فصل: 2- منهج اللجنة في كتابة النسخ وقيمة هذا المنهج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.2- منهج اللجنة في كتابة النسخ وقيمة هذا المنهج:

لقد اتبعت اللجنة الرباعية منهجا يعتمد الأسس التالية:
1- أن الصحف التي كتبت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، والتي قام بكتابتها زيد بن ثابت رضي الله عنه- رئيس اللجنة الرباعية- هي المرجع والأساس في استنساخ هذه المصاحف. وبهذا يعلم أن هذه المصاحف، بترتيبها ورسمها، إنما كانت على النهج الذي كتب به القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما قطع به كافة العلماء والباحثين، لأن زيدا رضي الله عنه كان أشهر الصحابة ضبطا للقرآن وحفظا.
2- أن المعتمد في الكتابة والرسم، حال اختلاف أعضاء اللجنة، إنما هو طريقة قريش في كتابتها ورسمها، لأن القرآن نزل بلغتها ولهجتها، ويفهم هذا من قول عثمان رضي الله عنه للرهط الثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. والمراد: إذا اختلفتم في الرسم والإملاء واللهجة.
3- أن أعضاء اللجنة الرباعية كانوا، بالإضافة إلى الأساسين السابقين، لا يكتبون شيئا إلا بعد أن يعرض على الصحابة، ويقرّوا أنه على النحو الذي قرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه قرآن محقّق، وقد استقرّ في العرضة الأخيرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينسخ.

.3- مزايا مصاحف عثمان رضي الله عنه:

لقد أنهت اللجنة عملها، فجاء على خير مثال، واتّصفت مصاحفها التي نسختها بعديد من المزايا، أهمها:
1- الاقتصار على ما ثبت بالتواتر من أوجه القراءات، دون ما كانت روايته آحادا، ولذلك لم يكتبوا مثل (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) بزيادة كلمة (صالحة) لأن هذه الكلمة لم تتواتر.
2- تجريدها من كل ما كان في بعض المصاحف الخاصّة من تفسيرات وشروح أو ذكر أسباب نزول وغير ذلك.
3- إهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقرّ في العرضة الأخيرة، كما هو الشأن في الأصل المعتمد، وهو ما كتبه زيد رضي الله عنه على عهد أبي بكر رضي الله عنه.
4- ترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن، والذي كان بتوقيف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بينما لم تكن صحف أبي بكر رضي الله عنه مرتبة السور، بل كانت مرتبة الآيات فقط.
5- أن رسمها كان بطريقة تجمع الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، وتصلح لأوجه القراءات المختلفة، وكان يساعد على ذلك أنها لم تكن مشكولة ولا منقوطة، فقوله تعالى: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] يصلح للقراءتين المتواترتين (فتبينوا) و: (فتثبتوا)، وكذلك قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} [البقرة: 259] تصلح لأن تقرأ (ننشزها) و: (ننشرها) كما هو ثابت.
وإذا لم تكن كل نسخة من النسخ جامعة لهذه المزية، فقد كانت النسخ بمجموعها تحقق هذا الغرض. وبيان ذلك: أنه إذا لم يكن الرسم للكلمة صالحا لأوجه القراءات فقد كانوا يكتبونها في بعض النسخ برسم يدلّ على قراءة، وفي بعض آخر برسم آخر يدلّ على القراءة الثانية.
ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132] فقد ثبتت قراءتها بالهمز (وأوصى) كما ثبتت بالتضعيف (ووصى) ولذا كتبت في نسخة بالهمز، وفي أخرى بالتضعيف.
ومثلها أيضا: قوله تعالى: {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ} [التوبة: 100] فقد ثبتت قراءتها أيضا (من تحتها) بإضافة (من).
ولم يكونوا في مثل هذه الحالات ليكتبوا الرسمين في نسخة واحدة، حتى لا يتوهم أن اللفظ مكرر، أو أن الثاني تصحيح للأول.

.4- تحريق الصحف والمصاحف المخالفة:

