فصل: باب فَضْلِ السُّحُورِ وَتَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهِ وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب فَضْلِ السُّحُورِ وَتَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهِ وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ:

1835- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُور بَرَكَةً» رُوِيَ بِفَتْحِ السِّين مِنْ (السُّحُور) وَضَمّهَا وَسَبَقَ قَرِيبًا بَيَانهمَا. فيه: الْحَثّ عَلَى السَّحُور، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَابه، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَمَّا الْبَرَكَة الَّتِي فيه فَظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَوِّي عَلَى الصِّيَام، وَيُنَشِّط لَهُ، وَتَحْصُلُ بِسَبَبِهِ الرَّغْبَة فِي الِازْدِيَاد مِنْ الصِّيَام؛ لِخِفَّةِ الْمَشَقَّة فيه عَلَى الْمُتَسَحِّر، فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمُعْتَمَد فِي مَعْنَاهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَتَضَمَّن الِاسْتِيقَاظ وَالذِّكْر وَالدُّعَاء فِي ذَلِكَ الْوَقْت الشَّرِيف، وَقْت تَنْزِل الرَّحْمَة، وَقَبُول الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار، وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ صَاحِبه وَصَلَّى، أَوْ أَدَامَ الِاسْتِيقَاظ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاء وَالصَّلَاة، أَوْ التَّأَهُّب لَهَا حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر.
1836- قَوْله: (عَنْ مُوسَى بْن عُلَيٍّ) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن عَلَى الْمَشْهُور، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصْل مَا بَيْن صِيَامنَا وَصِيَام أَهْل الْكِتَاب أَكْلَة السَّحَر» مَعْنَاهُ: الْفَارِق وَالْمُمَيِّز بَيْن صِيَامنَا وَصِيَامهمْ السُّحُور؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَسَحَّرُونَ وَنَحْنُ يُسْتَحَبّ لَنَا السُّحُور، وَأَكْلَةُ السَّحَرِ هِيَ السَّحُور، وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُور، وَهُوَ الْمَشْهُور فِي رِوَايَات بِلَادنَا، وَهِيَ عِبَارَة عَنْ الْمَرَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْأَكْل كَالْغَدْوَةِ وَالْعَشْوَة، وَإِنْ كَثُرَ الْمَأْكُول فيها.
وَأَمَّا (الْأُكْلَة) بِالضَّمِّ فَهِيَ اللُّقْمَة، وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاض أَنَّ الرِّوَايَة فيه بِالضَّمِّ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ رِوَايَة أَهْل بِلَادهمْ فيها بِالضَّمِّ، قَالَ. وَالصَّوَاب الْفَتْح؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود هُنَا.
1837- قَوْله: «تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاة قُلْت: كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ: خَمْسِينَ آيَة» مَعْنَاهُ: بَيْنَهُمَا قَدْرُ قِرَاءَةِ خَمْسِينَ آيَةً، أَوْ أَنْ يَقْرَأ خَمْسِينَ. وَفيه الْحَثُّ عَلَى تَأْخِير السُّحُور إِلَى قُبَيْل الْفَجْر.
1838- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَال النَّاس بِخَيْرِ مَا عَجَّلُوا الْفِطْر» فيه الْحَثّ عَلَى تَعْجِيله بَعْد تَحَقُّقِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمَعْنَاهُ لَا يَزَال أَمْر الْأُمَّة مُنْتَظِمًا وَهُمْ بِخَيْرٍ مَا دَامُوا مُحَافِظِينَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّة، وَإِذَا أَخَّرُوهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَة عَلَى فَسَادٍ يَقَعُونَ فيه.
1840- قَوْله: «لَا يَأْلُوَا عَنْ الْخَيْرِ» أَيْ لَا يَقْصُرُ عَنْهُ.

.باب بَيَانِ وَقْتِ انْقِضَاءِ الصَّوْمِ وَخُرُوجِ النَّهَارِ:

1841- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْل وَأَدْبَرَ النَّهَار وَغَابَتْ الشَّمْس فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِم» مَعْنَاهُ: اِنْقَضَى صَوْمه وَتَمَّ، وَلَا يُوصَف الْآن بِأَنَّهُ صَائِم، فَإِنَّ بِغُرُوبِ الشَّمْس خَرَجَ النَّهَار وَدَخَلَ اللَّيْل، وَاللَّيْل لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْبَلَ اللَّيْل وَأَدْبَرَ النَّهَار وَغَرَبَتْ الشَّمْس» قَالَ الْعُلَمَاء: كُلّ وَاحِد مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَة يَتَضَمَّن الْآخَرَيْنِ وَيُلَازِمُهُمَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون فِي وَادٍ وَنَحْوه بِحَيْثُ لَا يُشَاهِد غُرُوب الشَّمْس، فَيَعْتَمِد إِقْبَال الظَّلَّام وَإِدْبَار الضِّيَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
1842- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِنْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا؛ فَنَزَلَ فَجَدَحَ» هُوَ بِجِيمٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ خَلْطُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَالْمُرَاد هُنَا خَلْط السَّوِيق بِالْمَاءِ وَتَحْرِيكه حَتَّى يَسْتَوِي و(الْمِجْدَح) بِكَسْرِ الْمِيم عُودٌ مُجَنَّحُ الرَّأْسِ. لِيُسَاطَ بِهِ الْأَشْرِبَة، وَقَدْ يَكُون لَهُ ثَلَاث شُعَبٍ.
