فصل: (بَاب اِسْتِحْبَاب الْفِطْر لِلْحَاجِّ بِعَرَفَاتٍ يَوْم عَرَفَة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب جَوَاز الصَّوْم وَالْفِطْر فِي شَهْر رَمَضَان لِلْمُسَافِرِ فِي غَيْر مَعْصِيَة إِذَا كَانَ سَفَره مَرْحَلَتَيْنِ فَأَكْثَرَ وَأَنَّ الْأَفْضَل لِمَنْ أَطَاقَهُ بِلَا ضَرَر أَنْ يَصُوم وَلِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ):

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي صَوْم رَمَضَان فِي السَّفَر، فَقَالَ بَعْض أَهْل الظَّاهِر: لَا يَصِحّ صَوْم رَمَضَان فِي السَّفَر، فَإِنْ صَامَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ؛ لِظَاهِرِ الْآيَة وَلِحَدِيث: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء وَجَمِيع أَهْل الْفَتْوَى: يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي السَّفَر، وَيَنْعَقِد وَيُجْزِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الصَّوْم أَفْضَل أَمْ الْفِطْر أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؟ فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ: الصَّوْم أَفْضَل لِمَنْ أَطَاقَهُ بِلَا مَشَقَّة ظَاهِرَة، وَلَا ضَرَر، فَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ، فَالْفِطْرُ أَفْضَلُ، وَاحْتَجُّوا بِصَوْمِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة وَغَيْرهمَا، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث؛ وَلِأَنَّهُ يَحْصُل بِهِ بَرَاءَة الذِّمَّة فِي الْحَال.
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ: الْفِطْر أَفْضَل مُطْلَقًا، وَحَكَاهُ بَعْض أَصْحَابنَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ غَرِيب، وَاحْتَجُّوا بِمَا سَبَقَ لِأَهْلِ الظَّاهِر، وَبِحَدِيثِ حَمْزَة بْن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ الْمَذْكُور فِي مُسْلِم فِي آخِر الْبَاب، وَهُوَ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَة مِنْ اللَّه فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُوم فَلَا جُنَاح عَلَيْهِ» وَظَاهِره تَرْجِيح الْفِطْر، وَأَجَابَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّ هَذَا كُلّه فِيمَنْ يَخَاف ضَرَرًا أَوْ يَجِد مَشَقَّة، كَمَا هُوَ صَرِيح فِي الْأَحَادِيث، وَاعْتَمَدُوا حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ الْمَذْكُور فِي الْبَاب قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَان، فَمِنَّا الصَّائِم، وَمِنَّا الْمُفْطِر، فَلَا يَجِد الصَّائِم عَلَى الْمُفْطِر، وَلَا الْمُفْطِر عَلَى الصَّائِم، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ»، وَهَذَا صَرِيح فِي تَرْجِيح مَذْهَب الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ تَفْضِيل الصَّوْم لِمَنْ أَطَاقَهُ بِلَا ضَرَرٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: الْفِطْر وَالصَّوْم سَوَاء؛ لِتَعَادُلِ الْأَحَادِيث، وَالصَّحِيح قَوْل الْأَكْثَرِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1875- قَوْله: «خَرَجَ عَامَ الْفَتْح فِي رَمَضَان فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد ثُمَّ أَفْطَرَ» يَعْنِي بِالْفَتْحِ: فَتْح مَكَّة، وَكَانَ سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة، و(الْكَدِيد) بِفَتْحِ الْكَاف وَكَسْر الدَّال الْمُهْمَلَة، وَهِيَ عَيْنٌ جَارِيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَة سَبْع مَرَاحِل أَوْ نَحْوهَا، وَبَيْنهَا وَبَيْن مَكَّة قَرِيب مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ، وَهِيَ أَقْرَب إِلَى الْمَدِينَة مِنْ عُسْفَان.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: (الْكَدِيد) عَيْن جَارِيَة عَلَى اِثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّة، قَالَ: وَعُسْفَان قَرْيَة جَامِعَة، بِهَا مِنْبَر عَلَى سِتَّة وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّة، قَالَ: وَالْكَدِيد مَا بَيْنهَا وَبَيْن قَدِيدٍ. وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاع الْغَمِيم» وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ وَادٍ أَمَام عُسْفَان بِثَمَانِيَةِ أَمْيَال، يُضَاف إِلَيْهِ هَذَا الْكُرَاع، وَهُوَ جَبَل أَسْوَد مُتَّصِل بِهِ، و(الْكُرَاع) كُلّ أَنْف سَالَ مِنْ جَبَل أَوْ حَرَّةٍ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا كُلّه فِي سَفَر وَاحِد فِي غَزَاة الْفَتْح، قَالَ: وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَوَاضِع فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث لِتَقَارُبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عُسْفَان مُتَبَاعِدَة شَيْئًا عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِع، لَكِنَّهَا كُلّهَا مُضَافَة إِلَيْهَا، وَمِنْ عَمَلِهَا، فَاشْتَمَلَ اِسْم عُسْفَان عَلَيْهَا، قَالَ: وَقَدْ يَكُون عَلِمَ حَالَ النَّاس وَمَشَقَّتَهُمْ فِي بَعْضهَا، فَأَفْطَرَ وَأَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ فِي بَعْضهَا، هَذَا كَلَام الْقَاضِي وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا فِي مَسَافَة عُسْفَان، فَإِنَّ الْمَشْهُور أَنَّهَا عَلَى أَرْبَعَة بُرُدٍ مِنْ مَكَّة، وَكُلّ بَرِيد أَرْبَعَة فَرَاسِخ، وَكُلّ فَرْسَخ ثَلَاثَة أَمْيَال، فَالْجُمْلَة ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُور.
