فصل: (فصل):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(فصل):

تكرر في صحيح مسلم قوله: حدثنا فلان وفلان كليهما عن فلان. هكذا يقع في مواضع كثيرة في أكثر الأصول (كليهما) بالياء، وهو مما يستشكل من جهة العربية وحقه أن يقال (كلاهما) بالألف، ولكن استعماله بالياء صحيح، وله وجهان:
أحدهما: أن يكون مرفوعا تأكيدا للمرفوع قبله، ولكنه كتب بالياء لأجل الإمالة، ويقرأ بالألف، كما كتبوا (الربا) و(الربى) بالألف والياء، ويقرأ بالألف لا غير.
والوجه الثاني: أن يكون كليهما منصوبا، ويقرأ بالياء ويكون تقديره (أعني كليهما). وهذا ما يسره الله تعالى من الفصول، ونشرع الآن في المقصود، والله الموفق.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين).
إنما بدأ بالحمد لله لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع»، وفي رواية: «بحمد الله»، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع»، وفي رواية: «أجذم»، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله»، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم»، روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعا من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري عنه، وروينا فيه أيضا من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه، والمشهور رواية أبي هريرة، وهذا الحديث حسن، رواه أبو داود وبن ماجه في سننهما، ورواه النسائي في كتابه عمل اليوم والليلة روي موصولا ومرسلا، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى: «أقطع» قليل البركة، وكذلك: «أجذم» بالجيم والذال المعجمة، ويقال منه (جذم) بكسر الذال يجذم بفتحها، والله أعلم.
والمختار عند الجماهير من أصحاب التفسير والأصول وغيرهم أن العالم اسم للمخلوقات كلها والله أعلم.
قال رحمه الله:
(وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين).
هذا الذي فعله من ذكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحمدلة هو عادة العلماء رضي الله عنهم، وروينا بإسنادنا الصحيح المشهور من رسالة الشافعي، عن الشافعي، عن بن عيينة، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد رحمه الله، في قول الله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} قال: لا أذكر إلا ذكرت أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدا رسول الله. وروينا هذا التفسير مرفوعا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عن رب العالمين، ثم إنه ينكر على مسلم رحمه الله كونه اقتصر على الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون التسليم، وقد أمرنا الله تعالى بهما جميعا؛ فقال تعالى: {صلوا عليه وسلموا تسليما} فكان ينبغي أن يقول: وصلى الله وسلم على محمد.
فإن قيل: فقد جاءت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم غير مقرونة بالتسليم، وذلك في آخر التشهد في الصلوات؟
فالجواب: أن السلام تقدم قبل الصلاة في كلمات التشهد، وهو قوله: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ولهذا قالت الصحابة رضي الله عنهم: «يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف نصلى عليك...» الحديث.
وقد نص العلماء رضي الله عنهم على كراهة الاقتصار على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من غير تسليم، والله أعلم.
وقد ينكر على مسلم رحمه الله في هذا الكلام شيء آخر؛ وهو قوله: (وعلى جميع الأنبياء والمرسلين)، فيقال: إذا ذكر الأنبياء لا يبقى لذكر المرسلين وجه؛ لدخولهم في الأنبياء، فإن الرسول نبي وزيادة.
ولكن هذا الإنكار ضعيف، ويجاب عنه بجوابين:
أحدهما: أن هذا سائغ، وهو أن يذكر العام ثم الخاص تنويها بشأنه، وتعظيما لأمره، وتفخيما لحاله، وقد جاء في القرآن العزيز آيات كريمات كثيرات من هذا؛ مثل قوله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}، وقوله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى}، وغير ذلك من الآيات الكريمات، وقد جاء أيضا عكس هذا؛ وهو ذكر العام بعد الخاص، قال الله تعالى حكاية عن نوح صلى الله عليه وسلم: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات}، فإن ادعى متكلف أنه عنى بالمؤمنين غير من تقدم ذكره فلا يلتفت إليه.
الجواب الثاني: أن قوله: (والمرسلين) أعم من جهة أخرى؛ وهو أنه يتناول جميع رسل الله سبحانه وتعالى من الآدميين والملائكة، قال الله تعالى: {الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس} ولا يسم الملك نبيا، فحصل بقوله: (والمرسلين) فائدة لم تكن حاصلة بقوله: (النبيين)، والله أعلم.
وسمى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محمدا لكثرة خصاله المحمودة، كذا قاله بن فارس وغيره من أهل اللغة؛ قالوا: ويقال لكل كثير الخصال الجميلة محمد ومحمود، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنن الدين وأحكامه).
قال الليث وغيره من أهل اللغة: الفحص شدة الطلب والبحث عن الشيء، يقال: فحصت عن الشيء وتفحصت وافتحصت بمعنى واحد.