1843- قَوْله: «كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْس قَالَ لِرَجُلٍ: اِنْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه لَوْ أَمْسَيْت، فَقَالَ: اِنْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ إِنَّ عَلَيْنَا نَهَارًا فَنَزَلَ فَجَدَحَ فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْل... إِلَى آخِره» مَعْنَى الْحَدِيث. أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه كَانُوا صِيَامًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْر رَمَضَان، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة يَحْيَى بْن يَحْيَى: «فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْس أَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَدْحِ لِيُفْطِرُوا» فَرَأَى الْمُخَاطَب آثَار الضِّيَاء وَالْحُمْرَة الَّتِي بَعْد غُرُوب الشَّمْس فَظَنَّ أَنَّ الْفِطْر لَا يَحِلّ إِلَّا بَعْد ذَهَاب ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ عِنْده أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَهَا. فَأَرَادَ تَذْكِيرَهُ وَإِعْلَامَهُ بِذَلِكَ، وَيُؤَيِّد هَذَا قَوْله: «إِنَّ عَلَيْك نَهَارًا» لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ ذَلِكَ الضَّوْء مِنْ النَّهَار الَّذِي يَجِب صَوْمه، وَهُوَ مَعْنَى: «لَوْ أَمْسَيْت» أَيْ تَأَخَّرْت حَتَّى يَدْخُل الْمَسَاء، وَتَكْرِيره الْمُرَاجَعَة لِغَلَبَةِ اِعْتِقَاده عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَهَار يَحْرُم فيه الْأَكْل مَعَ تَجْوِيزه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْظُر إِلَى ذَلِكَ الضَّوْء نَظَرًا تَامًّا، فَقَصَدَ زِيَادَة الْإِعْلَام بِبَقَاءِ الضَّوْء.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الصَّوْم فِي السَّفَر، وَتَفْضِيله عَلَى الْفِطْر لِمَنْ لَا تَلْحَقُهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ. وَفيه: بَيَان اِنْقِضَاء الصَّوْم بِمُجَرَّدِ غُرُوب الشَّمْس وَاسْتِحْبَاب تَعْجِيل الْفِطْر، وَتَذْكِير الْعَالِم مَا يُخَاف أَنْ يَكُون نَسِيَهُ، وَأَنَّ الْفِطْر عَلَى التَّمْر لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَوْ تَرَكَهُ جَازَ، وَأَنَّ الْأَفْضَل بَعْده الْفِطْر عَلَى الْمَاء، وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّرْتِيب فِي الْحَدِيث الْآخَر فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره فِي الْأَمْر بِالْفِطْرِ عَلَى تَمْر، فَإِنْ لَمْ يَجِد فَعَلَى الْمَاء فَإِنَّهُ طَهُور.

.(بَاب النَّهْي عَنْ الْوِصَال فِي الصَّوْم):

اِتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى النَّهْي عَنْ الْوِصَال وَهُوَ صَوْم يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ غَيْر أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ بَيْنهمَا، وَنَصَّ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابنَا عَلَى كَرَاهَته، وَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْكَرَاهَة وَجْهَانِ أَصَحّهمَا: أَنَّهَا كَرَاهَة تَحْرِيم.
وَالثَّانِي: كَرَاهَة تَنْزِيه، وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَحَادِيث الْوِصَال، فَقِيلَ: النَّهْي عَنْهُ رَحْمَة وَتَخْفِيف، فَمَنْ قَدَرَ فَلَا حَرَج، وَقَدْ وَاصَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَف الْأَيَّام، قَالَ: وَأَجَازَهُ اِبْن وَهْب وَأَحْمَد وَإِسْحَاق إِلَى السَّحَر، ثُمَّ حَكَى عَنْ الْأَكْثَرِينَ كَرَاهَته، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ أَصْحَابنَا: الْوِصَال مِنْ الْخَصَائِص الَّتِي أُبِيحَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَرُمَتْ عَلَى الْأُمَّة، وَاحْتُجَّ لِمَنْ أَبَاحَهُ بِقَوْلِهِ فِي بَعْض طُرُق مُسْلِمٍ: نَهَاهُمْ عَنْ الْوِصَال رَحْمَةً لَهُمْ، وَفِي بَعْضهَا لَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَال، فَقَالَ: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَال لَزِدْتُكُمْ» وَفِي بَعْضهَا: «لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْر لَوَاصَلْنَا وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ». وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِعُمُومِ النَّهْي، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوَاصِلُوا». وَأَجَابُوا عَلَى قَوْله: «رَحْمَةً» بِأَنَّهُ لَا يَمْنَع ذَلِكَ كَوْنه مَنْهِيًّا عَنْهُ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَبَب تَحْرِيمه: الشَّفَقَة عَلَيْهِمْ، لِئَلَّا يَتَكَلَّفُوا مَا يَشُقّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْوِصَال بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا فَاحْتُمِلَ لِلْمَصْلَحَةِ فِي تَأْكِيد زَجْرِهِمْ، وَبَيَان الْحِكْمَة فِي نَهْيِهِمْ، وَالْمَفْسَدَة الْمُتَرَتِّبَة عَلَى الْوِصَال وَهِيَ الْمَلَل مِنْ الْعِبَادَة، وَالتَّعَرُّض لِلتَّقْصِيرِ فِي بَعْض وَظَائِف الدِّين مِنْ إِتْمَام الصَّلَاة بِخُشُوعِهَا وَأَذْكَارهَا وَآدَابهَا، وَمُلَازَمَة الْأَذْكَار وَسَائِر الْوَظَائِف الْمَشْرُوعَة فِي نَهَاره وَلَيْله. وَاَللَّه أَعْلَم.