وما أن انتهت اللجنة من عملها حتى سارع عثمان رضي الله عنه إلى الأمر بكل مصحف أو صحيفة، سوى صحف حفصة رضي الله عنها، أن يجمع ويحرق دون أن يبقي على شيء منه، سواء أكان ذلك في المدينة أم في غيرها من الأمصار.
وقد تمّ ذلك الأمر، ولم يعارض فيه أحد، إلا ما كان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم عاد إلى التزام أمر الخليفة رضي الله عنهما. وكان الغرض من ذلك: أن يقطع مادة النزاع، ويحصر اعتماد المسلمين على الجادّة القويمة في كتاب الله عزّ وجلّ.
وأما صحف حفصة رضي الله عنها، فإنها قد أعيدت إليها بعد تحقيق الغرض منها، ولم تكن في جملة ما أحرق من المصاحف، إذ لا داعي لذلك ولا محذور من بقائها طالما أنها هي العمدة والأصل وليس بينها وبين ما نسخ كبير اختلاف، إلا ما كان من ترتيب السور، وذلك أمر لا خوف منه.
وبقيت تلك الصحف عند حفصة رضي الله عنها حتى توفيت، فأخذها مروان بن الحكم وأحرقها، وقال مدافعا عن تصرّفه: إنما فعلت هذا، لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف الإمام، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب. وكان مروان قد حاول أخذها من حفصة رضي الله عنها ليحرقها عام 65 هـ فأبت عليه ذلك.

.5- عدد النسخ ومصيرها:

لقد اختلف في عدد النسخ التي كتبتها اللجنة: فقد قيل إنها خمسة، وقيل إنها أربعة، وقيل إنها سبعة، وأيا ما كان الأمر: فقد ترك عثمان رضي الله عنه واحدة منها لتكون مرجعا لديه في دار الخلافة، وفي المدينة مهبط الوحي ومنزل القرآن وموئل الإسلام، وأرسل بباقيها إلى الأمصار، كل نسخة إلى ناحية، كالكوفة والبصرة والشام، وقيل أيضا: إلى مكة واليمن والبحرين.
ولقد بقيت إحدى هذه النسخ في دمشق، بمسجد بني أمية الكبير حتى القرن الثامن الهجري، حيث يقول ابن كثير في كتابه فضائل القرآن: أما الصحف العثمانية الأئمة، فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقيّ المقصورة المعمورة بذكر الله.

.6- قيمة عمل عثمان رضي الله عنه:

لقد كان عمل عثمان رضي الله عنه عملا جليلا، ذا قيمة علمية رفيعة، ومكانة دينية سامية، وحقيقة تاريخية لا تقبل الريب، وقد وقع من قلوب الناس موقع القبول والاستحسان، لأنه لم يكن عملا فرديا أو تصرّفا شخصيا، بل كان عملا جماعيا بمشورة كبار الصحابة وموافقتهم، بل بمعاونتهم وتأييدهم وشكرهم، وعلى ملأ من الناس ومشاهدتهم وإقرارهم.
أخرج ابن أبي داود بسند صحيح، عن سويد بن غفلة قال: قال عليّ: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملأ منا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا. قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع النّاس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت.
وفي رواية عن سويد قال: سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان، وقولكم حرّاق مصاحف، فو الله ما حرّقها إلا على ملأ منا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعنه رضي الله عنه قال: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. فرضي الله عنهم وأرضاهم.

.7- كتابة وحفظ:

لقد علمنا في كل ما سبق أن الأمة الإسلامية اعتمدت في تناقل كتاب الله تعالى وقراءته أمرين اثنين: الحفظ والكتابة، يسيران جنبا إلى جنب. فيتلقونه رسما من الصحف والسطور، ومشافهة من الأفواه والصدور، ولم يستغنوا في يوم من الأيام بأحد الطريقين عن الآخر. وهكذا نجد عثمان رضي الله عنه يزيد هذا المعنى رسوخا في أذهان المسلمين، فحتى لا يعتمدوا على الكتابة ويتكلوا على النسخ فحسب، راح يرسل مع النسخ إلى الأمصار، كبار الصحابة من القراء، فقد كان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ البصري.
وما أن توزّعت المصاحف الجديدة على البلدان الإسلامية، حتى أحرق كلّ مسلم ما كان عنده من قبل، وأقبل الناس يعكفون على هذه الأصول الوثيقة المعتمدة، نسخا وكتابة وحفظا، بالتلقي والمشافهة، مما يزيدنا يقينا أن المصحف الذي بين أيدينا اليوم، هو القرآن الذي نزل على قلب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. لاسيما وقد علمت أن إحدى نسخ المصحف الإمام بقيت حتى القرن الثامن الهجري، وأن لدى المكتبات الإسلامية اليوم، مصاحف تعود إلى ما قبل هذا التاريخ.
وهكذا فتاريخ هذا الكتاب سلسلة متصلة، لا تفقد حلقة من حلقاتها، فتثير بفقدانها الظنون والشكوك، وصدق الله العظيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر: 9] {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41- 42].