وقوله: (المأثورة) أي المنقولة المذكورة، يقال: أثرت الحديث. إذا نقلته عن غيرك، والله أعلم.
وقوله: (في سنن الدين وأحكامه) هو من قبيل ما قدمناه من ذكر العام بعد الخاص، فإن السنن من أحكام الدين، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(فأردت أرشدك الله أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة وسألتني أن ألخصها لك في التأليف فإن ذلك زعمت مما يشغلك).
قوله: (توقف) ضبطناه بفتح الواو وتشديد القاف، ولو قرئ بإسكان الواو وتخفيف القاف لكان صحيحا.
وقوله: (مؤلفة) أي مجموعة.
وقوله: (محصاة) أي مجتمعة كلها.
وقوله: (ألخصها) أي أبينها.
وقوله: (فإن ذلك زعمت) أي قلت، وقد كثر الزعم بمعنى القول، وفي الْحَدِيثِ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زعم جبريل»، وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه: «زعم رسولك»، وقد أكثر سيبويه في كتابه المشهور من قوله: زعم الخليل كذا. في أشياء يرتضيها سيبويه، فمعنى (زعم) في كل هذا (قال).
وقوله: (يشغلك) هو بفتح الياء، هذه اللغة الفصيحة المشهورة التي جاء بها القرآن العزيز، قال الله تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا} وفيه لغة رديئة حكاها الجوهري؛ وهي: أشغله يشغله بضم الياء.
قال رحمه الله: (وللذي سألت أكرمك الله) إلى قوله: (عاقبة محمودة).
فبقوله: (للذي) هو بكسر اللام، وهو خبر (عاقبة) وإنما ضبطه وإن كان ظاهرا لأنه مما يغلط فيه ويصحف، وقد رأيت ذلك غير مرة.
قال رحمه الله:
(وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه وقضي لي تمامه كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي).
قوله: (تجشم ذلك) أي تكلفه والتزام مشقته.
وقوله: (عزم) هو بضم العين، وهذا اللفظ مما اعتني بشرحه؛ من حيث إنه لا يجوز أن يراد بالعزم هنا حقيقته المتبادرة إلى الأفهام، وهو حصول خاطر في الذهن لم يكن، فإن هذا محال في حق الله تعالى، واختلف في المراد به هنا؛ فقيل: معناه لو سهل لي سبيل العزم أو خلق في قدرة عليه. وقيل: العزم هنا بمعنى الإرادة، فإن القصد والعزم والإرادة والنية متقاربات، فيقام بعضها مقام بعض، فعلى هذا معناه: لو أراد الله ذلك لي.
وقد نقل الأزهري وجماعة غيره أن العرب تقول: نواك الله بحفظه. قالوا: وتفسيره: قصدك الله بحفظه. وقيل: معناه: لو ألزمت ذلك. فإن العزيمة بمعنى اللزوم، ومنه قول أم عطية رضي الله عنه: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»، أي لم نلزم الترك، وفي الحديث الآخر: «يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة»، أي من غير إلزام، ومثله: قول الفقهاء: ترك الصلاة في زمن الحيض عزيمة. أي واجب على المرأة لازم لها. والله أعلم.
وقوله: (كان أول) هو برفع (أول) على أنه اسم كان.
قال رحمه الله:
(إلا بأن يوقفه على التمييز غيره).
قوله: (يوقفه) بتشديد القاف، ولا يصح أن يقرأ هنا بتخفيف القاف، بخلاف ما قدمناه في قوله: (توقف) على جملتها؛ لأن اللغة الفصيحة المشهورة: وقفت فلانا على كذا. فلو كان مخففا لكان حقه أن يقال: بأن يقفه. على التمييز، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير) ثم قال بعد هذا: (وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن وجمع المكررات لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله فذلك هو إن شاء الله يهجم بما أوتى على الفائدة).
قوله: (يهجم) هو بفتح الياء وكسر الجيم، هكذا ضبطناه، وهكذا هو في نسخ بلادنا وأصولها، وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه روي كذا وروي: ينهجم. بنون بعد الياء، قال: ومعنى (يهجم) يقع عليها ويبلغ إليها وينال بغيته منها. قال بن دريد: انهجم الخباء إذا وقع. والله أعلم.
وحاصل هذا الكلام الذي ذكره مسلم رحمه الله: أن المراد من علم الحديث تحقيق معاني المتون، وتحقيق علم الإسناد والمعلل.
