فصل: (بَاب جَوَاز صَوْم النَّافِلَة بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَار قَبْل الزَّوَالِ وَجَوَاز فِطْر الصَّائِم نَفْلًا مِنْ غَيْر عُذْر):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب بَيَان نَسْخ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}):

قَوْله: (عَنْ سَلَمَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَة الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا)، وَفِي رِوَايَة: (قَالَ كُنَّا فِي رَمَضَان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْأُولَى هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَخْصُوصَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُور: مَنْسُوخَة، كَقَوْلِ سَلَمَة، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا هَلْ بَقِيَ مِنْهَا مَا لَمْ يُنْسَخْ؟ فَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر وَالْجُمْهُور أَنَّ حُكْم الْإِطْعَام بَاقٍ عَلَى مَنْ لَمْ يُطِقْ الصَّوْمَ لِكِبَرٍ، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف وَمَالِك وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: جَمِيع الْإِطْعَام مَنْسُوخٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْكَبِير إِذَا لَمْ يُطِقْ الصَّوْمَ إِطْعَامٌ، وَاسْتَحَبَّهُ لَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَتْ الرُّخْصَةُ لِكَبِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ نُسِخَ فيه، وَبَقِيَ فِيمَنْ لَا يُطِيقُ، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره: نَزَلَتْ فِي الْكَبِير وَالْمَرِيض اللَّذَيْنِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الصَّوْم، فَهِيَ عِنْده مَحْكَمَةٌ، لَكِنَّ الْمَرِيض يَقْضِي إِذَا بَرِئَ، وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا إِطْعَام عَلَى الْمَرِيض، وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ: هِيَ مَحْكَمَةٌ، وَنَزَلَتْ فِي الْمَرِيض يُفْطِر ثُمَّ يَبْرَأُ، وَلَا يَقْضِي حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ، فَيَلْزَمُهُ صَوْمُهُ ثُمَّ يَقْضِي بَعْدَهُ مَا أَفْطَرَ، وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَأَمَّا مَنْ اِتَّصَلَ مَرَضُهُ بِرَمَضَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ، بَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاء فَقَطْ، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيُّ وَغَيْره: وَالضَّمِير فِي: {يُطِيقُونَهُ} عَائِدٌ عَلَى الْإِطْعَام لَا عَلَى الصَّوْم، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، فَهِيَ عِنْده عَامَّة، ثُمَّ جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْإِطْعَام عَنْ كُلّ يَوْم مُدٍّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: مُدَّانِ، وَوَافَقَهُ صَاحِبَاهُ، وَقَالَ أَشْهَب الْمَالِكِيّ: مُدٌّ وَثُلُث لِغَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّ الْمَرَض الْمُبِيح لِلْفِطْرِ هُوَ مَا يَشُقُّ مَعَهُ الصَّوْمُ، وَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ لِكُلِّ مَرِيضٍ. هَذَا آخِر كَلَامِ الْقَاضِي.
1931- سبق شرحه بالباب.
1932- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب قَضَاء رَمَضَان فِي شَعْبَان):

قَوْله عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ يَكُون عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَان، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِرَسُولِ اللَّه» وَفِي رِوَايَة: قَالَتْ: «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (الشُّغْلُ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَرْفُوعٌ، أَيْ يَمْنَعُنِي الشُّغْلُ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْنِي بِالشُّغْلِ وَبِقَوْلِهَا فِي الْحَدِيث الثَّانِي: «فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ» أَنَّ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ كَانَتْ مُهَيِّئَةً نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَرَصِّدَةً لِاسْتِمْتَاعِهِ فِي جَمِيع أَوْقَاتهَا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، وَلَا تَدْرِي مَتَى يُرِيدُهُ، وَلَمْ تَسْتَأْذِنْهُ فِي الصَّوْم مَخَافَةَ أَنْ يَأْذَنَ، وَقَدْ يَكُون لَهُ حَاجَةٌ فيها فَتُفَوِّتهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ الْأَدَب.
وَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة لَا يَحِلُّ لَهَا صَوْمُ التَّطَوُّعِ وَزَوْجهَا حَاضِر إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة السَّابِق فِي صَحِيح مُسْلِم فِي كِتَاب الزَّكَاة، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَصُومُهُ فِي شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ مُعْظَمَ شَعْبَانَ فَلَا حَاجَةَ لَهُ فيهنَّ حِينَئِذٍ فِي النَّهَار؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ شَعْبَان يَضِيقُ قَضَاءُ رَمَضَان، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ.
وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير السَّلَف وَالْخَلَف: أَنَّ قَضَاء رَمَضَان فِي حَقّ مَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ كَحَيْضٍ وَسَفَرٍ يَجِب عَلَى التَّرَاخِي، وَلَا يُشْتَرَط الْمُبَادَرَةُ بِهِ فِي أَوَّل الْإِمْكَان، لَكِنْ قَالُوا: لَا يَجُوز تَأْخِيره عَنْ شَعْبَان الْآتِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ حِينَئِذٍ إِلَى زَمَانٍ لَا يَقْبَلُهُ وَهُوَ رَمَضَانُ الْآتِي، فَصَارَ كَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْمَوْت.
وَقَالَ دَاوُدُ: تَجِب الْمُبَادَرَة بِهِ فِي أَوَّل يَوْم بَعْد الْعِيد مِنْ شَوَّال، وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا يَرُدّ عَلَيْهِ، قَالَ الْجُمْهُور: وَيُسْتَحَبّ الْمُبَادَرَة بِهِ لِلِاحْتِيَاطِ فيه، فَإِنْ أَخَّرَهُ فَالصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْفُقَهَاء وَأَهْل الْأُصُول أَنَّهُ يَجِب الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي جَمِيع الْوَاجِب الْمُوَسَّع، إِنَّمَا يَجُوز تَأْخِيره بِشَرْطِ الْعَزْم عَلَى فِعْله، حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ بِلَا عَزْمٍ عَصَى، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَط الْعَزْم، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْل خُرُوج شَعْبَانَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ فِي تَرْكِهِ، عَنْ كُلّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، هَذَا إِذَا كَانَ تَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاء فَلَمْ يَقْضِ، فَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَان بِعُذْرٍ ثُمَّ اِتَّصَلَ عَجْزُهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الصَّوْم حَتَّى مَاتَ فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ، وَلَا يُصَامُ عَنْهُ، وَمَنْ أَرَادَ قَضَاء صَوْم رَمَضَان نُدِبَ مُرَتَّبًا مُتَوَالِيًا، فَلَوْ قَضَاهُ غَيْرَ مُرَتَّبٍ أَوْ مُفَرَّقًا جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّ اِسْم الصَّوْم يَقَع عَلَى الْجَمِيع، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأَهْل الظَّاهِر: يَجِب تَتَابُعُهُ كَمَا يَجِبُ الْأَدَاءُ.
1933- سبق شرحه بالباب.
1934- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب قَضَاء الصِّيَام عَنْ الْمَيِّت):

