فصل: مقدمة المصنف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»




.مقدمة المصنف:

بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخنا الإمام العالم الزاهد الورع محيي الدين يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام النووي رحمه الله تعالى آمين:
الحمد لله البر الجواد، الذي جلت نعمه عن الإحصاء والأعداد، خالق اللطف والإرشاد، الهادي إلى سبيل الرشاد، الموفق بكرمه لطرق السداد، المان بالاعتناء بسنة حبيبه وخليله عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى من لطف به من العباد، المخصص هذه الأمة زادها الله شرفا بعلم الإسناد، الذي لم يشركها فيه أحد من الأمم على تكرر العصور والآباد، الذي نصب لحفظ هذه السنة المكرمة الشريفة المطهرة خواص من الحفاظ النقاد، وجعلهم ذابين عنها في جميع الأزمان والبلاد، باذلين وسعهم في تبيين الصحة من طرقها والفساد، خوفا من الانتقاص منها والازدياد، وحفظا لها على الأمة زادها الله شرفا إلى يوم التناد، مستفرغين جهدهم في التفقه في معانيها واستخراج الأحكام واللطائف منها مستمرين على ذلك في جماعات وآحاد، مبالغين في بيانها وإيضاح وجوهها بالجد والاجتهاد، ولا يزال على القيام بذلك بحمد الله ولطفه جماعات في الأعصار كلها إلى انقضاء الدنيا وإقبال المعاد، وإن قلوا وخملت بلدان منهم وقربوا من النفاد.
أحمده أبلغ حمد على نعمه، خصوصا على نعمة الإسلام، وأن جعلنا من أمة خير الأولين والآخرين، وأكرم السابقين واللاحقين؛ محمد عبده ورسوله وحبيبه وخليله خاتم النبيين، صاحب الشفاعة العظمى ولواء الحمد والمقام المحمود، سيد المرسلين المخصوص بالمعجزة الباهرة المستمرة على تكرر السنين، التي تحدى بها أفصح القرون وأفحم بها المنازعين، وظهر بها خزي من لم ينقد لها من المعاندين، المحفوظة من أن يتطرق إليها تغيير الملحدين، أعنى بها القرآن العزيز كلام ربنا الذي نزل به الروح الأمين، على قلبه ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، والمصطفى بمعجزات أخر زائدات على الألف والمئين، وبجوامع الكلم وسماحة شريعته ووضع إصر المتقدمين، المكرم بتفضيل أمته زادها الله شرفا على الأمم السابقين، وبكون أصحابه رضي الله عنهم خير القرون الكائنين، وبأنهم كلهم مقطوع بعدالتهم عند من يعتد به من علماء المسلمين، ويجعل إجماع أمته حجة مقطوعا بها كالكتاب المبين، وأقوال أصحابه المنتشرة من غير مخالفة لذلك عند العلماء المحققين، المخصوص بتوفر دواعي أمته زادها الله شرفا على حفظ شريعته وتدوينها ونقلها عن الحفاظ المسندين، وأخذها عن الحذاق المتقين، والاجتهاد في تبيينها للمسترشدين، والدءوب في تعليمها احتسابا لرضا رب العالمين، والمبالغة في الذب عن منهاجه بواضح الأدلة وقمع الملحدين والمبتدعين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين، وآل كل وصحابتهم والتابعين، وسائر عباد الله الصالحين، ووفقنا للاقتداء به دائمين في أقواله وأفعاله وسائر أحواله مخلصين، مستمرين في ذلك دائبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بوحدانيته، واعترافا بما يجب على الخلق كافة من الإذعان لربوبيته، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، المصطفى من بريته، والمخصوص بشمول رسالته وتفضيل أمته، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وعترته.