والعلة عبارة عن معنى في الحديث خفي يقتضي ضعف الحديث، مع أن ظاهره السلامة منها، وتكون العلة تارة في المتن وتارة في الإسناد، وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع ولا الإسماع ولا الكتابة؛ بل الاعتناء بتحقيقه، والبحث عن خفي معاني المتون والأسانيد، والفكر في ذلك، ودوام الاعتناء به، ومراجعة أهل المعرفة به، ومطالعة كتب أهل التحقيق فيه، وتقييد ما حصل من نفائسه وغيرها، فيحفظها الطالب بقلبه، ويقيدها بالكتابة، ثم يديم مطالعة ما كتبه، ويتحرى التحقيق فيما يكتبه ويتثبت فيه، فإنه فيما بعد ذلك يصير معتمدا عليه، ويذاكر بمحفوظاته من ذلك من يشتغل بهذا الفن، سواء كان مثله في المرتبة أو فوقه أو تحته، فإن بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب كثرة المذاكرة، ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات، بل أياما، وليكن في مذاكراته متحريا الإنصاف، قاصدا الاستفادة أو الإفادة، غير مترفع على صاحبه بقلبه ولا بكلامه ولا بغير ذلك من حاله، مخاطبا له بالعبارة الجميلة اللينة، فبهذا ينمو علمه، وتزكو محفوظاته، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(وقد عجزوا عن معرفة القليل).
يقال: عجز بفتح الجيم يعجز بكسرها، هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة، وبها جاء القرآن العظيم، في قوله تعالى: {يا ويلتى أعجزت} ويقال: عجز يعجز، بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع، حكاها الأصمعي وغيره، والعجز في كلام العرب أن لا تقدر على ما تريد، وأنا عاجز وعجز.
قوله: (على شريطة) يعني شرطا، قال أهل اللغة: الشرط والشريطة لغتان بمعنى واحد، وجمع الشرط شروط، وجمع الشريطة شرائط، وقد شرط عليه كذا يشرطه ويشرطه بكسر الراء وضمها، لغتان، وكذلك اشترط عليه، والله أعلم.
قوله: (نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات).
قوله: (جملة ما أسند) يعني جملة غالبة ظاهرة، وليس المراد جميع الأخبار المسندة؛ فقد علمنا أنه لم يذكر الجميع ولا النصف، وقد قال: ليس كل حديث صحيح وضعته ها هنا. وقوله: (على ثلاث طبقات الطبقة) هم القوم المتشابهون من أهل العصر، وقد قدمنا في الفصول الخلاف في مراده بثلاثة أقسام، وهل ذكرها كلها أم لا.
وقوله: (على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك لأن معنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن).
قوله: (أو إسناد يقع) هو مرفوع معطوف على قوله: (موضع).
وقوله: (المحتاج إليه) وهو بنصب المحتاج صفة للمعنى، وأما الاختصار فهو إيجاد اللفظ مع استيفاء المعنى، وقيل: رد الكلام الكثير إلى قليل فيه معنى الكثير. وسمي اختصارا لاجتماعه، ومنه المخصرة، وخصر الإنسان.
وأما قوله: (أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث) فهذه مسألة اختلف العلماء فيها، وهي رواية بعض الحديث، فمنهم من منعه مطلقا؛ بناء على منع الرواية بالمعنى، ومنعه بعضهم وإن جازت الرواية بالمعنى، إذا لم يكن رواه هو أو غيره بتمامه قبل هذا، وجوزه جماعة مطلقا، ونسبه القاضي عياض إلى مسلم، والصحيح الذي ذهب إليه الجماهير والمحققون من أصحاب الحديث والفقه والأصول التفصيل، وجواز ذلك من العارف إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه، بحيث لا يختل البيان، ولا تختلف الدلالة بتركه، سواء جوزنا الرواية بالمعنى أم لا، وسواء رواه قبل تاما أم لا، هذا إن ارتفعت منزلته عن التهمة، فأما من رواه تاما ثم خاف إن رواه ثانيا ناقصا أن يتهم بزيادة أولا أو نسيان لغفلة وقلة ضبط ثانيا؛ فلا يجوز له النقصان ثانيا ولا ابتداء إن كان قد تعين عليه أداؤه، وأما تقطيع المصنفين الحديث الواحد في الأبواب فهو بالجواز أولى، بل يبعد طرد الخلاف فيه، وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة، من المحدثين وغيرهم من أصناف العلماء، وهذا معنى قول مسلم رحمه الله: (أو أن يفصل ذلك المعنى) إلى آخره.
وقوله: (إذا أمكن) يعني إذا وجد الشرط الذي ذكرناه على مذهب الجمهور من التفصيل.