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس: «أَنَّ اِمْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم شَهْرٍ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْن اللَّه أَحَقّ بِالْقَضَاءِ»، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس: (جَاءَ رَجُل... وَذَكَرَ نَحْوه).
وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم نَذْر أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْته أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّك» وَفِي حَدِيث بُرَيْدَةَ: «قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَتْهُ اِمْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْت عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: وَجَبَ أَجْرُك وَرَدُّهَا عَلَيْك الْمِيرَاثَ، قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْم شَهْر أَفَأَصُوم عَنْهَا؟ قَالَ: صَوْمِي عَنْهَا. قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا. قَالَ: حُجِّي عَنْهَا». وَفِي رِوَايَة: «صَوْم شَهْرَيْنِ».
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْم وَاجِب مِنْ رَمَضَان، أَوْ قَضَاء أَوْ نَذْر أَوْ غَيْره، هَلْ يُقْضَى عَنْهُ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَة قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَشْهَرُهُمَا: لَا يُصَام عَنْهُ، وَلَا يَصِحّ عَنْ مَيِّت صَوْم أَصْلًا.
وَالثَّانِي: يُسْتَحَبّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُوم عَنْهُ، وَيَصِحّ صَوْمه عَنْهُ وَيَبْرَأُ بِهِ الْمَيِّتُ، وَلَا يَحْتَاج إِلَى إِطْعَامٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابنَا الْجَامِعُونَ بَيْن الْفِقْه وَالْحَدِيث لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة، وَأَمَّا الْحَدِيث الْوَارِد: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام أُطْعِمَ عَنْهُ» فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيث بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَوَاز الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ يَقُول بِالصِّيَامِ يَجُوز عِنْده الْإِطْعَام، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّوَابَ الْمُتَعَيِّنَ تَجْوِيزُ الصِّيَامِ، وَتَجْوِيز الْإِطْعَام، وَالْوَلِيّ مُخَيَّرٌ بَيْنهمَا، وَالْمُرَاد بِالْوَلِيِّ الْقَرِيب، سَوَاء كَانَ عَصَبَةً أَوْ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد الْوَارِث، وَقِيلَ: الْعَصَبَة، وَالصَّحِيح الْأَوَّل، وَلَوْ صَامَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيّ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا فِي الْأَصَحّ، وَلَا يَجِب عَلَى الْوَلِيّ الصَّوْم عَنْهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ.
هَذَا تَلْخِيص مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَة، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنْ السَّلَف: طَاوُسٌ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَأَبُو ثَوْر، وَبِهِ قَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد فِي صَوْم النَّذْر دُون رَمَضَان وَغَيْره، وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ مَيِّت لَا نَذْر وَلَا غَيْره، حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، وَرِوَايَة عَنْ الْحَسَن وَالزُّهْرِيّ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره: هُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ، وَأَيُّ ضَرُورَةٍ إِلَيْهِ وَأَيُّ مَانِع يَمْنَع مِنْ الْعَمَل بِظَاهِرِهِ مَعَ تَظَاهُرِ الْأَحَادِيثِ، مَعَ عَدَم الْمُعَارِض لَهَا، قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابنَا: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ صَلَاةٌ فَائِتَة، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُصَام عَنْ أَحَد فِي حَيَاته، وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي الْمَيِّت. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن عَبَّاس: (إِنَّ السَّائِل رَجُل)، وَفِي رِوَايَة: (اِمْرَأَة)، وَفِي رِوَايَة: (صَوْم شَهْر)، وَفِي رِوَايَة (صَوْم شَهْرَيْنِ) فَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا، فَسَأَلَ تَارَة رَجُل، وَتَارَة اِمْرَأَة، وَتَارَة عَنْ شَهْر، وَتَارَة عَنْ شَهْرَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز صَوْم الْوَلِيِّ عَنْ الْمَيِّت كَمَا ذَكَرْنَا، وَجَوَاز سَمَاع كَلَام الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة فِي الِاسْتِفْتَاء وَنَحْوه مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ، وَصِحَّةُ الْقِيَاسِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» وَفيها: قَضَاءُ الدَّيْن عَنْ الْمَيِّت، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَيْهِ، وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْره فَيَبْرَأُ بِهِ بِلَا خِلَاف. وَفيه دَلِيل لِمَنْ يَقُول: إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن لِلَّهِ تَعَالَى وَدَيْن لِآدَمِيٍّ وَضَاقَ مَالُهُ، قُدِّمَ دَيْن اللَّه تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَدَيْن اللَّه أَحَقّ بِالْقَضَاءِ».
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهَا: تَقْدِيم دَيْن اللَّه تَعَالَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي: تَقْدِيم دَيْن الْآدَمِيّ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ.
وَالثَّالِث: هُمَا سَوَاء، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا.
وَفيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى وَجْه الدَّلِيل إِذَا كَانَ مُخْتَصَرًا وَاضِحًا، وَبِالسَّائِلِ إِلَيْهِ حَاجَة، أَوْ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ عَلَى دَيْن الْآدَمِيّ، تَنْبِيهًا عَلَى وَجْه الدَّلِيل. وَفيه: أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ثُمَّ وَرِثَهُ لَمْ يُكْرَه لَهُ أَخْذُهُ وَالتَّصَرُّف فيه، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَرَادَ شِرَاءَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَه لِحَدِيثِ فَرَسِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
فيه دَلَالَة ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْحَجّ جَائِزَة عَنْ الْمَيِّت وَالْعَاجِز الْمَأْيُوس مِنْ بُرْئِهِ، وَاعْتَذَرَ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ مُخَالَفَة مَذْهَبهمْ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث فِي الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت وَالْحَجّ عَنْهُ، بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَهَذَا عُذْر بَاطِل، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث اِضْطِرَاب، وَإِنَّمَا فيه اِخْتِلَاف جَمَعْنَا بَيْنَهُ كَمَا سَبَقَ، وَيَكْفِي فِي صِحَّته اِحْتِجَاجُ مُسْلِمٍ بِهِ فِي صَحِيحِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (عَنْ مُسْلِم الْبَطِين) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ.
1935- سبق شرحه بالباب.
1936- سبق شرحه بالباب.
1937- سبق شرحه بالباب.
1938- سبق شرحه بالباب.
1939- سبق شرحه بالباب.