1846- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَبِيت يُطْعِمنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» مَعْنَاهُ: يَجْعَل اللَّه تَعَالَى فِيَّ قُوَّة الطَّاعِم الشَّارِب، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّهُ يُطْعَمُ مِنْ طَعَام الْجَنَّة كَرَامَة لَهُ، وَالصَّحِيح الْأَوَّل؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا، وَمِمَّا يُوَضِّح هَذَا التَّأْوِيل وَيَقْطَع كُلّ نِزَاع. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذَا: «إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» وَلَفْظَةُ (ظَلَّ) لَا يَكُون إِلَّا فِي النَّهَار، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- وَلَا يَجُوز الْأَكْل الْحَقِيقِيّ فِي النَّهَار بِلَا شَكٍّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1847- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَال مَا تُطِيقُونَ» هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ: خُذُوا وَتَحَمَّلُوا.
1848- قَوْله: «فَلَمَّا حَسَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّا خَلْفَهُ جَعَلَ يَتَجَوَّزُ فِي الصَّلَاة، ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (حَسَّ) بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَيَقَع فِي طُرُق النُّسَخ (أَحَسَّ) بِالْأَلِفِ، وَهَذَا هُوَ الْفَصِيح الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآن، وَأَمَّا (حَسَّ) بِحَذْفِ الْأَلِف فَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهَذِهِ الرِّوَايَة تَصِحّ عَلَى هَذِهِ اللُّغَة. وَقَوْله: (يَتَجَوَّز) أَيْ يُخَفِّف وَيَقْتَصِر عَلَى الْجَائِز الْمُجْزِي مَعَ بَعْض الْمَنْدُوبَات، وَالتَّجَوُّز هُنَا لِلْمَصْلَحَةِ. وَقَوْله: (دَخَلَ رَحْلَهُ) أَيْ مَنْزِلَهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: رَحْل الرَّجُل عِنْد الْعَرَب: مَنْزِلُهُ، سَوَاء كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ وَغَيْرهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ تَمَادَّ لِي الشَّهْر» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول، وَفِي بَعْضهَا (تَمَادَى) وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى (مُدَّ) فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ» هُمْ الْمُشَدِّدُونَ فِي الْأُمُور الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
1849- قَوْله فِي حَدِيث عَاصِم بْن النَّضْر: «وَاصَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّل شَهْر رَمَضَان» كَذَا هُوَ فِي كُلّ النُّسَخ بِبِلَادِنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَر النُّسَخ قَالَ: وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ الرَّاوِي، وَصَوَابه: «آخِر شَهْر رَمَضَان»، وَكَذَا رَوَاهُ بَعْض رُوَاة صَحِيح مُسْلِم، وَهُوَ الْمُوَافِق لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْله، وَلِبَاقِي الْأَحَادِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَظَلّ يُطْعِمنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: ظَلَّ يَفْعَل كَذَا إِذَا عَمِلَهُ فِي النَّهَار دُون اللَّيْل، وَبَاتَ يَفْعَل كَذَا إِذَا عَمَله فِي اللَّيْل، وَمِنْهُ قَوْل عَنْتَرَة:
وَلَقَدْ أَبِيت عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ

أَيْ أَظَلُّ عَلَيْهِ، فَيُسْتَفَاد مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَة دَلَالَةٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي تَأْوِيل: «أَبِيت يُطْعِمنِي رَبِّي»؛ لِأَنَّ ظَلَّ لَا يَكُون إِلَّا فِي النَّهَار، وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون أَكْلًا حَقِيقِيًّا فِي النَّهَار. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَاب بَيَان أَنَّ الْقُبْلَةَ فِي الصَّوْم لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ لَمْ تُحَرِّك شَهْوَتَهُ):

قَالَ الشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب: الْقُبْلَة فِي الصَّوْم لَيْسَتْ مُحَرَّمَة عَلَى مَنْ لَمْ تُحَرِّك شَهْوَتَهُ، لَكِنْ الْأَوْلَى لَهُ تَرْكُهَا، وَلَا يُقَال: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّهَا خِلَاف الْأَوْلَى فِي حَقّه، مَعَ ثُبُوت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلهَا؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْمَنُ فِي حَقّه مُجَاوَزَةُ حَدِّ الْقُبْلَة، وَيُخَاف عَلَى غَيْره مُجَاوَزَتُهَا، كَمَا قَالَتْ عَائِشَة: «كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» وَأَمَّا مَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ فَهِيَ حَرَام فِي حَقّه عَلَى الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا، وَقِيلَ: مَكْرُوهَة كَرَاهَة تَنْزِيه.