وقوله: (ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيئة إذا ضاق ذلك أسلم) معناه ما ذكرنا؛ أنه لا يفصل إلا ما ليس مرتبطا بالباقي، وقد يعسر هذا بعض الأحاديث؛ فيكون كله مرتبطا بالباقي، أو يشك في ارتباطه، ففي هذه الحالة يتعين ذكره بتمامه وهيئته؛ ليكون أسلم، مخافة من الخطأ والزلل، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(فأما القسم الأول؛ فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم، من العيوب من غيرها، وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم).
أما قوله: (نتوخى) فمعناه نقصد، يقال: توخى وتأخى وتحرى وقصد بمعنى واحد.
وأما قوله: (وأنقى) فهو بالنون والقاف، وهو معطوف على قوله: (أسلم) وهنا تم الكلام، ثم ابتدأ بيان كونها أسلم وأنقى فقال: (من أن يكون ناقلوها أهل استقامة)، والظاهر أن لفظة (من) هنا للتعليل، فقد قال الإمام أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن عمر الأسدي في كتابه شرح اللمع في باب المفعول له: اعلم أن (الباء) تقوم مقام اللام، قال الله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}، وكذلك (من) قال الله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}.
وقال أبو البقاء في قوله تعالى: {وتثبيتا من أنفسهم}: يجوز أن يكون للتعليل، والله أعلم.
وأما قوله: (لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش) فتصريح منه بما قال الأئمة من أهل الحديث والفقه والأصول؛ أن ضبط الراوي يعرف بأن تكون روايته غالبا كما روى الثقات، لا تخالفهم إلا نادرا، فإن كانت مخالفته نادرة لم يخل ذلك بضبطه، بل يحتج به لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن كثرت مخالفته اختل ضبطه ولم يحتج برواياته، وكذلك التخليط في روايته واضطرابها؛ إن ندر لم يضر، وإن كثر ردت روايته.
وقوله: (كما قد عثر) هو بضم العين وكسر المثلثة، أي اطلع، من قول الله تعالى: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} والله أعلم.
قال رحمه الله:
(فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس؛ أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم - وإن كانوا فيما وصفنا دونهم - فإن اسم الستر والصدق وتعاطي الأخبار يشملهم؛ كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار).
قوله: (تقصينا) هو بالقاف، ومعناه أتينا بها كلها، يقال: اقتص الحديث وقصه وقص الرؤيا. أتى بذلك الشيء بكماله.
وأما قوله: (فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف أتبعناها...) إلى آخره، فقد قدمنا في الفصول بيان الاختلاف في معناه، وأنه هل وفي به في هذا الكتاب أم اخترمته المنية دون تمامه؟ والراجح أنه وفى به، والله أعلم.
وقوله: (فإن اسم الستر) هو بفتح السين، مصدر سترت الشيء أستره سترا، ويوجد في أكثر الروايات والأصول مضبوطا بكسر السين، ويمكن تصحيح هذا على أن الستر يكون بمعنى المستور، كالذبح بمعنى المذبوح ونظائره.
وقوله: (يشملهم) أي يعمهم، وهو بفتح الميم على اللغة الفصيحة، ويجوز ضمها في لغة، يقال شملهم الأمر بكسر الميم يشملهم بفتحها، هذه اللغة المشهورة، وحكى أبو عمرو الزاهد عن بن الأعرابي أيضا: شملهم بالفتح يشملهم بالضم، والله أعلم.
أما عطاء بن السائب فيكنى أبا السائب، ويقال: أبو يزيد. ويقال: أبو محمد. ويقال: أبو زيد الثقفي الكوفي التابعي. وهو ثقة، لكنه اختلط في آخر عمره، قال أئمة هذا الفن: اختلط في آخر عمره، فمن سمع منه قديما فهو صحيح السماع، ومن سمع منه متأخرا فهو مضطرب الحديث، فمن السامعين أولا سفيان الثوري وشعبة، ومن السامعين آخرا جرير وخالد بن عبد الله وإسماعيل وعلي بن عاصم. هكذا قال أحمد بن حنبل، وقال يحيى بن معين: جميع ما روي عن عطاء روي عنه في الاختلاط، إلا شعبة وسفيان. وفي رواية عن يحيى قال: وسمع أبو عوانة من عطاء في الصحة والاختلاط جميعا، فلا يحتج بحديثه.
قلت: وقد تقدم حكم التخليط والمخلط في الفصول.
وأما يزيد بن أبي زياد فيقال فيه أيضا: يزيد بن زياد. وهو قرشي دمشقي، قال الحافظ: هو ضعيف. وقال بن نمير: ويحيى بن معين ليس هو بشيء. وقال أبو حاتم ضعيف. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الترمذي: ضعيف في الحديث.