.باب الصَّائِمِ يُدْعَى لِطَعَامٍ أَوْ يُقَاتَلُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ:

1940- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدكُمْ إِلَى طَعَام وَهُوَ صَائِم فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» وَفِي رِوَايَة: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَجْهَل، فَإِنْ اِمْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِم.. إِنِّي صَائِم». قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا إِذَا دُعِيَ وَهُوَ صَائِم: «فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِم» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَقُول لَهُ اِعْتِذَارًا لَهُ وَإِعْلَامًا بِحَالِهِ، فَإِنْ سَمَحَ لَهُ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِالْحُضُورِ سَقَطَ عَنْهُ الْحُضُور، إِنْ لَمْ يَسْمَح وَطَالَبَهُ بِالْحُضُورِ لَزِمَهُ الْحُضُور، وَلَيْسَ الصَّوْم عُذْرًا فِي إِجَابَة الدَّعْوَة، وَلَكِنْ إِذَا حَضَرَ لَا يَلْزَمهُ الْأَكْل وَيَكُون الصَّوْم عُذْرًا فِي تَرْكِ الْأَكْلِ، بِخِلَافِ الْمُفْطِر فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ الْأَكْل عَلَى أَصَحّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا، كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- فِي بَابه.
وَالْفَرْق بَيْن الصَّائِم وَالْمُفْطِر مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا الْأَفْضَل لِلصَّائِمِ فَقَالَ أَصْحَابنَا: إِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَى صَاحِب الطَّعَام صَوْمُهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْفِطْر، وَإِلَّا فَلَا، هَذَا إِذَا كَانَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ صَوْمًا وَاجِبًا حَرُمَ الْفِطْر.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهُ لَا بَأْس بِإِظْهَارِ نَوَافِل الْعِبَادَة مِنْ الصَّوْم وَالصَّلَاة وَغَيْرهمَا إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَالْمُسْتَحَبّ إِخْفَاؤُهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَة، وَفيه: الْإِشَارَة إِلَى حُسْن الْمُعَاشَرَة، وَإِصْلَاح ذَات الْبَيْن، وَتَأْلِيف الْقُلُوب، وَحُسْن الِاعْتِذَار عِنْد سَبَبه.

.باب حِفْظِ اللِّسَانِ لِلصَّائِمِ:

1941- الْحَدِيث فيه نَهْيُ الصَّائِمِ عَنْ الرَّفَث، وَهُوَ السُّخْف وَفَاحِش الْكَلَام، يُقَال: (رَفَث) بِفَتْحِ الْفَاء، (يَرْفُث) بِضَمِّهَا وَكَسْرِهَا، و(رَفِثَ) بِكَسْرِهَا، (يَرْفُث) بِفَتْحِهَا رَفْثًا بِسُكُونِ الْفَاء فِي الْمَصْدَر وَرَفَثًا بِفَتْحِهَا فِي الِاسْم، وَيُقَال: (أَرْفَثَ) رُبَاعِيٌّ حَكَاهُ الْقَاضِي، وَالْجَهْل قَرِيب مِنْ الرَّفَث، وَهُوَ خِلَاف الْحِكْمَة وَخِلَاف الصَّوَاب، مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ اِمْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ» مَعْنَاهُ شَتَمَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُشَاتَمَتِهِ، وَمَعْنَى قَاتَلَهُ: نَازَعَهُ وَدَافَعَهُ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. إِنِّي صَائِمٌ» هَكَذَا هُوَ مَرَّتَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ؛ فَقِيلَ: يَقُولهُ بِلِسَانِهِ جَهْرًا يَسْمَعهُ الشَّاتِم وَالْمُقَاتِل فَيَنْزَجِر غَالِبًا، وَقِيلَ: لَا يَقُولهُ بِلِسَانِهِ، بَلْ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ؛ لِيَمْنَعَهَا مِنْ مُشَاتَمَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ وَيَحْرِص صَوْمَهُ عَنْ الْمُكَدِّرَات، وَلَوْ جَمَعَ بَيْن الْأَمْرَيْنِ كَانَ حَسَنًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَهْيَ الصَّائِمِ عَنْ الرَّفَث وَالْجَهْل وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَة لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ، بَلْ كُلّ أَحَد مِثْله فِي أَصْل النَّهْي عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ الصَّائِم آكَدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب فَضْلِ الصِّيَامِ:

1942- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّه تَعَالَى: كُلّ عَمَلِ اِبْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ مَعَ كَوْن جَمِيع الطَّاعَات لِلَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ: سَبَب إِضَافَتِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَلَمْ يُعَظِّم الْكُفَّارُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ مَعْبُودًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ، وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالصَّدَقَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْر ذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الصَّوْم بَعِيدٌ مِنْ الرِّيَاء لِخَفَائِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاة وَالْحَجّ وَالْغَزْوَة وَالصَّدَقَة وَغَيْرهَا مِنْ الْعِبَادَات الظَّاهِرَة، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّائِمِ وَنَفْسه فيه حَظٌّ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِغْنَاء عَنْ الطَّعَام مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَقَرُّب الصَّائِم بِمَا يَتَعَلَّق بِهَذِهِ الصِّفَة وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَا الْمُنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَار ثَوَابه أَوْ تَضْعِيف حَسَنَاته وَغَيْره مِنْ الْعِبَادَات أَظْهَر سُبْحَانَهُ بَعْض مَخْلُوقَاته عَلَى مِقْدَار ثَوَابهَا، وَقِيلَ: هِيَ إِضَافَة تَشْرِيف، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَة اللَّه} مَعَ أَنَّ الْعَالَم كُلّه لِلَّهِ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان عِظَم فَضْل الصَّوْم وَحَثّ إِلَيْهِ.
وَقَوْله تَعَالَى: «وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» بَيَان لِعِظَمِ فَضْله، وَكَثْرَةِ ثَوَابه؛ لِأَنَّ الْكَرِيم إِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْجَزَاء اِقْتَضَى عِظَم قَدْر الْجَزَاء وَسَعَة الْعَطَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَخُلْفَةُ فَم الصَّائِم أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك يَوْم الْقِيَامَة» وَفِي رِوَايَة: «لَخُلُوف» هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ فيهمَا وَهُوَ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ الْفَمِ، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فيه بِضَمِّ الْخَاء، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ أَهْل الْغَرِيب، وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي كُتُب اللُّغَة، وَقَالَ الْقَاضِي: الرِّوَايَة الصَّحِيحَة بِضَمِّ الْخَاء، قَالَ: وَكَثِير مِنْ الشُّيُوخ يَرْوِيهِ بِفَتْحِهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ خَطَأٌ.
قَالَ الْقَاضِي: وَحُكِيَ عَنْ الْفَارِسِيّ فيه الْفَتْح وَالضَّمّ، وَقَالَ: أَهْل الْمَشْرِق يَقُولُونَهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَالصَّوَاب: الضَّمّ، وَيُقَال: (خَلَفَ فُوهُ) بِفَتْحِ الْخَاء وَاللَّام، (يَخْلُفُ) بِضَمِّ اللَّام، و(أَخْلَفَ يَخْلُف) إِذَا تَغَيَّرَ، وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث: فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيّ: هَذَا مَجَاز وَاسْتِعَارَة؛ لِأَنَّ اِسْتِطَابَة بَعْض الرَّوَائِح مِنْ صِفَات الْحَيَوَان الَّذِي لَهُ طَبَائِع تَمِيل إِلَى شَيْء فَتَسْتَطِيبُهُ، وَتَنْفِرُ مِنْ شَيْءٍ فَتَسْتَقْذِرُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنْ جَرَتْ عَادَتُنَا بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِح الطَّيِّبَة مِنَّا، فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ فِي الصَّوْم، لِتَقْرِيبِهِ مِنْ اللَّه تَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: يُجَازِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَة، فَتَكُون نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيح الْمِسْك، كَمَا أَنَّ دَم الشَّهِيد يَكُون رِيحه رِيح الْمِسْك.
وَقِيلَ: يَحْصُل لِصَاحِبِهِ مِنْ الثَّوَاب أَكْثَر مِمَّا يَحْصُل لِصَاحِبِ الْمِسْك.
وَقِيلَ: رَائِحَتُهُ عِنْد مَلَائِكَة اللَّه تَعَالَى أَطْيَب مِنْ رَائِحَة الْمِسْك عِنْدنَا، وَإِنْ كَانَتْ رَائِحَة الْخُلُوف عِنْدَنَا خِلَافَهُ.
وَالْأَصَحّ مَا قَالَهُ الدَّاوُدِيّ مِنْ الْمَغَارِبَة، وَقَالَهُ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابنَا: إِنَّ الْخُلُوف أَكْثَر ثَوَابًا مِنْ الْمِسْك، حَيْثُ نُدِبَ إِلَيْهِ فِي الْجَمْع وَالْأَعْيَاد وَمَجَالِس الْحَدِيث وَالذِّكْر وَسَائِر مَجَامِع الْخَيْر.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى كَرَاهَة السِّوَاك لِلصَّائِمِ بَعْد الزَّوَال؛ لِأَنَّهُ يُزِيل الْخُلُوف الَّذِي هَذِهِ صِفَته وَفَضِيلَته، وَإِنْ كَانَ السِّوَاك فيه فَضْل أَيْضًا؛ لِأَنَّ فَضِيلَة الْخُلُوف أَعْظَم وَقَالُوا: كَمَا أَنَّ دَم الشُّهَدَاء مَشْهُود لَهُ بِالطِّيبِ، وَيُتْرَك لَهُ غُسْل الشَّهِيد مَعَ أَنَّ غُسْل الْمَيِّت وَاجِب، فَإِذَا تَرَكَ الْوَاجِب لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى بَقَاء الدَّم الْمَشْهُود لَهُ بِالطِّيبِ فَتَرْك السِّوَاك الَّذِي لَيْسَ هُوَ وَاجِبًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى بَقَاء الْخُلُوفِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1943- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصِّيَام جُنَّةٌ» هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَمَعْنَاهُ: سُتْرَةٌ وَمَانِعٌ مِنْ الرَّفَثِ وَالْآثَام، وَمَانِعٌ أَيْضًا مِنْ النَّار، وَمِنْهُ (الْمِجَنّ) وَهُوَ التُّرْس، وَمِنْهُ (الْجِنّ) لِاسْتِتَارِهِمْ.
1944- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ» هَكَذَا هُوَ هُنَا بِالسِّينِ، وَيُقَال بِالسِّينِ وَالصَّاد وَهُوَ الصِّيَاح، وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَا يَجْهَل وَلَا يَرْفُث» قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ (وَلَا يَسْخَر) بِالرَّاءِ؛ قَالَ: وَمَعْنَاهُ صَحِيح، لِأَنَّ السُّخْرِيَة تَكُون بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل، وَكُلّه مِنْ الْجَهْل، قُلْت: وَهَذِهِ الرِّوَايَة تَصْحِيف وَإِنْ كَانَ لَهَا مَعْنًى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبّه فَرِحَ بِصَوْمِهِ» قَالَ الْعُلَمَاء: أَمَّا فَرْحَتُهُ عِنْد لِقَاء رَبّه فَبِمَا يَرَاهُ مِنْ جَزَائِهِ، وَتَذَكُّر نِعْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لِذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْد فِطْره فَسَبَبُهَا تَمَامُ عِبَادَتِهِ وَسَلَامَتهَا مِنْ الْمُفْسِدَات، وَمَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِهَا.
1947- قَوْله: (حَدَّثَنَا خَالِد بْن مَخْلَد الْقَطْوَانِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالطَّاء، قَالَ الْبُخَارِيّ وَالْكَلَابَاذِيّ: مَعْنَاهُ الْبَقَّال، كَأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى بَيْع الْقُطْنِيَّة، قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ الْبَاجِيّ: هِيَ قَرْيَة عَلَى بَاب الْكُوفَة، قَالَ: وَقَالَهُ أَبُو ذَرّ أَيْضًا، وَفِي تَارِيخ الْبُخَارِيّ أَنَّ قَطَوَان مَوْضِعٌ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّة بَابًا يُقَال لَهُ: الرَّيَّان، يَدْخُل مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْم الْقِيَامَة لَا يَدْخُل مَعَهُمْ أَحَد غَيْرهمْ يُقَال: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَد» هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْض الْأُصُول: «فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ»، وَفِي بَعْضهَا: «فَإِذَا دَخَلَ أَوَّلُهُمْ» قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: وَهُوَ وَهْمٌ، الصَّوَابُ: «آخِرهمْ» وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضِيلَة الصِّيَام وَكَرَامَة الصَّائِمِينَ.