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ قَالَ بِإِبَاحَتِهَا لِلصَّائِمِ مُطْلَقًا جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، وَكَرِهَهَا عَلَى الْإِطْلَاق مَالِك، وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيّ: تُكْرَهُ لِلشَّابِّ دُون الشَّيْخ الْكَبِير، وَهِيَ رِوَايَة عَنْ مَالِك، وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه إِبَاحَتهَا فِي صَوْم النَّفْل دُون الْفَرْض، وَلَا خِلَاف أَنَّهَا لَا تُبْطِل الصَّوْم إِلَّا أَنْ يَنْزِل الْمَنِيّ بِالْقُبْلَةِ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور فِي السُّنَن، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ الْمَضْمَضَة مُقَدِّمَة الشُّرْب، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَا تُفْطِر، وَكَذَا الْقُبْلَة مُقَدِّمَة لِلْجِمَاعِ، فَلَا تُفْطِر.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره عَنْ اِبْن مَسْعُود وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب: أَنَّ مَنْ قَبَّلَ قَضَى يَوْمًا مَكَان يَوْم الْقِبْلَة.
1851- قَوْله: «عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّل إِحْدَى نِسَائِهِ وَهُوَ صَائِم، ثُمَّ تَضْحَك» قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: يَحْتَمِل ضَحِكُهَا التَّعَجُّب مِمَّنْ خَالَفَ فِي هَذَا، وَقِيلَ: التَّعَجُّب مِنْ نَفْسهَا حَيْثُ جَاءَتْ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيث الَّذِي يُسْتَحْيَ مِنْ ذِكْرِهِ، لاسيما حَدِيث الْمَرْأَة بِهِ عَنْ نَفْسهَا لِلرِّجَالِ، لَكِنَّهَا اُضْطُرَّتْ إِلَى ذِكْرِهِ لِتَبْلِيغِ الْحَدِيث وَالْعِلْم فَتَتَعَجَّبُ مِنْ ضَرُورَةِ الْحَالِ الْمُضْطَرَّةِ لَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: ضُحِكَتْ سُرُورًا بِتَذَكُّرِ مَكَانهَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالهَا مَعَهُ وَمُلَاطَفَتِهِ لَهَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنَّهَا ضَحِكَتْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا صَاحِبَة الْقِصَّة لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الثِّقَة بِحَدِيثِهَا.
1852- قَوْله: «فَسَكَتَ سَاعَة» أَيْ لِيَتَذَكَّر.
1853- قَوْلهَا: «وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِك إِرْبَهُ». هَذِهِ اللَّفْظَة رَوَوْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ: «إِرْبه» بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الرَّاء، وَكَذَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَالثَّانِي: بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالرَّاء، وَمَعْنَاهُ بِالْكَسْرِ الْوَطَر وَالْحَاجَة، وَكَذَا، بِالْفَتْحِ وَلَكِنَّهُ يُطْلَق الْمَفْتُوح أَيْضًا عَلَى الْعُضْو، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِم السُّنَن: هَذِهِ اللَّفْظَة تُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ الْفَتْح، وَالْكَسْر، قَالَ: وَمَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَهُوَ حَاجَة النَّفْس وَوَطَرهَا، يُقَال: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ إِرْبٌ وَأَرَبٌ وَإِرْبَةٌ وَمَأْرَبَةٌ، أَيْ حَاجَةٌ، قَالَ: وَالْإِرْب- أَيْضًا- الْعُضْو.
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى كَلَام عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ الِاحْتِرَاز عَنْ الْقُبْلَة، وَلَا تَتَوَهَّمُوا مِنْ أَنْفُسكُمْ أَنَّكُمْ مِثْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِسْتِبَاحَتهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِك نَفْسه، وَيَأْمَن الْوُقُوع فِي قُبْلَةٍ يَتَوَلَّد مِنْهَا إِنْزَالٌ أَوْ شَهْوَةٌ أَوْ هَيَجَانُ نَفْسٍ وَنَحْو ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لَا تَأْمَنُونَ ذَلِكَ، فَطَرِيقُكُمْ الِانْكِفَافُ عَنْهَا.
وَفيه جَوَاز الْإِخْبَار عَنْ مِثْل هَذَا مِمَّا يَجْرِي بَيْن الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْجُمْلَة لِلضَّرُورَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْر حَال الضَّرُورَة فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ.
1854- قَوْلهَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّل وَهُوَ صَائِم وَيُبَاشِر وَهُوَ صَائِمٌ» مَعْنَى الْمُبَاشَرَة هُنَا: اللَّمْسُ بِالْيَدِ، وَهُوَ مِنْ اِلْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ.