أما بعد:
فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب وأجل الطاعات، وأهم أنواع الخير وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، وشمر في إدراكه والتمكن فيه أصحاب الأنفاس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى الخيرات، وسابق إلى التحلي به مستبقو المكرمات، وقد تظاهرت على ما ذكرته جمل من الآيات الكريمات، والأحاديث الصحيحة المشهورات، وأقاويل السلف رضي الله عنهم النيرات، ولا ضرورة لذكرها هنا لكونها من الواضحات الجليات، ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني معرفة متونها؛ صحيحها وحسنها وضعيفها، متصلها ومرسلها ومنقطعها، ومعضلها ومقلوبها، ومشهورها وغريبها وعزيزها، متوارتها وآحادها وأفرادها، معروفها وشاذها ومنكرها، ومعللها وموضوعها ومدرجها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومجملها ومبينها ومختلفها، وغير ذلك من أنواعها المعروفات.
ومعرفة علم الأسانيد أعني معرفة حال رجالها وصفاتهم المعتبرة، وضبط أسمائهم وأنسابهم ومواليدهم ووفياتهم، وغير ذلك من الصفات، ومعرفة التدليس والمدلسين، وطرق الاعتبار والمتابعات، ومعرفة حكم اختلاف الرواة في الأسانيد والمتون والوصل والإرسال والوقف والرفع والقطع والانقطاع، وزيادات الثقات، ومعرفة الصحابة والتابعين وأتباعهم وأتباع أتباعهم ومن بعدهم، رضي الله عنهم وعن سائر المؤمنين والمؤمنات، وغير ما ذكرته من علومها المشهورات.
ودليل ما ذكرته أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات، فتيت بما ذكرناه أن الانشغال بالحديث من أجلِّ العلوم الراجحات، وأفضل أنواع الخير وآكد القربات، وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل مع ما ذكرناه على بيان حال أفضل المخلوقات، عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والتبريكات، ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات، حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات، فتناقص ذلك وضعفت الهمم فلم يبق إلا آثار من آثارهم قليلات، والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات، وقد جاء في فضل إحياء السنن المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات، فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه لما ذكرنا من الدلالات، ولكونه أيضًا من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم وللأئمة والمسلمين والمسلمات، وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه الطاهرات، ولقد أحسن القائل: من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات. وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات، وهو جدير بذلك؛ فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطي جوامع الكلمات، صلى الله عليه وسلم صلوات متضاعفات.
وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا الصحيحان، للإمامين القدوتين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، رضي الله عنهما، فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات، فينبغي أن يعتنى بشرحهما، وتشاع فوائدهما، ويتلطف في استخراج دقائق المعلوم من متونهما وأسانيدهما؛ لما ذكرنا من الحجج الظاهرات، وأنواع الأدلة المتظاهرات.
فأما صحيح البخاري رحمه الله فقد جمعت في شرحه جملا مستكثرات، مشتملة على نفائس من أنواع العلوم بعبارات وجيزات، وأنا مشمر في شرحه راج من الله الكريم في إتمامه المعونات.
وأما صحيح مسلم رحمه الله فقد استخرت الله تعالى الكريم الرؤوف الرحيم في جمع كتاب شرحه متوسط بين المختصرات والمبسوطات، لا من المختصرات المخلات، ولا من المطولات المملات، ولولا ضعف الهمم وقلة الراغبين وخوف عدم انتشار الكتاب لقلة الطالبين للمطولات لبسطه، فبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات، من غير تكرار ولا زيادات عاطلات، بل ذلك لكثرة فوائده وعظم عوائده الخفيات والبارزات، وهو جدير بذلك؛ فإنه كلام أفصح المخلوقات، صلى الله عليه وسلم صلوات دائمات، لكنى أقتصر على التوسط وأحرص على ترك الإطالات، وأوثر الاختصار في كثير من الحالات، فأذكر فيه إن شاء الله جملا من علومه الزاهرات، من أحكام الأصول والفروع والآداب والإشارات الزهديات، وبيان نفائس من أصول القواعد الشرعيات، وإيضاح معاني الألفاظ اللغوية وأسماء الرجال وضبط المشكلات، وبيان أسماء ذوي الكنى وأسماء آباء الأبناء والمبهمات، والتنبيه على لطيفة من حال بعض الرواة وغيرهم من المذكورين في بعض الأوقات، واستخراج لطائف من خفيات علم الحديث من المتون والأسانيد المستفادات، وضبط جمل من الأسماء المؤتلفات والمختلفات، والجمع بين الأحاديث التي تختلف ظاهرا ويظن البعض من لا يحقق صناعتي الحديث والفقه وأصوله كونها متعارضات، وأنبه على ما يحضرني في الحال في الحديث من المسائل العمليات، وأشير إلى الأدلة في كل ذلك إشارات إلا في مواطن الحاجة إلى البسط للضرورات، وأحرص في جميع ذلك على الإيجاز وإيضاح العبارات، وحيث أنقل شيئا من أسماء الرجال واللغة وضبط المشكل والأحكام والمعاني وغيرها من المنقولات، فإن كان مشهورا لا أضيفه إلى قائليه لكثرتهم إلا نادرا لبعض المقاصد الصالحات، وإن كان غريبا أضفته إلى قائليه إلا أن أذهل عنه بعض المواطن لطول الكلام أو كونه مما تقدم بيانه من الأبواب الماضيات، وإذا تكرر الحديث أو الاسم أو اللفظة من اللغة ونحوها بسطت المقصود منه في أول مواضعه، وإذا مررت على الموضع الآخر ذكرت أنه تقدم شرحه وبيانه في الباب الفلاني من الأبواب السابقات، وقد أقتصر على بيان تقدمه من غير إضافة، أو أعيد الكلام فيه لبعد الموضع الأول أو ارتباط كلام أو نحوه أو غير ذلك من المصالح المطلوبات، وأقدم في أول الكتاب جملا من المقدمات، مما يعظم النفع به إن شاء الله تعالى ويحتاج إليه طالبو التحقيقات، وأرتب ذلك في فصول متتابعات؛ ليكون أسهل في مطالعته وأبعد من السآمات.
وأنا مستمد المعونة والصيانة واللطف والرعاية من الله الكريم رب الأرضين والسماوات، مبتهلا إليه سبحانه وتعالى أن يوفقني ووالدي ومشايخي وسائر أقاربي وأحبابي ومن أحسن إلينا بحسن النيات، وأن ييسر لنا الطاعات، وأن يهدينا لها دائما في ازدياد حتى الممات، وأن يجود علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته والجمع بيننا في دار كرامته وغير ذلك من أنواع المسرات، وأن ينفعنا أجمعين ومن يقرأ في هذا الكتاب به وأن يجزل لنا المثوبات، وأن لا ينزع منا ما وهبه لنا ومنَّ به علينا من الخيرات، وأن لا يجعل شيئا من ذلك فتنة لنا وأن يعيذنا من كل شيء من المخالفات، إنه مجيب الدعوات جزيل العطيات، اعتصمت بالله، توكلت على الله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبي الله ونعم الوكيل، وله الحمد والفضل والمنة والنعمة، وبه التوفيق واللطف والهداية والعصمة.

.(فصل) في بيان إسناد الكتاب وحال رواته منا إلى الإمام مسلم رضي الله عنه مختصرا:

أما إسنادي فيه فأخبرنا بجميع صحيح الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله الشيخ الأمين العدل الرضي أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن مضر الواسطي رحمه الله بجامع دمشق حماها الله وصانها وسائر بلاد الإسلام وأهله، قال: أخبرنا الإمام ذو الكنى أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح منصور بن عبد المنعم الفراوي، قال: أخبرنا الإمام فقيه الحرمين أبو جدي أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي، قال أخبرنا أبو الحسين عبد الغافر الفارسي، قال: أنا أحمد محمد بن عيسى الجلودي، قال: أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، أنا الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله. وهذا الإسناد الذي حصل لنا ولأهل زماننا ممن يشاركنا فيه في نهاية من العلو بحمد الله تعالى، فبيننا وبين مسلم ستة، وكذلك اتفقت لنا بهذا العدد رواية الكتب الأربعة، التي هي تمام الكتب الخمسة، التي هي أصول الإسلام؛ أعنى صحيحي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وكذلك وقع لنا بهذا العدد مسندا الإمامين أبوي عبد الله أحمد بن حنبل ومحمد بن يزيد، أعني ابن ماجه، ووقع لنا أعلى من هذه الكتب - وإن كانت عالية - موطأ الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس، فبيننا وبينه رحمه الله سبعة، وهو شيخ شيوخ المذكورين كلهم، فتعلو روايتنا لأحاديثه برجل، ولله الحمد والمنة، وحصل في روايتنا لمسلم لطيفة؛ وهو أنه إسناد مسلسل بالنيسابوريين وبالمعمرين، فإن رواته كلهم معمرون وكلهم نيسابوريون، من شيخنا أبي إسحاق إلى مسلم، وشيخنا - وإن كان واسطيًّا - فقد أقام بنيسابور مدة طويلة، والله أعلم.
