فصل: (2) حفظ الصحابة للقرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.(2) حفظ الصحابة للقرآن:

وأما الصحابة الذين كان يتنزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلمهم ومشاهدتهم، فكان لهم الأسوة الحسنة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإسراع إلى حفظ القرآن واستظهار آياته، وقد ساعدهم نزول القرآن منجّما على الحفظ كما علمت، وأن الأمة العربية قوية الذاكرة بالسجية، يساعدها على ذلك بيئة صافية بسيطة، كما أن الأميّ يحاول أن يعوّض بالحفظ ما فاته بالقراءة والكتابة.
والنصوص الواردة في كتب السير والسنن تدلّ على أن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، ويحفّظونه أزواجهم وأولادهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يذكي فيهم روح العناية بالقرآن، فيبعث إلى القبائل من أصحابه من يعلّمهم ويقرئهم القرآن.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كان الرجل إذا هاجر دفعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل منا يعلّمه القرآن.
وكان يسمع لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخفّضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.
وبذلك كله نستطيع أن نؤكّد أن حفّاظ القرآن من الصحابة في حياة النبي جمع غفير، ويكفي دليلا على ذلك أن الذين قتلوا في بئر معونة من الصحابة كان يقال لهم القرّاء وكانوا سبعين رجلا. قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء، وقتل في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببئر معونة مثل هذا العدد.
وذكر أبو عبيد في كتاب (القراءات) القرّاء من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فعدّ من المهاجرين: الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالما، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة. ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذا- الذي يكنى أبا حليمة- ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وصرّح بأن بعضهم إنما كمّله بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وذكر الحافظ الذهبي في (طبقات القرّاء) أن هذا العدد من القرّاء هم الذين عرضوه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتّصلت بنا أسانيدهم، وأما من جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير.
والاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمة، يقول ابن الجوزي شيخ القرّاء في عصره: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف- الكتب- أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة. وقد ورد في صفة هذه الأمة: أناجيلهم صدورهم، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتاب، ولا يقرءونه كلّه إلا نظرا لا عن ظهر قلب.

.2- كتابة القرآن في السطور:

لم يكتف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحفظ القرآن في صدره الشريف وفي صدور أصحابه، وإنما كان يأمر بكتابة ما ينزل من الآيات في السطور، واتّخذ كتّابا للوحي من أجلّاء الصحابة، تنزل الآية أو الآيات، فيأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بكتابتها ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، وكان بعض الصحابة يكتبون ابتداء من أنفسهم، وكانت الوسائل المتوفرة بدائية وتحتاج إلى مشقة، ومع ذلك كتبوا على العسب واللّخاف والرّقاع وعظام الأضلاع والأكتاف.
فقد روي أنه لما نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] قال ابن أم مكتوم وعبد الله بن جحش: يا رسول الله! إنا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتوني بالكتف والدّواة» وأمر زيدا أن يكتبها فكتبها. فقال زيد: كأني أنظر إلى موضعها عند صدع الكتف. رواه البخاري، واقتصر على عبد الله بن أمّ مكتوم، ولم يذكر عبد الله بن جحش.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب، فقال: «ضعوا هذا في السّورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا». وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه».
وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلّف القرآن من الرّقاع.
وكان المكتوب يوضع في بيت رسول الله، ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مجتمعة في مصحف عام.
ومما يدلّ على اهتمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابة المصحف وقت نزوله: إفراده بهذه الرعاية، خوف التباسه بالحديث النبويّ، فنهى أصحابه أن يكتبوا ما عدا القرآن أوّل الأمر، ففي صحيح مسلم: قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار».
وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقرآن محفوظ في صدور أصحابه، ومكتوب منثورا بين الرّقاع ونحوها، وكان الجمع بين الطريقتين في عهد النبي المبارك الميمون مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9].

.3- ترتيب آيات القرآن الكريم:

ترتيب الآيات في القرآن على الشكل الذي نراه اليوم في المصاحف توقيفي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيه، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، منهم الزركشيّ في (البرهان). وأبو جعفر بن الزبير في كتابه (المناسبات) إذ يقول: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلّى الله عليه وسلّم وأمره من غير خلاف بين المسلمين.
وجزم السيوطي بذلك فقال: الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك. فكان جبريل ينزل بالآيات على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرشده إلى موضعها من السورة، فيقرؤها النبيّ على أصحابه، ثم يأمر كتّاب الوحي بكتابتها في موضعها الذي حدّده له جبريل.
واستند الإجماع المنقول في هذا الموضوع إلى نصوص كثيرة وثابتة نختار منها:
* ما رواه الإمام أحمد، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ شخص ببصره، ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة»: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى} [النحل: 90].
* وما أخرجه البخاريّ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً} [البقرة: 234] نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا من مكانه.

