فصل: (فصل) إذا قال الصحابي قولا أو فعل فعلا فقد قدمنا أنه يسمى موقوفا وهل يحتج به فيه تفصيل واختلاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(فصل):

ذكر مسلم رحمه الله في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام؛ الأول ما رواه الحفاظ المتقنون، والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون، وأنه إذا فرع من القسم الأول أتبعه الثاني، وأما الثالث فلا يعرج عليه، فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم؛ فقال الإمامان الحافظان أبو عبد الله الحاكم وصاحبه أبو بكر البيهقي رحمهما الله: إن المنية اخترمت مسلما رحمه الله قبل إخراج القسم الثاني، وإنه إنما ذكر القسم الأول. قال القاضي عياض رحمه الله: وهذا مما قبله الشيوخ والناس من الحاكم أبي عبد الله وتابعوه عليه.
قال القاضي: وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد؛ فإنك إذا نظرت تقسيم مسلم في كتابة الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال، فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ، وأنه إذا انقضى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم، ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع العلماء أو اتفق الأكثر منهم على تهمته، ونفى من اتهمه بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا، ووجدته ذكر في أبواب كتابه حديث الطبقتين الأوليين وأتى بأسانيد الثانية منهما على طريق الاتباع للأولى والاستشهاد، أو حيث لم يجد في الباب الأول شيئا، وذكر أقواما تكلم قوم فيهم وزكاهم آخرون وخرج حديثهم ممن ضعف أو اتهم ببدعة، وكذلك فعل البخاري؛ فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتب في كتابه وبينه في تقسيمه، وطرح الرابعة كما نص عليه، فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتابا، ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة، وليس ذلك مراده؛ بل إنما أراد بما ظهر من تأليفه وبان من غرضه أن يجمع ذلك في الأبواب، ويأتي بأحاديث الطبقتين، فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى استوفي جميع الأقسام الثلاثة، ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث الحفاظ ثم الذين يلونهم، والثالثة هي التي طرحها، وكذلك علل الحديث التي ذكر، ووعد أنه يأتي بها. وقد جاء بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص، وذكر تصاحيف المصحفين، وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه، وإدخاله في كتابه كما وعد به. قال القاضي رحمه الله: وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب، فما رأيت منصفا إلا صوبه وبان له ما ذكرت، وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب، ولا يعترض على هذا بما قاله بن سفيان صاحب مسلم، أن مسلما أخرج ثلاثة كتب من المسندات؛ أحدها هذا الذي قرأه على الناس، والثاني يدخل فيه عكرمة وبن إسحاق صاحب المغازي وأمثالها، والثالث يدخل فيه من الضعفاء، فإنك إذا تأملت ما ذكر بن سفيان لم يطابق الغرض الذي أشار إليه الحاكم مما ذكر مسلم في صدر كتابه، فتأمله تجده كذلك إن شاء الله تعالى.
هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا الذي اختاره ظاهر جدا. والله أعلم.

.(فصل):

ألزم الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطني رحمه الله وغيره البخاري ومسلما رضي الله عنهما إخراج أحاديث تركا إخراجها مع أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها في صحيحيهما بها، وذكر الدارقطني وغيره أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا، فيلزمهما إخراجها على مذهبيهما، وذكر البيهقي أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه، وأن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها مع أن الإسناد واحد، وصنف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما، وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة؛ فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائله، لا أنه يحصر جميع مسائله، لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلا في بابه، ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه، فالظاهر من حالها أنهما اطلعا فيه على علة إن كانا روياه، ويحتمل أنهما تركاه نسيانا، أو إيثارا لترك الإطالة، أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده، أو لغير ذلك، والله أعلم.

.(فصل): فيمن عاب على مسلم روايته في الصحيح عن جماعة من الضعفاء:

عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين، الواقعين في الطبقة الثانية، الذين ليسوا من شرط الصحيح، ولا عيب عليه في ذلك؛ بل جوابه من أوجه ذكرها الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ الله، أحدها أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر. السبب الثاني: أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد، لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح، منهم مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار وعبد الله بن عمر العمرى والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين. الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين، بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرازق وغيرهما ممن اختلط آخرا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك. الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه، مكتفيا بمعرفه أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا، وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات أولا ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته، روينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة الرازي وذكر صحيح مسلم وإنكار أبي زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري، وأنه قال أيضا: يطرق لأهل البدع علينا؛ فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح. قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة، فقال لي مسلم: إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواة الثقات. قال سعيد: وقدم مسلم بعد ذلك الري فبلغني أنه خرج إلى أبى عبد الله محمد بن مسلم بن وادة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوا مما قاله لي أبو زرعة: إن هذا يطرق لأهل البدع. فاعتذر مسلم، وقال: إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح. ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف. وإنما أخرجت هذا الحديث من الصحيح ليكون مجموعا عندي وعند من يكتبه عني، ولا يرتاب في صحته، فقبل عذره وحمده.
قال الشيخ وقد قدمنا عن مسلم أنه قال: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة. فهو هذا الذي أخرجته. قال الشيخ: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعا في مؤلف، ولله الحمد.
قال: وفيما ذكرته دليل على أن حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل وأخطأ؛ بل يتوقف ذلك على النظر في أنه كيف روى عنه على ما بيناه من انقسام ذلك، والله أعلم.

.(فصل في بيان جملة من الكتب المخرجة على صحيح مسلم):

فقد صنف جماعات من الحفاظ على صحيح مسلم كتبا، وكان هؤلاء تأخروا عن مسلم وأدركوا الأسانيد العالية، وفيهم من أدرك بعض شيوخ مسلم، فخرجوا أحاديث مسلم في مصنفاتهم المذكورة بأسانيدهم تلك.
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: فهذه الكتب المخرجة تلتحق بصحيح مسلم في أن لها سمة الصحيح وإن لم تلتحق به في خصائصه كلها، ويستفاد من مخرجاتهم ثلاث فوائد: علو الإسناد، وزيادة قوة الحديث بكثرة طرقه، وزيادة ألفاظ صحيحة مفيدة. ثم إنهم لم يلتزموا موافقته في اللفظ لكونهم يروونها بأسانيد أخر، فيقع في بعضها تفاوت، فمن هذه الكتب المخرجة على صحيح مسلم كتاب العبد الصالح أبي جعفر أحمد بن أحمد بن حمدان النيسابوري الزاهد العابد، ومنها المسند الصحيح لأبي بكر محمد بن محمد بن رجا النيسابوري الحافظ، وهو متقدم، يشارك مسلما في أكثر شيوخه، ومنها مختصر المسند الصحيح المؤلف على كتاب مسلم للحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرايني، روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم، ومنها كتاب أبي حامد الشازكي الفقيه الشافعي الهروي، يروى عن أبي يعلى الموصلي، ومنها المسند الصحيح لأبي بكر محمد بن عبد الله الجوزقي النيسابوري الشافعي، ومنها المسند المستخرج على كتاب مسلم للحافظ المصنف أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ومنها المخرج على صحيح مسلم للإمام أبي الوليد حسان بن محمد القرشي الفقيه الشافعي، وغير ذلك، والله أعلم.

.(فصل):

قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه، وقد سبقت الإشارة إلى هذا، وقد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع، وذلك في مائتي حديث مما في الكتابين، ولأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهما استدراك، ولأبي علي الغساني الجياني في كتابه تقييد المهمل في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما، وفيه ما يلزمهما، وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره، وستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

.(فصل): في معرفة الحديث الصحيح وبيان الحسن والضعيف وأنواعها:

قال العلماء: الحديث ثلاثة أقسام؛ صحيح وحسن وضعيف، ولكل قسم أنواع.
فأما الصحيح: فهو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة، فهذا متفق على أنه صحيح، فإن اختل بعض هذه الشروط ففيه خلاف وتفصيل نذكره إن شاء الله تعالى.
وقال الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم بن الخطاب الخطابي الفقيه الشافعي المتفنن: الحديث عند أهله ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وسقيم، فالصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته، والحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامة الفقهاء، والسقيم على ثلاث طبقات؛ شرها الموضوع، ثم المقلوب، ثم المجهول.
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل: الصحيح من الحديث عشرة أقسام، خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها.
فالأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم، وهو الدرجة الأولى من الصحيح، وهو أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة، له أيضا راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه من أتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط، ثم كذلك.
قال الحاكم: والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث. القسم الثاني: مثل الأول، إلا أن راويه من الصحابة ليس له إلا راو واحد.
القسم الثالث: مثل الأول إلا أن راويه من التابعين ليس له إلا راو واحد.
القسم الرابع: الأحاديث الأفراد الغرائب التي رواها الثقات العدول.
القسم الخامس: أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم بها إلا عنهم، كصحيفة عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وإياس بن معاوية عن أبيه عن جده، وأجدادهم صحابيون وأحفادهم ثقات.
قال الحاكم: فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة فيحتج بها، وإن لم يخرج منها في الصحيحين حديث، يعني غير القسم الأول.
قال: والخمسة المختلف فيها: المرسل، وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم، وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقاة، وروايات الثقاة غير الحفاظ العارفين، وروايات المبتدعة إذا كانوا صادقين. فهذا آخر كلام الحاكم، وسنتكلم عليه بعد حكاية قول الجياني إن شاء الله تعالى.
وقال أبو علي الغساني الجياني: الناقلون سبع طبقات؛ ثلاث مقبولة، وثلاث متروكة، والسابعة مختلف فيها.
فالأولى: أئمة الحديث وحفاظه، وهم الحجة على من خالفهم، ويقبل انفرادهم.
الثانية: دونهم في الحفظ والضبط لحقهم في بعض روايتهم وهم وغلط، والغالب على حديثهم الصحة، ويصحح ما وهموا فيه من رواية الأولى، وهم لاحقون بهم.
الثالثة: جنحت إلى مذاهب من الأهواء غير غالية ولا داعية، وصح حديثها وثبت صدقها وقل وهمها.
فهذه الطبقات احتمل أهل الحديث الرواية عنهم، وعلى هذه الطبقات يدور نقل الحديث.
وثلاث طبقات أسقطهم أهل المعرفة:
الأولى: من وسم بالكذب ووضع الحديث.
الثانية: من غلب عليه الغلط والوهم.
والثالثة: طائفة غلت في البدعة ودعت إليها، وحرفت الروايات وزادت فيها؛ ليحتجوا بها.
والسابعة: قوم مجهولون، انفردوا بروايات لم يتابعوا عليها، فقبلهم قوم، ووقفهم آخرون.
هذا كلام الغساني.
فأما قوله: إن أهل البدع والأهواء الذين لا يدعون إليها ولا يغلون فيها يقبلون بلا خلاف. فليس كما قال؛ بل فيهم خلاف، وكذلك في الدعاة خلاف مشهور، سنذكرهما قريبا إن شاء الله تعالى حيث ذكره الإمام مسلم رحمه الله.
وأما قوله: في المجهولين خلاف. فهو كما قال، وقد أخل الحاكم بهذا النوع من المختلف فيه.
ثم المجهول أقسام: مجهول العدالة ظاهرا وباطنا، ومجهولا باطنا مع وجودها ظاهرا، وهو المستور، ومجهول العين.
فأما الأول: فالجمهور على أنه لا يحتج به.
وأما الآخران فاحتج بهما كثيرون من المحققين.
وأما قول الحاكم: إن من لم يرو عنه إلا راو واحد فليس هو من شرط البخاري ومسلم. فمردود، غلطه الأئمة فيه بإخراجهما حديث المسيب بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب، لم يرو عنه غير ابنه سعيد، وبإخراج البخاري حديث عمرو بن تغلب: «إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إليّ». لم يرو عنه غير الحسن، وحديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي: «يذهب الصالحون» لم يرو عنه غير قيس، وبإخراج مسلم حديث رافع بن عمرو الغفاري، لم يرو عنه غير عبد الله بن الصامت، وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي، لم يرو عنه غير أبي سلمة، ونظائر في الصحيحين لهذا كثيرة، والله أعلم.
وأما الأقسام المختلف فيها فسأعقد في كل واحد منها فصلا إن شاء الله تعالى؛ ليكون أسهل في الوقوف عليه.
هذا ما يتعلق بالصحيح.
وأما الحسن فقد تقدم قول الخطابي رحمه الله: إنه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله.
وقال أبو عيسى الترمذي: الحسن ما ليس في إسناده من يتهم، وليس بشاذ، وروي من غير وجه.
وضبط الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ الله الحسن فقال: هو قسمان:
أحدهما: الذي لا يخلو إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، وليس كثير الخطأ فيما يرويه، ولا ظهر منه تعمد الكذب ولا سبب آخر مفسق، ويكون متن الحديث قد عرف؛ بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر.
القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، ولم يبلغ درجة رجال الصحيح لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان، إلا أنه مرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا.
قال: وعلى القسم الأول ينزل كلام الترمذي، وعلى الثاني كلام الخطابي، فاقتصر كل واحد منهما على قسم رآه خفيا، ولا بد في القسمين من سلامتهما من الشذوذ والعلة، ثم الحسن وإن كان دون الصحيح فهو كالصحيح في جواز الاحتجاج به، والله أعلم.
وأما الضعيف فهو ما لم يوجد فيه شروط الصحة ولا شروط الحسن، وأنواعه كثيرة؛ منها الموضوع والمقلوب والشاذ والمنكر والمعلل والمضطرب، وغير ذلك، ولهذه الأنواع حدود وأحكام وتفريعات معروفة عند أهل هذه الصنعة، وقد أتقنها مع ما يحتاج إليه طالب الحديث من الأدوات والمقدمات ويستعين به في جميع الحالات الإمام الحافظ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ في كِتَابِهِ عُلُومُ الحديث، وقد اختصرته وسهلت طريق معرفته لمن أراد تحقيق هذا الفن والدخول في زمرة أهله، ففيه من القواعد والمهمات ما يلتحق به من حققه وتكاملت معرفته له بالحفاظ المتقنين، ولا يسبقونه إلا بكثرة الاطلاع على طرق الحديث، فإن شاركهم فيها لحقهم، والله أعلم.