1857- قَوْله: (دَخَلَا عَلَى عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لِيَسْأَلَانِهَا) كَذَا هُوَ فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول (لِيَسْأَلَانِهَا) بِاللَّامِ وَالنُّون، وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَفِي كَثِير مِنْ الْأُصُول (يَسْأَلَانِهَا) بِحَذْفِ اللَّام وَهَذَا وَاضِح، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى الْمَشْهُور فِي الْعَرَبِيَّة.
1858- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُوسَى حَدَّثَنَا شَيْبَان عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ أَبِي سَلَمَة أَنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَخْبَرَهُ أَنَّ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهُ) هَذَا الْإِسْنَاد فيه أَرْبَعَة تَابِعِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، وَهُمْ يَحْيَى وَأَبُو سَلَمَة وَعُمَر وَعُرْوَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة.
1859- قَوْله: (عَنْ زِيَاد بْن عِلَاقَةَ) هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَبِالْقَافِ.
قَوْلهَا: «يُقَبِّلُ فِي شَهْر الصَّوْم» يَعْنِي فِي حَال الصِّيَام.
1862- قَوْله: (عَنْ شُتَيْر بْن شَكَلٍ) أَمَّا (شُتَيْر) فَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ، وَأَمَّا (شَكَلٌ) فَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ كَافٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَنَّ الْكَافَ، وَالْمَشْهُور فَتْحهَا.
1863- قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه قَدْ غَفَرَ اللَّه لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَاَللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَشَدُّكُمْ خَشْيَةً لَهُ» سَبَب قَوْل هَذَا الْقَائِل: قَدْ غَفَرَ اللَّه لَك، أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ جَوَاز التَّقْبِيل لِلصَّائِمِ مِنْ خَصَائِص رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَل؛ لِأَنَّهُ مَغْفُور لَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَقَالَ: أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَشَدّكُمْ خَشْيَة، فَكَيْف تَظُنُّونَ بِي أَوْ تُجَوِّزُونَ عَلَيَّ اِرْتِكَابَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَنَحْوه، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي غَيْر مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ حِين قَالَ الْقَائِل هَذَا الْقَوْل، وَجَاءَ فِي الْمُوَطَّإِ فيه يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ:

1864- قَوْله: (أَخْبَرَنِي عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي بَكْر قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول فِي قَصَصِهِ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْر جُنُبًا فَلَا يَصُمْ، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن بْن الْحَارِث لِأَبِيهِ؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْد الرَّحْمَن وَانْطَلَقْت مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة، فَسَأَلَهُمَا عَبْد الرَّحْمَن... إِلَى آخِره) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَن بْن الْحَارِث لِأَبِيهِ) وَهُوَ صَحِيحٌ مَلِيحٌ، وَمَعْنَاهُ: ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر لِأَبِيهِ عَبْد الرَّحْمَن، فَقَوْله: (لِأَبِيهِ) بَدَل مِنْ عَبْد الرَّحْمَن بِإِعَادَةِ حَرْف الْجَرّ، قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان (فَذَكَرَ عَبْد الرَّحْمَن لِأَبِيهِ) وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّهُ تَصْرِيح بِأَنَّ الْحَارِث وَالِد عَبْد الرَّحْمَن هُوَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة كَانَتْ فِي وِلَايَة مَرْوَان عَلَى الْمَدِينَة فِي خِلَافَة مُعَاوِيَة، وَالْحَارِث تُوُفِّيَ فِي طَاعُون عَمَوَاس فِي خِلَافَة عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَنَة ثَمَان عَشْرَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْر جُنُبًا فَلَا يَصُمْ» ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ حِين بَلَغَهُ قَوْل عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِح جُنُبًا وَيُتِمّ صَوْمه، رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ قَوْله مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَوَاهُ عَنْ الْفَضْل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَعَلَّ سَبَب رُجُوعه أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْده الْحَدِيثَانِ فَجَمَعَ بَيْنهمَا، وَتَأَوَّلَ أَحَدهمَا وَهُوَ قَوْله: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْر جُنُبًا فَلَا يَصُمْ»، وَفِي رِوَايَة مَالِك: «أَفْطَرَ» فَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْأَوْجُه فِي تَأْوِيله- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْده أَنَّ حَدِيث عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة عَلَى ظَاهِره وَهَذَا مُتَأَوَّل رَجَعَ عَنْهُ، وَكَانَ حَدِيث عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْلَم بِمِثْلِ هَذَا مِنْ غَيْرهمَا، وَلِأَنَّهُ مُوَافِق لِلْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْل وَالْمُبَاشَرَة إِلَى طُلُوع الْفَجْر، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَالْآن بَاشَرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّه لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وَالْمُرَاد بِالْمُبَاشَرَةِ: الْجِمَاع، وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا جَازَ الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفَجْر لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يُصْبِح جُنُبًا، وَيَصِحّ صَوْمه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَإِذَا دَلَّ الْقُرْآن وَفِعْلُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَوَاز الصَّوْم لِمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا؛ وَجَبَ الْجَوَاب عَنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ الْفَضْل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَوَابه مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه.