قَوْله: «فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد ثُمَّ أَفْطَرَ» فيه دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور: أَنَّ الصَّوْم وَالْفِطْر جَائِزَانِ. وَفيه: أَنَّ الْمُسَافِر لَهُ أَنْ يَصُوم بَعْض رَمَضَان دُون بَعْض، وَلَا يَلْزَمهُ بِصَوْمِ بَعْضِهِ إِتْمَامُهُ، وَقَدْ غَلِطَ بَعْض الْعُلَمَاء فِي فَهْم هَذَا الْحَدِيث، فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْكَدِيد وَكُرَاع الْغَمِيم قَرِيب مِنْ الْمَدِينَة، وَأَنَّ قَوْله: «فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيد وَكُرَاع الْغَمِيم» كَانَ فِي الْيَوْم الَّذِي خَرَجَ فيه مِنْ الْمَدِينَة، فَزَعَمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَة صَائِمًا، فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاع الْغَمِيم فِي يَوْمه أَفْطَرَ فِي نَهَار، وَاسْتَدَلَّ بِهِ هَذَا الْقَائِل عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ بَعْد طُلُوع الْفَجْر صَائِمًا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي يَوْمه.
وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: أَنَّهُ لَا يَجُوز الْفِطْر فِي ذَلِكَ الْيَوْم، وَإِنَّمَا يَجُوز لِمَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْر فِي السَّفَر، وَاسْتِدْلَال هَذَا الْقَائِل بِهَذَا الْحَدِيث مِنْ الْعَجَائِب الْغَرِيبَة؛ لِأَنَّ الْكَدِيد وَكُرَاع الْغَمِيم عَلَى سَبْع مَرَاحِل أَوْ أَكْثَر مِنْ الْمَدِينَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَكَانَ صَحَابَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُونَ الْأَحْدَث فَالْأَحْدَث مِنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا مَحْمُول عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهُ النَّسْخ أَوْ رُجْحَان الثَّانِي مَعَ جَوَازهمَا، وَإِلَّا فَقَدْ طَافَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيره. وَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً. وَنَظَائِر ذَلِكَ مِنْ الْجَائِزَات الَّتِي عَمِلَهَا مَرَّة أَوْ مَرَّات قَلِيلَة؛ لِبَيَانِ جَوَازهَا، وَحَافَظَ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْهَا.
1876- قَوْله: «قَالَ اِبْن عَبَّاس: فَصَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» فيه دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور فِي جَوَاز الصَّوْم وَالْفِطْر جَمِيعًا.
1878- قَوْله: «فَقِيلَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ: إِنَّ بَعْض النَّاس قَدْ صَامَ فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاة. أُولَئِكَ الْعُصَاة» هَكَذَا هُوَ مُكَرَّرٌ مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ، أَوْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْفِطْرِ أَمْرًا جَازِمًا لِمَصْلَحَةِ بَيَان جَوَازه، فَخَالَفُوا الْوَاجِب، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُون الصَّائِم الْيَوْم فِي السَّفَر عَاصِيًا إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ، وَيُؤَيِّد التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «إِنَّ النَّاس قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ».
1879- قَوْله: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلًا قَدْ اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاس وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَر» مَعْنَاهُ: إِذَا شَقَّ عَلَيْكُمْ وَخِفْتُمْ الضَّرَر، وَسِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي هَذَا التَّأْوِيل، وَهَذِهِ الرِّوَايَة مُبَيِّنَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَة: «لَيْسَ مِنْ الْبِرّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَمَعْنَى الْجَمِيع فِيمَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ.
1880- قَوْله فِي حَدِيث مُحَمَّد بْن رَافِع: «فَصَبَّحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَان» ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَان». وَفِي رِوَايَة: «لِثَمَانِ عَشْرَة خَلَتْ»، وَفِي رِوَايَة: «فِي ثِنْتَيْ عَشْرَة»، وَفِي رِوَايَة: «لِسَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ» وَالْمَشْهُور فِي كُتُب الْمَغَازِي: أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي غَزْوَة الْفَتْح مِنْ الْمَدِينَة لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَان، وَدَخَلَهَا لِتِسْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ.