أما بيان حال رواته، فيطول الكلام في تقصي أخبارهم واستقصاء أحوالهم، لكن نقتصر على ضبط أسمائهم وأحرف تتعلق بحال بعضهم.
أما شيخنا أبو إسحاق فكان من أهل الصلاح، والمنسوبين إلى الخير والفلاح، معروفا بكثرة الصدقات وإنفاق المال في وجوه المكرمات، ذا عفاف وعبادة، ووقار وسكينة وصيانة بلا استكبار، توفي رحمه الله بالإسكندرية اليوم السابع من رجب، سنة أربع وستين وستمائة.
وأما شيخ شيخنا فهو الإمام ذو الكنى أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي العباس الصاعدي الفراوي ثم النيسابوري، منسوب إلى فراوة؛ بليدة من ثغر خراسان، وهو بفتح الفاء وضمها، فأما الفتح فهو المشهور المستعمل بين أهل الحديث وغيرهم، وكذا حكى الشيخ الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله؛ أنه سمع شيخه منصورا هذا رضي الله عنه يقول: إنه الفراوي بفتح الفاء. وذكره أبو سعيد السمعاني في كتابه الأنساب بضم الفاء، وكذا ذكر الضم أيضًا غير السمعاني، وكان منصور هذا جليلا شيخا مكثرا ثقة صحيح السماع، روى عن أبيه وجده وجد أبيه أبى عبد الله محمد بن الفضل، وروى عن غيرهم، مولده في شهر رمضان سنة اثنين وعشرين وخمسمائة، وتوفي بشازياخ نيسابور في شعبان سنة ثمان وستمائة.
وأما أبو عبد الله الفاروي فهو محمد بن الفضل، جد أبى منصور النيسابوري، وقد تقدم تمام نسبه في نسب ابن ابن ابنه منصور، كان أبو عبد الله هذا الفراوي رضي الله عنه إماما بارعا في الفقه والأصول وغيرهما، كثير الروايات بالأسانيد الصحيحة العاليات، رحلت إليه الطلبة من الأقطار، وانتشرت الروايات عنه فيما قرب وبعد من الأمصار، حتى قالوا فيه: للفراوي ألف راوٍ. وكان يقال له: فقيه الحرم. لإشاعته ونشره العلم بمكة، زادها الله فضلا وشرفا، ذكره الإمام الحافظ أبو القاسم الدمشقي المعروف بابن عساكر رضي الله عنهما؛ فأطنب في الثناء عليه بما هو أهله، ثم روى عن أبي الحسين عبد الغافر أنه ذكره فقال: هو فقيه الحرم، البارع في الفقه والأصول، الحافظ للقواعد، نشأ بين الصوفية في حجورهم، ووصل إليه بركات أنفاسهم، وسمع التصانيف والأصول من الإمام زين الإسلام، ودرس عليه الأصول والتفسير، ثم اختلف إلى مجلس إمام الحرمين، ولازم درسه ما عاش، وتفقه عليه وعلق عنه الأصول، وصار من جملة المذكورين من أصحابه، وخرج حاجا إلى مكة، وعقد المجلس ببغداد وسائر البلاد، وأظهر العلم بالحرمين، وكان منه بهما أثر وذكر ونشر للعلم، وعاد إلى نيسابور، وما تعدى قط حد العلماء ولا سيرة الصالحين؛ من التواضع والتبذل في الملابس والتعايش، وتستر بكتابة الشروط لاتصاله بالزمرة الشحامية مصاهرة ليصون بها عرضه وعلمه عن توقع الإرفاق، ويتبلغ بما يكتسبه منها في أسباب المعيشة من فنون الأرزاق، وقعد للتدريس في المدرسة الناصحة وإفادة الطلبة فيها، وقد سمع المسانيد والصحاح وأكثر عن مشايخ عصره، وله مجالس الوعظ والتذكير المشحونة بالفوائد والمبالغة في النصح وحكايات المشايخ وذكر أحوالهم.