وأما ليث بن أبي سليم فضعفه الجماهير، قالوا: واختلط واضطربت أحاديثه. قالوا: وهو ممن يكتب حديثه. قال أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث ولكن حدث الناس عنه. وقال الدارقطني وبن عدي: يكتب حديثه. وقال كثيرون: لا يكتب حديثه. وامتنع كثيرون من السلف من كتابة حديثه، واسم أبي سليم أيمن، وقيل: أنس. والله أعلم.
وأما قوله: (وأضرابهم) فمعناه أشباههم وهو جمع ضرب، قال أهل اللغة: الضريب على وزن الكريم، والضرب بفتح الضاد وإسكان الراء، وهما عبارة عن الشكل والمثل، وجمع الضرب أضراب، وجمع الضريب ضربا، ككريم وكرما، وأما إنكار القاضي عياض على مسلم قوله: (وأضرابهم) وقوله: إن صوابه ضربائهم. فليس بصحيح؛ فإنه حمل قول مسلم: (وأضرابهم) على أنه جمع ضريب بالياء، وليس ذلك جمع ضريب، بل جمع ضرب بحذفها كما ذكرته فاعرفه.
وقوله: (ونقال الأخبار) هو باللام، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم - عطاء ويزيد وليثا - بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد...) إلى آخر كلامه. فقوله: (وازنت) هو بالنون، ومعناه قابلت، قال القاضي عياض: ويروى وازيت بالياء أيضا، وهو بمعنى وازنت، ثم هذا كله قد ينكر على مسلم فيه، ويقال عادة أهل العلم إذا ذكروا جماعة في مثل هذا السياق قدموا أجلهم مرتبة؛ فيقدمون الصحابي على التابعي، والتابعي على تابعه، والفاضل على من دونه، فإذا تقرر هذا فإسماعيل بن أبي خالد تابعي مشهور، رأى أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع، وسمع عبد الله بن أبي أوفي وعمرو بن حريث وقيس بن عائذ أبا كاهل وأبا جحيفة، وهؤلاء كلهم صحابة رضي الله عنهم، واسم أبي خالد هرمز، وقيل: سعد. وقيل: كثير.
وأما الأعمش فرأى أنس بن مالك فحسب.
وأما منصور بن المعتمر فليس بتابعي؛ وإنما هو من أتباع التابعين، فكان ينبغي أن يقول: إذا وازنتهم بإسماعيل والأعمش ومنصور.
وجوابه: أنه ليس المراد هنا التنبيه على مراتبهم، فلا حجر في عدم ترتيبهم، ويحتمل أن مسلما قدم منصورا لرجحانه في ديانته وعبادته، فقد كان أرجحهم في ذلك، وإن كان الثلاثة راجحين على غيرهم، مع كمال حفظ لمنصور وإتقان وتثبت، قال علي بن المديني: إذا حدثك ثقة عن منصور فقد ملأت يديك لا تزيد غيره. وقال عبد الرحمن بن المهدي: منصور أثبت أهل الكوفة. وقال سفيان: كنت لا أحدث الأعمش عن أحد من أهل الكوفة إلا رده، فإذا قلت عن منصور سكت. وقال أحمد بن حنبل منصور: أثبت من إسماعيل بن أبي خالد. وقال يحيى بن معين: إذا اجتمع الأعمش ومنصور فقدم منصورا. وقال أبو حاتم: منصور أتقن من الأعمش؛ لا يختلط ولا يدلس. وقال الثوري: ما خلفت بالكوفة آمن على الحديث من منصور. وقال أبو زرعة: سمعت إبراهيم بن موسى يقول: أثبت أهل الكوفة منصور ثم مسعر. وقال أحمد بن عبد الله: منصور أثبت أهل الكوفة، وكان مثل القدح؛ لا يختلف فيه أحد، وصام ستين سنة وقامها. وأما عبادته وزهده وورعه وامتناعه من القضاء حين أكره عليه فأكثر من أن يحصر، وأشهر من أن يذكر، رحمه الله، والله أعلم.
وهذا أول موضوع في الكتاب جرى فيه ذكر أصحاب الألقاب، فنتكلم فيه بقاعدة مختصرة؛ قال العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم: يجوز ذكر الراوي بلقبه وصفته ونسبه الذي يكرهه إذا كان المراد تعريفه لا تنقيصه، وجوز هذا للحاجة، كما جوز جرحهم للحاجة، مثال ذلك الأعمش والأعرج والأحول والأعمى والأصم والأشل والأثرم والزمن والمفلوح وبن علية، وغير ذلك، وقد صنفت فيه كتب معروفة.
قال رحمه الله:
(كابن عون وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني).
أما بن عون فهو عبد الله بن عون بن أرطبان.
وأما السختياني فبفتح السين وكسر التاء المثناة، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ: كان أيوب يبيع الجلود بالبصرة، فلهذا قيل له السختياني.