.باب أَجْرِ الْمُفْطِرِ فِي السَّفَرِ إِذَا تَوَلَّى الْعَمَلَ:

1887- قَوْله: (فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا (فَتَحَزَّمَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالزَّاي، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَر رُوَاة صَحِيح مُسْلِم، قَالَ: وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ (فَتَخَدَّمَ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْمَلَة، قَالَ: وَادَّعَوْا أَنَّهُ صَوَاب الْكَلَام، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْدُمُونَ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّل صَحِيح أَيْضًا، وَلِصِحَّتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدهَا: مَعْنَاهُ: شَدُّوا أَوْسَاطَهُمْ لِلْخِدْمَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اِسْتِعَارَة لِلِاجْتِهَادِ فِي الْخِدْمَة، وَمِنْهُ: إِذَا دَخَلَ الْعَشْر اِجْتَهَدَ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ مِنْ الْحَزْم، وَهُوَ الِاحْتِيَاط وَالْأَخْذ بِالْقُوَّةِ، وَالِاهْتِمَام بِالْمَصْلَحَةِ.
1888- قَوْله: (وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ) أَيْ عِنْدَهُ كَثِيرُونَ مِنْ النَّاسِ.

.باب التَّخْيِيرِ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ:

1890- قَوْله فِي حَدِيث حَمْزَة بْن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ: «يَا رَسُول اللَّه إِنِّي رَجُل أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَر؟ فَقَالَ: صُمْ إِنْ شِئْت وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْت» فيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ الْجُمْهُور: أَنَّ الصَّوْم وَالْفِطْر جَائِزَانِ، وَأَمَّا الْأَفْضَل مِنْهُمَا فَحُكْمه مَا سَبَقَ فِي أَوَّل الْبَاب، وَفيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ صَوْم الدَّهْر وَسَرْدَهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَنْ لَا يَخَاف مِنْهُ ضَرَرًا، وَلَا يُفَوِّتُ بِهِ حَقًّا بِشَرْطِ فِطْر يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِسَرْدِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، بَلْ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ، وَأَذِنَ لَهُ فيه فِي السَّفَر، فَفِي الْحَضَر أَوْلَى، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ حَمْزَة بْن عَمْرو كَانَ يُطِيق السَّرْد بِلَا ضَرَر وَلَا تَفْوِيت حَقّ، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا: «أَجِد بِي قُوَّة عَلَى الصِّيَام»، وَأَمَّا إِنْكَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِ صَوْم الدَّهْر فَلِأَنَّهُ عَلِمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَضْعُفُ عَنْهُ، وَهَكَذَا جَرَى، فَإِنَّهُ ضَعُفَ فِي آخِر عُمُرِهِ، وَكَانَ يَقُول: يَا لَيْتَنِي قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَمَلَ الدَّائِمَ وَإِنْ قَلَّ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ.
1891- قَوْله: (عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْر الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، وَاسْمُهُ سَعْدٌ.

.(بَاب اِسْتِحْبَاب الْفِطْر لِلْحَاجِّ بِعَرَفَاتٍ يَوْم عَرَفَة):

ذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَبِي حَنِيفَة وَجُمْهُور الْعُلَمَاء: اِسْتِحْبَاب فِطْر يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَة لِلْحَاجِّ، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق وَعُمَر وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَابْن عُمَر وَالثَّوْرِيِّ قَالَ: وَكَانَ اِبْن الزُّبَيْر وَعَائِشَة يَصُومَانِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ إِسْحَاق يَمِيل إِلَيْهِ، وَكَانَ عَطَاء يَصُومهُ فِي الشِّتَاء دُون الصَّيْف، وَقَالَ قَتَادَة: لَا بَأْس بِهِ إِذَا لَمْ يَضْعُفْ عَنْ الدُّعَاء، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِفِطْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه؛ وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالْحَاجِّ فِي آدَاب الْوُقُوف وَمُهِمَّات الْمَنَاسِك. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَة أَنَّ صَوْم عَرَفَة كَفَّارَة سَنَتَيْنِ؛ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُور عَلَى مَنْ لَيْسَ هُنَاكَ.
1894- قَوْله: «عَنْ عُمَيْر مَوْلَى عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس» وَفِي رِوَايَتَيْنِ: (مَوْلَى أُمّ الْفَضْل)، وَفِي رِوَايَة: (مَوْلَى اِبْن عَبَّاس) فَالظَّاهِر أَنَّهُ مَوْلَى أُمّ الْفَضْل حَقِيقَة، وَيُقَال لَهُ: مَوْلَى اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة: هُوَ مَوْلَى أُمّ الْفَضْل حَقِيقَة، وَيُقَال لَهُ مَوْلَى اِبْن عَبَّاس؛ لِمُلَازِمَتِهِ لَهُ، وَأَخْذِهِ عَنْهُ، وَانْتِمَائِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالُوا فِي أَبِي مُرَّةَ: مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْت أَبِي طَالِب، يَقُولُونَ أَيْضًا: مَوْلَى عَقِيل بْن أَبِي طَالِب قَالُوا: لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ، وَانْتِمَائِهِ إِلَيْهِ. وَقَرِيب مِنْهُ مِقْسَم مَوْلَى اِبْن عَبَّاس؛ لَيْسَ هُوَ مَوْلَاهُ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا قِيلَ: مَوْلَى اِبْن عَبَّاس؛ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ.
قَوْله: «إِنَّ أُمّ الْفَضْل اِمْرَأَة الْعَبَّاس أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِف عَلَى بَعِير بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ» فيه فَوَائِد مِنْهَا: اِسْتِحْبَاب الْفِطْر لِلْوَاقِفِ بِعَرَفَة. وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب الْوُقُوف رَاكِبًا، وَهُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبِنَا. وَلَنَا قَوْل: أَنَّ غَيْر الرُّكُوب أَفْضَل، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا سَوَاء. وَمِنْهَا: جَوَاز الشُّرْب قَائِمًا وَرَاكِبًا. وَمِنْهَا: إِبَاحَة الْهَدِيَّة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا: إِبَاحَة قَبُول هَدِيَّة الْمَرْأَة الْمُزَوَّجَة الْمَوْثُوق بِدِينِهَا، وَلَا يُشْرَطُ أَنْ يُسْأَل هَلْ هُوَ مِنْ مَالهَا أَمْ مِنْ مَال زَوْجهَا؟ أَوْأَنهُ أَذِنَ فيه أَمْ لَا؟ إِذَا كَانَتْ مَوْثُوقًا بِدِينِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْأَة فِي مَالهَا جَائِز، وَلَا يُشْتَرَط إِذْنُ الزَّوْجِ، سَوَاءٌ تَصَرَّفَتْ فِي الثُّلُث أَوْ أَكْثَر، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ مَالِك: لَا تَتَصَرَّفْ فِيمَا فَوْقَ الثُّلُثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَمَوْضِع الدَّلَالَة مِنْ الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ هَلْ هُوَ مِنْ مَالِهَا وَيَخْرُج مِنْ الثُّلُث أَوْ بِإِذْنِ الزَّوْج أَمْ لَا؟ وَلَوْ اِخْتَلَفَ الْحُكْم لَسَأَلَ.
1896- قَوْله: «فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ مَيْمُونَة بِحِلَابِ اللَّبَن» هُوَ بِكَسْرِ الْحَاء الْمُهْمَلَة، وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي يُحْلَب فيه، وَيُقَال لَهُ: (الْمِحْلَب) بِكَسْرِ الْمِيمِ.