قال الحافظ أبو القاسم: وإلى الإمام محمد الفراوي كانت رحلتي الثانية؛ لأنه المقصود بالرحلة في تلك الناحية؛ لما اجتمع فيه من علو الإسناد ووفور العلم وصحة الاعتقاد، وحسن الخلق ولين الجانب، والإقبال بكليته على الطالب، فأقمت في صحبته سنة كاملة، وغنمت من مسموعاته فوائد حسنة طائلة، وكان مكرما لموردي عليه، عارفا بحق قصدي إليه، ومرض مرضة في مدة مقامي عنده، ونهاه الطبيب عن التمكين من القراءة عليه فيها، وعرفه أن ذلك ربما كان سببا لزيادة تألمه، فقال: لا أستجيز أن أمنعهم من القراءة، وربما أكون قد حسبت في الدنيا لأجلهم. وكنت أقرأ عليه في حال مرضه وهو ملقى على فراشه، ثم عوفي من تلك المرضة، وفارقته متوجها إلى هراة، فقال لي حين ودعته بعد أن أظهر الجزع لفراقي: وربما لا نلتقي بعد هذا. فكان كما قال، فجاءنا نعيه إلى هراة، وكانت وافته في العشر الأواخر من شوال سنة ثلاثين وخمسمائة، ودفن في تربة أبي بكر بن خزيمة رضي الله عنهما، وذكر الحافظ أيضا جملا أخرى من مناقبه، حذفتها اختصارا، وذكر أبو سعيد السمعاني أنه سأل أبا عبد الله الفراوي هذا عن مولده، فقال: مولدي تقديرا سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. قال غيره: وتوفي يوم الخميس الحادي أو الثاني والعشرين من شوال سنة ثلاثين وخمسمائة. قال الحافظ الشيخ أبو عمرو رحمه الله: له في علم المذهب كتاب انتخبت منه فوائد استغربتها، وسمع صحيح مسلم من عبد الغافر في السنة التي توفي فيها عبد الغافر سنة ثمان وأربعين وأربعمائة بقراءة أبي سعيد البحيري رحمه الله ورضي عنه.
وأما شيخ الفراوي فهو أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن محمد بن سعيد الفارسي الفسوي، ثم النيسابوري التاجر، وكان سماعه صحيح مسلم من الجلودي سنة خمس وستين وثلاثمائة، ذكره ولد ولده أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي الأديب الإمام المحدث بن المحدث بن المحدث صاحب التصانيف، كذيل تاريخ نيسابور وكتاب مجمع الغرائب والمفهم لشرح غريب صحيح مسلم وغيرها، فقال: كان شيخا ثقة صالحا صائنا، محظوظا من الدين والدنيا، محدودا في الرواية على قلة سماعه، مشهورا مقصودا من الآفاق، سمع منه الأئمة والصدور، وقرأ الحافظ الحسن السمرقندي عليه صحيح مسلم نيفا وثلاثين مرة، وقرأه عليه أبو سعيد البحيري نيفا وعشرين مرة، وممن قرأه عليه من مشاهير الأئمة زين الإسلام أبو القاسم يعني القشيري والواحدي وغيرهما، استكمل خمسا وتسعين سنة، وألحق أحفاد الأحفاد بالأجداد، وتوفي يوم الثلاثاء، ودفن يوم الأربعاء السادس من شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. وقال غيره: ولد سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وسمع منه أئمة الدنيا من الغرباء والطارئين والبلديين، وبارك الله سبحانه وتعالى في سماعه وروايته مع قلة سماعه، وكان المشهور برواية صحيح مسلم وغريب الخطابي في عصره، وسمع الخطابي وغيره من أهل عصره، رحمه الله ورضي عنه.