.باب فَضْلِ الصِّيَامِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ يُطِيقُهُ بِلاَ ضَرَرٍ وَلاَ تَفْوِيتِ حَقٍّ:

1949- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل اللَّه بَاعَدَ اللَّه وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» فيه: فَضِيلَةُ الصِّيَامِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَا يُفَوِّتُ بِهِ حَقًّا، وَلَا يَخْتَلُّ بِهِ قِتَاله وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مُهِمَّاتِ غَزْوِهِ، وَمَعْنَاهُ: الْمُبَاعَدَةُ عَنْ النَّارِ، وَالْمُعَافَاة مِنْهَا، وَالْخَرِيف: السُّنَّة. وَالْمُرَاد: سَبْعِينَ سَنَةً.

.(بَاب جَوَاز صَوْم النَّافِلَة بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَار قَبْل الزَّوَالِ وَجَوَاز فِطْر الصَّائِم نَفْلًا مِنْ غَيْر عُذْر):

فيه حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْت: يَا رَسُول اللَّه مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ: فَإِنِّي صَائِم، قَالَتْ: فَخَرَجَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت: يَا رَسُول اللَّه أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ، أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَّأْت لَك شَيْئًا، قَالَ: مَا هُوَ. قُلْت: حَيْس، قَالَ: هَاتِيهِ؛ فَجِئْت بِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنْت أَصْبَحْت صَائِمًا»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إِذْن صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّه أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، قَالَ: أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْت صَائِمًا فَأَكَلَ» (الْحَيْس) بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة، هُوَ التَّمْر مَعَ السَّمْن وَالْأَقِطِ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: ثَرِيدَة مِنْ أَخْلَاط، وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور و(الزَّوْر) بِفَتْحِ الزَّاي الزُّوَّار، وَيَقَع الزَّوْر عَلَى الْوَاحِد وَالْجَمَاعَة الْقَلِيلَة وَالْكَثِيرَة، وَقَوْلهَا: «جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَّأْت لَك» مَعْنَاهُ: جَاءَنَا زَائِرُونَ وَمَعَهُمْ هَدِيَّة خَبَّأَتْ لَك مِنْهَا، أَوْ يَكُون مَعْنَاهُ: جَاءَنَا زَوْرٌ فَأُهْدِيَ لَنَا بِسَبَبِهِمْ هَدِيَّة، فَخَبَّأْت لَك مِنْهَا.
وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَالثَّانِيَة مُفَسِّرَةٌ لِلْأُولَى وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْقِصَّة فِي الرِّوَايَة الْأُولَى كَانَتْ فِي يَوْمَيْنِ لَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْره، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفيه دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ صَوْم النَّافِلَة يَجُوز بِنِيَّةٍ فِي النَّهَارِ قَبْل زَوَالِ الشَّمْسِ، وَيَتَأَوَّلُهُ الْآخَرُونَ عَلَى أَنَّ سُؤَاله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ».؟ لِكَوْنِهِ ضَعُفَ عَنْ الصَّوْم، وَكَانَ نَوَاهُ مِنْ اللَّيْل، فَأَرَادَ الْفِطْر لِلضَّعْفِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ، وَتَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة التَّصْرِيحُ بِالدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ صَوْم النَّافِلَة يَجُوز قَطْعُهُ، وَالْأَكْل فِي أَثْنَاء النَّهَار، وَيَبْطُلُ الصَّوْمُ، لِأَنَّهُ نَفْلٌ، فَهُوَ إِلَى خِيَرَة الْإِنْسَان فِي الِابْتِدَاء، وَكَذَا فِي الدَّوَام، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَآخَرُونَ، وَلَكِنَّهُمْ كُلّهمْ وَالشَّافِعِيّ مَعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اِسْتِحْبَاب إِتْمَامه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك: لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ وَيَأْثَم بِذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالنَّخَعِيّ، وَأَوْجَبُوا قَضَاءَهُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِلَا عُذْرٍ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَلَّا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَهُ بِعُذْرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1950- سبق شرحه بالباب.
1951- سبق شرحه بالباب.