.(بَاب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء):

اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء الْيَوْم سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمه فِي أَوَّل الْإِسْلَام حِين شُرِعَ صَوْمه قَبْل صَوْم رَمَضَان، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: كَانَ وَاجِبًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فيه عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ سُنَّةً مِنْ حِين شُرِعَ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَطُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّة، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَأَكِّدَ الِاسْتِحْبَاب، فَلَمَّا نَزَلَ صَوْم رَمَضَان صَارَ مُسْتَحَبًّا دُون ذَلِكَ الِاسْتِحْبَاب.
وَالثَّانِي: كَانَ وَاجِبًا، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة، وَتَظْهَر فَائِدَة الْخِلَاف فِي اِشْتِرَاط نِيَّة الصَّوْم الْوَاجِب مِنْ اللَّيْل، فَأَبُو حَنِيفَة لَا يَشْتَرِطهَا، وَيَقُول: كَانَ النَّاس مُفْطِرِينَ أَوَّل يَوْم عَاشُورَاء ثُمَّ أُمِرُوا بِصِيَامِهِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَار، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَائِهِ بَعْد صَوْمه. وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ يَقُولُونَ: كَانَ مُسْتَحَبًّا فَصَحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَار، وَيَتَمَسَّك أَبُو حَنِيفَة بِقَوْلِهِ: «أَمَرَ بِصِيَامِهِ» وَالْأَمْر لِلْوُجُوبِ، وَبِقَوْلِهِ: «فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَان قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ». وَيَحْتَجُّ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِ: «هَذَا يَوْم عَاشُورَاء، وَلَمْ يَكْتُب اللَّه عَلَيْكُمْ صِيَامه». وَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة: أَنَّ عَاشُورَاء وَتَاسُوعَاء مَمْدُودَانِ، وَحُكِيَ قَصْرُهُمَا.
1897- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ مُتَحَتِّمًا، فَأَبُو حَنِيفَة يُقَدِّرُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالشَّافِعِيَّة يُقَدِّرُونَهُ لَيْسَ مُتَأَكِّدًا أَكْمَلَ التَّأْكِيد، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَهُوَ سُنَّة مُسْتَحَبَّة الْآن مِنْ حِين قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَام، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَكَانَ بَعْض السَّلَف يَقُول: كَانَ صَوْم عَاشُورَاء فَرْضًا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ لَمْ يُنْسَخْ، قَالَ: وَانْقَرَضَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا، وَحَصَلَ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ. وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر كَرَاهَة قَصْد صَوْمه وَتَعْيِينِهِ بِالصَّوْمِ. وَالْعُلَمَاء مُجْمِعُونَ عَلَى اِسْتِحْبَابِهِ وَتَعْيِينِهِ؛ لِلْأَحَادِيثِ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن مَسْعُود: كُنَّا نَصُومُهُ، ثُمَّ تُرِكَ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ كَمَا كَانَ مِنْ الْوُجُوب، وَتَأَكَّدَ النَّدْب.
1900- قَوْله فِي حَدِيث قُتَيْبَة بْن سَعِيد وَمُحَمَّد بْن رُمْح: (إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُوم عَاشُورَاء فِي الْجَاهِلِيَّة، ثُمَّ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَان) ضَبَطُوا (أَمَرَ) هُنَا بِوَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، وَالثَّانِي بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي عِيَاضٌ غَيْرَهُ.
1909- قَوْله: (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) إِلَى آخِره. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يُوجِبُهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ أَوْ يَكْرَهُهُ فَأَرَادَ إِعْلَامه، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَخَطَبَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْجَمْع الْعَظِيم وَلَمْ يُنْكَر عَلَيْهِ.