أَحَدهَا: أَنَّهُ إِرْشَاد إِلَى الْأَفْضَل، فَالْأَفْضَل أَنْ يَغْتَسِل قَبْل الْفَجْر، فَلَوْ خَالَفَ جَازَ، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَجَوَابهمْ عَنْ الْحَدِيث. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكُون الِاغْتِسَال قَبْل الْفَجْر أَفْضَل، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافه؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَيَكُون فِي حَقّه حِينَئِذٍ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّن الْبَيَان لِلنَّاسِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ، وَهَذَا كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً فِي بَعْض الْأَوْقَات بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَمَعْلُوم أَنَّ الثَّلَاث أَفْضَل، وَهُوَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث. وَطَافَ عَلَى الْبَعِير لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّوَاف سَاعِيًا أَفْضَل، وَهُوَ الَّذِي تَكَرَّرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَظَائِره كَثِيرَة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: لَعَلَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْر مُجَامِعًا فَاسْتَدَامَ بَعْد طُلُوع الْفَجْر عَالِمًا، فَإِنَّهُ يُفْطِر وَلَا صَوْمَ لَهُ.
وَالثَّالِث: جَوَاب اِبْن الْمُنْذِر فِيمَا رَوَاهُ عَنْ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مَنْسُوخ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر حِين كَانَ الْجِمَاع مُحَرَّمًا فِي اللَّيْل بَعْد النَّوْم، كَمَا كَانَ الطَّعَام وَالشَّرَاب مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمهُ أَبُو هُرَيْرَة، فَكَانَ يُفْتِي بِمَا عَلِمَهُ حَتَّى بَلَغَهُ النَّاسِخ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: هَذَا أَحْسَن مَا سَمِعْت فيه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «يُصْبِح جُنُبًا مِنْ غَيْر حُلُمٍ» هُوَ بِضَمِّ الْحَاء وَبِضَمِّ اللَّام وَإِسْكَانهَا. وَفيه دَلِيل لِمَنْ يَقُول بِجَوَازِ الِاحْتِلَام عَلَى الْأَنْبِيَاء، وَفيه خِلَافٌ قَدَّمْنَاهُ، الْأَشْهَر اِمْتِنَاعُهُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ، وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْهُ، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْمُرَاد يُصْبِحْ جُنُبًا مِنْ جِمَاع، وَلَا يَجْنُبُ مِنْ اِحْتِلَامٍ؛ لِامْتِنَاعِهِ مِنْهُ، وَيَكُون قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُون بِحَقٍّ، قَوْله: (عَزَمْت عَلَيْك إِلَّا مَا ذَهَبَتْ إِلَى أَبِي هُرَيْرَة) أَيْ أَمَرْتُك أَمْرًا جَازِمًا عَزِيمَةً مُحَتَّمَةً، وَأَمْر وُلَاة الْأُمُور تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي غَيْر مَعْصِيَة.
قَوْله: (فَرَدَّ أَبُو هُرَيْرَة مَا كَانَ يَقُول فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْل بْن الْعَبَّاس) فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ الْفَضْل، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (أَخْبَرَنِيهِ أُسَامَة بْن زَيْد) وَفِي رِوَايَة (أَخْبَرَنِيهِ فُلَان وَفُلَان) فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ الْفَضْل وَأُسَامَة.
أَمَّا حُكْم الْمَسْأَلَة: فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل هَذِهِ الْأَمْصَار عَلَى صِحَّة صَوْم الْجُنُب، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ اِحْتِلَام أَوْ جِمَاعٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَن بْن صَالِح إِبْطَالُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَة، وَالصَّحِيح أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا فِي رِوَايَة مُسْلِم، وَقِيلَ: لَمْ يَرْجِع عَنْهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَعُرْوَة وَالنَّخَعِيِّ: إِنْ عَلِمَ بِجِنَايَتِهِ لَمْ يَصِحّ، وَإِلَّا فَيَصِحّ، وَحُكِيَ مِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَحَكَى أَيْضًا عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّهُ يُجْزِيه فِي صَوْم التَّطَوُّع دُون الْفَرْض، وَحُكِيَ عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالْحَسَن بْن صَالِح: يَصُومهُ وَيَقْضِيه، ثُمَّ اِرْتَفَعَ هَذَا الْخِلَاف وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء بَعْد هَؤُلَاءِ عَلَى صِحَّته كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَفِي صِحَّة الْإِجْمَاع بَعْد الْخِلَاف خِلَاف مَشْهُور لِأَهْلِ الْأُصُول، وَحَدِيث عَائِشَة وَأُمّ سَلَمَة حُجَّة عَلَى كُلّ مُخَالِف. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِذَا اِنْقَطَعَ دَم الْحَائِض وَالنُّفَسَاء فِي اللَّيْل ثُمَّ طَلَعَ الْفَجْر قَبْل اِغْتِسَالهمَا صَحَّ صَوْمهمَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمَا إِتْمَامه، سَوَاء تَرَكَتْ الْغُسْل عَمْدًا أَوْ سَهْوًا بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، كَالْجُنُبِ. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف مِمَّا لَا نَعْلَم صَحَّ عَنْهُ أَمْ لَا.