.باب أَكْلُ النَّاسِي وَشُرْبُهُ وَجِمَاعُهُ لاَ يُفْطِرُ:

1952- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّه وَسَقَاهُ» فيه دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الصَّائِم إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لَا يُفْطِرُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَدَاوُد وَآخَرُونَ، وَقَالَ رَبِيعَة وَمَالِك: يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاء دُون الْكَفَّارَة، وَقَالَ عَطَاء وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث: يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْأَكْلِ، وَقَالَ أَحْمَد: يَجِب فِي الْجِمَاع الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة، وَلَا شَيْء فِي الْأَكْل.

.(بَاب صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْر رَمَضَان وَاسْتِحْبَاب أَنْ لَا يُخْلِي شَهْرًا عَنْ صَوْم):

فيه حَدِيث عَائِشَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَامَ شَهْرًا كُلّه إِلَّا رَمَضَان وَلَا أَفْطَرَهُ كُلّه حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ». وَفِي رِوَايَة: «يَصُوم مِنْهُ»، وَفِي رِوَايَة: «كَانَ يَصُوم حَتَّى نَقُول: قَدْ صَامَ، قَدْ صَامَ، وَيُفْطِر حَتَّى نَقُول: قَدْ أَفْطَرَ، قَدْ أَفْطَرَ»، وَفِي رِوَايَة: «يَصُوم حَتَّى نَقُول: لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُول لَا يَصُومُ وَمَا رَأَيْته فِي شَهْر أَكْثَر مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَان»، وَفِي رِوَايَة: «كَانَ يَصُوم شَعْبَان كُلّه، كَانَ يَصُوم شَعْبَان إِلَّا قَلِيلًا».
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَلَّا يُخْلِيَ شَهْرًا مِنْ صِيَام، وَفيها: أَنَّ صَوْم النَّفْل غَيْر مُخْتَصٍّ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ كُلّ السَّنَة صَالِحَة لَهُ إِلَّا رَمَضَانَ وَالْعِيدَ وَالتَّشْرِيقَ.
وَقَوْلهَا: «كَانَ يَصُوم شَعْبَان كُلّه، كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا» الثَّانِي تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَبَيَان أَنَّ قَوْلهَا كُلّه أَيْ غَالِبُهُ، وَقِيلَ: كَانَ يَصُومهُ كُلّه فِي وَقْتٍ، وَيَصُوم بَعْضَهُ فِي سَنَة أُخْرَى، وَقِيلَ: كَانَ يَصُوم تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، وَتَارَةً بَيْنَهُمَا، وَمَا يُخْلِي مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَام لَكِنْ فِي سِنِينَ، وَقِيلَ: فِي تَخْصِيص شَعْبَان بِكَثْرَةِ الصَّوْم لِكَوْنِهِ تُرْفَعُ فيه أَعْمَال الْعِبَاد، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْحَدِيث الْآخَر أَنَّ أَفْضَلَ الصَّوْم بَعْد رَمَضَان صَوْم الْمُحَرَّم فَكَيْفَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي شَعْبَان دُون الْمُحَرَّم؟ فَالْجَوَاب: لَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّم إِلَّا فِي آخِر الْحَيَاة قَبْل التَّمَكُّن مِنْ صَوْمه، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِض فيه أَعْذَارٌ تَمْنَع مِنْ إِكْثَار الصَّوْم فيه كَسَفَرٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ غَيْرَ رَمَضَانَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ.
1953- سبق شرحه بالباب.
1954- سبق شرحه بالباب.
1955- سبق شرحه بالباب.
1956- سبق شرحه بالباب.
1957- سبق شرحه بالباب.
1960- قَوْله: «سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صَوْم رَجَب، فَقَالَ: سَمِعْت اِبْن عَبَّاس يَقُول: كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم حَتَّى نَقُول: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ» الظَّاهِر أَنَّ مُرَاد سَعِيد بْن جُبَيْر بِهَذَا الِاسْتِدْلَال أَنَّهُ لَا نَهْيَ عَنْهُ، وَلَا نَدْب فيه لِعَيْنِهِ، بَلْ لَهُ حُكْم بَاقِي الشُّهُور، وَلَمْ يَثْبُت فِي صَوْم رَجَب نَهْيٌ وَلَا نَدْبٌ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ إِلَى الصَّوْم مِنْ الْأَشْهُر الْحُرُم، وَرَجَب أَحَدهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَاب النَّهْي عَنْ صَوْم الدَّهْر لِمَنْ تَضَرَّرَ بِهِ أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا أَوْ لَمْ يُفْطِرْ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق وَبَيَان تَفْضِيل صَوْم يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ):