وأما شيخ الفارسي فهو أبو أحمد محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن عمرويه بن منصور الزاهد النيسابوري الجلودي، بضم الجيم بلا خلاف، قال الإمام أبو سعيد السمعاني: هو منسوب الجلود المعروفة، جمع جلد. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عندي أنه منسوب إلى سكة الجلوديين بنيسابور الدارسة. وهذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو يمكن حمل كلام السمعاني عليه، وإنما قلت: إن الجلودي هذا بضم الجيم بلا خلاف لأن ابن السكيت وصاحبه ابن قتيبة قالا في كتابيهما المشهورين: إن الجلودي بفتح الجيم منسوب إلى جلود؛ اسم قرية بإفريقية. وقال غيرهما: إنها بالشام. وأراد أن من نسب إلى هذه القرية فهو بفتح الجيم لكونها مفتوحة، وأما أبو أحمد الجلودي فليس منسوبا إلى هذه القرية، فليس فيما قالاه مخالفة لما ذكرناه، والله أعلم.
قال الحاكم أبو عبد الله: كان أبو أحمد هذا الجلودي شيخا صالحا زاهدا، من كبار عباد الصوفية، صحب أكابر المشايخ من أهل الحقائق، وكان ينسخ الكتب ويأكل من كسب يده، سمع أبا بكر بن خزيمة ومن كان قبله، وكان ينتحل مذهب سفيان الثوري ويعرفه، توفي رحمه الله يوم الثلاثاء، الرابع والعشرين من ذي الحجة، سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وهو بن ثمانين سنة.
قال الحاكم: وختم لوفاته سماع صحيح مسلم، وكل من حدث به بعده عن إبراهيم بن محمد بن سفيان وغيره فليس بثقة، والله أعلم.
وأما الشيخ الجلودي فهو السيد الجليل أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، الفقيه الزاهد المجتهد العابد، قال الحاكم أبو عبد الله بن البيع: سمعت محمد بن يزيد العدل يقول: كان إبراهيم بن محمد بن سفيان مجاب الدعوة. قال الحاكم: وسمعت أبا عمرو بن نجيد يقول: إنه كان من الصالحين. قال الحاكم: كان إبراهيم بن سفيان من العباد المجتهدين، ومن الملازمين لمسلم بن الحجاج، وكان من أصحاب أيوب بن الحسن الزاهد صاحب الرأي، يعني الفقيه الحنفي، سمع إبراهيم بن سفيان بالحجاز ونيسابور والري والعراق. قال إبراهيم: فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب في شهر رمضان، سنة سبع وخمسين ومائتين. قال الحاكم: مات إبراهيم في رجب، سنة ثمان وثلاثمائة، رحمه الله ورضي عنه.
وأما شيخ إبراهيم بن محمد بن سفيان فهو الإمام مسلم صاحب الكتاب، وهو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، القشيري نسبا النيسابوري وطنا، عربي، صلبية، وهو أحد أعلام أئمة هذا الشأن وكبار المبرزين فيه، وأهل الحفظ والإتقان، والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان، والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان، والمرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل الأزمان.
سمع بخراسان يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه وغيرهما، وبالري محمد بن مهران الجمال بالجيم وأبا غسان وغيرهما، وبالعراق أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهما، وبالحجاز سعيد بن منصور وأبا مصعب وغيرهما، وبمصر عمرو بن سواد وحرملة بن يحيى وغيرهما، وخلائق كثيرين.
روى عنه جماعات من كبار أئمة عصره وحفاظه، وفيهم جماعات في درجته، فمنهم أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن سلمة وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر بن خزيمة ويحيى بن صاعد وأبو عوانة الإسفراينى، وآخرون لا يحصون.