قَوْله عَنْ مُعَاوِيَة: «سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لِهَذَا الْيَوْم: هَذَا يَوْم عَاشُورَاء وَلَمْ يَكْتُب اللَّه عَلَيْكُمْ صِيَامه، وَأَنَا صَائِم فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُوم فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُفْطِر فَلْيُفْطِرْ» هَذَا كُلّه مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَكَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ.
1910- قَوْله: «فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ»، وَفِي رِوَايَة: «فَسَأَلَهُمْ». الْمُرَاد بِالرِّوَايَتَيْنِ: أَمْر مَنْ سَأَلَهُمْ، وَالْحَاصِل مِنْ مَجْمُوع الْأَحَادِيث أَنَّ يَوْم عَاشُورَاء كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة مِنْ كُفَّار قُرَيْش وَغَيْرهمْ وَالْيَهُود يَصُومُونَهُ، وَجَاءَ الْإِسْلَام بِصِيَامِهِ مُتَأَكِّدًا، ثُمَّ بَقي صَوْمه أَخَفَّ مِنْ ذَلِكَ التَّأَكُّد. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1911- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَ عَاشُورَاء، وَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى صَامَهُ وَإِنَّهُ الْيَوْم الَّذِي نَجَوْا فيه مِنْ فِرْعَوْن وَغَرِقَ فِرْعَوْن، فَصَامَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَقَالَ: نَحْنُ أَحَقّ بِمُوسَى مِنْهُمْ» قَالَ الْمَازِرِيّ: خَبَر اليهُود غَيْر مَقْبُول، فَيَحْتَمِل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ، أَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ النَّقْل بِذَلِكَ حَتَّى حَصَلَ لَهُ الْعِلْم بِهِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَدًّا عَلَى الْمَازِرِيّ: قَدْ رَوَى مُسْلِم أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة صَامَهُ، فَلَمْ يَحْدُث لَهُ بِقَوْلِ الْيَهُود حُكْمٌ يَحْتَاج إِلَى الْكَلَام عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَة حَال وَجَوَاب سُؤَال، فَقَوْله: (صَامَهُ) لَيْسَ فيه أَنَّهُ اِبْتَدَأَ صَوْمه حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ كَابْنِ سَلَام وَغَيْره، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ: يَحْتَمِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومهُ بِمَكَّة، ثُمَّ تَرَكَ صِيَامه حَتَّى عَلِمَ مَا عِنْد أَهْل الْكِتَاب فيه فَصَامَهُ، قَالَ الْقَاضِي: وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى بِلَفْظِ الْحَدِيث، قُلْت: الْمُخْتَار قَوْل الْمَازِرِيّ، وَمُخْتَصَر ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومهُ كَمَا تَصُومهُ قُرَيْش فِي مَكَّة، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَة فَوَجَدَ الْيَهُود يَصُومُونَهُ فَصَامَهُ أَيْضًا بِوَحْيٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ اِجْتِهَادٍ، لَا بِمُجَرَّدِ أَخْبَارِ آحَادِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَم.
1913- قَوْله: (وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فيه حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ) (الشَّارَة) بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة بِلَا هَمْزٍ وَهِيَ الْهَيْئَة الْحَسَنَة وَالْجَمَال، أَيْ يُلْبِسُونَهُنَّ لِبَاسَهُمْ الْحَسَنَ الْجَمِيلَ، وَيُقَال لَهَا: الشَّارَة وَالشُّورَة بِضَمِّ الشِّين، وَأَمَّا (الْحَلْي) فَقَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان اللَّام مُفْرَد وَجَمْعه (حُلِيّ) بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْرهَا، وَالضَّمّ أَشْهَر وَأَكْثَر، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع، وَأَكْثَرهمْ عَلَى الضَّمّ، وَاللَّام مَكْسُورَة وَالْيَاء مُشَدَّدَة فيهمَا.

.(بَاب أَيّ يَوْمٍ يُصَام فِي عَاشُورَاء):