وأما عوف بن أبي جميلة فيعرف بعوف الأعرابي، ولم يكن أعرابيا، واسم أبي جميلة بندويه، ويقال: زريبة. قال أحمد بن حنبل: عوف ثقة صالح الحديث. وقال يحيى بن معين ومحمد بن سعد: هو ثقة، كنيته أبو سهل.
وأما أشعث، فهو بن عبد الملك أبو هانئ البصري، قال أبو بكر البرقاني: قلت للدارقطني: أشعث عن الحسن؟ قال: هم ثلاثة يحدثون عن الحسن جميعا، أحدهم الحمراني، منسوب إلى حمران، مولى عثمان، ثقة، وأشعث بن عبد الله الحداني، بصري، يروي عن أنس بن مالك، والحسن يعتبر به، وأشعث بن سوار الكوفي، يعتبر به، وهو أضعفهم، والله أعلم.
قوله: (إلا أن البون بينهما بعيد) البون بفتح الباء الموحدة معناه الفرق، أي هما متباعدان، كما قال وجدتهم متباينين.
وقوله: (ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبى عليه طريق أهل العلم).
أما السمة بكسر السين وتخفيف الميم فهي العلامة، وقوله: يصدر. أي يرجع، يقال: صدر عن الماء والبلاد والحج. إذا انصرف عنه بعد قضاء وطره، فمعنى يصدر عن فهمها ينصرف عنها بعد فهمها وقضاء حاجته منها، وقوله: غبى بفتح الغين وكسر الباء، أي خفي.
قال رحمه الله:
(وقد ذكر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننزل الناس منازلهم»).
هذا الحديث قد تقدم بيانه في فصل التعليق - من الفصول المتقدمة – واضحا، ومن فوائده تفاضل الناس في الحقوق على حسب منازلهم ومراتبهم، وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها، وقد سوى الشرع بينهم في الحدود وأشباهها مما هو معروف، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم؛ فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم، كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدايني وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامي ومحمد بن سعيد المصلوب وغياث بن إبراهيم وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار).
هؤلاء الجماعة المذكورون كلهم متهمون متروكون، لا يتشاغل بأحد منهم؛ لشدة ضعفهم وشهرتهم بوضع الأحاديث.
ومسور بكسر الميم، وعبد القدوس الشامي بالشين المعجمة، نسبة إلى الشام، هذا هو الصواب فيه، وحكى القاضي عياض أن بعض الشيوخ من رواة مسلم ضبطه بالسين المهملة، قال: وهو خطأ. وهو خطأ كما قال، وهذا لا خلاف فيه، وهو عبد القدوس بن حبيب الكلاعي الشامي، أبو سعيد، روى عن عكرمة وعطاء وغيرهما، قال بن أبي حاتم، قال عمرو بن علي الفلاس: أجمع أهل العلم على ترك حديثه. فهذا هو عبد القدوس الذي عناه مسلم هنا، ولهم آخر اسمه عبد القدوس، ثقة، وهو عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة الخولاني الشامي الحمصي، سمع صفوان بن عمرو والأوزاعي وغيرهما، روى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وآخرون من كبار الأئمة والحفاظ، قال أحمد بن عبد الله العجلي والدارقطني وغيرهما: هو ثقة وقد روى له البخاري ومسلم في صحيحهما. وأما محمد بن سعيد المصلوب فهو الدمشقي، كنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله. ويقال: أبو قيس. وفي نسبه واسمه اختلاف كثير جدًّا، لا نعلم أحدا اختلف فيه كمثله، وقد حكى الحافظ عبد الغني المقدسي عن بعض أصحاب الحديث أنه يغلب اسمه على نحو مائة، قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، قتل وصلب في الزندقة. وقال أحمد بن حنبل: قتله أبو جعفر في الزندقة، حديثه موضوع. وقال خالد بن يزيد: سمعته يقول: إذا كان كلام حسن لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا. وأما غياث بن إبراهيم، فبالغين المعجمة، وهو كوفي، كنيته أبو عبد الرحمن، قال البخاري في تاريخه: تركوه.
وأما قوله: (وسليمان بن عمرو أبي داود) فهو عمرو، بفتح العين وبواو في الخط، وأبي دواد كنية سليمان هذا، والله سبحانه أعلم.
وأما الحديث الموضوع فهو المختلق المصنوع، وربما أخذ الواضع كلاما لغيره فوضعه وجعله حديثا، وربما وضع كلاما من عند نفسه، وكثير من الموضوعات أو أكثرها يشهد بوضعها ركاكة لفظها.