1868- قَوْله: (أَبُو طُوَالَة) هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ.

.(بَاب تَغْلِيظ تَحْرِيم الْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَان عَلَى الصَّائِم وَوُجُوب الْكَفَّارَة الْكُبْرَى فيه وَبَيَّنَّاهَا وَأَنَّهَا تَجِب عَلَى الْمُوسِر وَالْمُعْسِر وَتَثْبُت فِي ذِمَّة الْمُعْسِر حَتَّى يَسْتَطِيع):

فِي الْبَاب: حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي الْمُجَامِع اِمْرَأَته فِي نَهَار رَمَضَان، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة وُجُوب الْكَفَّارَة عَلَيْهِ إِذَا جَامَعَ عَامِدًا جِمَاعًا أَفْسَدَ بِهِ صَوْم يَوْم مِنْ رَمَضَان، وَالْكَفَّارَة عِتْق رَقَبَة مُؤْمِنَة سَلِيمَة مِنْ الْعُيُوب الَّتِي تَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَصَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ، فَإِنْ عَجَزَ فَإِطْعَام سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَام، وَهُوَ رِطْل وَثُلُث بِالْبَغْدَادِيِّ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْخِصَال الثَّلَاث، فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدهمَا: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِنْ اِسْتَطَاعَ بَعْد ذَلِكَ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ حَدِيث هَذَا الْمُجَامِع ظَاهِر بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرّ فِي ذِمَّته شَيْء؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِعَجْزِهِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْكَفَّارَة ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّته، بَلْ أَذِنَ لَهُ فِي إِطْعَام عِيَاله.
وَالْقَوْل الثَّانِي- وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا وَهُوَ الْمُخْتَار-: أَنَّ الْكَفَّارَة لَا تَسْقُط، بَلْ تَسْتَقِرّ فِي ذِمَّته، حَتَّى يُمْكِن، قِيَاسًا عَلَى سَائِر الدُّيُون وَالْحُقُوق، وَالْمُؤَاخَذَات، كَجَزَاءِ الصَّيْد وَغَيْره.
وَأَمَّا الْحَدِيث فَلَيْسَ فيه نَفْي اِسْتِقْرَار الْكَفَّارَة، بَلْ فيه دَلِيل لِاسْتِقْرَارِهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَفَّارَة بِأَنَّهُ عَاجِز عَنْ الْخِصَال الثَّلَاث، ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقِ التَّمْر، فَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَسْقُط بِالْعَجْزِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهِ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتهَا فِي ذِمَّته، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي إِطْعَام عِيَاله؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا وَمُضْطَرًّا إِلَى الْإِنْفَاق عَلَى عِيَاله فِي الْحَال، وَالْكَفَّارَة عَلَى التَّرَاخِي، فَأَذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَإِطْعَام عِيَاله، وَبَقِيَتْ الْكَفَّارَة فِي ذِمَّته، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَيِّن لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّته؛ لِأَنَّ تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقْت الْحَاجَة جَائِز عِنْد جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَعْنَى الْحَدِيث وَحُكْم الْمَسْأَلَة، وَفيها أَقْوَال وَتَأْوِيلَات أُخَر ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا الْمُجَامِع نَاسِيًا فَلَا يُفْطِر وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَلِأَصْحَابِ مَالِك خِلَاف فِي وُجُوبهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمَد: يُفْطِر وَتَجِب بِهِ الْكَفَّارَة، وَقَالَ عَطَاء وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيُّ: يَجِب الْقَضَاء وَلَا كَفَّارَة، دَلِيلنَا أَنَّ الْحَدِيث صَحَّ أَنَّ أَكْل النَّاسِي لَا يُفْطِر، وَالْجِمَاع فِي مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْكَفَّارَة فِي الْجِمَاع، فَإِنَّمَا هِيَ فِي جِمَاع الْعَامِد، وَلِهَذَا قَالَ فِي بَعْضهَا: «هَلَكْت»، وَفِي بَعْضهَا: «اِحْتَرَقْت. اِحْتَرَقْت» وَهَذَا لَا يَكُون إِلَّا فِي عَامِدٍ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ.
1870- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَجِد مَا تُعْتِق رَقَبَة» (رَقَبَة) مَنْصُوب بَدَل مِنْ (مَا).
قَوْله: «فَأُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالرَّاء، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة وَاللُّغَة، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْجُمْهُور، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ كَثِير مِنْ شُيُوخنَا وَغَيْرهمْ بِإِسْكَانِ الرَّاء، قَالَ: وَالصَّوَاب الْفَتْح، وَيُقَال. لِلْعَرَقِ: (الزَّبِيل) بِفَتْحِ الزَّاي مِنْ غَيْر نُونٍ (وَالزِّنْبِيل) بِكَسْرِ الزَّاي وَزِيَادَة نُون، وَيُقَال لَهُ: (الْقُفَّة) و(الْمِكْتَل) بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة فَوْق، و(السَّفِيفَة) بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَبِالْفَاءَيْنِ، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ اِبْن دُرَيْدٍ: سُمِّيَ (زَبِيلًا)؛ لِأَنَّهُ يُحْمَل فيه الزِّبْل، وَالْعَرَق عِنْد الْفُقَهَاء مَا يَسْعَ خَمْسَة عَشَرَ صَاعًا، وَهِيَ سِتُّونَ مُدًّا لِسِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ.
