فصل: 5- مكان هذه الصحف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.3- قرار أبي بكر رضي الله عنه وتنفيذه:

تردّد أبو بكر رضي الله عنه بادئ الأمر في اقتراح عمر رضي الله عنه، لما كان يأخذ به نفسه من الوقوف عند حدود ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقول: كيف أفعل شيئا ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! ولكن عمر رضي الله عنه ما زال يراجعه في ذلك، ويبيّن له وجه المصلحة بهذا العمل، وأنه يراد به خير الأمة وحفظ الدين، حتى شرح الله تعالى صدره لذلك، وتجلّت له الحكمة وتبيّن وجه المصلحة.
وما أن اقتنع رضي الله عنه بصواب الفكرة حتى اهتمّ لها اهتماما بالغا وسعى لتحقيقها، فأخذ يجيل النظر ويعمل الفكر، فيمن يصلح للقيام بهذا الأمر الجليل، فاهتدى بنور الله تعالى، ووقع اختياره على زيد بن ثابت رضي الله عنه، لما اجتمع فيه من مواهب، واختصّ به من مزايا، لها كبير أثر في هذا الأمر الخطير، لم تجتمع في غيره من الصحابة. فهو من حفّاظ القرآن، ومن كتّاب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وممن شهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلّى الله عليه وسلّم.
وهو إلى جانب ذلك كان معروفا بخصوبة العقل وشدّة الورع وعظم الأمانة، وكمال الخلق واستقامة الدّين. كلّ هذه الصفات وغيرها رجّحت لدى أبي بكر رضي الله عنه أنه أولى من يقوم بهذا العمل، وأكّد ذلك عنده أنه استشار فيه عمر رضي الله عنه فوافقه على اختياره.
أرسل أبو بكر إلى زيد- رضي الله عنهما- ولما حضر عرض عليه الأمر، وبيّن له الأسباب الداعية إليه، وإشارة عمر في الموضوع، وما كان منه من تردّد ثم اقتناعه بذلك، وأنه وقع الاختيار عليه للقيام بهذه المهمة، لما يعهد فيه من صفات. ولكن زيدا رضي الله عنه لم يكن أقلّ تردّدا من أبي بكر رضي الله عنه بادئ الأمر، وهاب الموقف واستثقل المسئولية، ولكن أبا بكر ما زال به حتى أقنعه بصواب ما ندب إليه، فاطمأنت نفسه وسكن قلبه وشرح الله صدره، فشرع بالعمل العظيم، يشرف عليه ويعاونه كبار الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم أجمعين، واستمرّ العمل حتى تمّ لهم ما أرادوا، وأتمّ الله تعالى عليهم نعمته وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم.

.4- منهج زيد رضي الله عنه في الجمع:

لقد اتبع زيد في جمعه القرآن منهجا قويما وطريقة دقيقة محكمة، وضعها له أبو بكر، وساعده على تنفيذها صاحب الرأي عمر، رضوان الله عليهم أجمعين.
أخرج ابن أبي داود: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر وزيد رضي الله عنهما: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
وأخرج أيضا: عن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقّى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في المصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان.
قال ابن حجر: المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة.
وكلام السخاوي في (جمال القرّاء) يفيد: أن المراد بهما رجلان عدلان، فإنه قال: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والذي يدلّ على ما أفاده كلام السخاوي ما أخرجه ابن أشتة في (المصاحف) عن الليث بن سعد قال: أوّل من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل.
ويتلخّص لدينا أن الطريقة التي اتّبعت في الجمع كانت تقوم على أمرين:
الأمر الأول: معتمده فيما يجمع من آيات، فقد اعتمد رضي الله عنه على مصدرين يأخذ منهما آيات الله تعالى:
* المصدر الأول: ما كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من آيات على الرقاع ونحوها.
* المصدر الثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال من قرّاء الصحابة وحفّاظهم.
الأمر الثاني: الاستيثاق مما يجمع من الآيات، وقد كان هذا الاستيثاق قائما على أساسين:
* الأساس الأول: أنه كان رضي الله عنه لا يقبل شيئا محفوظا إلا إذا دعّم بالكتابة، فمن جاءه بآية يحفظها لم يثبتها حتى يأتيه بها هو أو غيره مكتوبة.
* الأساس الثاني: أنه كان لا يقبل ما كان مكتوبا إلا إذا شهد شاهدان أنه كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على تلك الرقعة هكذا.
وإذا علمنا أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه كان حافظا لكتاب الله تعالى وأحد كتّاب الوحي، وكذلك كان مساعده في الجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أدركنا مدى الدّقة والحيطة والحذر، ومدى التّحرّي الشامل، الذي أخذ المسلمون به أنفسهم، في كتابة آيات الله تعالى وتبليغها، حيث لم يكن أحدهم ليكتفي بما حفظ في قلبه، ولا بما كتب بيده، ولا بما سمع بأذنه، حتى يضمّ إلى ذلك وثائق أخرى، زيادة في الوثوق، ومبالغة في الاحتياط، وإبعادا للشك والارتياب. ولقد كانت هذه الشدة في المنهج نابعة عن الشعور بعظم المسئولية وخطورة العمل، الذي عبّر عنه زيد رضي الله عنه بقوله: فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن.
وهذه الدّقة وهذا الحذر هو الذي يفسر لنا قول زيد رضي الله عنه: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، {لم أجدها عند غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة. فالمراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وليس المراد أنه لم يجدها محفوظة عند غيره، وإلا فقد كان هو وكثير من الصحابة يحفظونها، وإنما أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، ولذلك تأخّر في إثباتها حتى وجدها مكتوبة عند أبي خزيمة رضي الله عنه. بل إنه توقّف في بادئ الأمر عن كتابتها لأنه لم يشهد لديه شاهدان على كتابتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسب منهجه، ثم كتبها أخيرا بعد أن توفّر لديه ذلك.