.الفصل الرّابع رسم القرآن والمراحل التحسينية التي تحرج فيها:

.1- الرسم العثماني:

لقد اتبعت اللجنة الرباعية في كتابة المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه طريقة خاصّة في رسم كلمات القرآن وحروفه، اعتمدوا فيها غالبا على الرسم الذي كتبت به الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، والتي كانت توافق ما كتب على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد اصطلح العلماء على تسمية الطريقة التي اتبعتها هذه اللجنة (رسم المصحف) وكثيرا ما ينسبون هذا الرسم إلى عثمان رضي الله عنه، لأنه جرى في عهده وبأمر منه وبموافقته، فيقولون: (رسم عثمان) أو (الرسم العثماني) وأحيانا يقولون (المصحف العثماني) ولقد كان هذا الرسم يتصف بصفتين:
الصفة الأولى: أن له إملاء خاصا به من حيث كيفية كتابة بعض الحروف والكلمات، كالهمزة مثلا في كتابة (مائة) والأحرف اليائية والواوية كما في كلمات (الزكوة، والصلاة، والحيوة) وما شابه ذلك من الحذف أو الزيادة لبعض الحروف. وكان هذا الإملاء يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، ودليل ذلك قول عثمان رضي الله عنه للثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم.
ولقد ظهر أثر ذلك عند ما اختلفوا في كيفية رسم كلمة (التابوت) في قوله تعالى: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] فقد قال زيد (التابوة) بالتاء المربوطة وقالوا (التابوت) بالمبسوطة، فترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا (التابوت)- أي بالمبسوطة- فإنما أنزل القرآن على لسان قريش.
الصفة الثانية: أن هذه المصاحف كان رسمها مجرّدا عن الشكل الذي يوضح إعرابه، وعن النقط الذي يميز الأحرف المعجمة (كالزاي، والذال، والغين، والجيم، والخاء) عن المهملة (كالراء، والدال، والحاء) وغيرها.
ولقد كان المسلمون يهتدون إلى النطق السليم بالقرآن في ذاك الوقت بوسيلتين:
الأولى: سليقة اللسان العربي الأصيل الذي كانوا يتمتعون به، فلم يكن اللحن ليعرف سبيلا إلى لسانهم، كما لم يكن المعنى ليستعجم على أذهانهم.
الثانية: التلقّي والمشافهة، وقد علمنا أن المسلمين كانوا يعتمدون في أخذ القرآن وحفظه وضبطه على الكتابة والتلقي مشافهة من أفواه الرجال، وكانوا لا يكتفون بأحد الطريقين عن الآخر، فكان التلقي والمشافهة وسيلة لوضوح الكتابة، وعاصما من اللبس في الكلمات التي تحتمل برسمها عددا من وجوه القراءة والأداء.
وبهاتين الوسيلتين- السليقة والمشافهة- لم يكن عدم شكل رسم القرآن ونقطه عائقا في طريق قراءته قراءة سليمة، وفهم مضمونه ومعناه فهما صحيحا.

.2- المراحل التحسينية التي تدرج فيها الرسم:

لقد طرأ على الرسم العثماني تحسينات اقتضتها ظروف وملابسات، وكانت هذه التحسينات على مراحل تدريجية، حسب الضرورة وإلحاح المقتضيات، وإليك بيان ذلك:
1- التحسين الذي يبيّن إعراب الكلمات ويمنع اللحن فيها: فقد علمنا أن الرسم القرآني كان خاليا عن الشكل الذي يبيّن إعراب الكلمات نصبا أو رفعا، وجرا أو جزما، وأن العربيّ كان بسليقته يهتدي إلى قراءتها على وجه الصواب، لأنه لا يمكن- وهو فطريّ اللسان- أن يرفع المفعول وينصب الفاعل، وغير ذلك.
ولكن لما اتّسعت الفتوحات، وأقبل المسلمون غير العرب على تعلم القرآن وقراءته واختلط العرب بغيرهم وكاد لسانهم أن يستعجم، وفشا اللحن في اللغة العربية على الألسنة وكاد أن يصل إلى القرآن، فخشي المسلمون أن ينتشر ذلك ويكثر ويمتد إلى كتاب الله تعالى، فيقع التحريف في أدائه ومعناه، فأسرعوا إلى تدارك الأمر قبل أن يستفحل، ووضعوا علامات يعرف بها إعراب كلماته.
وكان السابق لهذا الفضل، والمباشر لهذا التحسين لأول مرة هو أبو الأسود الدؤلي الذي وضع قواعد النحو بإشارة من عليّ رضي الله عنه.
والذي فعله أبو الأسود: هو أنه جعل علامات الإعراب نقطا على أواخر الحروف فقد جعل علامة النصب نقطة فوق الحرف، وعلامة الرفع نقطة وسطه، وعلامة الجر نقطة تحته، وعلامة السكون نقطتين. وكان السبب المباشر لقيامه بهذا العمل، هو أنه سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بكسر اللام من (رسوله) فقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، وقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا. وكان زياد بن أبيه، قد طلب منه أن يعمل شيئا يكون إماما، ويعرف به كتاب الله عزّ وجلّ فاستعفاه من ذلك، ولكن لما سمع ما سمع، رجع إلى زياد وأخبره أنه عازم على فعل ما طلب منه، واستعانه بكاتب يفعل ما يقوله له، وقال للكاتب لما بدأ العمل: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت، ففعل ذلك.
2- التحسين الذي يميز الحروف: قد علمنا أن القرآن، كما أنه لم يكن رسمه يبيّن إعرابه، كذلك لم يكن ليميّز حروفه المعجمة من المهملة. ولم يكن العرب ليخطئوا في قراءته بحكم فطرتهم وسليقتهم، إذ لم يكن من المعقول أن يقرأ العربي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} باستبدال ذال بدل الدال في لفظ (الحمد) أو استبدال غين بدل العين في لفظ (العالمين) لأن كلّا من الكلمتين لا يصبح لها معنى بهذه الحالة في اللغة العربية. وكذلك لا يعقل أن يستبدل حرف الدال في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالذال، لأنها لا تناسب سياق الكلام في تلك الحالة أيضا.
ولكن ما ذكرنا من دخول الأعاجم في الإسلام، وإقبالهم على تعلّم القرآن، كان له أثر في خطأ الناس في القراءة؛ لأن هؤلاء لا يعرفون ما هو من العربية وما هو ليس منها، كما أنهم قد لا يدركون المعنى ومناسبته للسياق لأول وهلة. ولذا سارع المسلمون كما ذكرنا إلى إدخال التحسين على الرسم القرآني، وقد علمنا أن التحسين الذي طرأ إنما اقتصر فقط على بيان إعراب الكلمات، وبقيت الحروف غير مميزة بعضها عن بعض، فربما التبس على القارئ الحرف المعجم كالذال وغيره، بالحرف المهمل كالدال وغيره، ولذلك وجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى تحسين جديد، يجرونه على الرسم القرآني، غير ما قام به أبو الأسود يميزون به بين الحرف، ليحصنوا كتاب الله تعالى من عجمة اللسان.
ولقد قام بهذا العمل لأول مرة نصر بن عاصم تلميذ أبي الأسود الدؤلي، بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، فوضع علامات تميّز الحروف المشتبهة بعضها عن بعض. وكانت هذه العلامات نقطا على الحرف، التزم فيها ألّا تزيد عن ثلاث نقط في أي حرف.
وعندها اضطر لأن يستبدل النقط السابق، الذي كان علامة الإعراب، بعلامات أخرى، حتى لا تلتبس الكلمات، فكان الشكل المعروف الآن والمتداول، والذي جعل علامات الإعراب الفتحة والكسرة والضمة والسكون.
3- تحسينات متعددة ومتلاحقة: إن تحسين الرسم القرآني أخذ يتدرج في أطوار متلاحقة، لا يمكن ضبط كل منها بتاريخ دقيق، أو نسبته إلى شخص معين، وعلى كل حال فالمتفق عليه: أن التحسين قد سار بخطوات متقاربة وسريعة، حتى قارب الكمال على أيام الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام. وما زالت الخطوات التحسينية مطّردة على مر الأزمان إلى يومنا هذا، ابتغاء تحقيق المزيد من ضبط رسم القرآن وتسهيل قراءته، فوضعت أسماء السور، وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآية، وعلامات الوقف، وغير ذلك.
4- التحسين في الإملاء: من خلال ما سبق تبيّن لك: أن التحسينات التي طرأت على الرسم العثماني، إنما كانت أمورا تتعلّق بكيفية أداء القرآن وتلاوته، على النهج الذي نزل به، وقرأه به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك أصحابه من بعده رضوان الله عليهم، حتى سلم القرآن من أي تحريف أو تبديل، يمكن أن يتناول لفظه أو معناه. وعليه فالتحسينات إنما تناولت الصفة الثانية من صفات الرسم العثماني، وهي كونه بدون شكل أو نقط، وما أشبه ذلك.
وأما ما يتعلّق بالصفة الأولى، وهي الإملاء الخاص بكتابة الكلمات والحروف، فهذا مما بقي على حاله، ولم يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل أو تحسين أو تحوير، وظلّت المصاحف تكتب على الرسم الذي كتبت به الصحف الأولى، والمصحف العثماني الإمام. وهو المتبع في طباعة المصاحف بدءا بالطبعة الأولى في البندقية سنة 1530 م، ثم طبعة بترسبورغ بروسيا سنة 1787 م، ثم طبعة الآستانة سنة 1877 م، وما تبع ذلك من آلاف الطبعات والأحجام.