.(فصل في ألفاظ يتداولها أهل الحديث):

المرفوع: ما أضيف إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، لا يقع مطلقه على غيره، سواء كان متصلا أو منقطعا.
وأما الموقوف: فما أضيف إلى الصحابي قولا له أو فعلا أو نحوه، متصلا كان أو منقطعا، ويستعمل في غيره مقيدا، فيقال: حديث كذا وفقه فلان على عطاء مثلا.
وأما المقطوع: فهو الموقوف على التابعي قولا له أو فعلا، متصلا كان أو منقطعا.
وأما المنقطع: فهو ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، فإن كان الساقط رجلين فأكثر سمى أيضا معضلا - بفتح الضاد المعجمة -.
وأما المرسل: فهو عند الفقهاء وأصحاب الأصول والخطيب الحافظ أبي بكر البغدادي وجماعة من المحدثين ما انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه، فهو عندهم بمعنى المنقطع. وقال جماعات من المحدثين أو أكثرهم: لا يسمى مرسلا إلا ما أخبر فيه التابعي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم مذهب الشافعي والمحدثين أو جمهورهم وجماعة من الفقهاء أنه لا يحتج بالمرسل، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء أنه يحتج به، ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به، وذلك بأن يروى أيضا مسندا أو مرسلا من جهة أخرى، أو يعمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء، وأما مرسل الصحابي؛ وهو روايته ما لم يدركه أو يحضره، كقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بُدئ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي الرؤيا الصالحة» فمذهب الشافعي والجماهير أنه يحتج به.
وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق الإسفرايني: الشافعي لا يحتج به إلا أن يقول إنه لا يروى إلا عن صحابي، والصواب الأول.

.(فصل) إذا قال الصحابي كنا نقول أو نفعل أو يقولون أو يفعلون كذا أو كنا لا نرى أو لا يرون بأسا بكذا:

اختلفوا فيه؛ فقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي: لا يكون مرفوعا؛ بل هو موقوف. وسنذكر حكم الموقوف في فصل بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وقال الجمهور من المحدثين وأصحاب الفقه والأصول: إن لم يضفه إلى زمن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ بمرفوع؛ بل هو موقوف، وإن أضافه فقال: كنا نفعل في حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أو: في زمنه. أو: وهو فينا. أو: بين أظهرنا. أو نحو ذلك؛ فهو مرفوع، وهذا هو المذهب الصحيح الظاهر، فإنه إذا فعل في زمنه صلى الله عليه وسلم فالظاهر اطلاعه عليه وتقريره إياه صلى الله عليه وسلم، وذلك مرفوع، وقال آخرون: إن كان ذلك الفعل مما لا يخفى غالبا كان مرفوعا، وإلا كان موقوفا. وبهذا قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي، والله أعلم.
وأما إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا. أو: نهينا عن كذا. أو: من السنة كذا. فكله مرفوع على المذهب الصحيح الذي قاله الجماهير من أصحاب الفنون. وقيل: موقوف.
وأما إذا قال التابعي: من السنة كذا. فالصحيح أنه موقوف، وقال بعض أصحابنا الشافعيين: إنه مرفوع مرسل. وأما إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه أو ينهيه أو يبلغ به أو رواية. فكله مرفوع متصل بلا خلاف، أما إذا قال التابعي: كانوا يفعلون. فلا يدل على فعل جميع الأمة؛ بل على بعض الأمة، فلا حجة فيه، إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع، فيكون نقلا للإجماع، وفي ثبوته بخبر واحد خلاف.