فيه حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَدْ جَمَعَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه طُرُقَهُ فَأَتْقَنَهَا، وَحَاصِل الْحَدِيث: بَيَان رِفْق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ، وَحَثِّهِمْ عَلَى مَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، وَنَهْيهمْ عَنْ التَّعَمُّق وَالْإِكْثَار مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُخَاف عَلَيْهِمْ الْمَلَل بِسَبَبِهَا أَوْ تَرْكِهَا أَوْ تَرْكِ بَعْضِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَال مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّه لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَاب: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ»، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبه عَلَيْهِ»، وَقَدْ ذَمَّ اللَّه تَعَالَى قَوْمًا أَكْثَرُوا الْعِبَادَة ثُمَّ فَرَّطُوا فيها فَقَالَ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا اِبْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب النَّهْي عَنْ صِيَام الدَّهْر.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيه؛ فَذَهَبَ أَهْل الظَّاهِر إِلَى مَنْع صِيَام الدَّهْر نَظَرًا لِظَوَاهِر هَذِهِ الْأَحَادِيث، قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: وَذَهَبَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء إِلَى جَوَازه إِذَا لَمْ يَصُمْ الْأَيَّام الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَهِيَ الْعِيدَانِ وَالتَّشْرِيق، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه: أَنَّ سَرْد الصِّيَام إِذَا أَفْطَرَ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق لَا كَرَاهَة فيه، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبّ بِشَرْطِ أَلَّا يَلْحَقَهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يُفَوِّتَ حَقًّا، فَإِنْ تَضَرَّرَ أَوْ فَوَّتَ حَقًّا فَمَكْرُوه، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَة بْن عَمْرو، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُول اللَّه: إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْت فَصُمْ».
وَلَفْظ رِوَايَة مُسْلِم: فَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَرْد الصِّيَام، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يُقِرَّهُ، لاسيما فِي السَّفَر، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ اِبْن عُمَر اِبْن الْخَطَّاب أَنَّهُ كَانَ يَسْرُد الصِّيَام، وَكَذَلِكَ أَبُو طَلْحَة وَعَائِشَة وَخَلَائِق مِنْ السَّلَف، قَدْ ذَكَرْت مِنْهُمْ جَمَاعَة فِي شَرْح الْمُهَذَّب فِي بَاب صَوْم التَّطَوُّع، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد» بِأَجْوِبَةٍ أَحَدهَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى حَقِيقَته بِأَنْ يَصُوم مَعَهُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيق، وَبِهَذَا أَجَابَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِهِ أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ النَّهْي كَانَ خِطَابًا لِعَبْدِ اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم عَنْهُ أَنَّهُ عَجَزَ فِي آخِر عُمُرِهِ وَنَدِمَ عَلَى كَوْنه لَمْ يَقْبَل الرُّخْصَة، قَالُوا: فَنَهْي اِبْنِ عَمْرٍو كَانَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَعْجِزُ وَأَقَرَّ حَمْزَة بْن عَمْرو لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ بِلَا ضَرَرٍ.
وَالثَّالِث: أَنَّ مَعْنَى: «لَا صَامَ»: أَنَّهُ لَا يَجِد مِنْ مَشَقَّتِهِ مَا يَجِدُهَا غَيْره، فَيَكُونُ خَبَرًا لَا دُعَاءً.
1962- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّك لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ» فيه إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنْ حَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ. بِخِلَافِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو.
وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاة اللَّيْل كُلّه فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقه غَيْر مُخْتَصٍّ بِهِ، بَلْ قَالَ أَصْحَابنَا: يُكْرَه صَلَاة كُلّ اللَّيْل دَائِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا يُفَوِّتُ حَقًّا، بِأَنَّ فِي صَلَاة اللَّيْل كُلّه لابد فيها مِنْ الْإِضْرَار بِنَفْسِهِ، وَتَفْوِيت بَعْض الْحُقُوق؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنَمْ بِالنَّهَارِ فَهُوَ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ نَامَ نَوْمًا يَنْجَبِرُ بِهِ سَهَرُهُ فَوَّتَ بَعْض الْحُقُوق، بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي بَعْض اللَّيْل فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي بِنَوْمِ بَاقِيه، وَإِنْ نَامَ مَعَهُ شَيْئًا فِي النَّهَار كَانَ يَسِيرًا لَا يَفُوتُ بِهِ حَقٌّ، وَكَذَا مَنْ قَامَ لَيْلَةً كَامِلَةً كَلَيْلَةِ الْعِيد أَوْ غَيْرهَا لَا دَائِمًا لَا كَرَاهَة فيه لِعَدَمِ الضَّرَر. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَوْم يَوْم وَفِطْر يَوْم: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيه، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء: هُوَ أَفْضَل مِنْ السَّرْد؛ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث، وَفِي كَلَام غَيْره إِشَارَة إِلَى تَفْضِيل السَّرْد، وَتَخْصِيص هَذَا الْحَدِيث بِعَبْدِ اللَّه بْن عَمْرو وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ، وَتَقْدِيره: لَا أَفْضَل مِنْ هَذَا فِي حَقّك، وَيُؤَيِّد هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ حَمْزَة بْن عَمْرو عَنْ السَّرْد، وَأَرْشَدَهُ إِلَى يَوْمٍ وَيَوْمٍ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ فِي حَقِّ كُلِّ النَّاسِ لَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَبَيَّنَهُ لَهُ، فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1963- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ بِحَسْبِك أَنْ تَصُومَ» مَعْنَاهُ: يَكْفِيك أَنْ تَصُوم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِزَوْرِك عَلَيْك حَقًّا» أَيْ زَائِرك، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ قَرِيبًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ قَالَ: فِي كُلّ عِشْرِينَ، ثُمَّ قَالَ: فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ» هَذَا مِنْ نَحْو مَا سَبَقَ مِنْ الْإِرْشَاد إِلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَتْ لِلسَّلَفِ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يَقْرَءُونَ كُلَّ يَوْمٍ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَوَظَائِفِهِمْ، فَكَانَ بَعْضهمْ يَخْتِم الْقُرْآن فِي كُلّ شَهْر وَبَعْضهمْ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا، وَبَعْضُهُمْ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي سَبْعَةٍ، وَكَثِير مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَة، وَكَثِير فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة، وَبَعْضهمْ فِي كُلّ لَيْلَةٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ، وَبَعْضهمْ ثَمَان خَتَمَات وَهُوَ أَكْثَر مَا بَلَغْنَا، وَقَدْ أَوْضَحْت هَذَا كُلّه مُضَافًا إِلَى فَاعِلِيهِ وَنَاقِلِيهِ فِي كِتَاب آدَاب الْقُرَّاء، مَعَ جُمَلٍ مِنْ نَفَائِسَ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَالْمُخْتَار أَنَّهُ يُسْتَكْثَر مِنْهُ مَا يُمْكِنُهُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْتَاد إِلَّا مَا يَغْلِب عَلَى ظَنِّهِ الدَّوَامَ عَلَيْهِ فِي حَالِ نَشَاطِهِ وَغَيْره، هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ وَظَائِفُ عَامَّةٌ أَوْ خَاصَّةٌ يَتَعَطَّل بِإِكْثَارِ الْقُرْآنِ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ وَظِيفَةٌ عَامَّةٌ كَوِلَايَةٍ وَتَعْلِيمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلْيُوَظِّفْ لِنَفْسِهِ قِرَاءَة يُمْكِنُهُ الْمُحَافَظَة عَلَيْهَا مَعَ نَشَاطِهِ وَغَيْره مِنْ غَيْر إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ كَمَالِ تِلْكَ الْوَظِيفَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْ السَّلَف. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (وَدِدْت أَنِّي كُنْت قَبِلْت رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ كَبِرَ وَعَجَزَ عَنْ الْمُحَافَظَة عَلَى مَا اِلْتَزَمَهُ وَوَظَّفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَقَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا عَبْد اللَّه لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ».
وَفِي هَذَا الْحَدِيث وَكَلَام اِبْن عَمْرو أَنَّهُ يَنْبَغِي الدَّوَام عَلَى مَا صَارَ عَادَة مِنْ الْخَيْر وَلَا يُفَرَّط فيه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ لِوَلَدِك عَلَيْك حَقًّا» فيه أَنَّ عَلَى الْأَبِ تَأْدِيبَ وَلَدِهِ وَتَعْلِيمَهُ مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ وَظَائِف الدِّين، وَهَذَا التَّعْلِيم وَاجِب عَلَى الْأَب وَسَائِر الْأَوْلِيَاء قَبْل بُلُوغ الصَّبِيّ وَالصَّبِيَّة. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه: وَعَلَى الْأُمَّهَات أَيْضًا هَذَا التَّعْلِيم إِذَا لَمْ يَكُنْ أَب، لِأَنَّهُ مِنْ بَاب التَّرْبِيَة، وَلَهُنَّ مَدْخَل فِي ذَلِكَ وَأُجْرَةُ هَذَا التَّعْلِيم فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَاج إِلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1966- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْف دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى، قَالَ مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ» مَعْنَاهُ: هَذِهِ الْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ وَهِيَ عَدَمُ الْفِرَار صَعْبَة عَلَيَّ كَيْف لِي بِتَحْصِيلِهَا؟.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ. لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد» سَبَقَ شَرْحُهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ مُكَرَّر مَرَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
1967- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْن وَنَهَكَتْ» مَعْنَى (هَجَمَتْ) غَارَتْ (وَنَهَكَتْ) بِفَتْحِ النُّون وَبِفَتْحِ الْهَاء وَكَسْرهَا وَالتَّاء سَاكِنَة (الْعَيْن) أَيْ ضَعُفَتْ، وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ (نَهَكَتْ) بِضَمِّ النُّون وَكَسْر الْهَاء وَفَتْح التَّاء، أَيْ نَهَكْت أَنْتَ، أَيْ ضَنِيت، وَهَذَا ظَاهِر كَلَام الْقَاضِي.
قَوْله: (وَنَفِهَتْ النَّفْس) بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْفَاء أَيْ أَعْيَتْ. النُّون وَبِفَتْحِ الْهَاء وَكَسْرهَا وَالتَّاء سَاكِنَة (الْعَيْن) أَيْ ضَعُفَتْ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ (نُهِكْت) بِضَمِّ النُّون وَكَسْر الْهَاء وَفَتْح التَّاء، أَيْ نُهِكْت أَنْتَ، أَيْ ضَنِيت، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي.
1969- قَوْله: (حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو عَنْ عَمْرو بْن أَوْسٍ) عَمْرٌو الْأَوَّلُ هُوَ اِبْنُ دِينَارٍ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَةِ.
1971- قَوْله: «فَأَلْقَيْت لَهُ وِسَادَةً» فيه: إِكْرَام الضَّيْف وَالْكِبَار وَأَهْل الْفَضْل.
قَوْله: «فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْض وَصَارَتْ الْوِسَادَة بَيْنِي وَبَيْنَهُ» فيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوَاضُع، وَمُجَانَبَةِ الِاسْتِئْثَارِ عَلَى صَاحِبِهِ وَجَلِيسِهِ.
1973- قَوْله: (حَدَّثَنَا سَلِيم بْن حَيَّانَ) بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر اللَّام، وَقَدْ سَبَقَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيح (سَلِيمٌ) بِفَتْحِ السِّين غَيْره.
قَوْله: (سَعِيد بْن مِينَاءَ) هُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْقَصْرُ أَشْهَرُ.