قَوْله: (عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ يَوْم عَاشُورَاء هُوَ تَاسِع الْمُحَرَّم، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُوم التَّاسِع)، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: عَنْ اِبْن عَبَّاس: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْم عَاشُورَاء فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّه إِنَّهُ يَوْم تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- صُمْنَا الْيَوْم التَّاسِع، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَام الْمُقْبِل حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَذَا تَصْرِيح مِنْ اِبْن عَبَّاس بِأَنَّ مَذْهَبَهُ، أَنَّ عَاشُورَاء هُوَ الْيَوْم التَّاسِع مِنْ الْمُحَرَّم، وَيَتَأَوَّلهُ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ إِظْمَاء الْإِبِل، فَإِنَّ الْعَرَب تُسَمِّي الْيَوْم الْخَامِس مِنْ أَيَّام الْوِرْد رَبْعًا، وَكَذَا بَاقِي الْأَيَّام عَلَى هَذِهِ النِّسْبَة فَيَكُون التَّاسِعُ عَشْرًا. وَذَهَبَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: إِلَى أَنَّ عَاشُورَاء هُوَ الْيَوْم الْعَاشِر مِنْ الْمُحَرَّم، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: سَعِيد بْن الْمُسَيِّب، وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ، وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَخَلَائِق، وَهَذَا ظَاهِر الْأَحَادِيث، وَمُقْتَضَى اللَّفْظ،وأمَّا تَقْدِير أَخْذه مِنْ (الْإِظْمَاء) فَبَعِيدٌ، ثُمَّ إِنَّ حَدِيث اِبْن عَبَّاس الثَّانِي يَرُدّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُوم عَاشُورَاء فَذَكَرُوا أَنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى تَصُومهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ فِي الْعَام الْمُقْبِل يَصُوم التَّاسِع، وَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَصُومهُ لَيْسَ هُوَ التَّاسِع، فَتَعَيَّنَ كَوْنه الْعَاشِر، قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَآخَرُونَ: يُسْتَحَبّ صوم التَّاسِع وَالْعَاشِر جَمِيعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ الْعَاشِر، وَنَوَى صِيَام التَّاسِع، وَقَدْ سَبَقَ فِي صَحِيح مُسْلِم فِي كِتَاب الصَّلَاة مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَل الصِّيَام بَعْد رَمَضَان شَهْر اللَّه الْحَرَام» قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَلَعَلَّ السَّبَب فِي صَوْم التَّاسِع مَعَ الْعَاشِر أَلَّا يَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ فِي إِفْرَاد الْعَاشِر. وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى هَذَا، وَقِيلَ: لِلِاحْتِيَاطِ فِي تَحْصِيل عَاشُورَاء، وَالْأَوَّل أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1915- سبق شرحه بالباب.
1916- سبق شرحه بالباب.
1917- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب مَنْ أَكَلَ فِي عَاشُورَاء فَلْيَكُفَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ):

قَوْله: «مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامه إِلَى اللَّيْل»، وَفِي رِوَايَة: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّة يَوْمه» مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ مَنْ كَانَ نَوَى الْصوم فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ وَلَمْ يَأْكُل، أَوْ أَكَلَ فَلْيمسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمه، حُرْمَةً لِلْيَوْمِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَ يَوْم الشَّكّ مُفْطِرًا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَان يَجِب إِمْسَاك بَقِيَّة يَوْمه حُرْمَة لِلْيَوْمِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِهَذَا الْحَدِيث لِمَذْهَبِهِ: أَنَّ صَوم رَمَضَان وَغَيْره مِنْ الْفَرْض يَجُوز نِيَّتُهُ فِي النَّهَار، وَلَا يُشْتَرَط تَبْيِيتُهَا، قَالَ: لِأَنَّهُمْ نَوَوْا فِي النَّهَار وَأَجْزَأَهُمْ، قَالَ الْجُمْهُور: لَا يَجُوز رَمَضَان وَلَا غَيْره مِنْ الصَّوْم الْوَاجِب إِلَّا بِنِيَّة منْ اللَّيْل، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيث: بِأَنَّ الْمُرَاد إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لَا حَقِيقَةُ الصَّوْمِ. وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ أَكَلُوا ثُمَّ أُمِرُوا بِالْإِتْمَامِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَة وَغَيْره عَلَى أَنَّ شَرْط إِجْزَاء النِّيَّة فِي النَّهَار فِي الْفَرْض وَالنَّفْل أَلَّا يَتَقَدَّمَهَا مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَجَوَاب آخَر: أَنَّ صَوْم عَاشُورَاء لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عِنْد الْجُمْهُور كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّل الْبَاب، وَإِنَّمَا كَانَ سُنَّة مُتَأَكِّدَةً. وَجَوَابٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ لَيْسَ فيه أَنَّهُ يُجْزِيهِمْ وَلَا يَقْضُونَهُ، بَلْ لَعَلَّهُمْ قَضَوْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «فَأَتِمُّوا بَقِيَّة يَوْم وَاقْضُوهُ».
قَوْله: «اللُّعْبَة مِنْ الْعِهْن» هُوَ الصُّوف مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الصُّوف الْمَصْبُوغ.
قَوْله: «فَنَجْعَل لَهُمْ اللُّعْبَة مِنْ الْعِهْن فَإِذَا بَكَى أَحَدهمْ عَلَى الطَّعَام أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْد الْإِفْطَار» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «عِنْد الْإِفْطَار».
قَالَ الْقَاضِي: فيه مَحْذُوفٌ، وَصَوَابه: حَتَّى يَكُون عِنْد الْإِفْطَار، فَبِهَذَا يَتِمُّ الْكَلَامُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة مُسَدَّدٍ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُمْ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ» وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَمْرِينُ الصِّبْيَان عَلَى الطَّاعَات، وَتَعْوِيدُهُمْ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَة أَنَّهُمْ مَتَى أَطَاقُوا الصَّوْم وَجَبَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا غَلَطٌ مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح: «رُفِعَ الْقَلَم عَنْ ثَلَاثَة: عَنْ الصَّبِيّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»، وَفِي رِوَايَة: «يَبْلُغَ». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1918- سبق شرحه بالباب.
1919- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب النَّهْي عَنْ صَوْم يَوْم الْفِطْر وَيَوْم الْأَضْحَى):

