُ أَرْبَع عَشْرَة مِائَة، قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبنَا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ مِنْ وَضُوء؟ فَجَاءَ رَجُل بِإِدَاوَةٍ فيها نُطْفَة، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَح فَتَوَضَّأْنَا كُلّنَا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَة أَرْبَع عَشْرَة مِائَة، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعْد ثَمَانِيَة فَقَالُوا: هَلْ مِنْ طَهُور؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرَغَ الْوَضُوء» أَمَّا قَوْله: «جَهْد» فَبِفَتْحِ الْجِيم، وَهُوَ: الْمَشَقَّة، وَقَوْله: «مَزَاوِدنَا» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ أَوْ أَكْثَرهَا وَفِي بَعْضهَا: «أَزْوَادنَا» وَفِي بَعْضهَا: «تَزَاوِدَنَا» بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْرهَا، وَفِي النِّطَع لُغَات سَبَقَتْ أَفْصَحهنَّ كَسْر النُّون وَفَتْح الطَّاء. وَقَوْله: «كَرَبْضَة الْعَنْز» أَيْ: كَمَبْرَكِهَا أَوْ كَقَدْرِهَا وَهِيَ رَابِضَة، قَالَ الْقَاضِي: الرَّاوِيَة فيه بِفَتْحِ الرَّاء، وَحَكَاهُ اِبْن دُرَيْدٍ بِكَسْرِهَا.
قَوْله: «حَشَوْنَا جُرُبنَا» هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَإِسْكَانهَا، جَمْع جِرَاب بِكَسْرِ الْجِيم عَلَى الْمَشْهُور، وَيُقَال بِفَتْحِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مِنْ وَضُوء» أَيْ مَا يُتَوَضَّأ بِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاو عَلَى الْمَشْهُور، وَحُكِيَ ضَمّهَا، وَسَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الطَّهَارَة.
قَوْله: «فيها نُطْفَة» هُوَ بِضَمِّ النُّون، أَيْ: قَلِيل مِنْ الْمَاء.
قَوْله: «نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَة» أَيْ: نَصُبّهُ صَبَّا شَدِيدًا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا تَكْثِير الطَّعَام وَتَكْثِير الْمَاء، هَذِهِ الْكَثْرَة الظَّاهِرَة، قَالَ الْمَازِرِيّ: فِي تَحْقِيق الْمُعْجِزَة فِي هَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا أَكَلَ مِنْهُ جُزْء أَوْ شَرِبَ جُزْء خَلَقَ اللَّه تَعَالَى جُزْءًا آخَر يَخْلُفهُ، قَالَ: وَمُعْجِزَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْبَانِ أَحَدهمَا، الْقُرْآن، وَهُوَ مَنْقُول تَوَاتُرًا.
وَالثَّانِي: مِثْل تَكْثِير الطَّعَام وَالشَّرَاب، وَنَحْو ذَلِكَ، وَلَك فيه طَرِيقَانِ أَحَدهمَا: أَنْ تَقُول تَوَاتَرَتْ عَلَى الْمَعْنَى كَتَوَاتُرِ جُود حَاتِم طَيِّئ وَحِلْمِ الْأَحْنَفِ بْن قَيْس، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَل فِي ذَلِكَ قِصَّة بِعَيْنِهَا مُتَوَاتِرَة، وَلَكِنْ تَكَاثَرَتْ أَفْرَادهَا بِالْآحَادِ، حَتَّى أَفَادَ مَجْمُوعهَا تَوَاتُر الْكَرَم وَالْحِلْم، وَكَذَلِكَ تَوَاتُر اِنْخِرَاق الْعَادَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ الْقُرْآن. وَالطَّرِيق الثَّانِي: أَنْ تَقُول: إِذَا رَوَى الصَّحَابِيّ مِثْل هَذَا الْأَمْر الْعَجِيب، وَأَحَالَ عَلَى حُضُوره فيه مَعَ سَائِر الصَّحَابَة، وَهُمْ يَسْمَعُونَ رِوَايَته وَدَعْوَاهُ، أَوْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ يُوجِب الْعِلْم بِصِحَّةِ مَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: اِسْتِحْبَاب الْمُوَاسَاة فِي الزَّاد وَجَمْعه عِنْد قِلَّته، وَجَوَاز أَكْل بَعْضهمْ مَعَ بَعْض فِي هَذِهِ الْحَالَة، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الرِّبَا فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَحْو الْإِبَاحَة، وَكُلّ وَاحِد مُبِيح لِرُفْقَتِهِ الْأَكْل مِنْ طَعَامه، وَسَوَاء تَحَقَّقَ الْإِنْسَان أَنَّهُ أَكَلَ أَكْثَر مِنْ حِصَّته أَوْ دُونهَا أَوْ مِثْلهَا فَلَا بَأْس بِهَذَا، لَكِنْ يُسْتَحَبّ لَهُ الْإِيثَار وَالتَّقَلُّل، لاسيما إِنْ كَانَ فِي الطَّعَام قِلَّة. وَاللَّهُ أَعْلَم.