وصنف مسلم رحمه الله في علم الحديث كتبا كثيرة؛ منها هذا الكتاب الصحيح الذي منَّ الله الكريم وله الحمد والنعمة والفضل والمنة به على المسلمين، وأبقى لمسلم به ذكرا جميلا وثناء حسنا إلى يوم الدين، ومنها كتاب المسند الكبير على أسماء الرجال، وكتاب الجامع الكبير على الأبواب، وكتاب العلل، وكتاب أوهام المحدثين، وكتاب التميز، وكتاب من ليس له إلا راو واحد، وكتاب طبقات التابعين، وكتاب المخضرمين، وغير ذلك.
قال الحاكم أبو عبد الله: حدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، قال: سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وفي رواية: في معرفة الحديث.
قلت: ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله، واطلع على ما أورده في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية، وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه واتساع روايته، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات؛ علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأنا أقتصر من أخباره رضي الله عنه على هذا القدر، فإن أحواله رحمه الله ومناقبه لا تستقصى، لبعدها عن أن تحصى، وقد دللت بما ذكرت من الإشارة إلى حالته على ما أهملت من جميل طريقته، والله الكريم أسأله أن يجزل في مثوبته، وأن يجمع بيننا وبينه مع أحبائنا في دار كرامته، بفضله وجوده ولطفه ورحمته، وقد قدمت أن أوثر الاختصار وأحاذر التطويل الممل والإكثار.
توفي مسلم رحمه الله بنيسابور، سنة إحدى وستين ومائتين. قال الحاكم أبو عبد الله بن البيع في كتاب المزكين لرواة الأخبار: سمعت أبا عبد الله بن الأخرم الحافظ رحمه الله يقول: توفي مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية الأحد، ودفن يوم الاثنين، لخمس بقين من رجب، سنة إحدى وستين ومائتين، وهو بن خمس وخمسين سنة، رحمه الله ورضي عنه.

.(فصل):

صحيح مسلم رحمه الله في نهاية من الشهرة، وهو متواتر عنه من حيث الجملة، فالعلم القطعي حاصل بأنه تصنيف أبي الحسين مسلم بن الحجاج، وأما من حيث الرواية المتصلة بالإسناد المتصل بمسلم فقد انحصرت طريقه عنده في هذه البلدان والأزمان في رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، ويروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم، ورواه عن بن سفيان جماعة؛ منهم: الجلودي، وعن الجلودي جماعة؛ منهم: الفارسي، وعنه جماعة؛ منهم: الفراوي، وعنه خلائق؛ منهم: منصور، وعنه خلائق؛ منهم: شيخنا أبو إسحاق.
قال الشيخ الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وأما القلانسي فوقعت روايته عند أهل الغرب، ولا رواية له عند غيرهم، دخلت روايته إليه من جهة أبي عبد الله محمد بن يحيى بن الحذاء التميمي القرطبي وغيره، سمعوها بمصر من أبي العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن عبد الرحمن بن ماهان البغدادي، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر الفقيه على مذهب الشافعي، قال: حدثنا أبو محمد القلانسي، قال: حدثنا مسلم إلا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب؛ أولها حديث الإفك الطويل، فإن أبا العلاء بن ماهان كان يروي ذلك عن أبي أحمد الجلودي عن أبي سفيان عن مسلم رضي الله عنه.

.(فصل):

قال الشيخ الإمام الحافظ أبو عمرو وعثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح رحمه الله: اختلف النسخ في رواية الجلودي عن إبراهيم بن سفيان؛ هل هي بحدثنا إبراهيم أو أخبرنا؟ والتردد واقع في أنه سمع لفظ إبراهيم أو قرأه عليه، فالأحوط أن يقال: أخبرنا إبراهيم، حدثنا إبراهيم. فليلفظ القارئ بهما على البدل.
قال: وجائز لنا الاقتصار على (أخبرنا) فإنه كذلك فيما نقلته من ثبت الفراوي من خط صاحبه عبد الرزاق الطبسي، وفيما انتخبته بنيسابور من الكتاب من أصل فيه سماع شيخنا المؤيد، وهو كذلك بخط الحافظ أبي القاسم الدمشقي العساكري عن الفراوي، وفي غير ذلك، وأيضا فحكم المتردد في ذلك المصير إلى (أخبرنا)؛ لأن كل تحديث من حديث الحقيقة إخبار، وليس كل إخبار تحديثا.