قَوْله: (قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا) كَذَا ضَبَطْنَاهُ (أَفْقَرَ) بِالنَّصْبِ، وَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ الرِّوَايَة فيه بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَار فِعْل تَقْدِيره: أَتَجِدُ أَفْقَرَ مِنَّا، أَوْ أَتُعْطِي، قَالَ: وَيَصِحّ رَفْعُهُ عَلَى تَقْدِير: هَلْ أَحَد أَفْقَرَ مِنَّا، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيث الْآخَر بَعْده: (أَغْيَرُنَا) كَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالرَّفْعِ، وَيَصِحّ النَّصْب عَلَى مَا سَبَقَ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَقَدْ ضَبَطْنَا الثَّانِيَ بِالنَّصْبِ أَيْضًا، فَهُمَا جَائِزَانِ كَمَا سَبَقَ تَوْجِيههمَا.
قَوْله: (فَمَا بَيْن لَابَتَيْهَا) هُمَا الْحَرَّتَانِ، وَالْمَدِينَة بَيْن حَرَّتَيْنِ، و(الْحَرَّة) الْأَرْض الْمُلْبِسَة حِجَارَةً سَوْدَاءَ، وَيُقَال: لَابَة، وَلُوبَة، وَنَوْبَة بِالنُّونِ، حَكَاهُنَّ أَبُو عُبَيْد وَالْجَوْهَرِيُّ، وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ أَهْل اللُّغَة، قَالُوا: وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسْوَدِ: لُوبِي، وَنُوبِي بِاللَّامِ وَالنُّون، قَالُوا: وَجَمْع اللَّابَة: لُوب، وَلَاب، وَلَابَات، وَهِيَ غَيْر مَهْمُوزَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَسْتَطِيع أَنْ تَصُوم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» فيه حُجَّة لِمَذْهَبِنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة، وَهُوَ اِشْتِرَاط التَّتَابُع فِي صِيَام هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ، حُكِيَ عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُطْعِم سِتِّينَ مِسْكِينًا» فيه حُجَّة لَنَا وَلِلْجُمْهُورِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة، وَهُوَ اِشْتِرَاط إِطْعَام سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: أَنَّهُ إِطْعَام أَرْبَعِينَ مِسْكَيْنَا عِشْرِينَ صَاعًا، ثُمَّ جُمْهُور الْمُشْتَرِطِينَ سِتِّينَ، قَالُوا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، وَهُوَ رُبُع صَاع، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ.
قَوْله: (وَهُوَ الزِّنْبِيل) هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِكَسْرِ الزَّاي وَبَعْدهَا نُون، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه قَرِيبًا.
1871- قَوْله: (إِنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ) كَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا: (وَاقَعَ اِمْرَأَته)، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ.
وَقَوْله: «أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَان أَنْ يُعْتِق رَقَبَة أَوْ يَصُوم شَهْرَيْنِ أَوْ يُطْعِم سِتِّينَ مِسْكِينًا» لَفْظَة (أَوْ) هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، تَقْدِيره: يُعْتِق أَوْ يَصُوم إِنْ عَجَزَ عَنْ الْعِتْق، أَوْ يُطْعِم إِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا. وَتُبَيِّنُهُ الرِّوَايَاتُ الْبَاقِيَةُ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَات دَلَالَة لِأَبِي حَنِيفَة وَمَنْ يَقُول: يُجْزِي عِتْق كَافِر عَنْ كَفَّارَة الْجِمَاع وَالظِّهَار، وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُونَ الرَّقَبَة الْمُؤْمِنَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوص عَلَى وَصْفِهَا بِالْإِيمَانِ فِي الْقُرْآن، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: يُشْتَرَط الْإِيمَان فِي جَمِيع الْكَفَّارَات، تَنْزِيلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّد، وَالْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة عَلَى ذَلِكَ؛ فَالشَّافِعِيّ يَحْمِل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد، وَأَبُو حَنِيفَة يُخَالِفُهُ.
1873- قَوْله: (اِحْتَرَقْت) فيه اِسْتِعْمَال الْمَجَاز، وَأَنَّهُ لَا إِنْكَار عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقْ تَصَدَّقْ» هَذَا مُطْلَق، وَجَاءَ مُقَيَّدًا فِي الرِّوَايَات السَّابِقَة بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَذَلِكَ سِتُّونَ مُدًّا، وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا.
قَوْله: «فَجَاءَهُ عِرْقَانِ فيهمَا طَعَامٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ» هَذَا أَيْضًا مُطْلَق مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا سَبَقَ.