فيه: عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَأَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْم يَوْم الْفِطْر وَيَوْم الْأَضْحَى» وَعَنْ اِبْن عُمَر نَحْوه.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم صَوْم هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بِكُلِّ حَال، سَوَاء صَامَهُمَا عَنْ نَذْرٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُمَا مُتَعَمِّدًا لِعَيْنِهِمَا، قَالَ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَنْعَقِدُ، وَيَلْزَمهُ قَضَاؤُهُمَا، قَالَ: فَإِنْ صَامَهُمَا أَجْزَاهُ، وَخَالَفَ النَّاس كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ.
1920- قَوْله: (شَهِدْت الْعِيد مَعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فَجَاءَ فَصَلَّى ثُمَّ اِنْصَرَفَ فَخَطَبَ النَّاس فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامهمَا) فيه: تَقْدِيم صَلَاة الْعِيد عَلَى خُطْبَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي بَابه؛ وَفيه: تَعْلِيم الْإِمَام فِي خُطْبَتِهِ مَا يَتَعَلَّق بِذَلِكَ الْعِيد مِنْ أَحْكَام الشَّرْع مِنْ مَأْمُورٍ بِهِ وَمَنْهِيٍّ عَنْهُ.
قَوْله: (يَوْم فِطْرِكُمْ) أَيْ أَحَدُهُمَا يَوْم فِطْركُمْ.
1924- قَوْله: (جَاءَ رَجُل إِلَى اِبْن عُمَر فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْت أَنْ أَصُومَ يَوْمًا، فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ فِطْر، فَقَالَ اِبْن عُمَر: أَمَرَ اللَّه بِوَفَاءِ النَّذْر، وَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْم هَذَا الْيَوْم) مَعْنَاهُ: أَنَّ اِبْن عُمَر تَوَقَّفَ عَنْ الْجَزْم بِجَوَابِهِ؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّة عِنْده، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ نَذَرَ صَوْم الْعِيد مُعَيَّنًا كَمَا قَدِمْنَاهُ قَرِيبًا.
وَأَمَّا هَذَا الَّذِي نَذَرَ صَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ مَثَلًا فَوَافَقَ يَوْم الْعِيد، فَلَا يَجُوز لَهُ صَوْم الْعِيد بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَلْزَمهُ قَضَاؤُهُ؟ فيه خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ، وَفيه لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِب قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ لَفْظه لَمْ يَتَنَاوَل الْقَضَاء، وَإِنَّمَا يَجِب قَضَاء الْفَرَائِض بِأَمْرٍ جَدِيدٍ عَلَى الْمُخْتَار عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَادَفَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ فِي الْأَصَحّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَمِل أَنَّ اِبْن عُمَر عَرَضَ لَهُ بِأَنَّ الِاحْتِيَاط لَك الْقَضَاء؛ لِتَجْمَعَ بَيْنَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.(بَاب تَحْرِيم صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق):

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام أَكْلٍ وَشُرْبٍ»، وَفِي رِوَايَة: «وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وَفِي رِوَايَة: «أَيَّام مِنًى»، وَفيه دَلِيل لِمَنْ قَالَ: لَا يَصِحّ صَوْمهَا بِحَالٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَابْن الْمُنْذِر وَغَيْرهمَا، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء: يَجُوز صِيَامُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ تَطَوُّعًا وَغَيْره، حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام وَابْن عُمَر وَابْن سِيرِينَ، وَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ: يَجُوز صَوْمهَا لِلتَّمَتُّعِ إِذَا لَمْ يَجِد الْهَدْي، وَلَا يَجُوز لِغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَنْ اِبْن عُمَر وَعَائِشَة قَالَا: لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ.
وَأَيَّام التَّشْرِيق ثَلَاثَةٌ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَشْرِيقِ النَّاسِ لُحُومَ الْأَضَاحِيّ فيها، وَهُوَ تَقْدِيدُهَا وَنَشْرُهَا فِي الشَّمْسِ، وَفِي الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب الْإِكْثَار مِنْ الذِّكْر فِي هَذِهِ الْأَيَّام مِنْ التَّكْبِير وَغَيْره.
قَوْله: (عَنْ نُبَيْشَة الْهُذَلِيّ) هُوَ بِضَمِّ النُّون وَفَتْح الْبَاء الْمُوَحَّدَةِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة، وَهُوَ نُبَيْشَة بْن عَمْرو بْن عَوْف بْن سَلَمَةَ.
1926- سبق شرحه بالباب.
1927- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب كَرَاهَة صِيَام يَوْم الْجُمُعَة مُنْفَرِدًا):