واعلم أن تعمد وضع الحديث حرام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ في الْإِجْمَاعِ، وشذت الكرامية - الفرقة المبتدعة - فجوزت وضعه في الترغيب والترهيب والزهد، وقد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد؛ ترغيبا في الخير في زعمهم الباطل، وهذه غباوة ظاهرة وجهالة متناهية، ويكفى في الرد عليهم قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وسنزيد هذا قريبا شرحا في مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا قوله: (وتوليد الأخبار) فمعناه إنشاؤها وزيادتها.
قال رحمه الله:
(وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها).
هذا الذي ذكر رحمه الله هو المعنى المنكر عند المحدثين، يعني به المنكر المردود، فإنهم قد يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث، وهذا ليس بمنكر مردود إذا كان الثقة ضابطا متقنا، وقوله: (أو لم تكد توافقها) معناه لا توافقها إلا في قليل، قال أهل اللغة (كاد) موضوعة للمقاربة، فإن لم يتقدمها نفي كانت لمقاربة الفعل ولم يفعل، كقوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} وإن تقدمها نفي كانت للفعل بعد بطء، وإن شئت قلت لمقاربة عدم الفعل، كقوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون}.
قال رحمه الله:
(فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن محرر ويحيى بن أبي أنيسة والجراح بن المنهال أبو العطوف وعباد بن كثير وحسين بن عبد الله بن ضميرة وعمر بن صهبان).
أما عبد الله بن محرر فهو بفتح الحاء المهملة وبرائين مهملتين، الأولى مفتوحة مشددة، هكذا هو في روايتنا وفي أصول أهل بلادنا، وهذا هو الصواب، وكذا ذكره البخاري في تاريخه وأبو نصر بن ماكولا وأبو علي الغساني الجياني، وآخرون من الحفاظ، وذكر القاضي عياض أن جماعة شيوخهم رووه محرزا، بإسكان الحاء وكسر الراء وآخره زاي، قال: وهو غلط والصواب الأول.
وعبد الله بن محرر عامري جزري رقي، ولاه أبو جعفر قضاء الرقة، وهو من تابعي التابعين، روى عن الحسن وقتادة والزهري ونافع مولى بن عمر، وآخرين من التابعين، وروى عنه الثوري وجماعات، واتفق الحفاظ والمتقدمون على تركه، قال أحمد بن حنبل: ترك الناس حديثه. وقال الآخرون مثله ونحوه.
وأما أبو أنيسة والد يحيى فاسمه زيد.
وأما أبو العطوف فبفتح العين وضم الطاء المهملتين.
والجراح بن منهال هذا جزري، يروي عن التابعين، سمع الحكم بن عتيبة والزهري، يروي عنه يزيد بن هارون، قال البخاري وغيره: هو منكر الحديث.
وأما صهبان فهو بضم الصاد المهملة وإسكان الهاء، وعمر بن صهبان هذا أسلمي مدني، ويقال فيه: عمر بن محمد بن صهبان، متفق على تركه.
قال رحمه الله كلاما مختصرا؛ أن زيادة الثقة الضابط مقبولة، ورواية الشاذ والمنكر مردودة، وهذا الذي قاله الصحيح الذي عليه الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول، وقد تقدم إيضاح هذه المسألة وبيان الخلاف فيها وما يتعلق بها في الفصول السابقة، والله أعلم.
قوله: (قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق) هو هكذا في معظم الأصول، الاتفاق بالفاء أولا والقاف آخرا، وفي بعضها الإتقان بالقاف أولا والنون آخرا، والأول أجود، وهو الصواب.
قوله: (فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث) العدد منصوب يروي.
قوله: (وقد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها).
معنى يتوجه به يقصد طريقهم ويسلك مذهبهم، والسبيل الطريق، وهما يؤنثان ويذكران والتوفيق خلق قدرة الطاعة.
قال رحمه الله:
(وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى) هذا الذي ذكره مسلم مما اختلف فيه، فقيل: اخترمته المنية قبل جمعه. وقيل: بل ذكره في أبوابه من هذا الكتاب الموجود. وقد تقدم بيان هذا واضحا في الفصول، والله أعلم.
قوله: (مما يقذفون به إلى الأغبياء) أي يلقونه إليهم، والأغبياء بالغين المعجمة والباء الموحدة هم الغفلة والجهال والذين لا فطنة لهم.
قوله: (سفيان بن عيينة) هذا أول موضع جاء ذكره رضي الله عنه، والمشهور فيه ضم السين والعين، وذكر بن السكيت في سفيان ثلاث لغات للعرب؛ ضم السين وفتحها وكسرها، وذكر أبو حاتم السختياني وغيره ضم العين وكسرها، وهما وجهان لأهل العربية معروفان.
قال رحمه الله:
(اعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع).
الستارة بكسر السين، وهي ما يستتر به، وكذلك السترة، وهي هنا إشارة إلى الصيانة.