.4- أسماء سور القرآن وترتيبها:

.أ- أسماء السور:

لقد ثبت لنا من نصوص السنة، وانعقاد الإجماع أن ترتيب الآيات في السورة توقيفي، وهذا يجعلنا نجزم بأن تسمية سور القرآن- والبالغ عددها 114 سورة- توقيفي أيضا، إذ لا يمكننا تصور وقوع الترتيب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بعد ذكر اسم السورة وتحديد الموضع الذي توضع فيه الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت آخر آية على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] قال له جبريل: «يا محمد، ضعها على رأس ثمانين ومائتي آية من سورة البقرة».
وأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيان فضل أكثر سور القرآن كثيرة وبعضها ثابت في كتب الصحاح وغيرها؛ أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلّي في المسجد فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي. فقال: «ألم يقل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ثم قال: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد. ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}... هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكلّ شيء سناما، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيّدة آي القرآن:
آية الكرسيّ»
.

.ب- ترتيب السور:

وأما ترتيب السور فتوقيفيّ أيضا، تولّاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، وقد علم هذا الترتيب في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو نفس الترتيب الموجود في مصاحفنا اليوم، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي تلقّاه الصحابة جميعا بالموافقة والقبول.
قال ابن الحصّار: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف.

.الفصل الثاني جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه:

أخرج البخاري في صحيحه: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شابّ عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه.
استحر: كثر وانتشر. العسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل، واللّخاف: جمع لخفة وهي الحجارة البيضاء الرقيقة.
هذا الحديث يوجز لنا عمل أبي بكر رضي الله عنه، وما كان له من أسباب، وما آل إليه أمر القرآن في عهده، وما تمّ له من خدمة، وسنبين لك ذلك مفصلا.

.تمهيد:

علمنا سابقا أن القرآن كله كان مكتوبا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لم ينقض عهد النبوة السعيد إلا وهو مجموع على النحو الذي علمنا، بيد أنه لم يجمع في مصحف واحد، أو صحائف مجتمعة، بل كان متفرّقا منشورا بين الرقاع وغيرها.
روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قبض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن القرآن جمع في شيء.
قال الخطّابيّ: إنما لم يجمع صلّى الله عليه وسلّم القرآن في المصحف لما كان يترقّبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته، ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء وعده الصّادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصّدّيق بمشورة عمر.
وكلام الخطّابيّ هذا يبيّن لنا سرّ عدم جمع القرآن بالكيفية التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه، ويضاف إلى ما ذكره: أن الأسباب التي اقتضت جمعه على تلك الكيفية، فيما بعد، لم توجد على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

.1- كيفية جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن:

إن الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه وتمّ تنفيذه: هو جمع ما تفرّق من الرقاع وغيرها، مما كتب عليه القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نسخ ما كتب فيها إلى صفحات مجتمعة، مع مراعاة ترتيب الآيات في السور، حسب توقيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لتكون هذه الصفحات محفوظة في دار الخلافة، مرجعا للمسلمين في معرفة آيات القرآن وسوره، وحفظا لكتاب الله تعالى من الضياع، أو الزيادة أو النقصان.

.2- سبب القيام بهذا الجمع:

إنّ السبب الحامل على هذا العمل الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه: هو ما كان من مقتل عدد من قرّاء القرآن وحفّاظه في موقعة اليمامة، التي دارت فيها رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة، من أتباع مسيلمة الكذّاب.
وكان عدد هؤلاء الحفّاظ ينوف على السبعين، من أجلّهم سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه. ولقد هال ذلك المسلمين وأفزعهم، وخافوا على القرآن كتاب الله المنزل من الضياع بموت الحفّاظ ومقتلهم، وكان أشدّهم خوفا وأكثرهم ارتياعا عمر الفاروق رضي الله عنه، الذي هرع إلى أبي بكر رضي الله عنه محذّرا ومنبّها، وأشار عليه أن يتدارك دين الله تعالى، ويأمر بجمع القرآن، ويحفظه بين دفتين، قبل أن يموت أشياخ القرآن والحفّاظ، فيضيع على الناس شيء من كتاب الله عزّ وجلّ.