قَوْله: (سَأَلْت جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَهُوَ يَطُوف بِالْبَيْتِ أَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَام يَوْم الْجُمُعَة؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ) وَفِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَصُمْ أَحَدكُمْ يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَنْ يَصُوم قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ».
وَفِي رِوَايَة: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَة الْجُمُعَة بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِيِ، وَلَا تَخُصُّوا يَوْم الْجُمُعَة بِصِيَامٍ مِنْ بَيْن الْأَيَّام، إِلَّا أَنْ يَكُون فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول: «تَخْتَصُّوا لَيْلَة الْجُمُعَة، وَلَا تَخُصُّوا يَوْم الْجُمُعَة» بِإِثْبَاتِ تَاءٍ فِي الْأَوَّلِ بَيْن الْخَاء وَالصَّاد وَبِحَذْفِهَا فِي الثَّانِي، وَهُمَا صَحِيحَانِ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الدَّلَالَة الظَّاهِرَة لِقَوْلِ جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِمْ، وَأَنَّهُ يُكْرَه إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بِالصَّوْمِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً لَهُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِيَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ وَافَقَ عَادَةً لَهُ بِأَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ شِفَاءِ مَرِيضِهِ أَبَدًا، فَوَافَقَ يَوْم الْجُمُعَة لَمْ يُكْرَهْ؛ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث.
وَأَمَّا قَوْل مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْم وَالْفِقْه، وَمَنْ بِهِ يُقْتَدَى نَهَى عَنْ صِيَام يَوْم الْجُمُعَة، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْض أَهْل الْعِلْم يَصُومهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي رَآهُ، وَقَدْ رَأَى غَيْره خِلَاف مَا رَأَى هُوَ، وَالسُّنَّة مُقَدَّمَة عَلَى مَا رَآهُ هُوَ وَغَيْره، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْي عَنْ صَوْم يَوْم الْجُمُعَة، فَيَتَعَيَّن الْقَوْل بِهِ. وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ.
قَالَ الدَّاوُدِيّ مِنْ أَصْحَاب مَالِك: لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيث، وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي النَّهْي عَنْهُ: أَنَّ يَوْم الْجُمُعَة يَوْم دُعَاء وَذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ: مِنْ الْغُسْل وَالتَّبْكِير إِلَى الصَّلَاة وَانْتِظَارهَا وَاسْتِمَاع الْخُطْبَة وَإِكْثَار الذِّكْر بَعْدَهَا؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَات فِي يَوْمهَا، فَاسْتُحِبَّ الْفِطْر فيه، فَيَكُون أَعْوَنَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْوَظَائِف وَأَدَائِهَا بِنَشَاطٍ وَانْشِرَاحٍ لَهَا، وَالْتِذَاذٍ بِهَا مِنْ غَيْر مَلَلٍ وَلَا سَآمَةٍ، وَهُوَ نَظِير الْحَاجّ يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَةَ، فَإِنَّ السُّنَّة لَهُ الْفِطْر كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره لِهَذِهِ الْحِكْمَة، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ النَّهْي وَالْكَرَاهَة بِصَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لِبَقَاءِ الْمَعْنَى، فَالْجَوَاب: أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ بِفَضِيلَةِ الصَّوْم الَّذِي قَبْله أَوْ بَعْده مَا يَجْبُر مَا قَدْ يَحْصُل مِنْ فُتُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي وَظَائِفِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ صَوْمِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَد فِي الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَنْ إِفْرَاد صَوْم الْجُمُعَة، وَقِيلَ: سَبَبه خَوْف الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيمه، بِحَيْثُ يُفْتَتَن بِهِ كَمَا اُفْتُتِنَ قَوْمٌ بِالسَّبْتِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مُنْتَقَضٌ بِصَلَاةِ الْجُمُعَة وَغَيْرهَا مِمَّا هُوَ مَشْهُور مِنْ وَظَائِف يَوْم الْجُمُعَة وَتَعْظِيمه، وَقِيلَ: سَبَب النَّهْي لِئَلَّا يُعْتَقَد وُجُوبُهُ، وَهَذَا ضَعِيف مُنْتَقَضٌ بِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ صَوْمُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى هَذَا الِاحْتِمَال الْبَعِيد، وَبِيَوْمِ عَرَفَة وَيَوْم عَاشُورَاء وَغَيْر ذَلِكَ، فَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث النَّهْي الصَّرِيح عَنْ تَخْصِيص لَيْلَة الْجُمُعَة بِصَلَاةٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِيِ، وَيَوْمِهَا بِصَوْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى كَرَاهِيَته، وَاحْتَجَّ بِهِ الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة هَذِهِ الصَّلَاة الْمُبْتَدَعَة الَّتِي تُسَمَّى الرَّغَائِب- قَاتَلَ اللَّه وَاضِعَهَا وَمُخْتَرَعَهَا- فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ الْبِدَع الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ وَجَهَالَةٌ، وَفيها مُنْكَرَات ظَاهِرَة، وَقَدْ صَنَّفَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّة مُصَنَّفَاتٍ نَفِيسَةً فِي تَقْبِيحهَا وَتَضْلِيل مُصَلِّيهَا وَمُبْتَدِعِهَا، وَدَلَائِل قُبْحِهَا وَبُطْلَانهَا وَتَضْلِيل فَاعِلهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَر. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1928- سبق شرحه بالباب.
1929- سبق شرحه بالباب.
1930- سبق شرحه بالباب.