.5- مكان هذه الصحف:

لقد استغرق عمل زيد رضي الله عنه سنة كاملة، وكان الانتهاء أواخر السنة الثانية عشرة للهجرة، وما أن انتهى رضي الله عنه من عمله وأبرز تلك الصحف حتى استقبلها الناس بما تستحق من عناية فائقة، فحفظها أبو بكر رضي الله عنه عنده بقية حياته، ثم كانت عند خليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدة خلافته، ثم انتقلت إلى دار حفصة أم المؤمنين بنت عمر رضي الله عنهما، عملا بوصية أبيها أمير المؤمنين، حيث لم يكن الخليفة الجديد معروفا بعد، بل كان الأمر شورى بين ستة اختارهم عمر رضي الله عنه كما هو معروف.
هذا إلى جانب ما كانت عليه حفصة رضي الله عنها من مكانة تجعلها أهلا لهذه المكرمة، فهي فوق أنها زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حافظة لكتاب الله تعالى، تقوم به آناء الليل وتتلوه أطراف النهار. ثم كانت هذه الصحف مرجعا لعمل عثمان رضي الله عنه الذي ستعرفه فيما بعد.

.6- مزايا هذه الصحف:

لقد امتازت الصحف التي جمعها زيد رضي الله عنه بأمور أهمها:
1- أنها جمعت القرآن بجميع آياته وسوره، على أدقّ وجه من البحث والتحرّي، وأسلم طريقة في التثبت العلمي.
2- أنه اقتصر فيها على ما لم تنسخ تلاوته، ولذلك لم يثبت فيها آية الرجم، لأنها نسخت تلاوتها.
3- أنها ظفرت بإجماع الأمّة عليها وتواتر ما فيها، حيث أعلن زيد رضي الله عنه عمله على رءوس الأشهاد، والصحابة متوافرون، وأقرّ الجميع ولم يعترض أحد.

.7- أسبقية وفضل:

لقد كان هذا العمل الجليل منقبة من مناقب أبي بكر رضي الله عنه، وخدمة عظيمة من جملة خدماته لدين الله تعالى، فقد كان جمع القرآن في صحف مجتمعة على ذلك النمط الذي عرفت، وتلك المزايا التي علمت، عملا جديدا لم يسبق إليه أحد قبل أبي بكر رضي الله عنه.
أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) بسند حسن عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أوّل من جمع كتاب الله.
وقد شارك أبا بكر في هذه الأسبقية للفضل عمر بن الخطاب باقتراحه، وزيد بن ثابت بعمله وتنفيذه، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

.الفصل الثالث جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

.مجمل ما جدّ في عهد عثمان رضي الله عنه:

إن الذي قام به عثمان رضي الله عنه وأمر به، هو كتابة عدد من النسخ عن ذلك المصحف الإمام، الذي جمع على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأجمع عليه المسلمون واعتمده الخلفاء الراشدون المهديّون، مع مراعاة ترتيب السور في هذه النسخ، إلى جانب ما كان في الأصل من ترتيب الآيات، وأن يكون الرسم صالحا لوجوه القراءات وأحرف القرآن السبعة التي نزل بها، ثم إرسال تلك النسخ إلى الأمصار والأقطار، ليجتمع الناس عليها، وتكون مرجعا في قراءة القرآن لفظا وأداء، وتحسم مادة النزاع والشقاق ولا تبقى للعجمة واللهجات المختلفة سبيل إلى اختلاف الناس في كتاب الله تعالى.
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
هذا الحديث الصحيح يجمل لنا ما قام به عثمان رضي الله عنه من خدمة لكتاب الله عزّ وجلّ، وما كان له من أسباب، وما انتهى إليه من نتائج، وإليك تفصيل ذلك.

.1- أسباب عمل عثمان رضي الله عنه:

أ- من المعلوم أن الفتوحات الإسلامية أيام عثمان رضي الله عنه كانت قد اتسعت، وتفرّق المسلمون في البلدان والأمصار، ونبت جيل مسلم جديد يحتاج إلى دراسة القرآن، وكان أهل كل إقليم يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، الذين تلقوا القرآن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلهجاته المختلفة وأحرفه السبعة التي نزل عليها، وكان من الطبيعي أن يوجد بينهم اختلاف في طرق الأداء ووجوه القراءة.
وبسبب تباعد الديار وبعد عهد الناس بالنبوة، كاد هذا الاختلاف في أوجه القراءات يحدث بينهم شقاقا ونزاعا، يظهر حين التقاء الناس وخاصة في المغازي أو المواسم، إذ إن الأحرف السبعة لم تكن معروفة لدى أهل تلك الأمصار.
ب- وساعد على هذا الاختلاف وجود عديد من المصاحف الخاصة- إلى جانب تلك الصحف التي وضعت عند حفصة رضي الله عنها- كان بعض الصحابة قد كتبها لنفسه ثم اشتهرت بين الناس، ومن أشهرها: مصحف أبيّ بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود، ولذلك نجد أن هذا الاختلاف والنزاع قد شمل كلّ الأمصار حتى المدينة نفسها.
أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان، جعل المعلّم يعلّم قراءة الرجل، والمعلم يعلّم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلّمين حتى كفّر بعضهم بعضا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا.
وقد تحقّق توقّع عثمان رضي الله عنه، فقد كانت الأمصار أشدّ اختلافا، حتى أفزع اختلافهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه- كما رأيت في حديث البخاري- فجاء محذّرا عثمان رضي الله عنه أن يتدارك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى.
فهذه الأسباب وتلك العوامل هي التي كانت الحامل لعثمان رضي الله عنه على أن يقوم بما قام به من خدمة لكتاب الله عزّ وجلّ.

.قرار عثمان رضي الله عنه وتنفيذه:

لما تضافرت الأسباب لدى عثمان رضي الله عنه، ورأى ما رأى من اختلاف الناس في كتاب الله تعالى، وجاءه حذيفة رضي الله عنه يخبره باختلاف من نأى عنه من الناس في قراءة القرآن وما ينذر به هذا الاختلاف من خطر، أسرع رضي الله عنه لتدارك الموقف، فجمع كبار الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم في الأمر، فأجمعوا أمرهم على استنساخ عدد من المصاحف يرسل بها إلى الأمصار، وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها، وألا يعتمدوا على سواها.
وشرع عثمان رضي الله عنه بتنفيذ هذا القرار الذي توصّل إليه مع كبار الصحابة فألّف لجنة من خيرة الصحابة حفظا لكتاب الله تعالى وإتقانا له وضبطا، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، رضي الله عنهم، وعهد إليهم بكتابة المصاحف.
وفور اتّخاذ القرار وتعيين اللجنة التي كلّفت بالعمل، أرسل رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها يطلب منها أن ترسل إليه بالصحف التي كانت عندها، والتي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، لتكون هي العمدة والمرجع في استنساخ كتاب الله تعالى، إذ إنها جمعت وكتبت على النهج الذي كتب به القرآن بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولقد لبّت حفصة رضي الله عنها الطلب، طاعة لأمير المؤمنين، ومشاركة في خدمة كتاب الله تعالى التي لا تدانيها خدمة، فأرسلت بالصّحف، واستلمتها اللجنة الرباعية الموقرة، وبقيت عندها الإمام والمرشد، حتى إذا انتهت من عملها، أعيدت الصحف إلى صاحبة الحق فيها، وبقيت عندها حتى توفيت، رضي الله عنها وأرضاها.