.(فصل) إذا قال الصحابي قولا أو فعل فعلا فقد قدمنا أنه يسمى موقوفا وهل يحتج به فيه تفصيل واختلاف:

قال أصحابنا: إن ينتشر فليس هو إجماعا. وهل هو حجة؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله، وهما مشهوران، أصحهما الجديد: إنه ليس بحجة. والثاني - وهو القديم-: إنه حجة. فإن قلنا: هو حجة. قدم على القياس، ولزم التابعي وغيره العمل به، ولم تجز مخالفته.
وهل يخص به العموم؟ فيه وجهان.
وإذا قلنا ليس بحجة فالقياس مقدم عليه، ويجوز للتابعي مخالفته، فأما إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم على قولين؛ فإن قلنا بالجديد لم يجز تقليد واحد من الفريقين؛ بل يطلب الدليل، وإن قلنا بالقديم فهما دليلان تعارضا، فيرجح أحدهما على الآخر بكثرة العدد، فإن استوى العدد قدم بالأئمة، فيقدم ما عليه إمام منهم على ما لا إمام عليه، فإن كان الذي على أحدهما أكثر عددا ومع الأقل إمام فهما سواء، فإن استويا في العدد والأئمة إلا أن في أحد الشيخين أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي الآخر غيرهما ففيه وجهان لأصحابنا؛ أحدهما أنهما سواء، والثاني يقدم ما فيه أحد الشيخين، هذا كله إذا انتشر، أما إذا لم ينتشر؛ فإن خولف فحكمه ما ذكرناه، وإن لم يخالف ففيه خمسة أوجه لأصحابنا العراقيين، الأربعة الأولى منها وهي مشهورة في كتبهم في الأصول وفي أوائل كتب الفروع.
أحدها: أنه حجة وإجماع، وهذا الوجه هو الصحيح عندهم.
والثاني: أنه حجة وليس بإجماع.
والثالث: إن كان فتوى فقيه فهو حجة، وإن كان حكم إمام أو حاكم فليس بحجة، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة.
والرابع: ضده، إن كان فتيا لم يكن حجة، وإن كان حاكما أو إماما كان إجماعا.
والخامس: أنه ليس بإجماع ولا حجة، وهذا الوجه هو المختار عند الغزالي في المستصفى.
أما إذا قال التابعي قولا لم ينتشر فليس بحجة بلا خلاف، وإن انتشر وخولف فليس بحجة بلا خلاف، وإن انتشر ولم يخالف فظاهر كلام جماهير أصحابنا أن حكمه حكم قول الصحابي المنتشر من غير مخالفة، وحكى بعض أصحابنا فيه وجهين، أصحهما هذا، والثاني ليس بحجة.
قال صاحب الشامل من أصحابنا: الصحيح أنه يكون إجماعا، وهذا هو الأفقه، ولا فرق في هذا بين الصحابي والتابعي، وقد ذكرت هذا الفصل بدلائله وإيضاحه ونسبة هذه الاختلافات إلى قائلها من شرح المهذب على وجه حسن مختصر، وحذفت ذلك هنا اختصارا، والله أعلم.

.(فصل في الإسناد المعنعن):

وهو فلان عن فلان، قال بعض العلماء: هو مرسل. والصحيح الذي عليه العمل وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول: إنه متصل بشرط أن يكون المعنعن غير مدلس، وبشرط إمكان لِقَاءُ مَنْ أُضِيفَتِ الْعَنْعَنَةُ إِلَيْهِمْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف. منهم من لم يشترط شيئا من ذلك، وهو مذهب مسلم، ادعى الإجماع عليه، وسيأتي الكلام عليه حيث أذكره في أواخر مقدمة الكتاب إن شاء الله تعالى، ومنهم من شرط ثبوت اللقاء وحده، وهو مذهب علي بن المديني والبخاري وأبي بكر الصيرفي الشافعي والمحققين، وهو الصحيح، ومنهم من شرط طول الصحبة، وهو قول أبي المظفر السمعاني الفقيه الشافعي، ومنهم من شرط أن يكون معروفا بالرواية عنه، وبه قال أبو عمرو المقرئ.
وأما إذا قال: حدثنا الزهري أن بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ كَذَا أَوْ حَدَّثَ بِكَذَا أو فعل أو ذكر أو روى أو نحو ذلك؛ فقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وجماعة: لا يلتحق ذلك بعن؛ بل يكون منقطعا حتى يبين السماع. وقال الجماهير: هو كـ: عن؛ محمول على السماع بالشرط المقدم، وهذا هو الصحيح.
وفي هذا الفصل فوائد كثيرة، ينتفع بها إن شاء الله تعالى في معرفة هذا الكتاب، وسترى ما يترتب عليه من الفوائد إن شاء الله تعالى، حيث تمر بمواضيعها من الكتاب، ويستدل بذلك على غزارة علم مسلم رضي الله عنه، وشدة تحريه وإتقانه، وأنه ممن لا يساوى في هذا، بل لا يدانى رضي الله عنه.