وقوله: (وأن يتقي منها) ضبطناه بالتاء المثناة فوق بعد المثناة تحت وبالقاف، من الاتقاء وهو الاجتناب، وفي بعض الأصول: (وأن ينفى) بالنون والفاء، وهو صحيح أيضا، وهو بمعنى الأول.
وقوله: (صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين) ليس هو من باب التكرار للتأكيد، بل له معنى غير ذلك؛ فقد تصح الروايات لمتن ويكون الناقلون لبعض أسانيده متهمين فلا يشتغل بذلك الإسناد.
وأما قوله: (إنه يجب أن يتقي ما كان منها عن المعاندين من أهل البدع) فهذا مذهبه، قال العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق. وأما الذي لا يكفر بها فاختلفوا في روايته؛ فمنهم من ردها مطلقا لفسقه ولا ينفعه التأويل، ومنهم من قبلها مطلقا إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو غير داعية، وهذا محكي عن إمامنا الشافعي رحمه الله لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء لا الخطابية من الرافضة؛ لكونهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ومنهم من قال: تقبل إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية. وهذا مذهب كثيرين أو الأكثر من العلماء، وهو الأعدل الصحيح، وقال بعض أصحاب الشافعي رحمه الله: اختلف أصحاب الشافعي في غير الداعية، واتفقوا على عدم قبول الداعية. وقال أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء: لا يجوز الاحتجاج بالداعية عند أئمتنا قاطبة، لا خلاف بينهم في ذلك. وأما المذهب الأول فضعيف جدًّا، ففي الصحيحين وغيرهما من كتب أئمة الحديث الاحتجاج بكثيرين من المبتدعة غير الدعاة، ولم يزل السلف والخلف على قبول الرواية منهم والاحتجاج بها، والسماع منهم وإسماعهم من غير إنكار منهم، والله أعلم.
قال رحمه الله:
(والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في معظم معانيهما).
هذا من الدلائل الصريحة على عظم قدر مسلم وكثرة فقهه، اعلم أن الخبر والشهادة يشتركان في أوصاف، ويفترقان في أوصاف، فيشتركان في اشتراط الإسلام والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وضبط الخبر والمشهود به عند التحمل والأداء، ويفترقان في الحرية والذكورية والعدد والتهمة وقبول الفرع مع وجود الأصل، فيقبل خبر العبد والمرأة والواحد، ورواية الفرع مع حضور الأصل الذي هو شيخه، ولا تقبل شهادتهم إلا في المرأة في بعض المواضع مع غيرها، وترد الشهادة بالتهمة؛ كشهادته على عدوه، وبما يدفع به عن نفسه ضررا أو يجر به إليها نفعا، ولولده ووالده، واختلفوا في شهادة الأعمى؛ فمنعها الشافعي وطائفة، وأجازها مالك وطائفة، واتفقوا على قبول خبره وإنما فرق الشرع بين الشهادة والخبر في هذه الأوصاف لأن الشهادة تخص فيظهر فيها التهمة، والخبر يعمه وغيره من الناس أجمعين فتنتفي التهمة، وهذه الجملة قول العلماء الذين يعتد بهم، وقد شذ عنهم جماعة في أفراد بعض هذه الجملة؛ فمن ذلك شرط بعض أصحاب الأصول أن يكون تحمله الرواية في حال البلوغ، والإجماع يرد عليه، وإنما يعتبر البلوغ حال الرواية لا حال السماع، وجوز بعض أصحاب الشافعي رواية الصبي وقبولها منه في حال الصبا، والمعروف من مذاهب العلماء مطلقا ما قدمناه، وشرط الجبائي المعتزلي وبعض القدرية العدد في الرواية، فقال الجبائي: لا بد من اثنين عن اثنين كالشهادة. وقال القائل من القدرية: لا بد من أربعة عن أربعة في كل خبر. وكل هذه الأقوال ضعيفة ومنكرة مطرحة، وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعية والحجج العقلية على وجوب العمل بخبر الواحد، وقد قرر العلماء في كتب الفقه والأصول ذلك بدلائله، وأوضحوه أبلغ إيضاح، وصنف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد ووجوب العمل به، والله أعلم.
ثم إن قولنا: تشترط العدالة والمروءة يدخل فيه مسائل كثيرة معروفة في كتب الفقه يطول الكلام بتفصيلها.
قال رحمه الله:
(وهو الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فهو أحد الكاذبين»).
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وكيع، عن شعبة، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ليلى عن سمرة بن جندب (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أيضا، حدثنا وكيع، عن شعبة وسفيان، عن حبيب، عن ميمون بن أبي شبيب، عن المغيرة بن شعبة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.